وبعد:
فيقول الله تعالى: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا
[مريم:28]، والذين قالوا هذا لا يستلزم أن يكونوا هم الذين قالوا على مريم بهتاناً عظيماً، فإن الذين قالوا:
يَا أُخْتَ هَارُونَ
هم قومها، لقول الله تعالى:
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا
[مريم:27] أي: قال قومها:
يَا أُخْتَ هَارُونَ
[مريم:28]، أي: يا من تتشبهين بهارون في العبادة! ويا أخت هارون الصالح!
مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا
[مريم:28]، فالقائلون قومها.
أما الذين حكى الله مقالتهم بقوله: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا
[النساء:156] فهم اليهود؛ لأن سياق الآيات فيه:
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ
[النساء:156-157]، والقائلون أنهم قتلوه هم اليهود،
وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ
[النساء:157]... الآيات.
فهذه أوجه الاعتراضات على من قال: إن التعريض بالقذف يعد قذفاً، فاستدل هؤلاء القائلون بأنه يعد قذفاً لقول قوم شعيب لشعيب: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ
[هود:87] يعنون: إنك لأنت السفيه الضال، ويقال لـأبي جهل يوم القيامة:
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ
[الدخان:49]، وهو ليس بعزيز ولا كريم، إنما قيل له تبكيتاً له، أو الذي كان يدعي أنه العزيز الكريم.
واستُدِلَ لذلك أيضاً: بأن عمر أقام الحد -وهذا ينظر في إسناده- على الحطيئة الذي قال:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فظاهره المدح لكنه ذم أي: اقعد فإنك أنت المطعم المكسو كالنساء. أي: فإنك امرأة تجلس في البيت تطعم وتكسى.
فالتعريض بالقذف الظاهر أنه لا يعد قذفاً.
قال تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
[النور:4].
ورد في رمي المحصنات حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (اجتنبوا السبع الموبقات، وذكر منهن: وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات).
ورد في قذف المحصنات أيضاً: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ
[النور:23-25].
فهذه جملة من النصوص في التحذير من رمي المرأة بالزنا فهو كبيرة من الكبائر، وهذا من محاسن ديننا الذي يحفظ أعراض النساء، بخلاف ما يتهم به الإسلام من قبل أعداء الله من الكفار والمنافقين بأنه ضيّع حق المرأة.
كلا. ما ضيع الإسلام حق المرأة أبداً، فهذه الآية من أكبر الردود عليهم، فقد حذر الله الذين يرمون المحصنات أشد التحذير.
ويكفي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال مكرّماً المرأة حين قال له قائل: (من أحق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك) فعقب بالأب في الرابعة.
ويكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عال جاريتين حتى تبلغا كنت أنا وهو في الجنة كهاتين)، وفرق عليه الصلاة والسلام بين أصابعه، ويكفي أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر بامرأة أتت عائشة تسألها صدقة، فتصدقت عليها عائشة بتمرة فقسمتها بين ابنتيها، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن الله قد أوجب لها بها الجنة).
فديننا ليس فيه هضم للمرأة أبداً، بل نقم الله على الكفار الذين حكى الله مقالتهم بقوله: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ
[النحل:58-59].
قال تعالى: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً
[النور:4] أي رجل يتهم امرأة بالزنا اجلدوه ثمانين جلدة،
وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
[النور:4] ، ثلاث عقوبات خطيرة:
أولها: أن يجلد ثمانين جلدة.
الثاني: أن تسقط شهادته في الناس.
الثالث: أنه فاسق: (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
فالذي يقول عن امرأة أنها زنت هذه عاقبته، فالكلمة التي يستسهلها الناس على ألسنتهم قد يجلد أحدهم بسببها ثمانين جلدة، ولا تقبل له شهادة أبداً، ويوصف بأنه فاسق إلا إذا جاء بأربعة شهداء يشهدون أنهم رأوها تزني، ورأوا ذلك كالميل في المكحلة، فإذا شهدوا بذلك الأربعة رفع عنه الحد وأقيم عليها وعلى الزاني بها الحد.
