إسلام ويب

سلسلة تفسير سورة يوسف [8]للشيخ : مصطفى العدوي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ختم الله عز وجل هذه السورة الكريمة بقواعد وأصول عامة في الشرع يستفيد منها كل داعية إلى الله ورسوله، وهي: جمع كثير من الناس بين الإيمان والشرك بعدة صور، ثم حذر هؤلاء النفر بغاشية من عذاب الله تأخذهم؛ ثم عقب ذلك بذكر مميزات وصفات للدعاة وأمور تلزمهم قبل الدعوة إلى الله وبعدها، وجعل ختام هذه السورة كأنه عطف على أولها بذكر النصرة لرسله الملازمة لهم، خصوصاً بعد تكذيب الأمم لهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما يؤمن أكثرهم بالله...)

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، فلما ذكر الله سبحانه وتعالى الإعراض عن الآيات التي في السماوات والأرض، ذكر ذلك في معرض ذم لقوم من المشركين، فكان من اللائق بنا أن نتدبر الآيات التي في السماوات والأرض، وكما قال قائل من أهل العلم: إن الله سبحانه وتعالى يستدل على وحدانيته بأمور منها: النظر في السماوات والأرض، وبصفة عامة: النظر في مخلوقاته سبحانه وتعالى والتأمل فيها.

    كما يستدل كذلك على وحدانيته بأسمائه وصفاته، فعلى سبيل المثال: إذا عرفت أن الله سبحانه وتعالى سريع الحساب، وأمعنت النظر في سرعة الحساب، وكيف يتم حساب الخلق جميعاً يوم القيامة، حتى إنه -كما سمعت- يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء، فاستدلل بذلك على وحدانية الله سبحانه، كيف ذلك؟ إنك إذا كنت محاسباً في شركة من الشركات قد تعجز؛ بل قد تعجز إذا عهد إليك وحدك بعمل هذه الشركة الكبيرة، فما ظنك برب العالمين، الذي يحاسب الخلق كلهم إنسهم وجنهم، وطيرهم ودوابهم، يحاسب الخلق جميعاً، وكذلك يعلم المستكن في الصدور، فإذا عرفت ذلك ظهر لك شيء من قدرة الله سبحانه وتعالى.

    فيستدل على قدرته ووحدانيته سبحانه بأسمائه وصفاته، وكذلك بشرعه الذي شرع، وحدوده التي حد، فحينئذ يجدر بالمسلم أن يتأمل ويتدبر في نفسه وفيما حوله من الآيات، قال الله تعالى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس:101].

    كيفية اجتماع الإيمان مع الشرك

    يقول الله سبحانه: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106]، كيف ذلك؟ جمهور المفسرين يقول: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، ثم هم بعد ذلك يشركون بالله، ويدعون مع الله آلهة أخرى؛ فعلى هذا فقول جمهور المفسرين في قوله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ . أن هذا في مشركي الجاهلية، فالله يقول في شأنهم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87] .. وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف:9]، وكما قال تعالى: قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون:88-89].

    فهم يقرون بالله ويصدقون، ومع ذلك يشركون بالله، ويدعون مع الله آلهة أخرى.. اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، يدعون مع الله آلهة أخرى لتقربهم بزعمهم إلى الله زلفى، قال تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].

    فكان أهل الشرك يقرون بوجود الله، وأن الله سبحانه وتعالى خالق رازق، وأن الله هو الذي يحيي ويميت، كانوا يقرون بذلك، قال الله تعالى: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:32]، فكانوا يقرون بوجود الله سبحانه وتعالى، وكانوا يقولون في تلبيتهم: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، ويزيدون: إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك)، فهذا وجه شركهم.

    قال تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ، فهذه صورة من صور الشرك مع الإيمان بالله: أنهم يدعون مع الله آلهة أخرى، كالذين يدعون في زماننا الأموات من دون الله، ويطلبون منهم الغوث والمدد وهم قد ماتوا، ولا نعلم إلى أين صاروا، هل إلى جنة أم إلى نار؟ فالله أعلم بذلك، لكن لا يسوغ لنا بحال أن ندعو أحداً سوى الله سبحانه وتعالى، فجمهور المفسرين ينزلونها على أهل الشرك الذين يقرون بأن الله سبحانه خالق رازق، ومع ذلك يدعون معه غيره.

