إسلام ويب

محطات شطحاتللشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن التمسك بالسنة نجاة من الزيغ والانحراف، فهي كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى، وهي نور يستضاء به في الظلمات، ويستنار به في المدلهمات، لذا لما تمسك بها السلف الصالح نجو من الفتن والأهواء، وكانوا على المحجة البيضاء، وصاروا نبراساً يستضيء به من بعدهم، وقدوة يقتدي بها السائرون والسالكون إلى الله. بينما نجد فئاماً من الناس أعرضوا عن السنة ولم يرفعوا بها رأساً، فلم يرتفعوا لا في علم ولا في عمل، بل انحطوا في درك الأهواء والفتن، والاختلافات والمحن، فصاروا شرّ سلف، وأشأم قدوة، ولا يذكرون إلّا بالسوء والقبيح.

    1.   

    قواعد وفوائد بين يدي الموضوع

    فائدة الرد على أهل البدع والضلالات

    فكما أن في هذا الرد تعرضاً لإبطال هذه الضلالات التي شاعت وانتشرت ففيه أيضاً خير للباهت المتبع نفسه؛ لأنه يحتمل أن يعود إلى رشده، ويرجع عن غيه إذا كان إنما أُتي من قبل داء الجهل، وأما إذا كان أُتي من قبل داء الهوى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [المائدة:41]، خاصة أننا بصدد الرد على مقالة هذا الذي أنكر شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآخرة، فمن مصلحته أن يرجع، ومن مصلحته أن يتوب، فقد صح عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنه قال: (من كذب بالشفاعة فليس له منها نصيب) وإن أصر على هذا الضلال فإن الرد يعود عليه بالفائدة، فإن في هذا الرد تقليل عدد المتورطين المضلَّلين بجهله وفتنته، وإلا فقد قال الله تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [العنكبوت:13]، وقال تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل:25].

    وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها، ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً)، فنحن لا نتعرض بالذات لهذه الواقعة؛ لأن الوقائع كثيرة جداً لا تكاد تنحصر، ومن ذلك مقالة أطلعني عليها أحد الإخوة نشرت منذ فترة من شخص يعتزّ بفرعون، ويعز عليه أن القرآن الكريم يحكم بكفر فرعون، فإذا به يلتقط من هنا وهناك كلاماً لبعض الملاحدة الزنادقة كـابن عربي الصوفي المارق، ويعقد محاكمة، ويجعل ابن عربي هو المحامي الذي يدافع عن فرعون ويقول: إن فرعون جدي، وأنا رجل مصري قبطي، فكيف يكون جدي في النار؟ وكيف يذم القرآن جدي بهذه الوسيلة؟ فمن هذا المنطلق وهذه النعرة والحمية الجاهلية النكراء يعقد محاورة أو محاكمة في صفحة كاملة في جريدة شبه رسمية، ويدافع فيها عن فرعون، ويقول: إن فرعون مات مؤمناً.. إلى آخر ضلالاته، فهذا يريد أن يقضي على معنى تكفير فرعون، ويقوم اليهود -من ناحية أخرى- بالمطالبة في فلسطين بحذف الآيات التي تتعرض لبني إسرائيل بالذم، وهكذا نتلقى الصفعات، وكل من أراد أن يطعن فليطعن، وكل من أراد أن يحذف فليحذف إلى غير ذلك مما تعلمون.

    فنحن نريد أن نجعل هذا الموقف درساً وعبرة؛ لأن الضُّلّال لا ينحصرون، والظلمات كثيرة كما أخبر الله تعالى، وكما هي مجموعة في القرآن، فالظلمات دائماً تأتي بصيغة الجمع، وأما النور فيأتي مفرداً، اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [البقرة:257] فعلينا أن ننشغل بالنور، وأن نتعلم هذا النور؛ حتى يكفينا شر هذه الظلمات، فقضيتنا ليست أن نتعرض لهذا الكاتب بالتفصيل، ولا لـأحمد صبحي منصور ، ولا لـرشاد خليفة ، ولا للسيد صالح أبي بكر ، ولا لـأبي رية ، ولا لغيرهم من هؤلاء المارقين الذين يطعنون الإسلام في الصميم، بل سنحاول أن نعمم العبرة؛ حتى نستطيع أن نتعامل مع ظاهرة العدوان على دين الله سبحانه وتعالى بهذه الأقلام المسمومة التي تنفث سمومها بين الحين والآخر.

    حكم الرد على أهل البدع والضلالات

    فإن قيل: إنه يسعنا ما وسع السالف الصالح، من أنهم لم يناظروا أهل البدع، وإنما هجروهم وقاطعوهم، وهذه بعض الآثار:

    فعن سفيان الثوري رحمه الله تعالى قال: من سمع بدعة فلا يحكها لجلسائه، لا يلقيها في قلوبهم.

    وعن أيوب السختياني قال: لست ترد عليهم بشيء أشد من السكوت، وقال الخواص : إذا جاءكم مجادل بغير حق فتصدقوا عليه بالسكوت، فإنه يخمد هيجان نفسه. وعن عبد الله بن السري قال: ليست السنة عندنا أن يرد على أهل الأهواء، ولكن السنة عندنا ألا نكلم أحداً منهم. وكتب رجل إلى الإمام أحمد رحمه الله تعالى كتاباً يستأذنه في أن يضع كتاباً يشرح فيه الرد على أهل البدع، وأن يحضر مع أهل الكلام فيناظرهم، ويحتج عليه، فكتب إليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى كتاباً فيه: الذي كنا نسمع، وأدركنا عليه من أدركنا من أهل العلم: أنهم كانوا يكرهون الكلام والجلوس مع أهل الزيغ، وإنما الأمر في التسليم والانتهاء إلى ما كان في كتاب الله، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا في الجلوس مع أهل البدع والزيغ لترد عليهم، فإنهم يلبّسون عليك وهم لا يرجعون، فالسلامة إن شاء الله في ترك مجالستهم والخوض معهم في بدعتهم.

    فنقول: إنّ الحق والصدق أن هذا هو مسلك السلف رحمهم الله تعالى في التعامل مع أهل البدع فقد كانوا يهجرونهم، وينبذونهم، ويتركونهم، ونقول: نعم يسعنا ما وسع السلف رحمهم الله تعالى إن كانت ظروفنا مثل ظروف السلف، لكن إن ابتلينا بما عافاهم الله منه فلا شك أن الموقف يختلف، فقد غاب السلطان الشرعي الذي كان يضرب على أيدي المبتدعة ويحجر عليهم، وقعد كثير من أهل العلم عن التصدي للمبتدع الذي أذاع بدعته على نطاق واسع، وتحقق حصول الضرر من نشاط هؤلاء الناس على العوام وبعض الخواص، ومع ذلك فلنا أسوة في أهل العلم في كل زمان ممن تصدوا لأهل البدع في الرد والتفنيد.

    فهذا الإمام مسلم رحمه الله تعالى في مقدمة صحيحة يقول: وقد تكلم بعض منتحلي الحديث من أهل عصرنا في تصحيح الأسانيد وتقسيمها، بقول لو ضربنا عن حكايته وذكر فساده صفحاً لكان رأياً متيناً، ومذهباً صحيحاً، إذ الإعراض عن القول المطَّرح أحرى لإماتته، وإخماد ذكر قائله، وأجدر ألا يكون ذلك تنبيهاً للجهال عليه، غير أنا لما تخوفنا شرور العواقب، واغترار الجهلة بمحدثات الأمور، وإسراعهم إلى اعتقاد خطأ المخطئين، والأقوال الساقطة عند العلماء، رأينا الكشف عن فساد قوله، ورد مقالته بقدر ما يليق بها من الرد أجدى على الأنام، وأحمد للعاقبة إن شاء الله.

    وأنكر الإمام أحمد على الحارث المحاسبي تصنيفه في الرد على المعتزلة، فقال الحارث : الرد على البدعة فرض، فقال الإمام أحمد : نعم، ولكن حكيت شبهتهم أولاً ثم أجبت عنها، فلا يؤمن أن يطالع الشبهة من تعلق بفهمه، ولا يلتفت إلى الجواب، أو ينظر في الجواب ولا يفهم كنهه؛ لأن المفروض أن الطائفة الوحيدة التي تتصدى لأهل البدع هم أهل العلم المختصون، وأما طالب العلم القليل البضاعة فضلاً عن العوام الذين لا يدركون حقائق هذه الأشياء فلا شك أن هذا داخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا استشرفت للفتن استشرفت لك) أي: إذا نظرت إلى الفتن بعين واحدة فإنها سوف تهجم عليك، وترحب بك، وتدخلك في بطنها، وهنا أذكر نصيحة لعموم الإخوة جميعاً، في وسائل الإعلام، وفيه طعن، أو تكذيب، أو بعض الشبهات، فالواجب عليه أن يخمده ما استطاع لا أن يذيعه وينشره، إلا إذا أُذيع ونُشر رغماً عنا، ففي هذه الحالة يتعيّن الجواب العام، لكن عموماً ليس كل من ألقى حجَراً نشتغل بالرد عليه، فإننا سنكون بذلك نحن الذين أذعنا هذه البدع، ونشرناها، وعممنا ضررها.

    قال الغزالي معلقاً على كلام الإمام أحمد : وما ذكره أحمد حق، ولكن في شبهة لم تنتشر ولم تشتهر، وأما إذا انتشرت فالجواب عنها واجب، ولا يمكن الجواب إلا بعد الحكاية.

    ولا شك أن الحجْر على أهل البدع ممن يعيثون في الأرض فساداً هو أولى وأولى وأولى من الحجر الصحي لاستصلاح الأبدان، فإن المبتدع إذا زجر وهجر بات كالثعلب في جحره، وأما ترك تحديثه ببدعته وضلاله فهذا تزكية له، وتغرير بالعامة، إذ العامي مشتق من العمى، فهو بيد من يقوده غالباً.

    نوع الاختلاف الموجود عند أهل السنة والجماعة

    ولا شك أن المشكلات في مثل هذه الأشياء هي من سنة الله عز وجل التي مضت في خلقه، فما من الناس إلا راد ومردود عليه، ومحق ومبطل، والله تعالى يقول: وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ [هود:118] * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:119]، وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ [هود:118] * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ [هود:119]، وهم أهل الإسلام، وأهل السنة والجماعة، فإن أهل السنة والجماعة لا يختلفون اختلافاً يضرهم، فقد يختلفون في بعض الأمور ولكنه اختلاف لا يضرهم، كالخلاف الاجتهادي في قضايا الفروع، فأهل السنة والجماعة، وأتباع السلف الصالح رحمهم الله تعالى هم في الإيمان وقضايا الأصول والعقيدة فرقة واحدة، وأما في الفقه والفروع فالأمر أيسر، فهم مذاهب شتى تصل إلى حوالي سبعة أو ثمانية أو أكثر من ذلك من المذاهب الفقهية، فأهل السنة لا يختلفون في الأصول ولا يختلفون في الفروع اختلافاً يضرهم، وإنما يختلفون اختلافاً سائغاً.

    وهنا نذكر قول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى وهو يناقش تلميذه الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى، وقد جعل يورد عليه إيراداً بعد إيراد، فيناقشه ويدلي بالشبهة، وكلما أجابه بشيء أورد عليه شبهة أخرى، فعلّق شيخ الإسلام على أسلوب تلميذه الإمام ابن القيم معلماً ومرشداً، فقال له: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة يتشربها فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليه صار مقراً للشبهات، أو كما قال شيخ الإسلام .

    يقول ابن القيم : فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك، وإنما سميت الشبهة شبهة لاشتباه الحق بالباطل فيها، فإنها تلبس ثوب الحق على جسم الباطل.