فإذا جاء رجل باثنين يشهدون معه أقيم على الثلاثة الحد، وإذا جاءنا شخص وقال: رأيت في الطريق فلاناً يزني بفلانة، فإنه يجلد ثمانين جلدة حتى وإن أقسم مليون يمين، وإضافة إلى ذلك تسقط شهادته في الناس، ويعد من الفاسقين.
وهذه الحادثة قد حصلت لبعض الصحابة رضوان الله عليهم ومنهم: أبو بكرة الصحابي المشهور شهد هو وثلاثة من الصحابة على المغيرة بن شعبة أنه زنا وأن ستراً كان يستره مع المرأة فجاءت رياح وأزالت الستر، فجاء الشهود الثلاثة وتلكأ واحدٌ منهم ولم يدلِ بالشهادة الصريحة، فجلدوا الأربعة أو الثلاثة.
يقول الله سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
[النور:4].
تقدم الكلام على صدر هذه الآية الكريمة بما حاصله: أن الذي يرمي امرأة بجريمة الزنا يجلد ثمانين جلدة، ولا تقبل له شهادة أبداً، ويعد من الفاسقين، فهي ثلاث عقوبات متوالية، الواحدة منها تكفي للحكم بأن هذا الفعل كبيرة من الكبائر.
فمثلاً: الجلد بمقدار ثمانين جلدة إذا أقيم على شخص فمعناه أنه ارتكب كبيرة، ورد شهادة الشخص في الناس تفيد أنه ارتكب كبيرة، وإطلاق الفسق عليه يفيد أنه مرتكبٌ لكبيرة، فاجتمعت ثلاث عقوبات، فدل ذلك على قبح هذا الذنب وكبر هذا الجرم.
وقوله: (المحصنات) من أهل العلم من قال: إن المراد بها: الأنفس المحصنة، فيدخل في ذلك الرجال والنساء، فلو قال رجل عن رجل: إنه زنى، فإنه يجلد ثمانين جلدة، وترد شهادته في الناس، ويعد من الفاسقين.
وختام الآية الكريمة فيه إشارة إلى أن هناك فسق دون فسق. فالآية وسبب نزولها -كما سيأتي إن شاء الله- في المؤمنين، فعلى ذلك: قد يكون هناك مسلم فاسق.
فقوله تعالى: (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) منصب على المسلمين أو على الكفار، ويفيد أن هناك فسقاً غير كفر، وكما تقدم فإن قاعدة أهل السنة والجماعة: أن الفسق فسقان: فسق بمعنى الكفر، وفسق دون ذلك، قال سبحانه: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ
[الزخرف:54]، فالفسق هنا كفر، وقال تعالى:
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا
[السجدة:20]، فدل على أنه كفر؛ لأن الخلود في النار لا يكون إلا للكفار.
أما الدليل على أن هناك فسقاً ليس بكفر فمنه: هذه الآية، ومنه: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا
[الحجرات:6].
ومنه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق)، فدل ذلك على أن هناك فسقاً دون فسق.
قال سبحانه: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تَابَ
[مريم:59-60]، ففتح باب التوبة لمن أراد أن يتوب.
وقال الله سبحانه: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ
[المائدة:33-34]، ففتح لقطاع الطريق باب التوبة ولم يغلق عليهم.
وقال الله سبحانه في أكبر قوم وأعظم قوم أجرموا: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
[البروج:10] أحرقوهم بالنار، وخدوا لهم الأخاديد، وأشعلوا فيها النيران، وجلسوا ينظرون ويتفرجون عليهم وهم يعذبون في النار، كما قال تعالى:
النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ
[البروج:5-7]، ومع ذلك فتح لهم باب التوبة فقال تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا
[البروج:10].
فكما قال العلماء: إنهم لو تابوا مع أنهم حرقوا عباد الله بدون ذنب لقبل الله سبحانه وتعالى توبتهم، وقال سبحانه أيضاً في هذا الباب: إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ
[الحجرات:4-5]، ثم فتح لهم باب التوبة بقوله:
وَاللَّهُ غَفُورٌ
[الحجرات:5]، أي: غفور لمن استغفر، إذا تقرر هذا فلا ينبغي أن يقنِّط أحد أحداً من رحمة الله أبداً، ولا يغلق أحد باب التوبة في وجه أحد أبداً، فباب التوبة باب مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها. (وقال الشيطان: وعزتك يا رب! لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال سبحانه: وعزتي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني)، فلينتبه لذلك.
قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا
[النور:5]، ونحو ذلك: قوله تعالى:
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ
[المائدة:39]، أي: تاب من ظلمه للعباد وأصلح
فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ
[المائدة:39]، ونحوه: قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
[البقرة:159-160].
ما هي صورة الإصلاح في قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا
؟
من العلماء من قال: إن الإصلاح يستلزم أن يكذب الرجل الرامي نفسه. ويقول: هي ما زنت، وأنا كذبت عليها، وقد اشترط ذلك بعض العلماء، وقال آخرون: يكفي أن يسير بسيرة حسنة في الناس.
ولقد ورد في عدة تراجم لـأبي بكرة رضي الله عنه أنه رمى مع ثلاثة من الشهود -كما أسلفنا- المغيرة بن شعبة بالزنا، فتعثرت إقامة الشهادة فجلدوا ثمانين جلدة وردت شهادتهم، أما ثلاثة منهم فكذبوا أنفسهم بعد ذلك، وأبى أبو بكرة رضي الله عنه إلا أن يصر على موقفه الذي رآه، وورد بأسانيد ينظر فيها أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه كان يطلب منه أن يكذب نفسه حتى تقبل شهادته ولكنه كان يصر على ما رأى وقال والله تعالى أعلم.
ولكن إذا رمت المرأة زوجها بالزنا، فالراجح أنها لا تلاعنه، إذ من أسباب الملاعنة: نفي الولد، وهذا شيء لا يتعلق بالمرأة بل تأتي بالشهود أو يقام عليها الحد.
قال سبحانه: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ
[النور:6] أي: يقذفون نساءهم بالزنا
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ
[النور:6].
السبب الأول: ما ورد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما قرأ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
[النور:4]، قال سعد بن عبادة : يا رسول الله! -وكان النبي عليه الصلاة والسلام قد تلا هذه الآية في مجلس فيه مهاجرون وأنصار- لو وجدت رجلاً مع امرأتي أأتركه ولا أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء؟ فوالله -يا رسول الله- لا آتي بأربعة شهداء إلا ويكون قد قضى حاجته منها ثم انصرف).
وفي الرواية الأخرى: (قال وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
[التوبة:118].
الشاهد: أن هذا الرجل كان من المشهود لهم بالصدق والخير، وهو هلال بن أمية حيث دخل المجلس، فقال: (يا رسول الله! إني كنت في عملي فرجعت من عملي فرأيت رجلاً مع امرأتي، فرأيت بعيني -يا رسول الله- وسمعت بأذني -أي: رأى الفاحشة الكبرى- فلم أهيجه ولم أحركه فجئت إليك تقضي بما أراك الله. فقال الأنصار: ابتلينا بما قال
فحاصل كلامه: أنني لو كنت في الجاهلية ورأيت هذا المنظر لقتلتهما معاً ولكني صبرت ونقلت إليك الخبر، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يجيب إذ هو مطبق لأمر الله لا يزيد على قول: البينة أو حد في ظهرك.
هلال من ثقته بالله ومعرفته بالله يقسم بالله أن الله سيبرئ ظهره، والأنصار رأوا هلال بن أمية وقد أخذ كي يجلد، فبكوا من أجله، فقالوا: الآن يجلد هلال بن أمية ثمانين جلدة وتسقط شهادته في الناس ويعد من الفاسقين. وهلال ثابت واثق بربه يقسم أن الله سيبرئه، فأخذ هلال كي يجلد فنزل قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ
[النور:6-7]
وهذه القصة وقعت لـعويمر العجلاني ، فقد جاء وقال: (يا
ونرجع إلى قصة هلال ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول هذه الآيات قال: (أبشر يا
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (فرقوا بينهما، وإن جاءت به خدلج الساقين نحيفاً سميناً -وكان
وآيات الملاعنة لم ترد إلا في هذه السورة الكريمة، وفي هذا الموطن الكريم، إلا أن هناك آية المباهلة ولكنها ليست بين الزوجين فقط، بل على العموم، وهي في سورة آل عمران.