    تفسير الإيمان مع الشرك بالنفاق

    ووجه آخر للمفسرين في تفسير قوله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ : أن هذا في أهل النفاق، الذين يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً، سواء كان نفاق العمل أو نفاق الاعتقاد، وقد قال الله في الحديث القدسي: (من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه).

    ويقول الله سبحانه وتعالى للمرائين إذا جاء الناس بأعمالهم: (اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم من جزاء)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء)، صلوات الله وسلامه على نبينا محمد؛ فشخص يعرف أن الله خالق رازق إله، ثم بعد ذلك يعمل أعمالاً يبتغي بها وجهاً غير وجه الله سبحانه! فهذا يدخل أيضاً في قوله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ .

    كما يدخل في ذلك ما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم حين كان في الحديبية مع أصحابه رضي الله عنهم، فقال لأصحابه على إثر سماء أصابتهم من الليل -أي: مطر نزل عليهم من الليل-: (هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم! قال: قال ربكم: أصبح من عبادي الليلة مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله وبرحمته فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وبنوء كذا، فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب)، فهذه أيضاً صورة داخلة تحت قوله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106].

    ومن العلماء من يقول قولاً آخر في ذلك فيقول: هذا في اليهود والنصارى، فإنهم يقرون بالله ولكنهم يقولون: عزير ابن الله، ويقولون: المسيح ابن الله، فهذا وجه أيضاً.

    تفسير الإيمان مع الشرك بالحلف بغير الله

    ووجه آخر في هذا الباب: أن قوماً ما يقرون بالله بأنه إله واحد وخالق ورازق ورب، ثم هم يحلفون بغيره، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، وقال عليه الصلاة والسلام: (من حلف بالأمانة فليس منا)، وحسن بعض العلماء حديث: (من حلف بغير الله فقد أشرك) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (من حلف فقال: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله)، وجاء اليهود إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقالوا: يا محمد! إنكم تشركون وتنددون! قال: وكيف ذاك؟ قالوا: أصحابك يقولون: ما شاء الله وشاء محمد، ويقولون: والكعبة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده، ولا تقولوا: والكعبة، ولكن قولوا: ورب الكعبة).

    فهذه صور من صور الشرك قد تتأتى إلى بعض المسلمين كذلك، ولكنها ليست بشرك مخرج عن الملة إلا إذا اعتقد صاحبها تعظيم المحلوف به كربه سبحانه وتعالى، فهذه صورة أخرى من صور الشرك، فربنا يقول: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106] .. فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65]، فهذه صور كلها تدخل تحت قوله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ، ومن ذلك: (لولا البط لسرقنا اللصوص)، (لولا الديك لاعتدى علينا الجيران)، هذه أيضاً صور من صور الشرك في الألفاظ ينبغي أن تتقى.

    ورب العزة يقول في كتابه الكريم: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:5-6]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ [الرعد:14]، أي: فكأنه يمد يديه إلى الماء ويقول: يا ماء تعال اصعد إلي يا ماء، والماء لن يصعد أبداً بحال، وهكذا الذي يدعو من دون الله أمواتاً وأنداداً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أفأمنوا أن تأتيهم غاشية...)

    قال تعالى: أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ [يوسف:107]، أفأمن هؤلاء المشركون، أفأمن هؤلاء الغافلون أن تأتيهم غاشية من عذاب الله؟! غاشية تغشاهم وعذاب يعمهم، فالغاشية المصيبة والداهية التي تغشى الوجود والخلق، أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ [يوسف:107]، كما قال تعالى محذراً ومنذراً: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:97-99]، أفأمن هؤلاء المشركون الظالمون أن تأتيهم غاشية من عذاب الله، أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل:45-47].

    ألا فلينتبه الغافلون، وليقبل الشاردون، ليقبلوا على طريق الله، فإن المصائب تأتي فجأة، والبلايا تحل سريعاً، والله ذو بأس شديد، وذو عقاب أليم، فهلموا أيها العصاة إلى طريق الله سبحانه وتعالى، وارجعوا عن عصيانكم، وارجعوا عن تمردكم إلى الله سبحانه وتعالى.

    أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ، أي: فجأة وهم لا يشعرون، كما قال الله سبحانه وتعالى: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ [القمر:46]، فلو تمتعت أيها العبد العاصي، أيها العبد المشرك! إذا تمتعت كل حياتك فلتعلم أن كل ذلك سيذهب ويبقى العمل الصالح الذي قدمه الصالحون، قال الله في آيات تقشعر منها الأبدان وتذرف منها العيون: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207]، كل هذه المتعة ذهبت وزالت، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: (يؤتى بأنعم رجل في الدنيا يوم القيامة -أي: ممن كُتب له الشقاء والعذاب في الآخرة- فيصبغ صبغة في النار ويقال له: هل وجدت نعيماً في حياتك قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ما وجدت نعيماً في حياتي قط!! ويؤتى بأبأس رجل في الدنيا -أي: ممن كتب الله له الجنة- فيصبغ صبغة في الجنة ويقال له: هل وجدت بؤساً في حياتك قط؟ فيقول: لا يا رب! ما وجدت بؤساً في حياتي قط) ، فنعيم الآخرة باق لمن وجب له النعيم، وعذاب الآخرة باق كذلك لمن وجب عليه العذاب.

    قال الله تبارك وتعالى: أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [يوسف:107]، بغتة أي: فجأة، سواء كانت ساعتهم هم أو الساعة التي هي الآخرة التي قد أزفت كما قال تعالى: أَزِفَتِ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ [النجم:57-58]، وكما قال تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1]، وكما قال تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله..)

    قال تعالى: قُلْ [يوسف:108]، أي: قل يا محمد لهؤلاء المشركين، ولهؤلاء الغافلين، قل يا محمد للناس كافة: هَذِهِ سَبِيلِي [يوسف:108]، توحيد الله طريقي، والاستقامة على أمر الله منهجي، واتباع السابقين من رسل الله منهجي، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، قل يا محمد لهؤلاء ولمن حولك وللناس كافة، ولا تخفي ذلك، ولا تستحي من ذلك، قل لهم: هَذِهِ سَبِيلِي .

    ولنقل نحن للناس كافة: هذه طريقنا، نحن مسلمون، كتابنا هو كتاب الله، سنتنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونؤمن بالبعث وبكتاب الله وبالكتب التي نزلت من عند الله، ولا نفرق بين أحد من الرسل، ونؤمن بملائكة الله كما علمنا نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، ونؤمن ونشهد أن هذا القرآن من عند الله، قال تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64].

    وعجيب أمر المسلم ضعيف الإيمان، كيف يشعر اليهودي بيهوديته، والنصراني بنصرانيته، ويعلق هذا صلباناً، ويعلق ذاك نجوماً، والمسلم يستحي من اتباع سنة النبي محمد!! عجيب ضعف الإيمان هذا، وهنا يقول الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام ونحن له تبع: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ ، ومن سبيلي أيضاً الدعوة إلى الله؛ فهي من أشرف الأعمال على الإطلاق، فجدير بنا أن نغبِّر أقدامنا في الدعوة إلى الله، وأن نرطب ألسنتنا بعد ذكر الله بالدعوة إلى الله، جدير بنا ذلك.

    قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ ، إلى طريقه وإلى شرعه وسنن أنبيائه عليهم الصلاة والسلام.

    قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ، لكن دعوتي إلى الله ليست دعوة همجية، وإنما هي على بصيرة، على علم ويقين وحجة، فهكذا ينبغي أن يكون الدعاة إلى الله.. مستبصرين بما يدعون إليه، مستيقنين بما يريدونه من الناس ويدعون الناس إليه، فلا تدع بجهل فتضل وتضل غيرك، ولكن ادع إلى الله على بصيرة، وأتقن المسائل، وتعلم دينك: كتاب ربك، وسنة نبيك محمد، وأقوال صحابة النبي عليه الصلاة والسلام، وأقوال أهل العلم والفقه في الدين، ثم ادع على بصيرة بعد ذلك.

    قال الله تبارك وتعالى: وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ [آل عمران:79]، ربانيين بماذا؟ قال الله تعالى: بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79]، فدراسة وتعلم ثم بث ونشر للعلم، هكذا ينبغي أن يكون الدعاة إلى الله، يتزودون بالعلم الشرعي ويتبصرون به، ثم يدعون الناس إلى طريق ربهم على بصيرة ليس بجهل وليس خبطاً عشوائياً.

    قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108]، والبصيرة منها كتاب الله وسنة رسول الله؛ لقوله تعالى: قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا [الأنعام:104]، فالآيات بصائر، وسنن النبيين بصائر كذلك يهتدى بها، قال تعالى في شأن كتابه: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة:15-16].