    ذم التعالم

    ونصدَّر أيضاً الكلام في هذه القضية بالكلام في ذم التعالم، فقد قال الله سبحانه وتعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ [الأنعام:144] أي: لا أحد أظلم، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين [الأنعام:144]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقِ عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)، فالتعالم الكاذب هو عتبة الدخول إلى جريمة القول على الله بغير علم، وهذه الجريمة محرمة لذاتها تحريماً أبدياً في جميع الشرائع، وهذا مما علم من الدين بالضرورة، وهو مما حذّرناه رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد التحذير حين قال: (يظهر الإسلام حتى تختلف التجار في البحار، وحتى تخوض الخيل في سبيل الله، ثم يظهر قوم يقرءون القرآن، ويقولون: من أقرأ منا، من أعلم منا، من أفقه منا، ثم قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: هل في أولئك من خير؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أولئك منكم -أي: من هذه الأمة- وأولئك هم وقود النار)، وجاء في الحديث الآخر الذي في البخاري أن النبي عليه السلام قال في فتن آخر الزمان قال: (دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها) فلما قال له حذيفة : صفهم لنا، جلهم لنا؟ قال عليه الصلاة والسلام: (هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا)، وهذا هو الواقع الذي نلمسه الآن، فالذين يطعنون في الإسلام هم من جلدتنا، وممن يتكلم بألسنتنا ولغتنا. وجاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلة بمكة فقال: (اللهم! هل بلغت ثلاث مرات، فقام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه -وكان آوه، أي: كثير الدعاء- فقال: اللهم نعم! وحرضت وجاهدت ونصحت، فقال عليه الصلاة والسلام: ليظهرن الإيمان حتى يرد الكفر إلى مواطنه، ولتخاضن البحار بالإسلام، وليأتين على الناس زمان يتعلمون فيه القرآن، فيتعلمونه ويقرءونه ثم يقولون: قد قرأنا وعلمنا، فمن ذا الذي هو خير منا؟ فهل في أولئك من خير؟ قالوا: يا رسول الله! من أولئك؟ قال: أولئك منكم، وأولئك هم وقود النار). وقال صلى الله عليه وسلم: (إن بين يدي الساعة أياماً ينزل فيها الجهل، ويرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهرج). وقال صلى الله عليه وسلم: (إن من أشراط الساعة أن يقل العلم، ويظهر الجهل). ويقول بعض الفضلاء من المتأخرين: وجدت جميع العلوم في ازدياد إلا علم الدين، فعلمت أنه المقصود في الحديث. قلت: صدق، فهاهو العلم في زماننا قد استدبر، وهاهو البغاث بأرضنا قد استنسر: قد أعوز الماء الطهور وما بقي غير التيمم لو يطيب صعيدا وذكر أبو عمر بن عبد البر عن مالك رحمه الله أنه قال: أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك، أمصيبة دخلت عليك؟ وارتاع لبكائه، فقال: لا، لكن اسُتفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم، وَلَبعض من يفتي ههنا أحق بالحبس من السرّاق. أي: أنه أحق بأن يحبس ويسجن من اللصوص. وقال غير واحد من السلف: ليحذر أحدكم أن يقول: أحل الله كذا، أو حرم الله كذا، فيقول الله: كذبت، لم أحل كذا ولم أحرمه، وقال القاسم بن محمد : لئن يعيش الرجل جاهلاً خير له من أن يقول على الله ما لا يعلم. وقال ابن حزم رحمه الله: لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها، فهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون ويقدّرون أنهم يصلحون. وهذه الكلمة ينبغي أن تكتب بخط عريض في كل مكان؛ حتى لا تغيب عن الناس. وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: إذا تكلم المرء في غير فنه أتى بهذه العجائب. وفي كتب الحنفية: أن أبا حنفية رحمه الله كان يرى الحجْر على المفتي المتلاعب، ويسمونه المفتي الماجن، فيمنعه الإمام من الإفتاء. وقال ابن الجوزي : يلزم ولي الأمر أن يمنع هؤلاء من الإفتاء كما فعل بنو أمية، وقال: إذا تعين على ولي الأمر منع من لا يحسن التطبيب ومداواة المرضى، فكيف بمن لم يعلم الكتاب والسنة، ولم يتفقه في الدين؟! وقال الخطيب البغدادي رحمه الله: ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتين، فمن صلح للفتيا أقره، ومن لا يصلح منعه ونهاه أن يعود، وتوعده بالعقوبة إن عادة، قال ابن القيم : ومَن أقرهم مِن ولاة الأمور فهو آثم. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يرى أنه ينبغي أن يكون على المفتين محتسب، فقال رحمه الله تعالى: يكون على الكذابين والطباخين محتسب ولا يكون على الفتيا محتسب!! وقال بعض المصنفين: والانفراد عن أهل العلم برأي في الشرع، والقول بما لم يقل به أحد ينبئان عن خلل في العقل. وقال زفر بن الهذيل ما معناه: إني لا أناظر أحداً حتى يسكت، بل أناظره حتى يذل، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: يقول بما لم يقل به أحد، قال: وأرى من الواجب الديني أن أوصيه -أي: الشخص الذي يرد عليه- أن يترك الكتابة في الفقه والحديث؛ لأنه استبان من كتاباته ما يقضي عليه قضاء لا مرد له أنهما ليسا من صناعته، والعاقل يترك ما لا يحسنه، وقد قال الشاعر العربي: خلق الله للحروب رجالاًً ورجالاً لقصعة وثريد والغلط فيهما غلط في صميم الدين، والطيش فيهما هلاك في الدنيا والآخرة. وقال علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب : ليس ما لا يُعرف من العلم، إنما العلم ما عرف، وتواطأت عليه الألسن، وقال إبراهيم بن أبي عبلة : من حمل شاذ العلم حمل شراً كثيراً. وقال الشاطبي رحمه الله: قلما تقع المخالفة لعمل المتقدمين إلا ممن أدخل نفسه في أهل الاجتهاد غلطاً أو مغالطة. وأما الآن؛ فباب الاجتهاد مفتوح على مصراعيه لكل من هب ودب، وهذه مشكلة عظيمة، ويعطون أنفسهم هذا الحق فيقولون: فتح باب الاجتهاد.. إلى آخره، فنقول: نعم إن باب الاجتهاد مفتوح، ولكن من الذي يجتهد؟ فلو كان هناك رجل أمي جاهل ليس عنده أي علم فوقف في السوق وجعل يقول: أنت تُعدم، وأنت تسجن خمسة وعشرين عاماً، وأنت تجلد أربعين جلدة، وأنت كذا، فماذا يقول عنه الناس؟ لاشك أنهم سيعرضون عنه، فكلامه ليس له أي تأثير، بل هو لغو فارغ كلغو العصافير؛ لأن هذا الرجل ليس ممن يجتهد، ولا ممن يصدر الأحكام، فكلامه لا وزن له.

    معرفة قدر الناس قبل الكلام فيهم

    وكما قلنا من قبل: إن من الواجب على الإنسان قبل أن ينتقد شخصاً: أن يعرف قدره، فهذا عمر يقول: رحم الله امرئ عرف قدر نفسه، وهذا يكون من الجانبين: أن تعرف قدر نفسك، وأن تعرف قدر من تتكلم فيه، فنحن نعرف قدر العلماء والأفاضل، وندرس سيرتهم قبل أن نتكلم عنهم، فإن معرفة قدر الرجل الذي تتكلم عنه لا شك أن له تأثيراً في أسلوب كلامك معه، وحسن ظنك به.. إلى آخره، فالماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث، لكن إذا كانت القلتان كلها خبث، وفيهما القليل من الماء الطاهر، فإن الأمر ينعكس.

    فإذاً: رحم الله امرئ عرف قدر نفسه، وعرف حجم نفسه، ولم يناطح العلماء والجبال، وإذا كان هو دجاجة تمشي على الأرض فلا يناطح النسور في عنان السماء.

    فهذا أمر في غاية الأهمية فكما قلنا من قبل في العلماء يجب أن نعرف أقدارهم وسيرهم وحياتهم؛ كيلا نبخسهم حقهم، بحيث نستصحب الأصل؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم استصحب الأصل مع الناقة البهيمة، وذلك حينما قال الصحابة: (خلأت القصواء، فقال: خلأت القصواء وما ذلك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل) فدافع عن عرض الناقة، وقال: (وليس لها ذلك بخلق)، فكيف بعالم جليل من علماء المسلمين؟ أنتصت إلى من يرجف بالإشاعات والأكاذيب والتضليل ولا نستصحب هذا الأصل؟! حتى وإن أخطأ فهذا مغمور في بحر علمه وفضله، فيجب علينا أن ننصف في حكمنا على الناس، وكذلك في الجانب الآخر أن نعرف هذا الذي يتكلم وينعق كالغراب الناعق ويشذ عن أهل السنة والجماعة، ويأتي بهذه الأفكار الضالة المضلة، أن نعرف ما هو حظه من العلم؟ ونحتاج أن نعرف ترجمته وحياته وعلمه؛ لنعطيه حجمه الذي يستحقه.

    يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: قلما تقع المخالفة لعمل المتقدمين إلا ممن أدخل نفسه في أهل الاجتهاد غلطاً أو مغالطة.

    وقال شكيب أرسلان : ومن أعظم أسباب تأخر المسلمين العلم الناقص الذي هو أشد خطراً من الجهل البسيط؛ لأن الجاهل إذا قيض الله له مرشداً عالماً أطاعه، ولم يتفلسف عليه، وأما صاحب العلم الناقص فهو لا يدري، ولا يقتنع لأنه لا يدري، وكما قيل: ابتلاؤكم بمجنون خير من ابتلاؤكم بنصف مجنون، وأقول: ابتلاؤكم بجاهل خير من ابتلاؤكم بشبه عالم.

    الاجتهاد الممدوح والاجتهاد المذموم

    وننهي هذه المقدمة -وقد طالت جداً، ولكنها مهمة- ببيان ما المقصود بهذا الحديث المظلوم الذي يعلق كل من أراد أن يطعن الإسلام في قلبه طعناً، يرفع الحديث: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فلهو أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فلهو أجر)، فهذا الحديث وارد في شأن القاضي، وألحق به المفتي بجامع أن كل واحد منهما مأمور بأن يصدر عن حكم شرعي، ولذلك يعذر كلاهما في الخطأ، فالمفتي إذا كان من أهل العلم ممن اجتمعت فيهم شرائط الفتيا، وبذَل وسعه للوصول إلى الحق، ثم أفتى بما غلب على ظنه أنه الحق بمقتضى الأدلة فأخطأ فلا إثم عليه في الخطأ؛ لدخوله في القاعدة الذهبية التي دل عليها قوله تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الأحزاب:5]، ولدخوله في هذا الحديث الشريف المشار إليه، وأجر اجتهاده باق محفوظ لا يبطل بخطئه، فله أجران إن أصاب وإن أخطأ فلهو أجر.

    فإذا بلغ العالم مرتبة الاجتهاد، ولكنه قصر في الاجتهاد، فأفتى وتكلم بدون أن يُعمِل هذه الإمكانيات التي عنده، ولم يبذل غاية وسعه للوصول إلى لحكم الشرعي في هذه المسألة، فلا ينطبق عليه هذا الحديث، فإذا أخطأ فإنه يكون آثماً؛ لأن الحديث يقول: (إذا اجتهد فأخطأ فله أجر)، فلابد من أن يجتهد ويبذل وسعه، فبعد الاجتهاد وبعد بذل الوسع: إذا أصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد على اجتهاده، وخطؤه مغفور له؛ لأن الشرع يأمره بأن يفتي لوجوب الإفتاء، وقد فعل ما أمر به، فاستحق بذلك الأجر على العمل الذي قام به، ولكن لا يكون أجره بقدر أجر المصيب؛ لإن المصيب دل على الحق، وهذا المخطئ لم يدل عليه.

    وأما إذا أفتى من ليس أهلاً للفتيا فأخطأ فإنه لا يكون معذوراً بذلك، فإذا أفتى شخص ليس أهلاً للفتيا فأخطأ، أو كان أهلاً للفتيا لكنه لم يبذل جهده لإحقاق الحق فأخطأ، فإنه لا يكون معذوراً بذلك، بل يكون آثماً؛ لأنه أضل عن سبيل الله، وقد قال الله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل:25]، وفي الحديث: (حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا).