وهناك فرق بين الشهادة واليمين، فالشهادة تتطلب العدالة، أما اليمين فلا تتطلب العدالة، فإن اليمين قد تطلب من يهودي كافر.
قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصاري في حديث القسامة المشهور: (أترضون بأيمان خمسين من يهود؟ قالوا: إنهم يهود يا رسول الله. فقال: مالكم إلا ذلك) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عليه الصلاة والسلام، أما الشهادة فتستلزم العدالة؛ لأن الله يقول: وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ
[الطلاق:2] فإن قال قائل: قد سماها الله شهادة لقوله:
فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ
[النور:6]، فالإجابة: أن الشهادة تطلق على اليمين في بعض الأحيان.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ
[المائدة:106] والآية مصدرة (شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ)..
فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
[المائدة:106-108].
فأطلق على الشهادة يميناً، ثم إن قوله: فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ
[النور:6]، يفيد أن اليمين يكون بالله.
أما أقوى وجه لترجيح أن المراد بالشهادة اليمين فهو سبب النزول؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرها أن تقسم أربعة أيمان بالله، فدل ذلك على أن المراد بالشهادة اليمين وليس المراد بها الشهادة التي هي كالشهادات على الطلاق ونحو ذلك، والله تعالى أعلم.
وقوله: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ
[النور:6]، الآية استلزمت خمسة شهود هنا، فالشهادات تختلف من شيء إلى شيء آخر والشهود كذلك، فمثلاً: الشهود على الأموال يتطلب شاهدين أو شاهداً ويمينه، أو رجلاً وامرأتين.
قال الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ
[البقرة:282]، إلى أن قال:
فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ
[البقرة:282]، في شهادات الأموال إما رجلان أو رجل وامرأتان، والجمهور إذا لم يكن هناك إلا رجلاً واحد فتكفي معه يمينه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قضى بالشاهد مع اليمين.
شهادات الإرضاع: من العلماء من قال: يكفي فيها واحد لما أخرجه البخاري وفيه: (أن امرأة سوداء جاءت إلى رجل وقالت: إني أرضعتكما -أي: هو وزوجته- فقال النبي: كيف وقد قيل!) وفي الحدود لا بد أن يكون فيها أربعة شهود.
هل يجزئ في شهادات الحدود ثمانية نساء مكان الأربعة رجال؟ الجمهور من العلماء قالوا: إن ثمانية نساء لا يقمن مقام أربعة رجال في الحدود، وإن قامت المرأتان مقام الرجل في شهادات الأموال، فقيل لهم: لماذا هذا التقرير والتقعيد؟ قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن تدرأ الحدود بالشبهات، وقد قال سبحانه في شأن النساء: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى
[البقرة:282]، فلما كان هناك وجه ضلال من المرأة -أي: ذهاب عن الصواب- كان هذا شبهة لدفع الحد، فمن ثمّ قرر الجمهور من العلماء أن شهادات النساء في الحدود غير مقبولة على الإطلاق، ومن أهل العلم -كـعطاء بن أبي رباح تلميذ عبد الله بن عباس - يرى إمضاء شهادات النساء في كل شيء: في الأنكحة، والطلاق، والحدود، والأموال.
قال تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ
[النور:6] تقدم أن الرمي بأحد شيئين: إما أن يرميها بالزنا، أو يرميها باللواط، أو يصرح صراحة بنفي الولد، فهذا يقوم مقام الرمي، أما إذا عرض بنفي الولد فالتعريض على ما تقدم لا يقوم به حد القذف؛ لحديث الأعرابي الذي جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (إن امرأتي وضعت غلاماً أسوداً يا رسول الله ..) الحديث. قال:
فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ
[النور:6-7]، وقد تقدم التفصيل في تفسير اللعن بما حاصله: أن اللعن هو: الطرد من رحمة الله، وليس معنى ذلك أن المقسم كذباً والملاعن كاذباً يخلد في النار، فمن أصول أهل السنة والجماعة أنه مرتكب لكبيرة، والكبيرة قد يغفرها الله له، فقد قال عليه الصلاة والسلام في حديث عبادة بن الصامت في الصحيحين بعد أن ذكر البيعة على عدم الشرك والزنا... إلى آخر الأمور التي ذكرها: (.. فمن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله فأمره إلى الله؛ إن شاء عذبه وإن شاء غفر له)، وقال تعالى:
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ
[النساء:48]، وقال تعالى:
يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ
[العنكبوت:21]، فكل هذه الأصول تفيد أنه قد يغفر الله سبحانه وتعالى لهذا الشخص، وإن لم يغفر له فيجري عليه ما يجري على أهل التوحيد، من أنه يعذب إذا لم يغفر له لذنبه الذي ارتكب وبعد ذلك يكون مآله إلى الجنة لحديث: (أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله ... الحديث ).