    فينبغي أن يكون الداعية على علم، وأن يتقن ما يبلغه للناس تمام الإتقان، كما أن على الطبيب أن يتقن طبه، وعلى المهندس أن يتقن هندسته وتصميمه، وعلى المدرس أن يتقن الدرس الذي سيلقيه، وكذلك على الداعي إلى الله أن يتقن المسائل التي سيدعو إليها، وأن يعرف إلى ماذا يريد أن يدعو، فعليه أن يتقن ذلك إتقاناً زائداً فإنه تقلد أفضل الأعمال، فعليه أن يوليها أحسن إتقان، وأن يبذل لها أطيب الجهد وأفضله.

    قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ، فالذين اتبعوا رسول الله يسيرون على درب رسول الله، وعلى سيرة رسول الله في الدعوة إلى الله على بصيرة، فلنكن معشر الإخوة دعاة إلى الله، فهي أفضل الأعمال، حتى إن بعض أهل العلم يفضلها على الجهاد، مستأنساً بقول النبي صلى الله عليه وسلم لـعلي بن أبي طالب وقد أرسله لفتح خيبر : (انفذ على رسلك وادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، فهداية رجل واحد إلى طريق الله سبحانه خير من الغنائم، ومن أفضل أنواع الإبل.

    قال الله سبحانه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، أي: ولست أنا وحدي بل أنا ومن اتبعني، فمن اتبعوا رسول الله عليهم أن يحملوا دعوة رسول الله، ويوجهوها إلى الخلق، ويأخذوا بأيدي الضال والتائه، قال: وَسُبْحَانَ اللَّهِ [يوسف:108]، أي: وأنزه الله سبحانه عن كل شريك وند ومثيل، أي: في دعوتك إلى الله نزه الله أيضاً عن الشركاء، وعن الأمثال والأنداد: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ ، أنزه الله، فالتسبيح هو التنزيه.. تنزيه الله عن الشبيه والشريك والمثيل والند.. تنزيه الله عما يصفه به الواصفون القائلون بأن له ولداً وبأن له زوجة، القائلون بأن له شريكاً، القائلون بأن الملائكة بنات الله، الذين عبدوا معه غيره.

    فينبغي أيضاً أن ننزه الله عن كل نقص وعيب، وكذلك لنا في كل تسبيحة نسبحها صدقة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولك بكل تسبيحة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وبكل تهليلة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة)؛ فلنسبح الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)، فجدير بنا أن نسبح الله باللسان وبالجنان.

    قال تعالى: وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108]، بل أنا بريء من المشرك، بُرآء فنحن والحمد لله من الشرك ومن كل صنوفه، بُرآء من الشرك ومن المشركين كذلك.

    1.   

    إرسال الله الرسل إلى الأمم السابقة

    ثم قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ [يوسف:109]، وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالاً.

    اختصاص الله الرجال من البشر بالوحي

    أفادت الآية الكريمة أن الله سبحانه لم يرسل نبياً من النساء، ولا نبياً من الملائكة، ولا نبياً من الجن كذلك، وامتناع نبي من الجن في قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ [الأنبياء:8]، فلم يأت رسول من الجن، ولم يأت رسول كذلك يدعو الناس مباشرة من الملائكة، إلا في بعض الحالات المستثناة كحديث الأقرع والأعمى، وأحاديث قليلة على هذا النمط، لكن كرسول ملك إلى الناس يدعوهم إلى طريق الله لم يكن هذا موجوداً من قبل، ولم يكن ثَم رسول من النساء ولا نبية من النساء. وهذا رأي جمهور المفسرين.

    أما الذي ورد بشأن الإيحاء إلى أم موسى في قوله تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص:7]، والوارد كذلك في شأن مريم عليها السلام: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [مريم:17]، وكذلك الوارد في شأن سارة عليها السلام: فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [هود:71]، فذلك كله باب فضل ليس بباب إثبات نبوة، والله تعالى أعلم، وقد ذكر الله سبحانه مريم في أعلى مقاماتها فقال تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ [المائدة:75]، فلم يقل الله عن مريم إلا أنها صديقة انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المائدة:75].