    قال ابن المنذر رحمه الله تعالى: وإنما يؤجر الحاكم إذا أخطأ إذا كان عالماً بالاجتهاد فاجتهد، وأما إذا لم يكن عالماً فلا، واستدل بحديث: (القضاة ثلاثة)، وفي هذا الحديث يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (وقاض قضى بغير حق فهو في النار) أي: أن القاضي الذي قضى بالحق يكون في الجنة، وهناك نوعان آخران من القضاة وهما: (قاض قضى بالحق فهو في الجنة، وقاض قضى بغير حق فهو في النار) أي: أنه تعمد الإضلال، وتعمد الظلم والجور فهو في النار.

    النوع الثالث من القضاة والنوع الثاني من القاضيين اللذين يدخلان النار: (وقاض قضى وهو لا يعلم فهو في النار) أي: أنه قضى وهو ليس أهلاً للقضاء؛ لأنه لا يعلم، فهو آثم ولو أصاب؛ لأن هذا ليس من تخصصه. قال الخطابي رحمه الله: إنما يؤجر المجتهد إذا كان جامعاً لآلة الاجتهاد، فهو الذي نعذره بالخطأ، بخلاف المتكلف فيخاف عليه.

    وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: لا يلزم من ردّ حكمه أو فتواه إذا اجتهد فأخطأ أن يأثم بذلك، بل إذا بذل وسعه أجر، فإن أصاب ضوعف أجره، لكن لو أقدم فحكم أو أفتى بغير علم لحقه الإثم.

    وينبغي في الرد على الضلالات أن يكون بعلم وبما يليق بحال المردود عليه، فمثلاً لما حصلت ضجة على موضوع نجيب محفوظ في رواية (أولاد حارتنا) وما فيها من الإلحاد والكفر بالله وبالأنبياء وبالرسل وبالإسلام، نجد بعض كبار الشيوخ أو الناس يفتي ويقول: إن الأستاذ الفاضل أو الأديب الكبير العالمي نجيب محفوظ له وجهة نظر في هذا، ولكن... إلى آخر هذا الأسلوب المتميع، فكل واحد منهم يريد أن يكون جنتل مان، فيترخصون في التلفظ بطريقة فظيعة جداً، نعم أن الحِلْم حسن لكنه في مثل هذا الموضع جهالة، فأسلوب الترفق بهؤلاء المجرمين الصادين عن سبيل الله، والطاعنين في دينه غير صحيح، فأقل شيء أن تُظهر حقيقته، وأن يكشف ويفضح جهله للناظرين؛ كي لا يلبَّس على الناس، وأما أن نقول: الأستاذ الكبير، والأديب العالمي فلان الفلاني، الذي يقول كذا، وهو له وجهة نظر في هذا، فهذا غير صحيح، ونفس الشيء حصل في موضوع الشفاعة هذا، فأحد الشخصيات الدينية البارزة يقول في مقدمة مقاله: وبعض الكتاب يرون -انطلاقاً من اجتهاد شخصي، ورؤية خاصة قد تكون صواباً وقد لا تكون- أنه لا شفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم في العصابة المذنبين من أمته يوم القيامة.. إلى آخره، فهذا أسلوب في غاية الرقة، مع أن هذا المنكر للشفاعة لا يستحق هذا التلطف، ثم كيف يقال: قد تكون صواباً وقد لا تكون وهو يكذب بالأحاديث المتواترة في الشفاعة، والآيات القرآنية التي أساء فهمها ذلك الجاهل بجهله، وهذا القاصر بقصوره حتى يرد هذا الرد؟!!

    ونجد أن الشيخ نفسه في آخر الكلام يقول: وعلى أية حال فالمعروف أن فرقة المعتزلة تعطي العقل أحياناً أكثر من حجمه، أقول: هم دائماً يعطون العقل فوق حجمه وليس أحياناً، ويقول أيضاً: ولو صح أن هذه الفرقة أنكرت شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، أقول: لا يصح أن نقول هذا في المعتزلة؛ لأن هذا من أصول المعتزلة والخوارج الواضحة المعروفة،، قوله: فنحن نخالفهم في ذلك مخالفة تامة، ونرى أنه لا يصح الاستشهاد برأي مرجوح وترك الرأي الراجح، أقول: القضية ليست راجحاً ومرجوحاً، فالراجح والمرجوح في قضايا الفقه، وأما هنا فحق وباطل، بل وحتى لا نقول: صواب وخطأ، لا؛ بل هو حق وباطل هكذا الأمر في قضايا العقيدة، وأما قضايا الفقه والفروع فهي التي نقول فيها: خطأ وصواب، وراجح ومرجوح.

    من أراد الله به خيراً قيض له رجلاً من أهل السنة من أول أمره

    والآن سنتعرف على هذا الشخص الذي تكلم بهذا الكلام، والمفروض علينا ألّا ننشغل بالكلام على أحد، لكن سنحاول إن شاء الله تعالى أن ننصفه؛ لأن هذا في الأصل مأخوذ من هذا العنوان الذي سميته: (محطات شطحات)، فهي محطات في حياة هذا الكاتب والأديب تثبت لنا أن الشطحات هي سمة من سمات شخصيته، وعلامة من علامات توجهه؛ لنأخذ العبرة، ولندرك أن هذه الشطحة ربما تكون خفيفة بالنسبة لغيرها من الشطحات التي وقف فيها في محطات الشطحات، فهو لم يستطع إلى اليوم أن يتحرر من أمواج الشطط التي طالما رمت به بعيداً عن شاطئ الأمان. وليؤخذ من ذلك عبرة مهمة، بل هي في غاية الأهمية، وهي: أن فساد الانتهاء من فساد الابتداء، فمثلاً إذا أردت أن تسافر فوقفت على تقاطع طرق، وكل طريق يؤدي إلى اتجاه مغاير تماماً للآخر، فلابد أن تحسن اختيار الطريق الذي تقصده في بداية الأمر، وكذلك لابد أن يهتم الإنسان بنقطة البداية في طلبه للعلم؛ لأن الإنسان يتعصب لأول شيخ تعلم على يديه، ويتعصب لأول كتاب قرأه.. وهكذا. فمن أراد الله به خيراً قيض له رجلاً من أهل السنة؛ كي يأخذ بيديه، ويوفر عليه ضياع العمر في الحيرة والتلون والشطحات، وإذا عرفنا قدر هذا الرجل فإنا نردد قول العلماء: إذا سكت من لا يعلم قل الخلاف، فمشكلتنا أن كل من أراد أن يتكلم فإنه يتكلم، ولا يوجد أي حجر على الكلام. والشخص الذي سنتكلم عنه هو الدكتور مصطفى محمود.

    1.   

    مصطفى محمود وبعض شطحاته

    اسمه: مصطفى كمال بن محمود حسين، وهو مشهور بـمصطفى محمود ، وقد ولد في 27/12/1921م في شبين الكوم، ثم انتقل بعد أيام من ميلاده إلى طنطا، حيث فتح عينيه على مقام البدوي تحج إليه الوفود، وتساق إليه النذور، ويرى التمائم والزيارات وغيرها من البلايا، وفي سن الثالثة عشرة -وهي سن المراهقة- اتصل بمؤلفات: شبلي شميل وإسماعيل مظهر وسلامة موسى ، وسن المراهقة هي سن تموج دائماً بالاضطرابات إلا من رحم الله، وهنا محطة فساد الابتلاء، ففي هذه السن الحديثة اتصل بمؤلفات هؤلاء الضالين، ولو ذهبنا نتكلم على كل واحد منهم على حدة لطال بنا الموضوع جداً، فـشبلي شميل معروف بضلاله وانحرافه، وخاصة أنه هو وسلامة موسى كانا ممن تحمسا جداً لفكرة النشوء والارتقاء.

    مصطفى محمود ونظرية داروين

    وقد فُتن مصطفى محمود من بداية المراهقة المبكرة بموضوع نظرية داروين ، وتبنى هذه النظرية، وبدأت مرحلة الرفض في حياته، وعمّقها نزاعات التمرد عند المراهق وأقرانه أيضاً الذين كانوا يشاركونه في معاناة تجربته العنيفة، وقد عانى من الشك الحاد في النبوات والرسالات الإلهية، وكان هذا رد فعل للمظاهر الشاذة التي رآها من زوار ضريح البدوي وغيره في طنطا، فظن أن الدين ليس إلا هذه الخزعبلات، ولم يستطع أن يفرق بين الأصيل والدخيل.

    ثم غلبت عليه ثورة داخلية فرحل إلى إحدى مدن المغرب سنة 1948م يلاحق رجال التصوف؛ بحثاً عن الحقيقة كما يقول، فالتمس الرأي من كئوس أصحاب الطرق وشطحاتهم، وتخرج من كلية الطب سنة 1952م، وتخصص بعد ذلك في الأمراض الصدرية، ثم تفرغ للأدب والفكر، وأول دواسير مؤلفاته مجموعة قصصية تسمى: (أكل عيش) وذلك في سنة 1954م، وتلاها سنة 1955م كتاب (الله والإنسان)، وفيه محاولة التشكيك في كبرى اليقينيات، والتشكيك في الرسالة والرسل، وعكس هذا الكتاب الصراع الذي كان يطحنه بين قراءته غير الناضجة وشواذ بيئة طنطا التي أفسدت تصوراته عن حقيقة الدين، وضميره وبقايا إيمانه القليل من جهة ثالثة، كذلك عانى الصراع النفسي بين التشكك في القرآن نفسه وبين الاطمئنان إليه، وقد دفع ثمن تلك الشطحات، فنهض الأزهر بواجبه وصودرت معظم نسخ الكتاب، وقُدَّم مصطفى محمود إلى محكمة أمن الدولة، ولكنه نجا من هذه المحاكمة حيث كان القضاة متصوفين، وكان محاميه متفلسفاً، فرافع بأن الكتاب يسجل بداية المتصوف لا تهجمات ملحد، فاكتُفي بمصادرة الكتاب، والكف عن ملاحقة مؤلفه.

    وألف كتابه (إبليس) سنة 1958م، وحاول أن يفسر قصة إبليس على طريقة فاضل عباس المهداوي الذي أعلن في إحدى محاكماته أنه لا وجود لذات اسمها إبليس، وإنما هو رمز للنزغات الشريرة في النفس البشرية.

    ثم حكم المؤلف نفسه على هذا الكتاب فيما بعد بأنه هو وكتاب (الله والإنسان) كانا تعبيراً عن ذروة الشك، ومتعاطفين مع الفكر المادي الذي كفر به فيما بعد، وقال مصطفى محمود : صودر الأول وهو كتاب (الله والإنسان) ولم يطبع ثانية، فصادرت أنا الثاني (إبليس) فلا أسمح بإعادة طبعه، ولقد اعتاد الكاتب أن يخلط أو أن يخبط ويشوش ويضطرب ببعض كتاباته المرفوضة التي تترك في القلوب الهشة جراحاً ليس من اليسير تضميدها، وإن رفع عقيرته بإنكارها فيما بعد، أو تراجعه عنها، فإنه يتوب من بعضها في حين يبقى كثير من الناس تؤذيهم وتجرحهم هذه الكتب، فنخلص من هذه المحطة إلى أن مصطفى محمود ليس مصدراً آمناً لتلقي الحق، فهو تماماً كـأبي حامد الغزالي .

    وهكذا نجد أن من فسد ابتداؤه: بأن فتح عينيه على الضلالات والفلسفة وأهل الكلام والتصوف والبدع فإنه يتلون:

    كل يوم تتلون غير هذا بك أجمل

    فهكذا كانت سيرة الجويني والرازي والغزالي وكثير من المعاصرين، فعلى أي الأحوال فالأمر كما قال بعض السلف: إن هذا الأمر دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، فالاضطراب والتشويش والحيرة سمة من سمات هذه الشخصية:

    ولن يستقيم الظل والعود أعوج

    ثم تولى هو محاكمة كتابه (إبليس)، أو كتاب (الله والإنسان)، فقطع بأنه عمل متهور لا يرضى عنه قلبه ولا عقله، ثم أكبّ على الفلسفة قديمها وحديثها، وعلم النفس بنظرياته، ونظريات فرويد على الخصوص، ثم انتهى إلى أن الفلسفة لا تعدو كونها حجَراً يُلقى في بحيرة مجهولة فيضاعف عكرتها، ولا يرجع منها بصيد.