فإن قال قائل: لماذا خص الرجل باللعنة في قوله تعالى: وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ
[النور:7]؟ وخصت المرأة بالغضب في قوله تعالى: (وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ)؟
من العلماء من قال: لأن المرأة متأكدة من نفسها أكثر من تأكد الرجل منها، فإنها إن أقسمت ستقسم على علم أدق، فإذا أقسمت على يمين كاذبة تكون قد حادت عن الحق على علم، كاليهود الذين حادوا عن الحق على علم... فغضب الله عليهم، وهي كذلك تكون قد حادت عن الحق على علم فيغضب الله عليها كما غضب على اليهود، والله تعالى أعلم.
هنا مقدر محذوف، فالمعنى: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لهلكتم ولحل بكم العنت، ولكن من فضل الله عليكم ومن رحمته عليكم ومن رحمته بكم أن أنزل آيات الملاعنة التي ذكرت حتى ترفع هذه الآيات الحرج عن الأزواج الذين يجدون رجالاً مع نسائهم ولا يمكنهم الإتيان بالشهود، فيقع في صدورهم الضيق، فلرفع الضيق والحرج نزلت آيات الملاعنة، قال تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ
[النور:10]على من تاب، فالله حكيم في تشريعه سبحانه وتعالى.
آيات الملاعنة كانت توطئة لحادث اشتهر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهز المسلمين كافة، وهز بيت النبوة الطاهرة، بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتنع الوحي في أثناء الخوض فيه شهراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينزل عليه هذه الآيات أو هذا الحادث هو حادث الإفك.
فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن، والمسانيد ما حاصله:
أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه -أي: أسهم بين نسائه- فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، فأسهم بيننا في غزوة غزاها، فخرج سهمي فخرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم غزوته وقفل راجعاً فقدت عقداً لي من جزع ظفار قد انقطع. قالت: فحبسني ابتغاؤه).
الحديث باختصار: أن أم المؤمنين عائشة رجعت مع النبي صلى الله عليه وسلم من سفر، فنزلوا مكاناً ونزلت معهم أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فحملوا الهودج الذي كانت فيه أم المؤمنين عائشة وظنوا أن عائشة فيه؛ لأن النساء كن خفافاً لم يثقلهن اللحم، فظن الصحابة أن عائشة رضي الله تعالى عنها في الهودج، فحملوا الهودج على الجمال وانطلقوا وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد وكل رجلاً من أصحابه يقال له: صفوان بن المعطل السلمي خلف الجيش لالتقاط الساقطة ولرد الضالة والشاردة، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يظنون أن عائشة معهم، فجاءت عائشة رضي الله تعالى عنها إذ كانت تلتمس العقد الذي ضاع منها فلم تجد بالأرض داع ولا مجيب، فجلست في مكانها، فغلبتها عيناها فنامت وليس بالمكان أحد لعلهم يفتقدونها فيرجعون إلى هذا المكان فيأخذونها منه.
فجاء صفوان بن المعطل السلمي رضي الله تعالى عنه، فوجد إنساناً نائماً فرأى عائشة فعرفها، وكان يعرفها قبل نزول الحجاب، قالت: (فلما رآني صفوان خمرت وجهي بجلبابي، والله ما كلمني صفوان بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه)، أي: قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون، فوطأ لها الراحلة -أي: برك لها الناقة- فركبت رضي الله عنها، وطفق صفوان يسحب الناقة إلى المدينة، فلما رآها بعض أهل السوء طعنوا فيها هذا الطعن، حيث بلغوا عبد الله بن أبي بن سلول رأس المنافقين في المدينة بذلك فقال مقالته الخبيثة التي لا تصدر إلا من خبيث: والله ما نجت منه ولا نجا منها.