    إرسال الرسل من أهل القرى

    وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [يوسف:109] أفادت الآية الكريمة أن الأنبياء الذين أوحي إليهم كانوا من أهل القرى، والمراد بالقرى هنا: هي البيوت المستقرة، فالبيوت المستقرة يقال عنها: القرى، سواء كانت في اصطلاحاتنا مدنناً أو قرى، فإن مكة قال الله في شأنها: وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا[الأنعام:92]، فالمراد بالقرى -والله أعلم بمراده- هي القرى المستقرة، أما البدو الرحل الذين لا يكادون يسكنون أماكن يستوطنونها فلم تكن منهم رسالات، كما قال تعالى: إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فإن قال قائل: لم ذاك؟

    فالجواب: أن الأعراب كما وصفهم الله سبحانه وتعالى في الجملة: أشد كفراً ونفاقاً، أشد كفراً فمن؟ وأشد نفاقاً فمن؟ قال فريق من المفسرين: أشد كفراً من كفر أهل المدينة، وأشد نفاقاً من نفاق أهل المدينة، لكن الكفار والمنافقين من الأعراب ينضم إلى كفرهم ونفاقهم جهل شديد وغباء، فاجتمع مع الكفر والنفاق جهل وغباء وقسوة في القلوب، كما قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام: (الفخر والخيلاء في الفدادين أهل الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم)، وكما قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام -فيما حسنه بعض العلماء-: (من سكن البادية جفا).

    فلذلك يقول العلماء -على سبيل الشيء العارض-: إن النصراني الذي يساكن المسلمين في بلادهم يستحي من الزنا ويستحي إذا قيل له: إن ابنتك زنت، لكن النصراني الذي يساكن الملاحدة في روسيا لا يستحي من ذلك ولا يبالي به، ولا يهتم له.

    قال الله تبارك وتعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ[يوسف:109]، كما قال تعالى: فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ[آل عمران:137]، أهلكهم الله، أمم دمرها الله، أمم محاها الله، كما قال تعالى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا[النمل:52]، قال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ[يوسف:109]، أي: أفلا تفهمون!

    إرسال الرسل من أهل القرى

    وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى [يوسف:109] أفادت الآية الكريمة أن الأنبياء الذين أوحي إليهم كانوا من أهل القرى، والمراد بالقرى هنا: هي البيوت المستقرة، فالبيوت المستقرة يقال عنها: القرى، سواء كانت في اصطلاحاتنا مدنناً أو قرى، فإن مكة قال الله في شأنها: وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا[الأنعام:92]، فالمراد بالقرى -والله أعلم بمراده- هي القرى المستقرة، أما البدو الرحل الذين لا يكادون يسكنون أماكن يستوطنونها فلم تكن منهم رسالات، كما قال تعالى: إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فإن قال قائل: لم ذاك؟

    فالجواب: أن الأعراب كما وصفهم الله سبحانه وتعالى في الجملة: أشد كفراً ونفاقاً، أشد كفراً فمن؟ وأشد نفاقاً فمن؟ قال فريق من المفسرين: أشد كفراً من كفر أهل المدينة، وأشد نفاقاً من نفاق أهل المدينة، لكن الكفار والمنافقين من الأعراب ينضم إلى كفرهم ونفاقهم جهل شديد وغباء، فاجتمع مع الكفر والنفاق جهل وغباء وقسوة في القلوب، كما قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام: (الفخر والخيلاء في الفدادين أهل الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم)، وكما قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام -فيما حسنه بعض العلماء-: (من سكن البادية جفا).

    فلذلك يقول العلماء -على سبيل الشيء العارض-: إن النصراني الذي يساكن المسلمين في بلادهم يستحي من الزنا ويستحي إذا قيل له: إن ابنتك زنت، لكن النصراني الذي يساكن الملاحدة في روسيا لا يستحي من ذلك ولا يبالي به، ولا يهتم له.

    قال الله تبارك وتعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ[يوسف:109]، كما قال تعالى: فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ[آل عمران:137]، أهلكهم الله، أمم دمرها الله، أمم محاها الله، كما قال تعالى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا[النمل:52]، قال تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ[يوسف:109]، أي: أفلا تفهمون!

    نزول النصر على الرسل عند تكذيب الأمم

    حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا [يوسف:110]، هنا قراءتان: وهل هي: (كُذِبُوا) مخففة، أم (كُذِّبُوا) مشددة؟

    فـعائشة رضي الله تعالى عنها كانت تستنكر القراءة (كُذِبُوا) بالتخفيف، وتقول: بل (كُذِّبُوا)، وتقول: معاذ الله أن تظن الرسل بربها ذلك!

    أما ابن عباس رضي الله عنهما فكان يقرأ: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) مخففة، يقول ابن عباس : كانوا بشراً، ويتلو قول الله تبارك وتعالى: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].