    ثم انتقد الفرويدية والماركسية؛ لأنهما يحشران الإنسان في حظيرة البهائم، ويجريان عليه كل الأحكام التي تخص الحيوان، وانتهى إلى أن العلم المادي ليس في مقدوره تقديم أجوبة مقنعة على أسئلة النفس حول الدين، فذهب ينشد الهدى من خلال مباحث الأديان، فراح يبحث عنه في الوثنيات الهندية، مروراً بالديانات ذات الأصل السماوي، إلى النحل المعاصرة: البادية، والبهائية، والقاديانية، وانتهت هذه السياحة برسو زورقه الحائر على شاطئ القرآن البليغ.

    وهنا نلاحظ أين تعلم؟ وعلى يد من تعلم؟ ولمن قرأ؟ فنستخلص أنه ليس من أهل العلم، وبالتالي فكلامه ككلام الذي يقف في السوق ويقول: أنت إعدام، وأنت خمسة وعشرين سنة، وأنت ثلاثة أشهر .. إلى آخره، فهذا كلام في الهواء ما كان ينبغي لنا أن ننشغل بالرد عليه بهذه الطريقة.

    فبدأ اعتناءه بالقرآن وبالتفسير، وتأثر بـسيد قطب رحمه الله في كتابه (في ظلال القرآن) والظلال فيه كثير من الأخطاء الشديدة، وليس هذا موضوعنا الآن، وكذلك تأثر بـابن كثير في تفسيره، وقرأ (الإحياء) و(المنقذ من الضلال) وأنا لا أسميه أبداً: (إحياء علوم الدين)؛ لأن بعض العلماء سموه: (إماتة علوم الدين) فنختصر ونقول: (الإحياء) اختصاراً، وهذا الحديث له موضع آخر، و(المضنون به على غير أهله) وكلها من كتب الغزالي ، وكذلك حِكَم ابن عطاء الله السكندري .

    فانتهى إلى أن التصوف هو البحر الذي تصب فيه سائر الجداول، ولا شك أن هذا كلام صحيح، فالصوفية هي البحر الذي تصب فيه المصارف والجداول، ويتسع للجيف واللآلئ، ويجمع بين الغثاء والجواهر.

    ولا يحسن التمييز بين الجيف واللآلئ، ولا بين الغثاء والجواهر إلا الحذاق من أهل الفرقان، والقادرون على الغوص إلى الأعماق.

    إنّ علاج هذه الحيرة موجود في منهج أهل الحديث، وعقيدة أهل السنة والجماعة، لكنه حرم من تراث علماء السنة وبخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وتلاميذ مدرسته العدول المجددين الذين طهر الله بهم الدين من تحريفات الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.

    ربطه القرآن بالنظريات العلمية الحديثة

    هناك محطة أخرى من محطات حياته وهي محطة كتابه: (القرآن.. محاولة لفهم عصري)، وغالباً ما تثير كتبه صجة، وهناك كتاب اسمه: (شطحات مصطفى محمود في كتابه: القرآن .. محاولة لفهم عصري)، وهذا الكتاب اتسم بالجرأة على ربط المضمون القرآني بأفكار وتصورات قابلة للتبديل والتعديل، فحاول أن يربط القرآن بنظريات علمية حديثه ما زالت في حيّز النظريات ولم تصل إلى رتبة الحقائق، فإذا رُبط القرآن بها وثبت بعد ذلك أن هذه النظريات كانت خاطئة فإننا نعرض القرآن للتشكيك. وهذا منهج ليس بجديد، فقد سبق نظيره في مدرسة محمد عبده وغيره من المبهورين بالاكتشافات الغربية، وأبشع ما يكون هذا المنهج في كتاب (الجواهر) لـطنطاوي زهري . فهؤلاء طرقوا ظواهر القرآن إلى تأويلات مهزوزة لم تعط فيها الكلمة الأخيرة، ولقد صفق لهذا الكتاب بعض الحاقدين على علماء الإسلام الذين وقفوا لمؤلفه بالمرصاد، وكان في هذا الكتاب يتحكم في الغيب الذي لا تبلغه العقول، ولم يوجد لأئمة التفسير فيه قول يؤنسه في هذه الوحشة التي شذ بها.

    من شطحاته زعمه أن الجنة والنار ألوان من ضرب المثال

    ومن شطحاته: قطعه في هذا الكتاب بأن كل ما جاء عن الجنة والجحيم فما هو إلّا ألوان من ضرب المثال، وألوان من الرمز، أي: أن نعيم الجنة وعذاب النار ما هو إلّا رمز، وليس له حقيقة، فهوجم كعادته، ورد عليه العلماء، ثم خفف هذه الدعوة وتراجع عنها فيما بعد في كتابه (حوار مع صديقي الملحد)، وما أدري كيف يكون صديقه وهو ملحد؟! وكيف يوالي هذا الملحد؟! فيقول في هذا الكتاب: ولا يجب أن يفهم من هذا الكلام أننا ننكر العذاب الحسي ونقول بالعذاب المعنوي. وعلى أي الأحوال: فلعله تراجع، وهذا شيء جيد. ويقول الشيخ محمد المجذوب في كتابه (علماء ومفكرون عرفتهم) -وقد طبع هذا الكتاب سنة 1977م-: إنه -أي: مصطفى محمود - أحياناً ليلقي بالرأي الشخصي كأنه تقرير في قضية قد فرغ منها، دون أن يكون له سند من قول مأثور، أو قياس على نظير، وأقل ما يقال في هذا: إنه ضرب من التفسير بالرأي -يعني: الرأي المذموم- الذي أجمع علماء القرآن على أنه أخطر ما يعامل به كتاب الله عز وجل.

    ومن شطحاته زعمه أن هناك آدمين اثنين

    ومن تخبطه وتخمينه: القول بآدمين اثنين، أي: أن هناك اثنين آدم وليس واحداً، وهذه أخذها من طريقة أبي العلاء المعري الذي سبقه إلى مثل هذا التخليط بقوله: وما آدم في مذهب العقل واحد ولكنه عند العقول أوادم وقد اعترف مصطفى محمود يوماً بأن الشكوك التي أحاطت به إنما كان مردها إلى غواش حالت بين بصيرته وبين الرؤية الصحيحة، واعترف بأن للنقص العلمي أثره في التمكين لهذه العوارض. ويقول في كتاب (حوار مع صديقي الملحد) في (ص31) بعد أن تحدث عن أهل النار وموجبات عذابهم بكلام رائع، ثم ما يلبث أن يشطح فيقرر قول ابن عربي من إن هؤلاء سيتعودون على النار، فتصبح بيئتهم الملائمة، ثم يقول: إن التعذيب في الآخرة ليس تجبراً من الله على عباده، وإنما هو تطهير وتقويم ورحمة! فأين هذا من قول الله سبحانه وتعالى: لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ [آل عمران:88]، وقول الله عز وجل: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56]، فلفظة ((كُلَّمَا)) تدل على أن هذا العذاب متجدد ومستمر إلى الأبد، فأين التطهير؟ وأين التقويم؟ إنما يكون التطهير والتقويم في الدنيا حيث تنفع التوبة. ويذكر الله تبارك وتعالى عن أهل النار أنهم يدعونه فيقولون: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر:37]، فيزجرهم الله قائلاً: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37]. وقد تأثر بهذه الفكرة -أعني: أنهم سيتعودون على النار وتصبح بيئتهم الملائمة- بالشاعر محمد إقبال في كتابه (تجديد الفكر الديني في الإسلام)، فإن إقبالاً ابتدع في هذا الكتاب من عجائب التفاسير للجنة والنار ما لا أصل له، وليس له مستند من قرآن ولا حديث، كقوله عن النار: إنها تجربة للتقويم قد تجعل النفس المتحجرة تحس مرة أخرى بنفحات حية من رضوان الله. أقول: لا، ليست نفحات، بل هي لفحات. فالجنة والنار في تفسير محمد إقبال الفلسفي حالتان لا مكانان، فالنار -بزعمه- هي: إدراك أليم؛ لإخفاق الإنسان، وأما الجنة فهي: سعادة الفوز على قوى الانحلال. ولو لاحظ مصطفى محمود أن إقبالاً كان مزدوج الشخصية لما قلده؛ لأن إقبالاً كان في شعره منتظم الخطى في الطريق السوي، حتى إذا عمد إلى التفلسف اضطربت به الخطى، وشط بعيداً عن المنطلق الإسلامي.

    قصوره الكبير في العلم الشرعي

    ومن شطحات مصطفى محمود في حواره مع صديقه الملحد أنه ينقل عن شخص اسمه محمد بن عبد الجبار إن الله يقول له في حديث قدسي: (كيف تيأس مني وفي قلبك سفيري ومتحدثي؟!) فهو لا يعرف معنى الحديث القدسي، فإنسان يصل قصوره في العلم إلى أنه لا يعرف معنى الحديث القدسي فهذا أمر عجيب!! ويحكي عن واحد من هؤلاء أنه قال: إن الله خاطبه في حديث قدسي!! وهل هناك وحي لغير النبي صلى الله عليه وسلم؟! حتى يسمى حديث قدسياً.

    ويستدلوا أيضاً في (ص94) بما يدعي أنه حديث قدسي: (عبدي أطعني أجعلك ربانياً تقول للشيء: كن، فيكون)، ويستدل على صحة هذا اللغو البارد بالخوارق التي أجراها الله على يد المسيح عليه السلام، ويتقبل أيضاً ادعاءات الصوفية دون أي مناقشة، فيقبل تفسيرهم للكرسي بأنه قلب المؤمن، وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255] يقول: الكرسي قلب المؤمن، والعرش هو العقل، وفي تفسير قوله تعالى: اخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه:12] أنّ نعلي موسى هما: النفس والجسد، وما إلى ذلك من غرائب فهمه الذي يسميه العصري، مع أن القرآن أنزل بلسان عربي مبين، لا بطلاسم المشعوذين والمضللين، ولا شك أن تفسير القرآن هذا نوع من السفارة بين الله وبين خلقه؛ لأن المفسر يقول للناس: إن الله يريد من قوله كذا: كذا وكذا، فإذا أخطأ في هذه السفارة فهو من الكذب على الله سبحانه وتعالى.

    بعض دعاواه في تقسيم الزكاة والصدقات

    ويقول أيضاً: وللفقير نصيب يؤخذ زكاة وإنفاقاً من: 2.5% إلى 90% جبراً واختياراً. فنقول: أنواع المزكيات ومقاديرها معروفة، وليس فيها ما تخرج منه 90%، وربما يقصد التطوع، فمن الممكن أن يتطوع بـ90%، لكن كان ينبغي عليه أن يسوقه بغير تحديد؛ لأن الصديق تبرع بكل ماله للنبي صلى الله عليه وسلم، فالمتطوع يجوز له أن يتبرع بكل ماله، وأما تحديده بـ90% فمن أين به؟!

    جرأته في التكلم عن النبي صلى الله عليه وسلم

    ومما يكشف عن حظه من العلم أنه يصف القرآن العظيم في (ص125) فيقول: إن القرآن العظيم أتى على يد رجل بدوي، في أمة متخلفة بعيدة عن نور الحضارات. وهذا الأسلوب في الكلام عن النبي عليه الصلاة والسلام فيه سوء أدب مع النبي عليه السلام، وفيه منافاة لقوله تعالى: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح:9]، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بدوياً على الإطلاق؛ لأن البدو هم القبائل الرحل الذين ليس لهم قرار ولا استيطان، وأما الذين يقيمون في مكان ما فهؤلاء حضر وليسوا بدواً، والسر في ذم البدو والأعراب في القرآن الكريم: أنهم يتنقلون؛ بحثاً عن المراعي والأمطار، ولا يقيمون على الإطلاق في مكان، ولا يتخذون لهم وطناً، وذلك يؤدي إلى أن يشيع فيهم الجهل إلا من رحم الله، وقد كانت مكة في مقدمة مدن الحضارة في زمن البعث، وكانت عاصمة التجارة في جزيرة العرب، ولذا سماها الله سبحانه وتعالى (أم القرى)، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من بدا فقد جفا)، أي: من تحول إلى البداوة فإنه يجفو وتكون فيه غلظة في أخلاقه، فأين البداوة ممن قال الله سبحانه وتعالى في حقه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، وقال في حقه: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].