وطفق أهل النفاق يتحدثون في هذا الحدث في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وشاء الله سبحانه وتعالى أن تأتي عائشة إلى المدينة فتمرض، فمكثت في بيتها مريضة لا تعلم شيئاً عن الحادث وعن الكلام الذي يتحدث به، فنامت مريضة والنبي صلى الله عليه وسلم تأتيه الأخبار أن عائشة فعلت كذا وكذا مع صفوان بن المعطل السلمي ، واستمرت الوشايات شهراً كاملاً، ومما زاد الموقف تأزماً أن الوحي انقطع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الشهر، فاتخذ أهل النفاق من ذلك ذريعة لتعزيز مقالتهم، فقالوا: ولأن البيت شابته الشوائب فقد امتنع الوحي عنه، ولما كثر كلام أهل النفاق انضم إليهم أيضاً بعض المسلمين وطفقوا يطعنون في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فانضم إليهم حسان بن ثابت رضي الله عنه، وطفق يطعن في أم المؤمنين عائشة ويتهمها هذا الاتهام، ودخلت في باب الطعن في أم المؤمنين حمنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش أم المؤمنين، وطفق بعض الذين شهدوا بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعنون في عائشة ، فقام منهم مسطح بن أثاثة وكان رجلاً شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطفق يطعن في أم المؤمنين عائشة ، فآذى هذا الوضع النبي صلى الله عليه وسلم غاية الأذى وآلمه غاية الألم، حتى استشار أقاربه ومن يحبهم في شأن عائشة ، فاستشار علياً رضي الله عنه، فقال علي : (يا رسول الله! إن الله عز وجل لم يضيق عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية التي تلازمها في البيت -وهي بريرة - تصدقك).
ثم استشار النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد حب النبي عليه الصلاة والسلام، فقال أسامة : (أهلك -يا رسول الله- وما علمت عليهم إلا خيراً) فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم: بريرة ، فقال: (يا
فاشتد الوضع على النبي صلى الله عليه وسلم فقام يخطب على المنبر ويقول: (من يعذرني من رجل بلغني آذاه في أهلي؟ والله ما علمت على أهلي إلا خيراً، فقال فقلت: والله لقد رميتموني بأمر والله يعلم أني منه بريئة، وإن قلت لكم: إني بريئة لم تصدقوني، وإن قلت لكم: إني فعلت هذا الأمر صدقتموني، والله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف : فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي ثم سري عنه فقال: أبشري -يا عائشة- فقد أنزل الله براءتك! ثم تلا هذه الآيات: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُم...). الآيات. فقالت أمي: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحمديه، فقلت لها: والله لا أقوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحمده، إنما أحمد الله الذي أنزل براءتي، ونزلت آيات الإفك عشر آياتفَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ
[يوسف:18]، ثم انخرطت في البكاء وأبوها يبكي معها وأمها تبكي معها والأنصارية تبكي معهم، فكما قال تعالى:
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا
[الشرح:5-6].
فقد برأ الله سبحانه وتعالى مريم مما وصفت به بأن أنطق عيسى عليه الصلاة والسلام في المهد، وبرأ الله عز وجل موسى مما وصف به فطار الحجر بثوبه، وبرأ يوسف صلى الله عليه وسلم مما رمي به، فشهد الشاهد من أهلها ليوسف صلى الله عليه وسلم، وبرأ الله تلك الجارية التي كانت تخدم عند قوم، وكانت قد انتقلت إلى الإسلام وجالست عائشة فكانت تكثر من قولها:
ويوم الوشاح من تعاجيب ربنا ألا إنه من بلدة الكفر نجاني
قالت عائشة : (ما هذا البيت الذي تكثرين منه؟ قالت: كنت جارية عند قوم، ففقدوا وشاحاً -أي: شالاً- من المعهود عندنا أحمر، فاتهموني أنني أنا الذي سرقته ففتشوني وفتشوا كل شيء حتى فتشوا قبلي، يظنون أنني أخفيته فيه، فبينما هم على ذلك إذ جاءت حدية تطير وألقت الوشاح فوقهم فعلموا براءتي)، فالله يبرئ المظلومين والمتهمين ظلماً في الدنيا والآخرة.