    ومن العلماء من التمس تأويلات فقال: ظنت الرسل أن قومها قد كذبوها، فكل رسول ظن أن قومه قد كذبوه لما استبطأوا وعد الله بالنصر. فثَم وجوه في هذا التأويل، وحاصل ذلك كله: أن الأمر اشتد على المرسلين شدة شديدة، وتأخر النصر عليهم تأخراً شديداً شق على بعضهم مشقة بالغة، حتى إن نوحاً عليه السلام يقول الله في شأنه: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر:10]، فإلى أي حد وصل الأمر بنوح عليه الصلاة والسلام حتى ينادي ربه عز وجل قائلاً: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر:10]؟! إلى أي حد يصل الأمر بنوح إلى أن يقول هذا القول صلوات الله وسلامه عليه؟!

    فالشاهد: أن الرسل عليهم السلام بذلوا جميع ما في وسعهم، ولم يقصروا صلوات الله وسلامه عليهم؛ بل بذلوا الجهد كل الجهد، وتأخر النصر عليهم لحكمة يعلمها الله، وإلا فالله قادر على الانتصار لهم.. قادر على إهلاك عدوهم لأول وهلة، ولكن كما قال تعالى: وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ [محمد:4]، أي: من الكفار، وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد:4]، فمن ثَم لا يستبطئ الدعاة إلى الله نصر الله تبارك وتعالى، فإن الله وعد به: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51] .. كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21] .. وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:173].

    فوصل الأمر بالرسل عليهم الصلاة والسلام إلى أن ظنوا بأقوامهم أنهم قد كذبوهم، ومن العلماء من يقول: إن الرسل بشر حدثتها أنفسها بما شاء الله أن تحدث، لكنهم لم يظنوا أن الله يخلف الوعد، فالرسل أبعد الناس عن ذلك الظن بالله سبحانه وتعالى.

    1.   

    العبرة المأخوذة من قصص الأنبياء

    قال الله تبارك وتعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ [يوسف:110-111]، أي: في قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف:111]، عبرة يعتبر بها أولو الألباب حتى يصبروا كصبرهم، ويؤمنوا كإيمانهم، ويصدقوا كتصديقهم، ويسيروا كسيرهم، ويكظموا الغيظ ويعفوا عن الناس ككظمهم وعفوهم، ويتخلقوا بأخلاقهم، لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف:111]، حتى يوحدوا الله كتوحيدهم. (لأولي الألباب): لأصحاب العقول النيرة الناضجة.

    مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى [يوسف:111]، ما كان ليفترى هذا القرآن أبداً، وليس بحديث مفترى كما زعم الزاعمون من الكفار، كما قالوا: أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفرقان:5]، وكما قالوا: إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الفرقان:4]، ليس كهذا أبداً؛ فالرسول لم يفتر أبداً صلوات الله وسلامه عليه، بل قال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة:44-47]، فنبينا محمد لم يفتر أبداً، ولكنه تنزيل من حكيم حميد، فنقر ونشهد أن هذا القرآن من عند الله، وأنا متمسكون به إن شاء الله دائماً وأبداً، ونسأل الله الثبات على ذلك حتى الممات.

    قال الله سبحانه: وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [يوسف:111]، أي: تصديق التوراة والإنجيل، فالقرآن مصدق للتوراة وللإنجيل ولسائر الكتب، وهي كذلك تصدقه فيما أتى به ذكره، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ [يوسف:111]، وقد قال تعالى : مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، فهدايته ينتفع بها أهل الإيمان، أما أهل الغباء والجهل فإن الله يقول في شأنهم: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:124-125]، فهكذا هداية القرآن لأهل الإيمان: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء:82].

    فنسأل الله أن ينفعنا بهذا الكتاب الكريم، وأن ينفعنا بهذا الذكر الحكيم، وأن ينفعنا بتنزيل رب العالمين الذي نزل به الروح الأمين.

    نسأل الله سبحانه أن يلهمنا التأسي برسل الله عليهم الصلاة والسلام، والسير على نهجهم حتى الممات، فالموفق من وفقه الله.

    وبهذا الختام الطيب الجميل تختم سورة يوسف خير ختام؛ فلنلتمس الهداية والتوفيق من الله سبحانه، ولنلتمس سير العلماء بعد الأنبياء، فلنسر على سير الأنبياء، ولنقتبس منها كل هدى وخير وأدب وكل معتقد صحيح.

    والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756226990