    شطحاته في عبادة الله تعالى

    ويقول أيضاً في (ص94): ونحن لا نعبده -أي: الله تعالى- بأمر تكليف، ولكنا نعبده لأننا عرفنا جماله وجلاله. وهذه من شطحات الصوفية كما هو معروف، وهذا يعني: أن العبادة ليست تكليفاً! مع أن الله تعالى يقول: وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [الأنبياء:90]، وقال: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء:78]، فهل الأوامر والنواهي في القرآن الكريم وفي السنة كلها ليست تكليفاً؟!! وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] فهذا تكليف للرسول نفسه!!!

    فتحه باب الزيادة في الدين

    يقول أيضاً -وهذا هو يعكس هذه الشطحات- وكل شيء في ديننا يقبل التطوير ما عدا جوهر العقيدة، وصلب الشريعة، وفيما عدا ذلك فالدين مفتوح للفكر والاجتهاد والإضافة والتطوير على مصراعيه لكل من هب ودب، وهذا ضلال مبين، كيف يكون الدين مفتوحاً للإضافة وهو لا يقبل الزيادة على الإطلاق؟! فإن الزيادة فيه بدع وضلال، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وقوله: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وإذا كان الله سبحانه وتعالى يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] فهل ما أكمله الله تعالى يقبل الزيادة والإضافة كما يزعم هذا الإنسان؟! فالإسلام فيه إضافة، ولكن هذه الإضافة تكون في مجال الاجتهاد فقط، أي: في مجال اجتهاد الفقهاء المتخصصين فيما يجدّ ويستحدث من الأمور التي تحتاج للاجتهاد حسب الأصول والقواعد والضوابط.

    ومن شطحاته في القرآن حساب الأحرف في كل سورة

    ومن شطحاته قضية الحروف والأعداد: فموضوع الرقم تسعة عشر والإعجاز العددي الذي ابتدعه مسيلمة الإسلام رشاد خليفة فجاء ببلاء مبين ابتدعه وضل به، وعملية ربط الحروف المقطعة في أوائل السور بمواطن ورودها في السورة، ومعروف أن هذا الرجل ادعى النبوة، فهذه من شطحاته التي انبهر بها مصطفى محمود .

    طعنه وأمثاله في السنة وإثارة الشبه حولها

    إن هؤلاء الذين يفتحون لأنفسهم باب الاجتهاد رحباً فسيحاً واسعاً يحلو لهم الطعن في السنة؛ لأن السنة تزعجهم دائماً، وكذلك أيضاً يحرص أعداء الإسلام حرصاً شديداً جداً على القضاء على السنة، وكل من أراد أن يطعن في الدين من الخلف لا يجد أسهل من طريق الطعن في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وتراهم يشغبون ببعض الشبهات مثل قولهم: إن هذه الأحاديث ما هي إلّا كلام أناس، وتراهم يتكلمون على الإمام البخاري رحمه الله تعالى بطريقة مضحكة تدل على جهلهم الكبير، وهذا الرجل نفسه كما في مقالة له سنقرؤها فيما بعد إن شاء الله يتكلم عن البخاري وكأنه كان بائع فجل، فيتكلم عن البخاري بكلام ليس فيه توقير لأئمة الإسلام وعلماء المسلمين، ولجهله أيضاً يقول: إن البخاري قد دون هذه الأحاديث بعد الثلاثمائة سنة أو في القرن الثالث، فأين كانت السنة قبل ذلك؟ فهذا الغبي الجاهل الذي يتكلم بمثل هذا الكلام ليس له أن يتكلم في الدين على الإطلاق، فالكتابة كانت وسيلة لحفظ السنة، وكذلك القرآن لم يكن مدوناً ولا مجموعاً في عهد الرسول عليه السلام، ثم جمع في عهد عثمان رضي الله تعالى عنه، فهل معنى ذلك أن هذه الفترة لم يكن فيها قرآن؟! فوسائل حفظ العلم كثيرة ومتعددة، وأقواها عند العرب حفظ الصدور؛ بسبب قوة حافظتهم وذاكرتهم، ثم انضم إلى ذلك الحفظ بالكتابة والتدوين، فهذا الكلام الذي قاله جهل فاحش يبطل الثقة تماماً بأي كلام له علاقة بالدين.

    شبهة والجواب عنها

    ومن شبهاتهم: قولهم: دعونا من الأحاديث، وأريحونا من قولكم في الأحاديث: ضعيف وموضوع ..، ولا داعي إلى أن نلجأ إلى الأحاديث ونحتج بها!! والجواب: أن الأحاديث تختلط على الجاهل، وأما العالم الصيرفي الناقد الخبير المحدث فلا تختلط عليه، وإنما تختلط على من لا علم له ممن أمرهم النبي عليه الصلاة والسلام في حديث البيعة بقوله: (وألا ننازع الأمر أهله)، فأهل العلم بالحديث والمختصين هم الذين يتكلمون في ذلك، وأما من عداهم فعليهم أن يمتثلوا قول الحافظ العراقي رحمه الله تعالى في شأن علم الحديث: فاعنى به ولا تخذ بالظن ولا تقلد غير أهل الفن وهذا غير التقليد المذموم، وهو من باب قبول خبر العدل، فإذا أخبرك العدل بأن هذا الحديث حسن فهو حسن، وهذا الحكم لم يخرج سبهللاً، وإنما هو نتيجة دراسة، وتحرٍّ، وجمع للطرق، ونظر في رجال الإسناد.. إلى آخر، فهذه الجهود الجبارة لم تعرف لها البشرية نظيراً على الإطلاق. يقول العلامة محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله تعالى: وقد يقول قائل: إذا كان المؤلف -وهو الخطيب البغدادي - بتلك المنزلة العالية في المعرفة بصحيح الحديث ومطروحه، فما بالنا نرى كتابه هذا (اقتضاء العلم العمل) وغيره من كتبه قد شحنها بالأحاديث الواهية؟ والجواب: إن القاعدة عند علماء الحديث: أن المحدث إذا ساق الحديث بسنده فقد برأت عهدته منه، ولا مسئولية عليه في روايته مادام أنه قد قرن معه الوسيلة التي تمكن العالم من معرفة ما إذا كان الحديث صحيحاً أو غير صحيح؛ ألا وهي الإسناد، نعم كان الأولى بهم أن يتبعوا كل حديث ببيان درجته من الصحة أو الضعف، ولكن الواقع يشهد أن ذلك غير ممكن بالنسبة إلى كل واحد منهم وفي جميع أحاديثه على كثرتها؛ لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها الآن، لكن أذكر منها أهمها وهو: أن كثيراً من الأحاديث لا تظهر صحتها أو ضعفها إلا بجمع الطرق والأسانيد، فإن ذلك مما يساعد على معرفة علل الحديث، وما يصح من الأحاديث بغيره، ولو أن المحدثين كلهم انصرفوا إلى التحقيق وتمييز الصحيح من الضعيف لما استطاعوا -والله أعلم- أن يحفظوا لنا هذه الثروة الضخمة من الحديث والأسانيد، ولذلك انصبت همم جمهورهم على مجرد الرواية إلا فيما شاء الله، وانصرف الآخرون إلى النقد والتحقيق مع الحفظ والرواية وقليل ما هم: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]. فلذلك ينبغي ألا يحكم على حديث ما بأنه ضعيف بمجرد الإطلاع على سند واحد، لكن يجوز أن تقول: ضعيف بهذا السند، ولا تقول ضعيف مطلقاً إلا بعد أن تتحرى جميع الطرق وتدرسها؛ لأنه ربما يكون في هذه الطرق ما يقويه.

    شبهة أخرى والرد عليها وبيان جهود المحدثين في حفظ السنة

    ومن شبههم: أنهم يتعللون بوجود الأحاديث الموضوعة بسبب النزاعات السياسية، وما وضعه الزنادقة، ووجود الإسرائيليات وغير ذلك مما دخل في الدين، فاختلط الحق بالباطل. فنقول: هناك أحاديث كثيرة بهذا الوصف لا ننكرها وبعض الناس تضيق عقولهم عن فهم هذا الأمر فيقولون: قال الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، ولم يقل هذا في السنة، فنقول: إن الذكر يشمل القرآن والسنة، وهذا الحفظ له أسباب، وهناك حكم وراء عدم وجود السنة خالية من الضعيف كالقرآن الكريم، والحكمة: أن هذا يفتح أبواباً من التعبد والجهاد والرحلة في طلب العلم والتحديث، وهذه كلها تدخل تحت قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]، وكما قلنا: إن هذه الأمور لا تختلط إلا على الجاهل الذي ينازع الأمر أهله، لكن إذا رجع إلى العلماء فإنه يسهل جداً الحكم على هذه الأحاديث. جاء عن حماد بن زيد أنه قال: وضعت الزنادقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر ألف حديث، وجيء إلى هارون الرشيد بزنديق فأمر بقتله -وهارون الرشيد رحمه الله تعالى يستحق أن تُدرس سيرته بمنتهى الدقة؛ حتى تصحح الصورة المشوهة التي وضعها له أعداء الإسلام؛ ليبغضوا في الخلافة الإسلامية، فقد كانت سيرته عطرة، وفيها أشياء كثيرة جداً ينبغي أن نعلمها؛ لنصحح صورته المشوهة، ومن ذلك غيرته الشديدة على السنة- فقال له: يا أمير المؤمنين! أين أنت من أربعة آلاف حديث وضعتها فيكم: أحرم فيها الحلال، وأحلل فيها الحرام، ما قال النبي صلى الله عليه وسلم منها حرفاً؟! فقال له الرشيد : أين أنت يا زنديق! من عبد الله بن المبارك ، وأبي إسحاق الفزاري ينخلانها نخلاً، فيخرجانها حرفاً حرفاً. فالناقد البصير الذي عنده خبرة هو الذي يستطيع أن يميز الزائف من الصحيح. وقد اختلطت الأحاديث فعلاً في مرحلة من المراحل صحيحها بضعيفها، فقام العلماء ووقفوا منها الموقف الإسلامي الصحيح، فلم يقبلوا الأحاديث كلها؛ لأنهم لو فعلوا ذلك لحرفوا دين الله ففيها المكذوب، ولم يتركوها كلها؛ لأنهم لو فعلوا ذلك لضيعوا دين الله ففيها الصحيح، ولكنهم شمروا عن ساعد الجد، وصرفوا في سبيل ذلك كل أوقاتهم، فتتبعوا أحوال الرواة؛ لأن ذلك يساعد في عملية النقد وتمييز الطيب من الخبيث، ودونوا في ذلك المدونات، وأحصوا فيها أحوال كل راو من حيث ولادته، وبأي بلد ولد، وكيف هو في الدين والأمانة والعقل والمروءة والحفظ؟ ومتى شرع في الطلب؟ ومتى سمع؟ وكيف سمع؟ ومع من سمع؟ وهل رحل؟ وإلى أين رحل؟ وذكروا شيوخه الذين يحدث عنهم وبلدانهم ووفياتهم، ووضعوا قواعد لنص المتن أحكموها؛ حتى يتبين لهم الحديث الصحيح من الضعيف، وهكذا استطاع هؤلاء العلماء أن ينفوا عن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المكذوب الموضوع، وبذلك تحقق وعد الله بحفظ هذه الشريعة، وحمايتها من كل ما أصاب غيرها من عوامل التحريف والبطلان، حتى نُقل عن مارجليوث، وهو مستشرق يهودي خبيث، وكان شديد الحقد على الإسلام، لكنه لم يستطع أن يكتم هذه العبارة التي قال فيها: ليفتخر المسلمون ما شاءوا بعلم حديثهم، وما زالوا في جد واجتهاد حتى استطاعوا أن يصلوا إلى قواعد نقدية راقية، بها يميزون الخبيث من الطيب من الحديث، وكانت هذه القواعد أرقى ما يمكن أن يصل إليها عقل بشري في تحقيق نسبة الأقوال إلى أصحابها. فقد شهد بذلك القريب والبعيد، والصديق والعدو، وذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21]. وقيل لـعبد الله بن المبارك : هذه الأحاديث الموضوعة، فقال: يعيش لها الجهابذة، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، فالذكر هنا يشمل القرآن والسنة، والذي تعهد بحفظ القرآن هو الذي تعهد أيضاً بحفظ السنة. ومر الإمام أحمد على نفر من أصحاب الحديث وهم يعرضون كتاباً له فقال: ما أحسب هؤلاء إلا ممن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى تقوم الساعة). قال ابن حبان : ومن أحق بهذا التأويل من قوم فارقوا الأهل والأوطان، وقنعوا بالكسر والأطمار في طلب السنن والآثار، يزورون البراري والقفار، ولا يبالون بالبؤس والإقتار، متبعين لآثار السلف الماضين، وسالكين نهج محجة الصالحين، برد الكذب عن رسول رب العالمين، ونبذ الزور عنه حتى وضح للمسلمين المنار، وتبين لهم الصحيح من الموضوع والزور من الأخبار.

    1.   

    كلام السلف في حجية السنة، والغيرة عليها

    ولن نطيل الكلام في موضوع حجية السنة؛ لأننا وفينا هذا الموضوع حقه تماماً قريباً، ولكني هنا أجتزئ بعض النصوص التي تكفينا في هذا المقام.

    فعن عمران

    بن حصين

    رضي الله عنه أنهم كانوا يتذاكرون الحديث، فقال رجل: دعونا من هذا وجيئونا بكتاب الله! فقال عمران : إنك أحمق أتجد في كتاب الله الصلاة مفسرة؟ أتجد في كتاب الله الصيام مفسراً؟ إن القرآن أحكم ذلك، والسنة تفسره.

    وقد سبق أن قلنا في محاضرة (حجية السنة): إنّ ما عُلَّق على شرطين فلا يتم بأحدهما، والعصمة من الضلال عُلَّقت على ترك التمسك بأمرين: الكتاب والسنة، (تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي)، فمن زعم أو زيّن له الشيطان أنه عندما يقول: إنه يعتز بالقرآن، وأنه يعظم القرآن، أنه بذلك يدافع عن الإسلام، فهو في ضلال مبين، كما قال أيوب السختياني : إذا حدثت الرجل بالسنة فقال: دعك من هذا وأجبني عن القرآن، فاعلم أنه ضال، فهذه علامة الضلال، فأي واحد يكذَّب السنة فلا بد أن يأخذ هذا الصفة مباشرة وهي القطع بضلاله؛ لأن التأمين -ضد الضلال- لا يتحقق إلا بالقرآن والسنة، وسنضيف ضابط الضابط عما قريب، فيكون القرآن والسنة بفهم السلف الصالح وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لـعلي رضي الله عنه لما طلب منه أن يخرج لمناظرة الخوارج: يا أمير المؤمنين! فأنا أعلم بكتاب الله منهم ففي بيوتنا نزل، فقال له علي : صدقت ولكن القرآن حّمالُ وذو وجوه، فتقول ويقولون، أي: لا تناقشهم بالقرآن؛ لأن القرآن ذو وجوه، أي: أن هناك بعض الآيات مجملة، فتحتاج إلى أن تشرح وتفصل بالسنة، أو بآيات أخرى، ولذلك قال بعض العلماء:

    وكم من فقيه خابط في ضلالة وحجته فيها الكتاب المنزل

    لذلك فعامة أهل البدع يحتجون بالقرآن على بدعهم، لكنهم ينحرفون في فهم القرآن الكريم، فهم لا ينكرون القرآن؛ لأن من أنكر القرآن فقد كفر، لكنهم يئولون ويفسدون الآيات، فبعض الآيات تكون طيعة، أي: أنها تكون مجملة أو عامة، فالمفروض أن تبين أو تخصص، فهم يستدلون بهذه المجملات أو بهذه العمومات فيقعون في الضلال، فلذلك لما قال ابن عباس لـعلي : أنا أذهب إلى الخوارج كي أناظرهم بالقرآن، قال: صدقت، لكن القرآن حمال ذو وجوه تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنن، فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً، فخرج إليهم فحاجهم بالسنن فلم يبق بأيديهم حجة.

    وعن ابن شهاب عن رجل من آل خالد بن حسين أنه سأل عبد الله بن عمر فقال يا أبا عبد الرحمن ! إنا نجد صلاة الخوف وصلاة الحظَر في القرآن ولا نجد صلاة السفر، فقال ابن عمر : يا ابن أخي! إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم ولا نعلم شيئاً، وإنما نفعل كما رأيناه يفعل.

    يقول الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى: ولو أن امرأً قال: لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن لكان كافراً بإجماع الأمة، ولكان لا يلزمه إلى ركعة ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل، وأخرى عند الفجر؛ لأن ذلك هو أقل ما يقع عليه اسم الصلاة، ولا حد للأكثر في ذلك، وقائل هذا كافر مشرك حلال الدم والمال انتهى كلام الإمام ابن حزم .

    وقال عمر رضي الله عنه: إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، وتفلتت منهم أن يعوها، فسئلوا فأفتوا برأيهم فضلوا وأضلوا، فإياكم وإياهم.

    وقال رضي الله عنه: سيأتي أناس يجادلونكم بشبهات القرآن فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله. لذلك فهم يريدون القضاء على السنة؛ حتى يستريحوا من هذه المعارضة والمساومة.

    وعن أيوب السختياني : أن رجلاً قال لـمطرف بن عبد الله بن الشخير : لا تحدثونا إلا بما في القرآن، فقال له مطرف : إنا والله! ما نريد بالقرآن بدلاً، ولكنا نريد من هو أعلم بالقرآن منا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وعن أيوب قال: إذا حدثت الرجل بسنة فقال: دعنا من هذا وحدثنا عن القرآن فاعلم أنه ضال.

    ومما يناسب موضوعنا أيضاً ما أخرجه البيهقي في (المدخل) من طريق شديد بن أبي فضالة المكي أن عمران

    بن حصين

    رضي الله عنه ذكر الشفاعة فقال رجل من القوم: يا أبا نجيد إنكم تحدثوننا بأحاديث لم نجد لها أصلاً في القرآن، فغضب عمران وقال للرجل: قرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: فهل وجدت فيه صلاة العشاء أربعاًََ، ووجدت المغرب ثلاثاً، والغداة ركعتين، والظهر أربعاً، والعصر أربعاً؟ قال: لا، قال: فعمن أخذتم ذلك؟ ألستم عنا أخذتموه، وأخذناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أوجدتم فيه: في كل أربعين شاة شاة، وفي كل كذا بعير كذا، وفي كل من كذا درهماً كذا، قال: لا، قال: فعمن أخذتم ذلك؟ ألستم عنا أخذتموه، وأخذناه عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ وقال: وفي القرآن: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، أوجدتم فيه فطوفوا سبعاً؟ واركعوا ركعتين خلف المقام؟ أوجدتم في القرآن لا ذنب ولا جنب ولا صغار في الإسلام؟ أوما سمعتم الله قال في كتابه: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، قال عمران : لقد أخذنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء ليس لكم بها علم.

    وأخرج الدارمي عن سعيد بن جبير أنه حدث يوماً بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له رجل: في كتاب الله ما يخالف هذا، فقال: لا أراني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعرض فيه بكتاب الله! كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم بكتاب الله منك. فإذا كانت حجة الله على عباده لا تقوم إلا بحفظ رسالته وشرعه فإن هذا الحفظ لا يتم إلا بحفظ القرآن والسنة التي تبينه وتشرحه للناس، فلزم من ذلك لزوم حتمياً أن يحفظ الله سبحانه وتعالى السنة ويتعهد ببقائها.

    وقد حدّث أبو معاوية يوماً هارون الرشيد أمير المؤمنين عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة بحديث احتجاج آدم وموسى، وهو حديث القدر معروف، فقال عمّ الرشيد معلّقاً: أين التقيا يا أبا معاوية ! ألست تقول: حج آدم موسى، وتناظر آدم مع موسى؟ فاعترض على الحديث وقال: أين التقيا يا أبا معاوية ؟ فغضب الرشيد من ذلك غضباً شديداً وقال: أتعترض على الحديث؟! علي بالنطع والسيف، أي: أنه سيقطع رقبته، فأُحضر ذلك فقام الناس إليه يشفعون فيه، فقال الرشيد : هذه زندقة، ثم أمر بسجنه، وأقسم ألا يخرج حتى يخبرني من ألقى إليه هذا؟ فأقسم عمه بالأيمان المغلظة ما قال هذا له أحد، وإنما كانت هذه الكلمة بادرة منه، وأنه يستغفر الله ويتوب إليه منها، فأطلقه.

    1.   

    العصمة من الضلال منوطة باتباع القرآن والسنة على فهم السلف

    وسبق أن ذكرنا أن العصمة من الضلال منوطة باتباع القرآن والسنة: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله، وسنتي)، فالعصمة من الضلال لابد فيها من القرآن والسنة معاً، وليس هذا فحسب، بل لا بد أن يكون ذلك بفهم الصحابة ومن تبعهم بإحسان رضي الله تعالى عنهم، وقد ناقشت هذا بالتفصيل في محاضرة (السلفية لماذا؟)، وقلنا: إن أهل السنة والجماعة هم الميزان، ولن نستطيع أن نفصل ذلك الآن، لكن نذكركم ببعض العناوين، فقد قلنا إن الانتماء إلى أهل السنة والجماعة ليس مسألة اختياريه كما تختار في الفاكهة والألوان والطعام والشراب، بل هي مسألة ليس فيها اختيار، ففرض ولازم على كل إنسان أن ينتمي إلى منهج أهل السنة والجماعة، فالسلفية منهج ملزم لكل مسلم، وهي تقوم على الكتاب والسنة بفهم الصحابة وتابعيهم بإحسان.

    وقلنا: بفهم الصحابة والتابعين لنسدّ باب انحراف أهل البدع الذين انحرفوا في فهم كتاب الله، فالكتاب والسنة يستطيع كل أحد أن يفهمها فهماً، وأن يفسرهما تفسيراً، وأن يؤلهما تأويلاً يوافق هواه وبالعكس، فلا بد من سدّ الطريق على أهل الباطل بقولنا: الكتاب والسنة بفهم السلف؛ لأن السلف الصالح معهم حق كل فرقة، وهم برآء من ضلال كل فرقة، وقد زكاهم الله سبحانه وتعالى فقال: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى [النساء:115]، قال: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:115] وخير أمة أخرجت للناس هم الصحابة رضي الله تعالى عنهم، نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115]، وقد زكى الله إيمان الصحابة وقطع بصحته، واشترط في نجاة من بعدهم من الفتن والاختلاط أن يكون إيمانه مثل إيمانهم، فقال الله عز وجل في القرآن الكريم: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ [البقرة:137]، فكلمة (مثل) هي السلفية، فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ [البقرة:137]، فالهداية محصورة في الإيمان بمثل ما كان عليه الصحابة رضي الله تعالى عنهم، (( بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ )) أيها الصحابة! (( فَقَدِ اهْتَدَوا ))، ومفهوم الآية أن من انحرف عن مثل ما كان عليه الصحابة فقد ضل ضلالاً مبيناً.

    ولذلك قلنا: إن معرفة ما كان عليه النبي عليه السلام إما أن تكون بالمعاينة والمعاصرة، وإما أن تكون بالإسناد، فالرواية تنقل إلينا بالأسانيد، ولذلك فالإسناد هو شريان الحياة في منهج أهل السنة والجماعة، وقلنا: إن اتباع السلف هو المنهج الذي يعصم من الحيرة والتلون، فالذي يتمسك بمنهج أهل السلف فإنه في الغالب -إلا ما شاء الله- لا يرجع مرة ثانية، بل إنه يمشي إلى أن يصل -إن شاء الله- إلى النجاة في الآخرة، ولا يكون من الفرق النارية، وإنما يكون من الفرقة الناجية بإذن الله تبارك وتعالى، فهذا المنهج يتميز بالبصيرة: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108] وهو يعصم من الحيرة، ويعصم من التلون، ولذلك لا نكاد نجد واحداً فقه المنهج السلفي على بصيرة واتبعه على بصيرة ثم تراجع وانتكس عنه، وذلك مصداقاً لقول هرقل لـأبي سفيان لما سأله: هل يرتد أحد منهم سخطه لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا، ثم قال له بعد ذلك: وسألتك هل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت ألّا، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب، فهذه دعوة الفطرة والبصيرة والاتباع والدليل والإنصاف والعدل والتوحيد.. إلى آخر هذه المحاسن المعروفة، لذلك فالمنهج السلفي من يمشي فيه فإنه يمشي في اتجاه واحد، ولا يرجع عنه في الغالب إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى، في حين أن من بدأ بغير المنهج السلفي فإنه يتلون، وقد رأينا ذلك بأعيننا في الفرق الضالة التي كانت موجودة إلى عهد قريب، فقد كانت تحصل فيهم انشطارات داخلية، فالفرقة تنقسم إلى فرق، والفرق تنقسم إلى فرق.. وهكذا إلى ما لا حصر له ولا عدد، وقد وجدنا في ذلك نماذج كثيرة جداً كما هو معروف من حال أبي حامد الغزالي ، فإنا إذا درسنا مراحل حياته لوجدنا كيف يكون التلون سمة بارزة لمن انحرف عن منهج السلف، وحرم مما كان عليه السلف، فضل الغزالي ينتقل من منهج الفلاسفة إلى منهج أهل الكلام وإلى منهج الباطنية وإلى منهج الصوفية.. إلى آخره.

    وللأسف الشديد فإنه لم يكتشف الحقيقة إلا في آخر حياته رحمه الله تعالى، فمات وصحيح البخاري على صدره، وكأنه يريد أن يقول: هاأنذا حتى هذه اللحظة الأخيرة أريد أن أكفر عن انشغالي عن منهج أهل الحديث وأهل السنة والجماعة.

    وكذلك كان حال الرازي والجويني وكثير من علماء الكلام، فإنهم ندموا عند الموت على خوضهم في علم الكلام.

    1.   

    إثبات الشفاعة في الآخرة

    فيقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ [البقرة:48]: ظاهر هذه الآية عدم قبول الشفاعة مطلقاً يوم القيامة، وسوف نلاحظ في كلام مصطفى محمود -للأسف الشديد- أنه -بقصوره وعدم علمه- ضرب آيات الله بعضها ببعض دون أن يشعر أو يتطرق إلى خبر العلماء الحكماء في الجمع بين الآيات، وتعرفون أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما خرج وبعض الصحابة يحتج بآيات في القدر، والبعض الآخر يرد بآيات أخرى مخالفة لها في الظاهر، فغضب غضباً شديداً، واحمر وجهه حتى كأنما فقيء في وجهه حبّ الرمان، وقال: (بهذا هلكت الأمم من قبلكم؛ أنهم ضربوا كتاب الله ببعض..) إلى آخر الحديث.

    فهذا المنهج الثقيل -أعني: موضوع ضرب الآيات المحكمة وظاهرها ببعض- منهج يدل على عدم الفقه والعلم ويدل على عدم إتقان علم الجمع بين الأدلة عند التعارض.

    يقول الشنقيطي : قوله تعالى: (( وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ )) ظاهر هذه الآية عدم قبول الشفاعة مطلقاً يوم القيامة، ولكنه بيّن في مواضع أخر أن الشفاعة المنفية هي الشفاعة للكفار. إذاً فهناك نوعان من الشفاعة المنفية:

    النوع الأول: الشفاعة للكفار.

    والنوع الثاني: الشفاعة بغير إذن الله ورضاه، فهذه لا يمكن أن تحصل، وأما الشفاعة للمؤمنين بإذنه فهي ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، فنص على عدم الشفاعة للكفار بقوله: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28]، وقد قال عز وجل: وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7]، إذاً: فالكفار ليسوا ممن رضي الله عنهم، لذلك فإنهم يحرمون من الشفاعة.

    وقال تبارك وتعالى مقرراً لقول الكافرين: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ [الشعراء:100] * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء:101]، وقال تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ.. [المدثر:48]، وغير ذلك من الأدلة، فهذا في حق الكفار، والشفاعة بدون إذنه منفية أيضاً، كقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، وقال تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم:26]، فيأتي هذا الرجل بقصوره ويقول: نحن نقول في الصلاة عن الله تعالى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، وأنتم تجعلوا الرسول عليه الصلاة والسلام هو مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]؛ لأنه يشفع في الناس!! وهذا شيء غريب جداً، فنحن نقول: إنّ الشفاعة المثبتة لا تكون إلا بإذن الله، وعمن يرضى عنه الله، فكيف تزعم بعد ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام أصبح مالكاً ليوم الدين!! فما هذا الجهل المطبق؟!!

    وهو لم يتراجع، بل أصر وعاند وكابر، وأخطأ بعض الإخوة الذين فهموا منه أنه تراجع، فإنه لم يتراجع كما سنبين، وادعاء شفعاء عند الله من كفار أو بغير إذنه من أنواع الكفر به جل وعلا كما صرح به في قوله: وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس:18].

    يقول الشنقيطي : هذا الذي قررنا من أن الشفاعة للكفار مستحيلة شرعاً مطلقاً يستثنى منها شفاعته صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب في نقله من محل من النار إلى محل آخر منها، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح، فهذه الصور التي ذكرنا من تخصيص الكتاب بالسنة لا تتناقض مع قوله تعالى: (( وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ))؛ لأن هذه الشفاعة ليست في إخراجهم من النار، وإنما في نقلهم من موضع إلى موضع منها.

    الشفاعة الثابتة في الشرع هي التي يجتمع فيها شرطان: إذن الله للشافع، والرضى عن المشفوع له، ولا يرضى الله عن الكافر كما قال تعالى: وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7]، فالكافر لم يتوفر فيه هذا الشرط، إذاً فالشفاعة لا تكون إلا من بعد إذن الله عز وجل، سواء في ذلك شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم وشفاعة من دونه، وذلك الإذن يتعلق بالشافع والمشفوع فيه، فلا يَشفع إلا من أذن له في الشفاعة، ولا يُشفع إلا فيمن أذن الله أن يشفع فيه، قال تعالى: قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا [الزمر:44]، وقال: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، وقال: (( فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ))، وهذا في الكفار.

    1.   

    أنواع الشفاعة

    وأما أنواع الشفاعة: فالشفاعة العظمى هي شفاعته صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل لأهل الموقف؛ لفصل القضاء بينهم، وهي خاصة به صلى الله عليه وسلم، وهي المقام المحمود الذي ذكره الله عز وجل له، ووعده إياه، كما قال تعالى: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، وجاء في الحديث: (من قال حين يسمع النداء. وفيه: حلت له شفاعتي يوم القيامة) وأحاديث الشفاعة متواترة أي: متواترة تواتراً معنوياً، وأرجو أن تكونوا على معرفة بهذه الأحاديث وعلم بها، وسنتجاوز ذكرها اختصاراً.

    وهناك الشفاعة في إخراج العصاة الموحدين من النار، وقد أنكر هذه الشفاعة الخوارج والمعتزلة، وقد جاء في بعض الأحاديث: (ثم أشفع، فيحدّ لي حداً فأخرجهم فأدخلهم الجنة)، فشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم يحدد لها عدد معين، وأناس معينين بإذن الله تبارك وتعالى، وهناك أنواع أخرى من الشفاعة أعتقد -إن شاء الله- أنكم على علم بها؛ لأن كتب العقيدة كلها تهتم بهذه المسألة وتذكر أدلتها بالتفصيل.

    وله مقالتان:

    المقالة الأولى بتاريخ (1/5/1999م)، وعنوانها: (( وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ )).

    وطريقته فيها هي نفس طريقة الضُلّال الذين يريدون أن يطيروا بجناح واحد وهو جناح القرآن، دون أن يلتفتوا إلى الجناح الآخر وهو السنة، فيقعون على أم رءوسهم.

    1.   

    جهله بالسنة وكتبها وعلمائها

    يقول في هذه المقالة: ويقول الله لمحمد عليه الصلاة والسلام في سورة الزمر: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ [الزمر:19]، فيقول: هذا استفهام إنكاري، فنقول له: هل ينقذ النبي صلى الله عليه وسلم من في النار بإرادته أم بإذن الله؟ ثم أيضاً قد أثبت الله الشفاعة في القرآن، ومن ذلك قوله: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255] وأحاديث الشفاعة تقول: (أنه يستأذن ربه..) إلى آخر الحديث كما هو معلوم.

    وهو -كعادة أهل الأهواء- يكتبون ما لهم ويسكتون عما عليهم، فأتى بالآيات التي تؤيد مذهبه الضال فقط، مع أنه يقول: أنا أتبع القرآن فقط ولا أتبع السنة، فنقول له: إنّ القرآن نفسه يرد عليك؛ لأن هناك آيات -كما ذكرنا- تنفي الشفاعة، وهناك آيات أخرى تثبت الشفاعة بالشرطين السابقين، فالقرآن يثبت الشفاعة وهو لا يستطيع أن يتخلص من هذا المخرج؛ لأن القرآن نفسه يثبت الشفاعة، وهو لا يحسن فهم كلام الله سبحانه وتعالى.

    يقول: وهذه الثوابت القرآنية، يعني: قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37] مع أن هذه الآية في الكفار، وهم ليس لهم شفاعة، فيقول: أهل النار في سورة المؤمنون رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:107] * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، ويقول في سورة البقرة: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167]، يقول: هذه الثوابت القرآنية تتناقض تماماً مع مرويات الأحاديث النبوية في كتب السيرة. فتراه يسمي كتب الحديث بكتب السيرة!! فهو لا يعرف عنوان هذا العلم!! مع أن الفرق شاسع بين كتب السيرة وبين كتب علم الحديث التي من ضمنها كتاب السيرة، فهذا يدل على أنه لا يفقه حتى عناوين العلوم الشرعية.

    يقول: وهذه الثوابت القرآنية تتناقض تماماً مع مرويات الأحاديث النبوية في كتب السيرة من إخراجه مَن يشاء من أمته من النار، ومما يؤكد أن هذه الأحاديث موضوعة ولا أساس لها من الصحة، ولا يمكن أن تكون قد صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم، هكذا يقول الشبعان وهو متكئ على أريكته: (بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال حللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، وإنما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرمه الله).

    ثم يأتي بآيات أيضاً من القرآن الكريم هي في حق الكفار أيضاً، ولا نطيل بذكر كلامه، ثم يقول: إذاً الشفاعة ينفرد الله بها وحده، وعلينا أن نفهم الشفاعة في هذه الحدود، والقرآن هو الكتاب الوحيد الذي تولى رب العالمين حفظه بنفسه من أي تحريف، وقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، ولم يقل لنا رب العالمين: إنه حفظ البخاري أو غيره من كتب السيرة، يقول: وما يقوله البخاري مناقض للقرآن لا يلزمنا في شيء، وسيسأل عنه البخاري يوم الحساب، ولا نسأل نحن فيه.

    أقول هذا الرجل مسكين، وهل هذا كلام البخاري ؟ لقد جمع البخاري لأحاديث، واشترط شروطاً في غاية الدقة لصحة الحديث، وهي مروية بالأسانيد التي تميزت به هذه الأمة.

    ويقول: ولم يكن البخاري هو الوحيد الذي خاض في موضوع السيرة النبوية، لكن كتّاب السيرة كثيرون، وقد تناقضوا واختلفوا مع بعضهم البعض، وامتلأت كتب السيرة بالموضوع والمدسوس من الأحاديث، والعجيب والمنكر من الإسرائيليات، وقرأنا في أكثر من كتاب من كتب السيرة أن النبي عليه الصلاة والسلام مات ودرعه مرهونة عند يهودي، وهذا كذب وافتراء لا يعقل.. إلى آخر الكلام!

    وهذا قصور في عقله وفهمه، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يتعامل مع اليهودي، وهو مشرع للأمة، وفعله فيه تشريع، ويؤخذ منه جواز مثل هذا التعامل والرهن مع اليهودي، وهو حديث صحيح وليس فيه أي إشكال، وهو يقول: إذا كان ربنا يقول: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5] ألا يعطيه ما يستغني به عن اليهودي؟! فهو يفهم بعقله القاصر أنه يعطيه الفلوس والأموال، ولم يدر أن الرسول صلى الله عليه وسلم زهد في الدنيا ورفضها عليه الصلاة والسلام، فقد خيره الله بين أن يحول له جبال مكة ذهباً، وبين أن يكون عبداً نبياً، فاختار أن يكون عبداً نبياً فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يطمح إلى يعطى الأموال. ثم يقول: والعمدة المعتمد في جميع أمور الملة هو القرآن المجيد نتمسك به ونحتكم إليه في كل صغيرة وكبيرة.

    فنقول له: هذه اللافتة تصل بها نفسك؛ لأنك من أهل البدع والضلال فمن قال هذا فهو ضال، كما بينا: (لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي)، فقطعاً أنت ضال ما دمت تقول هذه العبارة، وأنت من الفرقة الضالة التي أخبر النبي عليه السلام عن ظهورها فقال: (ألا يوشك شبعان متكئ على أريكته)، فلم يرحل، ولم يسافر، ولم يجع، ولم يجوب القفار والصحراء ليحقق الحديث ثم يزعم أنه يكتفي بالقرآن!

    يقول: والعمدة المعتمد في جميع أمور الملة هو القرآن المجيد. أقول: كذاب كذب، وهذا القول ضلال مبين، ومن قال هذا فهو ضال، فإذا حدثت الرجل بحديث فقال: دعك من هذا وأجبني عن القرآن فاعلم أنه ضال.

    يقول: ونحتكم إليه -أي: القرآن- في كل صغيرة وكبيرة، وما تناقض في كتب السيرة مع القرآن لا نأخذ به، فالذين كتبوا السيرة بشر مثلنا يخطئون ويصيبون. أقول: هذا الرجل مسكين، فهو يظن أنهم كتبوا من تلقاء أنفسهم، فهو لا يعرف ما هي الأسانيد، ولا ما هي الأحاديث، ولا ما هو البخاري ، ولا ما هي السيرة، فهو مغرق في الجهل، فكيف يتكلم في الدين بهذه الطريقة؟! ويقول: أما القرآن فهو الكتاب المحفوظ من رب العالمين، وهو الكتاب الوحيد الموثق بين كل ما تبقى من الكتب المقدسة، ومن ثم يستدل على أنه ليس هناك شيء اسمه سنة، فالقرآن فقط هو المأخوذ به، فيقول: ألم يقل ربنا تبارك وتعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام في سورة آل عمران: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، ففهم هذا المسكين من قوله تعالى: (( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ )) أنه لا يوجد تشريع اسمه سنة، وإنما التشريع هو في القرآن فقط!! لم يعرف سبب نزول الآية، وأنها كانت في القنوت على بعض الناس.. إلى آخر القصة المعروفة.

    ثم يقول: فكيف نقلب الأمر ونجعل من النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الأمر يوم القيامة، والمنفرد بالشفاعة من دون الله؟! أقول: هل يوجد أحد من أهل السنة والجماعة -ولو من عوامهم- قال: إن الرسول عليه الصلاة والسلام يتفرد يوم القيامة بالشفاعة من دون الله؟! وأين الآيات التي تشترط أن يرضى الله عمن يشفع فيه، وأن يأذن لمن يشاء أن يشفع؟! فهذا كله كذب وافتراء وتدليس لا يقبل، يقول: فكيف نقبل الأمر ونجعل من النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الأمر يوم القيامة، والمنفرد بالشفاعة من دون الله، وهو الذي قال له معاتباً: (( لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ )).. إلى آخر كلامه.

    إصراره على إنكار الشفاعة في الآخرة

    وأما المقالة الثانية فعنوانها: (الردود الغاضبة والعاتبة)، وقد كانت في (15/مايو)، يقول فيها: الردود الغاضبة والعاتبة على موضوع الشفاعة بالمئات، وأنا لم أفهم سبباً واحداً لهذا الغضب، فالله -بكرمه وحلمه- فتح لنا باب التوبة؛ حتى نتوب عن ذنوبنا، ونتطهر من أوزارنا، وجعل هذه التوبة مفتوحة إلى النفس الأخير، فلا يغلق بابها إلى ساعة الحشرجة، وهذه التوبة تجبُّ كل الذنوب، واقرءوا معي سورة البروج.. إلى آخر كلامه، فهو بدأ يوهمك بأنه يتوب عن هذه المقالة، مع أنه لا يريد أن يقول ذلك، بل هو يريد أن يقول: إن باب التوبة مفتوح، لكن باب الشفاعة مغلق، فهذا ما يريد أن يقوله، فهو مصرُّ ومعاند على ما قاله، ثم يقول: وهل يريد الغاضبون والعاتبون أن يفعلوا ما يشاءون من الذنوب والخطايا، ويسترسلوا في ذنوبهم وآثامهم وشرورهم إلى آخر العمر، ثم يموتوا دون توبة، ويلفظوا أنفاسهم دون ندم، ثم يريدوا ساعة البعث أن يستخدموا رسولهم ليشفع لهم، فإذا قلنا لهم: ضيعتم فرصتكم الوحيدة في التوبة في حياتكم ضجوا واحتجوا ورمونا بالجهل، وجاءوا بعشرات الأحاديث لعشرات من الرواة يقولون هذا وذاك من عجيب القول، ولا سلطان عندنا في مثل هذه الأمور الغيبية إلى لكلمة القرآن، ثم يقول: إني لا أرى مكاناً للاختلاف، ولا موصفاً للاشتباك، وإنما كل منا يعمل بإيمانه، وكل فريق يعمل على شاكلته، فالموضوع لا يصلح فيه الجدل، فهو موضوع غيبي يتناول الآخرة، والآخرة لله وحده يفعل فيها ما يريد فهي شأنه.

    فنقول: إن القضية أنك تكذب خبر رسول الله عليه السلام الذي تواتر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله ويؤمنوا بي وبما جئت به)، فمن أركان الإيمان: (يؤمنوا بي وبما جئت به). ويقول أيضاً: والقرآن لا يفتح باباً إلّا ويسده، أقول: هو لا يريد أن يرمي القرآن بالتناقض والعياذ بالله، لكنه يريد: أنه في بعض المواضع هناك آيات تفتح باب الشفاعة، لكن لا تلبث أن تأتي آيات وتسد هذا الباب أخرى مرة أخرى، وهذا كلامه المسكين القاصر في فهم الآيات، ولكن القرآن لا يفتح باباً إلّا وسده, فهو يقول: وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ:23]، لكن لا يلبث أن يقول في موضع آخر: قال تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28]، ولذلك عاد فأغلق الباب فجعله مقصوراً على أهل الرضا أي: المرضي عنهم ويستدل بالآية: مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ [السجدة:4]

    فقوله: (( مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ )) أي: من دون الله، (( وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ )).

    فنقول له: إن الشفاعة التي تحصل تكون بإذن الله، فتنسب إلى الذي أذن وهو: الله سبحانه وتعالى، فهذا عيسى عليه السلام لما كان يخلق من الطين كهيئة الطير قال: وأني أخلق لكم أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:49] فكل مرة كان يذكر هذا القيد: (( بِإِذْنِ اللَّهِ ))، فهذا ليس فعل عيسى لكنه فعل الله.

    ثم يقول أيضاً: وهل خرج قادة الإسلام الأوائل وأبطاله إلى من هذه المشكاة: (مشكاة القرآن)، وما كان على يمينهم كتب سيرة، ولا رواة سيرة، ولكنهم كانوا يشهدون السيرة بأعينهم من معينها الحي، من النبي نفسه الذي كان يخرج معهم في غزواتهم. أي: أنه يحصر كل السنة في السيرة، وهذا شيء عجيب، ويقول: والآن قد ترقّى بنا الزمن، وأصبحنا نقرأ عن وعن وعن.. إلى آخر العنعنات التي لا يعلم بها إلا الله واختلف أهل هذه العنعنات، والقرآن بين أيدينا لا اختلاف فيه، فآياته المحكمة كالسيف تقطعنا عن أي شك.. إلى آخره.

    ثم يقول: وأضعف الإيمان أن نتدبر آيات القرآن الكريم ولا نغلق باب الاجتهاد في فهمها أبداً، فكل كتاب يؤخذ منه ويرد إلا هذا الكتاب، فهو خزينة العلم كله، وما أضر الإسلام والمسلمين إلا إغلاقهم باب الاجتهاد في دينهم، وتحويلهم لمرويات السيرة والأحاديث إلى مسلمات ومقدسات ومحظورات لا تمس ولا تناقش كأنها مومياوات محنطة. أي: أنه يصف أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كأنها مومياوات محنطة، ثم انظروا إلى هذا الذي يطعن في البخاري والأئمة، انظروا ثقافته الضحلة إلى أي مستوى تصل به، فإنه يقول: وما حثني على الكتابة في موضوع الشفاعة إلا حديث رسولنا العظيم الذي قال فيه: (من يترك العمل ويتكل على الشفاعة يورد نفسه المهالك، ويحرم من رحمة الله)، فمن أين -أيها الوضاع!- أتيت بهذا الحديث؟! فهذا شيء غريب فتراه يرفع هذا الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر السند، ولا من أخرجه ولم يسمع أحد بهذا الحديث في أي كتاب من الكتب التي تكلمت عن الشفاعة، فإذا كان هذا حظه من الجهل بالسنة فكيف يتجاسر على أن يسجل على نفسه هذه المقولة المحدثة؟!

    ويقول أيضاً: موضوع الشفاعة غيبي، ومكانها وزمانها يوم القيامة، ولا يستطيع أحد أن يدعي الإحاطة بما سيجري في هذا اليوم، ولا نملك بعد استعراض القرآن والسنة إلّا الاجتهاد في الفهم واحتمال الخطأ وارد.

    وسبق في أثناء الكلام من الذي له حق الاجتهاد في فهم النص، أو في الاجتهاد الفقهي المعروف.

    ولا شك أن موضوع الشفاعة غيبي، وهو داخل في الإيمان باليوم الآخر، لكن ربنا سبحانه وتعالى قال: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:177]، فما معنى الإيمان بالله واليوم والآخر؟ معنى ذلك أنك تصدق بالأخبار التي وردت بشأن اليوم الآخر ومنها أخبار الشفاعة: (حتى يؤمنوا بي وبما جئت به)، فتؤمن بما أخبر به النبي عليه السلام ولا تكذبه، وقد قال الإمام أحمد : من كذب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة، فهذا موضوع غيبي والغيب أتانا من طريق الوحي، سواء كان القرآن أو السنة؛ لأن السنة وحي كما بينا ذلك بالتفصيل من قبل، فمعنى كونه موضوعاً غيبياً أنه ليس للعقل فيه مجال، وليس للاجتهاد على الإطلاق فيه مجال، وإنما هو خبر، وواجبنا أن نصدق هذا الخبر ونسلم به كما قال الإمام الزهري : من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم، فنقول: سمعنا وأطعنا، فهذا هو واجب المؤمن.

    ثم يقول في نهاية الكلام: نكتفي بما قلناه، ونختم الموضوع مؤثرين الإيمان على الجدل، والتفويض على تبادل التهم، فبحور العلم بلا شاطئ، وأعماقها بلا أغوارخ.

    والله وحده الهادي، ونسأله المغفرة.

    فنقول له: فعلاً إن بحور العلم بلا شاطئ، وأعماقها بلا أغوار، ومن سار في بحر الشبهات كما سرت أنت دون أن يتمسك بطوق النجاة، أو رام النجاة في غير سفينة أهل السنة والجماعة فلن يسلم من الغرق، فإن السنة هي سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    سبحانك اللهم ربنا وبحمدك! أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718655

    عدد مرات الحفظ

    754756993