نزلت براءة أم المؤمنين عائشة في هذه الآيات ونزلت الآيات العشر حتى يتأدب المسلمون بآدابها، فليس كل من طعن فيه فهو طعن بحق، فهناك أصول وقواعد يسار عليها في مثل هذه المسائل الشائكة والاتهامات الباطلة.
و(الإفك) يطلق على الكذب، والأفّاك: الكذاب.
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ
[النور:11] أي: بهذا الكذب والافتراء على أم المؤمنين عائشة وعلى الصحابي الجليل صفوان بن المعطل السلمي
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ
[النور:11] (عصبة): أي: مجموعة.
عُصْبَةٌ مِنْكُمْ
[النور:11] في قوله تعالى: (منكم) دليل على أن الافتراء قد يصدر من شخص يقول: "لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" فها هي أم المؤمنين عائشة قد افتري عليها من قوم يشهدون "أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" من قوم صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به، بل من قوم منهم من شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فعلى ذلك: لا ينبغي أن نزكي أنفسنا هذه التزكية، فإذا حصل خلاف بين أحد الإخوة وأحد العامة فإننا نخطئ العامي مباشرة، وهذا لا يصح بل يجب أن تقف مع الحق وتتحراه.
يقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ
[النور:11] ممن يشهدون "أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" بألسنتهم.
عُصْبَةٌ مِنْكُمْ
فإن تكلم ثلاثة أو مجموعة بكلام يطعنون بهذا الكلام في عرض شخص، وإن كانوا جماعة فلا يقبل قولهم إلا بالقرائن والبينات الواضحات.
عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ
[النور:11] لا تظنون أن هذا الذي حدث من التهم الباطلة والافتراءات الكاذبة،
لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ
[النور:11] ووجه الخيرية في هذه الحادثة: تعليم أمة محمد صلى الله عليه وسلم كيف تعمل إذا اتهم شخص منها.. ويكمن في تأدب أمة محمد بهذه الآداب عند اتهام شخص منها، ويكمن في الدفاع عن أعراض المؤمنين، فأعراض المؤمنين لها حرمة لا تنتهك، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) فللمسلم حرمة، واللسان يجب أن يضبط، وليس كل ما يقال ينقل.
قال تعالى: لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ
[النور:11] فكم من أمر ظاهره الشر وهو يحمل لك -يا عبد الله- كل الخير، والله يعلم وأنت لا تعلم.
قال سبحانه: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ
[البقرة:216]، وقال تعالى:
فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا
[النساء:19]، فلقصر نظرك تقيس الأمور بمقياسك الخاطئ أو القاصر، أما رب العزة سبحانه وتعالى فيعلم وأنت لا تعلم، ألم تعلم أن موسى استنكر على الخضر قتل الغلام وكان في ذلك الخير؟!! واستنكر عليه خرق السفينة وكان في خرقها خير؟! واستنكر عليه بناء الجدار وكان في بنائه خير؟
وقد قال الخضر لموسى: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما أنقص هذا العصفور الذي نقر بمنقاره من البحر، فالله يعلم وأنت لا تعلم.
وقوله: لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ
[النور:11] أي: جزاء ما اكتسب من الإثم وعقوبة ما اكتسب من الإثم، فقد أقيم على البعض حد في الدنيا، فذكر عدد من العلماء أن حسان رضي الله عنه وحمنة ومسطح أقيم عليهم الحد، وبرأ حسان ساحة عائشة رضي الله عنها بقوله:
حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
تصبح غرثى. أي: جائعة؛ لأنها لم تغتب الناس ولم تأكل لحوم الناس الميتة.
ومن العلماء من قال -وقد وردت بذلك رواية وينظر فيها- أن صفوان بن المعطل لما بلغه ذلك وأنه اتهم هذه التهمة قال: (والله ما كشفت كنف أنثى قط)، وذهب إلى حسان فعلاه بالسيف على رأسه فشجه وقال:
تلقَّ ذباب السيف عني فإنني غلام إذا ما هجيت لست بشاعر
وكبر حسان وعمي فكانت عائشة رضي الله عنها تثني عليه، فقال لها عروة : يا أم المؤمنين! أليس قد قال ما قال وخاض مع من خاض في حديث الإفك؟ قالت: (يا ابن أختي! إنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فلم يمنعها قول حسان من أن تثني على حسان بالذي تعلم فيه من الخير.
وهكذا ينبغي أن يكون المسلم والمسلمة أهل إنصاف، قال تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا
[المائدة:8] وقال لها عروة : أليس قد قال الله:
وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ
[النور:11]، وقال:
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ
[النور:11].
قالت: يا ابن أختي! أليس قد عمي، تعني: أن من العذاب العمى الذي أصيب به رضي الله عنها، قال تعالى: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ
[النور:11] أي: جزاء وعقوبة ما اكتسب من الإثم
وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ
[النور:11]، أي: الزعيم الأكبر الذي تولى نشر هذا الإفك والكذب واستوشاه وكان يجمعه ويبثه في الناس يسمع من هذا ويسمع من هذا، ويلفق الأكاذيب وينشرها،
وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ
[النور:11] وهو عبد الله بن أبي بن سلول له عذاب عظيم فكل بحسبه.
ثم قال تعالى معلماً إيانا ماذا نصنع إذا اتهم أحد إخواننا في عرضه، فكلنا عرضة لمثل هذا من السفهاء، فقد لا يتورع سفيه أن يأتي ويقذفك بامرأة من النساء، وقد لا يتورع سفيه أن يأتي إلى امرأة من النساء ويقذفها برجل، فماذا يجب علينا في مثل هذه الأحوال؟ هل تكون أعراضنا ملعوبة في أيدي الفسقة؟ لا. فلنا دين ولنا آداب نتأدب بها في مثل هذه الأحوال:
أولها: قوله تعالى: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ
[النور:12] أي: هلا إذ سمعتموه
ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ
[النور:12]، ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم، أي: بإخوانهم.
كقوله: وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ
[الحجرات:11] أي: ولا تلمزوا إخوانكم.
فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ
[البقرة:54]، أي: ليقتل بعضهم بعضاً.
فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ
[النور:61] أي: فليسلم بعضكم على بعض.
إذاً: أول أمر يطلب إذا اتهم مسلم بشيء لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ
[النور:12] أي: بإخوانهم
خَيْرًا
[النور:12] فالمؤمنون كالجسد الواحد
وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ
[النور:12] يعني: إذا خبر في أخيك الذي يصلي بجوارك في المسجد بأنه قد زنى أو فلانة من اللواتي يحضرن الدروس معكم قد فعلت الفاحشة، فلأول وهلة عليك أن تظن بأخيك الخير، وتقول: هذا كذب عليه وافتراء، فهو رجل مصلٍّ، وتلك أخت تخاف الله فلا يصدر منها ذلك، هذا الظن الحسن لا بد أن يتوفر.
ولذلك فإن عمر رضي الله عنه جاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين! إن فلانة العابدة بالمدينة قد زنت. فقال عمر : (أظنها قامت تصلي من الليل فسجدت فتجشمها رجل، أو فنامت في صلاتها في الليل من طول القيام فوسد عليها فاسق من الفساق فزنى بها).
فدافع عنها في أول وهلة، فأرسل عمر إليها فجاءت فسألها عن الذي حدث فحكت نفس مقالة عمر بالضبط، فلأول وهلة ينبغي أن تظن بإخوانك الخير، وورد في إسناد ينظر فيه أن أبا أيوب الأنصاري كان يقول لزوجته: (أنتِ خير أم عائشة ؟ فتقول له: عائشة خير مني، وتسأله هي: أنت خير أم صفوان ؟ فيقول: صفوان خير مني، فتقول لزوجها ويقول لزوجته، إذا كان صفوان خير مني وعائشة خير منك وأنا وأنتي لا نقبل أن نزني، فمن باب أولى: أن الأفضل منا لا يقبلان على أنفسهما الزنا).
وفقنا الله لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر