إسلام ويب

الأخوة الإيمانيةللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الأخوة في الله منحة ربانية يقذفها الله في قلوب من يشاء من عباده، وهي من أعظم وأوثق عرى الإيمان ومما يوثق هذه العلاقة ويجعلها سبباً لنيل الأجر؛ أن تكون لله وفي الله، لا لأحد سواه، وأن تكون قائمة على التناصح بين الإخوة، ومن لوازم الأخوة أن يكون الأخ كريماً مع أخيه، مساعداً له في قضاء ما يستطيع من حاجاته.

    1.   

    آثار الأخوة الإيمانية

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

    وفي بداية هذا اللقاء أزجي عاطر الشكر والثناء لهذه الجامعة المباركة جامعة أم القرى بفرعها بـالطائف أن كانت سبباً في هذا الجمع المبارك الكريم, وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجزي القائمين عليها خير الجزاء, وأن يعظم لنا ولكم المثوبة منه إنه فاطر الأرض والسماء.

    أيها الأحبة في الله! خلة من الخلال وخصلة من أطيب الخصال, خلة من خلال المتقين وعباد الله الأخيار الصالحين, وخصلة من خصال المهتدين, إنها الحب والأخوة في الله والدين، إنها الأخوة الإيمانية التي قامت على الآيات والعظات القرآنية, أرسى دعائمها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم, وسار على نهجها أولو النهى, حتى خبطت أقدامه في الجنة مع الرضا, إنها الحب في الله, هذا الحب الذي أقسم النبي صلى الله عليه وسلم لصحابي من أصحابه أنه يجده في قلبه, ففي الحديث الصحيح عن معاذ رضي الله عنه وأرضاه قال: (أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيدي وقال: يا معاذ ! والله إني لأحبك), فنعم المحب ونعم الحبيب.

    إنها الأخوة الإيمانية والمحبة المبنية على الشريعة المرضية.

    إنها الأخوة التي إذا سكنت في القلوب هدى الله عز وجل أهلها, وأصابهم بالزكاة في قلوبهم وطهرها.

    إنها الأخوة التي غرسها النبي صلى الله عليه وسلم في قلوب أصحابه الأخيار, من المهاجرين والأنصار، فسطروا بها في دواوين المجد والعز صفحات البذل والإيثار, كانوا قبلها متباعدين, فأصبحوا بها -بفضل الله- متقاربين, كانوا متعادين فأصبحوا بها متآخين, كانوا متباعدين متباغضين متدابرين لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ [الأنفال:63] ولكن من غيره سبحانه يجبل تلك القلوب على المحبة، ويقلبها على الصفاء والمودة، فانقلبت تلك القلوب من الشحناء والبغضاء إلى المودة والحب والصفاء، فلا إله إلا الله من يوم اجتمعت فيه قلوب أولئك الأخيار, ولا إله إلا الله من يوم آخى المصطفى فيه بين المهاجرين والأنصار.

    إنها الأخوة التي حملت رسالتها هذه الأمة جيلاً بعد جيل, ورعيلاً بعد رعيل, حب وصفاء وود وإخاء, يتألم المؤمن لآلام إخوانه, ويحس بإحساسهم ويشعر بأشجانهم.

    إنها الإخوة التي صورها النبي صلى الله عليه وسلم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى, فكم عين للمسلم سهرت لآلام المسلمين, وكم من قلوب فارقتها الراحة في المضاجع لآلام المؤمنين.

    إنها الأخوة التي يحس فيها المؤمن أنه من أخيه ولأخيه على الطاعة والدين, فوالله ما فتحت قلبك لحب في الله، إلا تأذن الله لك بحبك من فوق سبع سماوات، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: وجبت -ثبتت واستقرت- محبتي للمتحابين فيّ, وللمتجالسين فيّ, وللمتزاورين فيّ).

    الله أكبر! محبة انتصبت من أجلها أقدام الراكعين والساجدين, وجرت بها دماء الشهداء المجاهدين, محبة ظمئت من أجلها أحشاء الصائمين, وتألمت لها قلوب العابدين الخائفين, كل ذلك طلباً لهذه المحبة من الله, وجبت حينما تفتح قلبك لأخيك لله وفي الله, ما أعظمها من محبة توجب عند الله الزلفى والقربة، ما أعظمها من محبة, إذا فتحت قلبك لها تأذن الله بحبك، فأي يوم أعز وأشرف من يوم تغيب فيه الشمس عليك والله قد أحبك؟ وأي يوم أجل وأشرف حينما يكون الله محباً لك؟ كل ذلك لهذه المحبة حينما تفتح سويداء قلبك لإخوانك لله وفي الله, ألم تعلم أنك لو خرجت من بيتك يوماً من الأيام, فاطلع الله على فؤادك وقلبك أنك خارج لأخيك لله وفي الله ناداك منادٍ من الله: طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة نزلاً, وبهذا الخروج وبهذه الزيارة ترفع الأقدام إلى الله، وتكتب الخطا عند الله, فقد أوجب الله الحب منه للمتزاورين فيه, ولكن فيه سبحانه, (والمتجالسين فيه) فلئن فتحت باب بيتك يوماً من الأيام لإخوانك وخلانك وقلبك ولسانك على الحب سواء, فلئن فتحت باب دارك، فلقد فتحت باب رحمة الله عليك، ولئن جلست معهم تثبتهم وتسليهم وتذكرهم بطاعة باريهم فنعم والله المجلس، حينما تقوم والله راضٍ عن جلوسك وعن إخوانك.

    1.   

    دعائم الأخوة الإيمانية

    إن الحب الخالص والصادق يكون لوجه الله, وهذا الحب وهذه الثمرات الكريمة لا تكون إلا بقواعد ودعائم أرساها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.

    الإخلاص في المحبة

    أول دعائم الحب في الله: إخلاص العمل لله, أن تفتح القلب وأن تشعر أن الله يسمعك ويراك, فيرى هذا العمل من القلب وليس لأحد له فيه حظ ولا نصيب, تفتح قلبك لا لجمال, ولا لمال, ولا لحسب, ولا لنسب, ولكن لله جل جلاله, حينما تحب المسلمين ولو كانوا عنك بعيدين, وحينما تحبهم ولو خالفتهم لوناً أو مرتبة أو عزاً أو شرفاً فلا فضل إلا بالتقوى.

    إنه الحب الخالص لله، وما الذي ضر كثيراً من الشباب اليوم غير دخول الدواخل في المحبة لله, فكم من شباب في بداية الهداية والاستقامة فتحوا القلوب لله جل وعلا حتى وجبت لهم المحبة من الله والرضا، فما مضت الأيام إلا والمجالس عامرة بذكر الله الملك العلاَّم, وكم من شباب -في بداية الهداية- وجدوا طعم الأخوة ولذة الحب في الله, لما كانت القلوب خالصة لله علام الغيوب، يوم خرج الشاب من بيته يتعطش لأخٍ يواسيه أو يسليه أو يثبته على طاعة باريه, فخرج من البيت صادقاً محتسباً مخلصاً لله جل جلاله, ولكن تغيرت القلوب فغير الله عز وجل ما بها من الخير إلا أن ينيب العبد أو يتوب.

    لذلك أيها الأحبة في الله! الوقفة الأولى مع الحب في الله: أن يكون خالصاً لله جل وعلا, الحب في الله عبادة تعلقت بالقلوب، فكما أن اليد والقدم والجوارح تتقرب إلى الله، كذلك للقلب أعمال تكون عبادة بينه وبين الكريم المتعال, ومن أعمال القلوب التي يجب إخلاصها لله علام الغيوب: الحب في الله جل وعلا أشرف وأعز مطلوب.

    أما الوقفة الثانية: فإنك إن أخلصت لله جل وعلا فاعلم أن إخلاصك في الحب لله له أمارات وعلامات ومن أجلها وأشرفها: أن تحس أن قلبك اتجه لأخيك طاعةً لباريك، لا لأي شيء سوى ذلك, أن تتجه شُعب هذا القلب إلى الإخوان والخلان, إما لطاعة من ذكر أو شكر أو عناء أو عبادة أو خوف أو إنابة أو خشوع, ترى أخاك يوم تراه راكعاً فتحبه لركوعه, أو ساجداً فتحبه لذلته وخضوعه, أو يده سخاء على الأيتام والأرامل فتحبه من خلال ما يحبه الله من القول والعمل, تحبه من جهة الأعمال الصالحة والقربات والطاعات, ولذلك أحق من يحب في الله, وأحق من يتأذن الإنسان بأخوته في الله هم العلماء والدعاة إلى الله, لأنهم أعظم الناس خيراً وأعظمهم طاعة وبراً, إذا نظرت إلى العالم استهوى قلبك ما فيه من الخير الكثير والفضل المستطير, ذلك الخير الذي نفع الله به القلوب فأنار به السبل والدروب, فتحب العالم يوم تحبه, وكأن لسانك يقول: أحبك يا عالم الأمة من سنة أحييتها, أو بدعة أمتها, أو شعيرة أقمتها؛ تحبه حينما تتذكر، فكم من تائه أرشده, وكم من طالب علم علمه, وكم من ليل اكتحل السهر فيه لكي يحل للأمة معضلة, أو يكشف لهم مدلهمة أو مشكلة, تحبه من قلبك لأنه على ثغر من ثغور الإسلام, حتى إذا نظرت إلى ذلك الداعية إلى الله, نظرت إليه يوم نظرت وقد تفجرت ينابيع الحكمة من لسانه وبيانه, تجذب القلوب إلى الله, وتنير الدروب في محبة الله لا يرجو الثواب إلا من الله, فيتجه قلبك إليه لله وفي الله, حتى إذا فعلت ذلك أحبك الله بحب أوليائه، وتأذن لك بذلك الحب الذي لم يستوجبه عبد إلا وفق للخير كله.

    حب العلماء وحب الدعاة والهداة إلى الله سمة من سمات الصالحين, فكلما كان الإنسان صالحاً مستقيماً براً سائراً على نهج ربه فإنه يحب العلماء من كل قلبه, كلما تمكن الإيمان من القلوب كلما اتجهت إلى أولئك الصلحاء وأولئك الأخيار, الذين تأذن الله لهم بالحب في الأرض والسماء, فوضع لهم القبول بين العباد ونشر خيرهم بين الحاضر والباد, فهذه من أعظم الدلائل على الحب في الله.

    ولقد ضرب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المثل الصادق حينما أحبوا النبي صلى الله عليه وسلم صدق المحبة, أحبوه للنبوة, أحبوه لعظيم بلائه للأمة, أحبوه حينما رأوا ذلك الخير العظيم والنفع العميم الذي أجراه الله على لسانه صلوات الله وسلامه عليه.

    بعثت قريش رجلاً يوم الحديبية لكي يكشف خبر النبي صلى الله عليه وسلم ويتفاوض معه في صلح الحديبية ، فخرج سهل حتى قدم على النبي صلى الله عليه وسلم, فهاله ذلك المنظر المهيب من حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع رسول الهدى صلى الله عليه وسلم, فلما رجع قالوا له: ما وراءك يا سهل ؟ ما الذي رأيته؟ ما الذي سمعته؟

    فقال سهل : والذي يحلف به سهل من اللات والعزى لقد دخلت على كسرى وقيصر فما رأيت أشد حباً من أصحاب محمد لمحمد, والذي يحلف به سهل ما رفعوا أبصارهم إليه إذا حدثهم, ولا تنخم نخامة إلا وقعت في كف أحدهم فدلك بها وجهه، رضي الله عنهم وأرضاهم, وتأذن بأعالي الفردوس مسكناً لهم ومثواهم، إنهم الصحابة الذين أحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا أصحابه.

    ولقد ورث التابعون هذا الحب الصادق فأحبوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, فما كان الرجل من التابعين يرى عالماً من علماء الصحابة إلا كاد أن يرفعه على رأسه لعظيم حبه له في الله جل جلاله.

    دخل أبو إدريس الخولاني رحمه الله على الجامع بـدمشق , فرأى رجلاً براق الثنايا يجتمع الناس حوله, إذا اختلفوا رجعوا إليه, فيفصل بينهم فيما اختلفوا فيه, فسألهم وقال: [من هذا الرجل؟ قالوا: معاذ بن جبل صاحب النبي صلى الله عليه وسلم, يقول رحمه الله: فلما كان اليوم الثاني بكرت وهجرت -أي: جئت مبكراً إلى المسجد في الهجير, وذلك بعد صلاة الظهر لكي يدرك صلاة العصر- قال: فلما دخلت المسجد وجدت معاذاً قد سبقني إليه] رضي الله عنه وأرضاه, كانوا أئمة ومشاعل نور في القدوة الصالحة- قال: فلما قضى صلاته أتيته من قبل وجهه وقلت له: إني أحبك في الله. قال: آلله, قلت: آلله -أي: أحبك في الله- قال: آلله, قال: والله-أي إني أحبك في الله- فقال رضي الله عنه وأرضاه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يقول الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيّ, وللمتزاورين فيّ, وللمتجالسين فيّ) فكان التابعون رضوان الله عليهم يحبون علماء الصحابة ويجلونهم، وما زالت هذه الأمة تعظم علماءها ودعاتها وأهل الخير بينها, ولن تجد الأمة ترفع من شأن العلماء وتحب الدعاة والصلحاء إلا جمع الله بهم الشمل, فاتحدت بهم الكلمة وحصل الخير العظيم والنفع العميم, فكم من أزمنة خلت وأيام مضت كانت الأمة في أوج عزها، حينما أكرمت العلماء وأعزت الدعاة والهداة إلى الله لعلمهم أنهم دعاة الخير, وهداة الخير وأهل السداد والرشاد, فطوبى لمن أحبهم في الله, وتأذن بالحب من الله.

    النصيحة أو التناصح

    أما العلامة الثانية التي تدل على حبك لله وفي الله, فثمرة من ثمار الخير تدل على حسن الطاعة لله والبر, ثمرة ما كانت في المؤمن إلا دلت على دينه واستقامته وحبه لله جل وعلا, وحبه لعباده الصالحين, أتدرون ما هذه الثمرة العظيمة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم عماداً في الدين؟ إنها النصيحة, فإذا أردت أن ترى أخاك الصادق فانظر إلى ذلك الناصح المشفق, الذي ينظر إليك نظرة الغريق, ويعطف عليك بكل حنان وبر وإحسان، وحسن كلام وبيان, ينتشلك من النيران والعصيان, لكي يواسيك أو يسليك أو يثبتك بتلك النصيحة الصادقة على طاعة باريك.

    إنها النصيحة التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة, الدين النصيحة, الدين النصيحة, قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) فإذا وجدت أخاك يأخذ بحجزك من النار فإنه الأخ الصادق, والأخ المشفق، والمحب الذي برأ من الخسارة وتأذن بالربح مع الله في التجارة وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3] آمنوا ثم عملوا الصالحات ثم تواصوا, والغالب في أخيك الذي ينصحك أنه لا ينصحك إلا بعد دين, يتغلغل في قلبه حتى يغار عليك إذا رآك على خطيئة أو معصية, إذا سمعت أخاك ينصحك أو يوجهك أو يرشدك، فاعلم -والله- أنه يريد لك الخير من الله, أخوك الصادق الذي يبذل لك الكلمات المشرقة المضيئة من قلب صادق, فهذه من دلائل الحب في الله.

    ثم إذا أردت أن تنصح أخاك وأن توفي هذه العلامة حقها وقدرها فهنا أمور:

    أولاً: أن تنصح أخاك وأنت مخلص لله جل جلاله, تكلمه وأنت تستشعر أن الله يسمعك ويراك, تكلمه وليس في قلبك إلا الله جل جلاله, تشتري رحمة الله بهذه الكلمات, والله ما من نصيحة خرجت من قلب إلا وقعت في القلب شاء صاحبها أم أبى, أن تخرج النصيحة من قلبك الصادق المخلص لوجه الله جل جلاله تعامل الله، فكم من كلمات صادقة خالصة قد لا ينفع الله بها في حينها ولكنها تبقى في القلوب, تقرع أصحابها ولو بعد حين, قد تنصح أخاك اليوم ولكن لا يستجيب، وقد يستهزئ ويسخر وقد يسفه رأيك أو يستهجن قولك، ولكن تمضي الأيام تلو الأيام, وتأتي تلك الساعة التي يتأذن الله فيها بدخول تلك النصيحة التي لا زالت عند سمعه حتى تدخل إلى سويداء قلبه يوم تدخل, فينجيه الله بها من النار, فيكون في ميزان حسناتك.

    كم من إخوان أحبوا في الله أمضوا أوقاتهم في النصيحة والدلالة على سبيل الله, خطوا في دواوين الحسنات أجوراً, وخطوا في دواوين الحسنات مثاقيلاً منها، فطوبى لهم وحسن مآب. أخلص لله عز وجل في نصحك وتوجيهك, والتمس أفضل الأوقات، وليكن نصحك بتعاهد كما كان النبي صلى الله عليه وسلم, وإياك والإكثار من النصيحة، قال الصحابي رضي الله عنه وأرضاه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة) التمس أفضل الأوقات, والتمس أفضل العبارات، وأخرجها من قلبك ولو استطعت أن تلفظ الدمع من عينيك إشفاقاً على أخيك, كل ذلك لكي تفوز بطاعة باريك.

    قضاء حاجة المحتاج

    أما العلامة الثالثة التي تدل على الحب في الله فهي أعلى مراتب الحب في الله, وهي: مرتبة الكمال, حينما تكمل الدين بالدنيا, حينما تستر عورة أخيك أو تفرج كربته أو تؤنس وحشته, فتكون خير أخ وعضد له بعد الله جل جلاله, الأخ يحتاج إلى أخيه, تمر به الظروف والفتن والمحن, يحتاج إلى من يقف معه ويمده بمال أو يواسيه في شدة الحال, فقف مع إخوانك, فكم من إخوان بذلوا أوقاتهم لإخوانهم في الله ففازوا بمرضاة الله جل وعلا, ما الذي تأخذه من الدنيا غير تفريج الكربات، ورفعة الدرجات لما تسديه إلى الأرامل والبائسين والمحتاجين من إخوانك المؤمنين.

    إن من أعظم القربات وأعلاها عند الله قدراً تفريج كربات المسلمين, فاحتسب إذا سمعت أن أخاك بحاجة إلى مال؛ أن تعينه بالمال إذا استطعت, لا يكون المال أعز عليك من أخيك في الله, ابذل المال لوجه الله, فوالله ما أنفقت لأخيك مالاً ترجو به رحمة الله إلا أصابتك دعوة الملكان: (اللهم أعط منفقاً خلفاً) فلك الخلف من الله, كم من يد مدت إلى أخيها تعينه في شدة الظروف, والله يعلم أنها آثرت بهذا المال نفسها وأبناءها فعوضها الله إيماناً, وعوضها خشوعاً فأصابت خيري الدنيا والآخرة, الخلف من الله مضمون, والربح منه مضمون, فليكن مصداق الحب في الله تفريج الكربات عن الإخوان في الله, كم من رجل يقول لك: أحبك في الله وهو يعلم أنك محتاج إلى ماله, ولا يمد لك شيئاً منه، كيف يطيب العيش للغني المسلم وقد كشفت عورة أخيه المسلم؟! وكيف يلذ العيش للغني المسلم وقد تقرحت أحشاء وأمعاء الأيتام والأرامل من المسلمين؟! كيف يلذ العيش للمؤمن الصادق وهو يعلم أن أخاه يتضور جوعاً؟!

    ذكروا عن بعض الصالحين أنه كان غنياً ثرياً كثير المال, جاءه رجلٌ يوم من الأيام في شدة البرد, وكان هذا الرجل قد بسط الله له من الخير شيئاً كثيراً, فجاءه هذا الرجل -والناس بعضهم دليل خير ومفتاح خير- جاءه ولم يأته لغرض من الدنيا, ولكن جاءه لحاجة إخوانه المسلمين, فقال له: إن بموضع كذا وكذا أسرة فيها أيتام وأرامل ليس عندهم طعام ولا لباس يقيهم البرد, فنادى ذلك الرجل حاجبه -والرجل الذي يقوم على أمواله- فلما دخل عليه قال: انتظر, قال: فدخل إلى غرفته ولبس ثياباً خفيفة في شدة البرد, ثم دخل على حاجبه وقال: إنه قد بلغني أن بموضع كذا وكذا أيتام وأرامل، وأنهم قد آلمهم البرد فلا طعام معهم ولا كساء, اذهب إليهم فأطعمهم واكسهم واملأ أيديهم من المال, وإني في ملاءتي هذه أجد من البرد ما يجدون حتى تعود إليّ. إنها قلوب تحس بما يحس به إخوانه المسلمين.

    توفي علي زين العابدين ففقد أكثر من ثلاثين بيتاً كان بالليل يقرع الباب عليهم بالصدقات والطعام, لا خير في المال إذا لم تستر به عورات المسلمين, وتفرج به كربات إخوانك المؤمنين, أيُّ خير للملايين إذا اكتنـزتها، وخرجت منها صفر اليدين من رحمة الله والعياذ بالله, ما الذي تستفيده من المال إذا أسرك فأصبحت أشجانك وأحزانك معه فخرجت صفر اليدين من المعاملة مع الله, فلقد بلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله يقيم العبد يوم القيامة بين يديه، فيقول له: عبدي! ألم أسودك؟ ألم أعطك؟ ويذكره بالنعم, ثم يقول: فماذا عملت لي؟) فلو وقفت بين يدي الله وسألك الله عن إخوانك في الله, عن مكروب في دينه علمت أنه مديون فلم تفرج كربه, وعن مكروب علمت أنه بحاجة إلى من يثبته فلم تثبته, فليس تفريج الكربات يختص بالأموال, ولكن يكون بحسن المقال, إذا لم يكن عندك المال وعلمت أن أخاك مهموم أو مغموم، فابذل إليه كلمة، فكم من كلمة من أخ فرج الله بها الهموم, الأخ يحتاج إليه أخوه بكلمة تثبته خاصة في الأحزان والأشجان.

    ولذلك شرع الله عيادة المرضى وشرع تشييع الجنائز والتعزية، كل ذلك لكي يتثبت الله بها قلوب المؤمنين بكلمات إخوانهم المؤمنين, فلذلك ينبغي للمؤمن أن يسعى إلى أعلى مراتب الأخوة, وأن يفضل إخوانه على نفسه.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا الحب فيه, والولاء فيه, اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجعلنا ممن وجبت محبتهم لك يا ذا الجلال والإكرام, اللهم إنا نسألك أن نحب بحبك من أحبك, وأن نعادي بعداوتك من عاداك, وأن تجعلنا سلماً لمن سالمت، وحرباً لمن حاربت, عوناً لأوليائك, حرباً على أعدائك, يا ذا الجلال والإكرام, سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين.

    1.   

    الأسئلة

    الأخوة الصادقة . والأخوة الدنيوية

    السؤال: ما رأيك فيمن تصاحبه في الله ويعرض عنك لا لشيء، وإنما لأشياء دنيوية ليس لها ذلك الشأن, فأرجو أن توجه تلك النصيحة لهؤلاء الشباب الذين يفعلون مثل ذلك؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه, أما بعد:

    أنت تشتكي -يا أخي في الله- من تغير قلوب بعض إخوانك وخلانك الذين يحبونك في الله، ثم يعرضون لأمور من الدنيا، هذه من البلايا التي تكون في الحب في الله, أن يعرض الإنسان عن أخيه لفقر يده أو مسكنته أو رثاثة حاله, فكم من أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره, قال بعض العلماء: من أسباب إجابة الدعاء ثلاثة أشياء:

    1/ رثاثة الإنسان, كأن يكون فقيراً لا مال عنده.

    2/ رفعه الكف إلى السماء.

    3/ طول السفر.

    استنبطوا ذلك من الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم, أما رثاثة الثوب فقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) فالله لا يزن الناس بثيابهم, ولا مناظرهم, ولا ألوانهم, ولكن بقلوبهم وأعمالهم, فإذا أحببت أخاً في الله ورأيت عليه رثاثة المنظر وصدق العبودية لله فأحبه من كل قلبك, فإن الحب لله لا لشيء سواه.

    وأما الصفة الثانية وهي: طول السفر, والصفة الثالثة وهي: رفع الكف, فقد ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (... ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يارب! يارب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنىّ يستجاب لذلك) فذكر أبلغ صفات الدعاء والتضرع فجمع الثلاثة الأوصاف, فالمقصود أنه لا يُلتفت إلى المظاهر, فكم من مظاهر رثيثة لا يعبأ بها الإنسان ولكنها تبطن جواهر عزيزة عند الله جل وعلا, كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد الواحد منهم في الصلاة بدت عورته من وراء ظهره, رضي الله عنهم وأرضاهم.

    وخرج مصعب بن عمير من الدنيا بشملة إذا غطوا بها وجهه بدت قدماه, وإذا غطوا بها قدميه بدا بها وجهه, فقال صلى الله عليه وسلم: (غطوا بها وجهه, واجعلوا على رجليه إذخراً أو شيئاً من الإذخر) هذا الذي خرج به من الدنيا, صحابي جليل شهير قتل في سبيل الله, وخرج من الدنيا بشملة, فلو رأيت هذا الصحابي في حالة رثاثته ومنظره، كيف يكون الحال؟ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام:52] نزلت حينما قال أعيان قريش والأغنياء والأثرياء: يا محمد، نحِّ السفهاء عنك -هؤلاء السفهاء الذين هم أذلاء حقراء في الدنيا نحهم عنك- حتى نجلس معك, فأنزل الله عز وجل عليه: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [الأنعام:52] وقال في الآية الثانية لنبيه: فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنعام:52] فلا تعرضن عن أخيك في الله ليكن قلبك قلباً حياً مؤمناً بالله جل جلاله, يعامل الناس بإيمان صادق, لا بالمظاهر ولا بالصور ولا بالدنيا ولا بالغنى ولا بالمراتب ولا بالوظائف ولكن لله جل جلاله, ينظر الله إليك عبداً مؤمناً صادقاً تلقى أخاك قلبك كقالبك، تبشّ بوجهه وتبدي له السرور ولو كان حقيراً في منظره, حقيراً في ثوبه, وفي ذاته, ولكن تكرمه لله جل جلاله, ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ -من هم الأغنياء أو الأثرياء أو الرفعاء؟!!- أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً), ما معنى الموطئون أكنافاً؟ أناس متواضعون إذا جاءهم الذين فيهم ذلة المنظر أقبلوا عليهم كما يقبل على من عز منظره, وقد يقبل الإنسان المؤمن الصادق على أخيه في الله ذي المنظر الرث أكثر مما يقبل على الغني.

    فهذا أمر أطلت فيه للحاجة الماسة، فكم من أواصر حب في الله تغيرت حينما أحس أخوك أنك تحبه للدنيا, فرآك تهش لأخ ثري أكثر مما تهش لإنسان فقير ضعيف, فزن إخوانك بالدين, وليكن مبدؤك وميزانك مبدأ رب العالمين, والميزان الذي نصبه للعالمين إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم ممن أحب فيه صادقاً، والله تعالى أعلم.

    الإقبال على الله بالتوبة والندم ينجيان العبد من أن يؤخذ بذنبه

    السؤال: إني شاب ضائع منغمس في المعاصي، وأنا والله لم أكن أقصد حضور هذه الجلسة، ولكن شدني صوتك من خارج هذا المخيم, وأخبرك أيها الشيخ أني فعلت المعاصي, وأنا أشهد الله أني تائب لله على يديك، ولكن أرجوك أن تدعو الله لي في هذا الجمع المبارك والله يحفظك؟

    الجواب: أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتوب علينا وعليك, وأن يتولى إساءتك بالعفو والصفح, وأن يجعلنا وإياكم وإياه من عباده المنيبين.

    أخي في الله! أبشر برحمة الله وأحسن ظنك بالله, فما خاب عبد أحسن ظنه في الله, فما ضرته معصيتك ولا نفعته طاعتك, وأبشر بالخطا التي خطوتها إلى هذا المجلس من الذكر, فإن عبداً تاب إلى الله وقد قتل مائة نفس, جاء إلى عالم فقال له: إن قريتك قرية سوء فامض إلى قرية كذا وكذا فإن بها قوماً صالحين, فخرج إلى القرية الصالحة فأدركه الموت في الطريق, فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب, فقالت ملائكة الرحمة: إنه قد جاء تائباً إلى الله, وقالت ملائكة العذاب: إنه قتل مائة نفس آخرها عابد, فأوحى الله إليهم أن يقيسوا ما بين القريتين, وفي رواية: بعث ملكاً إليهم أن قيسوا بين القريتين, وفي رواية: فأوحى الله إلى هذه أن تقاربي أي: قرية الصالحين, كانت بعيدة ولكن قربتها رحمة الله بعباده وحلمه بخلقه, فعزت عند الله تلك الخطوات حتى غفرت دماء مائة نفس من الله جل جلاله, مائة نفس غفرت من خطوات لله جل جلاله، خطوات التوبة العزيزة عند الله جل وعلا, يوم تخطو إلى المسجد تائباً من ذنب بينك وبين الله جل وعلا, يوم أن تخطو إلى حلقة ذكر وأنت منكسر وتحس أنك أحقر الناس بذنبك الذي أصبته, فأبشر برحمة الله.

    فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يمن علينا وعليكم بالتوبة النصوح, وأن يجعلنا وإياكم من عباده المهتدين, والله تعالى أعلم.

    حكم التعلق بالأشخاص وكيفية علاج ذلك

    السؤال: هناك ظاهرة التعلق بالأشخاص فما هو علاجها والسبيل إلى النجاة منها؟

    الجواب: أما التعلق فبلاء وأي بلاء! ذلك البلاء الذي تتألم وتتأوه منه القلوب, فحق عند الله ثابت لا مرية فيه, معلوم بسنته أن من أحب لغير الله عذبه الله بحب شيء سواه, كل من أحب شيئاً لغير الله عذبه الله بذلك الحب, ولذلك تجد أشد الناس عذاباً أهل العشق, وتجدهم يهيمون في أودية الدنيا، يرتعون ويعذبون ليجمع الله لهم بين عذابي الدنيا والآخرة وهم يفتنون.

    أعظم البلايا تعلق القلوب بغير الله جل وعلا على وجه لا يرضي الله, إن التعلق اتجاه القلوب إلى الصور والمناظر والجمال, ويجلس الإنسان طليق الوجه حسن العبارة لا لله جل وعلا, وتخرج منه الكلمات المنمقة المعسولة المكذوبة، الفاجرة الجائرة الخارجة عن منهج الله وصراطه, هذا من أعظم البلايا وأشد الرزايا، فلذلك ينبغي للإنسان أن يعلم من قرارة قلبه أن من أشد البلايا وأعظمها انصراف القلب لغير الله جل جلاله, فإياك أن ينصرف قلبك أو شعبة من شعب قلبك إلى غير الله جل جلاله, واجتهد من الليلة أن تجعل قلبك لله, تمسي وليس فيه إلا الله, وتصبح وليس فيه إلا الله, تتفقد حالك ما الذي فعلته من الطاعات فتشكر الله جل جلاله, وما الذي فعلته من المعاصي فتندم وتتوب وتريق الدمعة الصادقة بينك وبين الله جل جلاله, تجعل القلب لله فإن القلب مخلوق لله, وما خلقه الله إلا لعبادته جل جلاله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] ما خلق الله هذه المضغة إلا لكي تسكن بتوحيده وحبه وتعظيمه وتمجيده، واليقين فيه وإخلاص العمل له جل جلاله, ما خلقت لكي تهيم في تلك الأودية السحيقة المليئة بعذاب الدنيا والآخرة.

    ولذلك كم من شباب ذاقوا حياة التعب والنصب الذي لا يعلمه إلا الله، حتى وصل بأحدهم أنه فتن في صلاته وعبادته نسأل الله السلامة.

    أما الحل والعلاج والدواء ففي أمور:

    أولها: دعوة صادقة تهدها في دياجير الظلمات في الأسحار إلى المليك القهار مقلب القلوب والأبصار, تسأله أن يصرف قلبك إليه جل جلاله, وقل: يا رب أذنبت, يا رب هاأنا بين يديك أسألك أن تخلص قلبي لك وحدك لا شريك لك، هذا أول أمر.

    الأمر الثاني: أن تأخذ بأسباب حب الله جل وعلا, لماذا تحب؟ ولماذا تتعلق بمخلوق ضعيف لا يغني عنك من الله جل وعلا شيئاً؟ عذاب ونصب يؤذيك ولا يرضيك, يضرك ولا ينفعك بإذن الله جل جلاله, فما الذي تريد منه؟ هل إذا مرضت يشفيك؟ هل إذا ضللت يهديك؟ هل يطعمك ويسقيك؟ لا يغني عنك من الله ولا من باريك شيئاً, فاتق الله.

    ينبغي للإنسان أن يحس أنه لا ينفعه ذلك شيئاً عند الله جل وعلا, فخذ بالأسباب التي من أعظمها الدعوة الصادقة أن يخلص الله قلبك له وحده لا شريك له.

    السبب الثاني الذي يعين على انصراف القلب عن التعلق -وهذا من أقوى الأسباب-: ألا يقع التعلق إلا بسبب خلل في الصلوات الخمس, خذوها قاعدة لن يقع شاب ولا شابة ولا رجل ولا امرأة ولا صغير ولا كبير في معصية إلا بسبب التفريط في الصلوات الخمس, فإذا أردت أن يعصمك الله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن فأعط هذه الصلوات الخمس حقها وقدرها, دليل ذلك قول الله تعالى: وَاسْتَعِينُوا [البقرة:45] -يا عبادي يا من آمنوا بي، استعينوا بماذا؟ استعينوا بالصبر إذا ابتلاك تصبر بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45], وقال تعالى في الآية الثانية: أَقِمِ الصَّلاة [الإسراء:78] أقمها خالصة صادقة، إِنَّ الصَّلاةَ [العنكبوت:45] ما قال: والصلاة، إنّ: حرف توكيد يثبت الأمر ويحتمه, إِنَّ الصَّلاةَ [العنكبوت:45] أي: إذا أعطيتها حقها وقدرها، تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] بمجرد ما تعطي الصلاة حقها في الوضوء والطهارة, بدل أن تأتي في الركعة الأخيرة تأتي مع تكبيرة الإحرام أو تأتي عند الأذان, بل تأتي قبل الأذان فلا يؤذن إلا وأنت في المسجد, فتخرج يوم تخرج من المسجد وأنت آخر من يخرج, فتنادي بتلك الدعوة وتصعد إلى السماء: حفظك الله كما حفظتني, دعوة من عبادة تفتح لها أبواب السماء تذهب هدر, ولذلك جرب والله ما من صلاة تتم طهارتها وركوعها وسجودها إلا حفظك الله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن كالصلوات الخمس.

    ثم إذا أردت أكمل من ذلك فأكثر من النوافل, فإن وجدت قلبك يحب زيداً وعمراً لجمال أو لمال أو لحسب أو لنسب فقم واركع بين يدي الله جل وعلا, واصرف هذه اللحظات لله جل وعلا, واجعل في آخر الصلاة لك دعوة, فإن من مظان الإجابة أدبار الصلوات, فاجتهد في الصلاة فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر, فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يخلص قلوبنا بالحب له جل جلاله, وألا يبتلينا بحب أحد سواه.

    ثم هناك أسباب دنيوية، فانظر إلى هذا الشخص الذي تعلق قلبك به, يحب غيرك ويتعلق بغيرك, فلماذا تعلق القلب به؟ ثم انظر إليه في أشنع الصور, انظر إليه في أحقر الصور, انظر إليه نائماً ذليلاً، إذا نام سال لعابه على وجهه لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً, مخلوق ضعيف تافه حقير لا يغني عن نفسه من الله شيئاً, تصرف شُعب قلبك الذي هو نجاتك وهلاكك إلى هذا العبد المسكين, فلذلك ينبغي للإنسان أن يجتهد في هذه الأمور.

    ومن الأسباب التي تدفع التعلق كثرة غشيان حلق الذكر, والتأثر بالمواعظ, وعرض القلوب على الآخرة من مشاهدها ومن زيارة القبور وتفقد مجالس الصالحين, والفرار من الجلوس مع المرد, إياك أن تجلس مع الأمرد إذا وجدت فتنته في قلبك, إياك أن تختلي به, إياك أن تحرص على مجالسه, إياك أن تحرص على زيارته, ولكن تفر منه فراراً من الله إلى الله, فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، والله تعالى أعلم.

    حكم الكلام في أعراض المسلمين

    السؤال: لي صديق قديم وأخ كريم دخل على قلبه داخل شك في أهل قبلته ومشاعل دعوته, فكرهني لحبهم, أقترب إليه وهو يهرب مني, أذكره بالخير ويذكرني بالشر, ألقاه مبتسماً ويلقاني عابساً مقطباً جبينه, ولقد قررت أن أزوره وأخشى أن يسمعني ما أكره أو يغتاب عالماً أو داعية نكاية بي, فكيف أتأدب في زيارته وأبين له ظلامته، شكر الله لكم وحفظكم؟

    الجواب: هذه المسألة ينبغي للمسلم أن يلتزم فيها بما أمر الله بالتزامه, إذا اختلفت أنت وأخوك في أمر فاعرضه على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم, وخذ ما ينتقده على من شاء, فاعرض كلامه على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم, فإن وجدت حقاً قبلته, فالحق أحق أن يتبع, وإن وجدت باطلاً نصحته ووجهته، فإن كان من الذين لا يستمعون النصيحة ويحرصون على الأذية والفضيحة، فإنا لله وإنا إليه راجعون وإلى الله المشتكى, وهو حسبنا وكفى.

    فينبغي للإنسان أن يعرض الخلاف بينه وبين أخيه على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم, لا يمنعك إذا خطأك أخوك أن تصغي بإذنك إلى خطئه فلعل الصواب معه, وكذلك أيضاً لا يمنعك إذا رأيته على خطأ وخلل أن تسدي إليه النصيحة.

    أما ما ذكرته من كونه يصر ويعاند، فالأصل المقرر عند العلماء أن الإنسان إذا كان ممارياً كثير المراء والجدل لا تنفع معه النصيحة, فإن الأولى تركه وعدم الاشتغال به, يا هذا إن العلماء لا يضرهم كلام من تكلم فيهم, يا هذا إنه قد تُكلم فيمن هو خير وأحب إلى الله منا، هذا رسول الله موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام أوذي، ولذلك لما كانت وقعة حنين قال بعض الصحابة: أيعطيهم وسيوفنا تقطر من دمائهم, وقال بعضهم: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله, تقال في النبي صلى الله عليه وسلم, فلما بلغت مقالته النبي صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم: (رحم الله موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر) هذا النبي موسى عليه الصلاة والسلام يقول الله فيه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى [الأحزاب:69] -ثم ماذا بعد هذا- فَبَرَّأَهُ اللَّهُ [الأحزاب:69] الله هو الذي يتولى أمر الصلحاء والعلماء والدعاة والأخيار، هو الذي يبرؤهم, وكم من خيِّر شاع وذاع بطعن الإنسان, خيِّر شاع خيره وذاع خبره بسبب كلام الناس فيه, انظر إلى أبي هريرة حافظ من حفاظ الصحابة يقول فيه الإمام ابن حجر : حافظ الصحابة ووعاء من أوعية العلم, جاء في آخر السنة السادسة من الهجرة إلى المدينة فقالوا له: إن النبي صلى الله عليه وسلم بـخيبر , انظروا إلى حرص هذا الصحابي وفضله على الأمة, ما استطاع أن يجلس ولكن سافر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بـخيبر ، لم ينتظره أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ولكن سافر ثم لازم النبي صلى الله عليه وسلم ملازمة حتى كان رضي الله عنه كما يصف: [لقد كنت أصرع من الجوع بين منبر النبي صلى الله عليه وسلم وبيته, فيأتي الرجل ويضع قدمه على عنقي يظن أن بي الجنون, وما بي الجنون ولكن بي الجوع] يقول: كنت أصحبه على ملئ بطني, يجوع من أجل ألا يفوته مجلس من مجالس النبي صلى الله عليه وسلم, اللهم ارض عنه, اللهم أرضه وارض عنه واجزه عنا خير الجزاء, خلال سنوات يسيرة حفظ الآلاف من الأحاديث, تعرفون هذا الحفظ وهذا العناء والتعب ماذا كانت عاقبته؟ عندما أصبح يحدث بالأحاديث قال بعض الناس: أبو هريرة يكذب على رسول الله, صحابي جليل يقول النبي صلى الله عليه وسلم عنه: (اللهم حببه إلى عبادك المؤمنين) يقولون: يكذب على رسول الله, إذا كان أبو هريرة يقال فيه: إنه يكذب, فأين نحن؟ يقول رضي الله عنه ذات يوم في مجلس: [يا أهل الكوفة -ويقبض لحيته- أنا أكذب على رسول صلى الله عليه وسلم؟ ثم يقول: الله الموعد] فالموعد بين العلماء وبين من يتكلم بهم في سائر الأزمنة والأمكنة الله، والله الحكم العدل الذي بين يديه تجتمع الخصوم وعندها ينصف الظالم للمظلوم.

    فلذلك إياك أن تدخل في خلاف العلماء, ولذلك قالوا: العالم مع العالم إذا اختلف كطرفي المقص من دخل بينهم قضم, لا تدخل بين العلماء, ولذلك يا ليت العلماء يختلفون ويرد بعضهم على بعض, الخلاف موجود من قديم, ولكن البلاء ثم البلاء لهؤلاء المتطفلون الذين يورثون الأحقاد بين العلماء, وينقلون الكلام بينهم, وإلا فإن علماءنا أخيارنا وقدوتنا وعلى رءوسنا وأعيننا, ولكن البلاء في نقل الأحاديث من المغرضين، نسأل الله أن يتوب علينا وعليهم وأن يكف بأسهم عن المسلمين.

    فالمقصود -أخي في الله- أن الكلام في العلماء قديم ليس وليد اليوم, شيخ الإسلام ابن تيمية إمام من أئمة العلم وديوان من دواوين العلم والعمل والدعوة والجهاد والصدع بالحق ونفع المسلمين، وكم نشر الله به من السنن, وأحيا به من الشرائع, ومع ذلك رحمة الله عليه آذاه أعداؤه, فقالوا: يبغض النبي صلى الله عليه وسلم وحاشاه, ويبغض الصالحين وحاشاه, فجعل الله كلام أعدائه سبباً في رفعة ذكره إلى يوم القيامة, فاعلم -أخي في الله- أن للعلماء رباً تولى أمورهم, وأن للدعاة والهداة خالقاً لا يضيعهم, وأنها إذا خرجت الكلمات منهم فالله ظهيرهم وهو حسبهم ونعم الوكيل.

    فلذلك الذي أوصي الإنسان أن يتقي الله في نفسه, لا تسمع لمزاً في العلماء, لا ينظر الله إليك وقد أصغيت بإذنك لإنسان يقع في العلماء, ولذلك إذا أعرضت عن العالم ضررت بنفسك ولم تضر العالم شيئاً, كما قال بعض السلف: يا بني لا تعرض عن العالم, فإنك إن أعرضت عنه أضررت نفسك ولم تضر العالم شيئاً, ولن تضر إلا نفسك, وقال الجد رحمه الله:

    فمن صد عنا بحسبه اللوم والقلى ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته

    يجلس الناس يتكلمون في العلماء وهم أوعية علم فتجلس والله فلان فيه، وفلان فيه وفيه، وتحرم طلب العلم والانتفاع والرواية وأخذ الخير عنه حتى يأتي اليوم الذي ينتقل فيه إلى رحمة الله فتعض على أصابع الندم, وتقول: آه.. لقد غشني فلان وفلان, وتحمل على ظهرك الأثقال والأوزار بغيبة ولمز العلماء, فلنتق الله عز وجل، ونسأل الله العظيم أن يسلمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن, ونسأل الله العظيم أن يصلح أحوال المسلمين وأن يجمع بين قلوبهم, وأن يؤلف بينهم على طاعته ومرضاته والله تعالى أعلم.

    الدال على الخير كفاعله

    السؤال: أشهدك بالله يا شيخنا الفاضل، أني أحبك في الله وأستمع لمحاضراتك عن طريق الأشرطة, وسؤالي هو: أني أرغب في أن أسمع منك محاضرة عن اليتيم، لما يعايشه في مجتمعنا -في بعض المجتمعات- من معاملة بعض زوجات الأب, والذين هم تحت رعايتهم, وما يعايشه من معاملة قاسية من زوجة الأب؟

    الجواب: أحبك الله الذي أحببتني من أجله, وأرجو الله أن يوفقني لما سألته وطلبته ولك أجره بالدلالة عليه, والله تعالى أعلم.

    حكم قطيعة الرحم وأسبابها

    السؤال: ما هي الوسيلة المناسبة لدعوة قاطع الرحم, حيث أنه يوجد هناك من هم على نسب، لكنهم متقاطعين لا يتزاورون في الله, بل بلغ الأمر بهم أنهم لا يتحدثون مع بعضهم البعض, وحتى السلام لا يلقيه بعضهم على بعض ولا حول ولا وقوة إلا بالله, وما هو الطريق الصحيح لإصلاح القلوب من الحسد والبغضاء؟

    الجواب: من أعظم وأنجع وأنجح الأدوية أن تذكرهم بالدار الآخرة، فلا يهذب سلوك المؤمن ويقوم طريقه شيء -بعد توفيق الله- مثل ذكر الآخرة, من ظن وأيقن أن أمامه دار اللحود والبلاء, وأن بين يديه الموقف بين يدي الله جل وعلا, فإنه يدعوه ذلك أن يراقب الله في كل صغيرة وكبيرة.

    قطيعة الرحم من أعظم الكبائر , وأعظم الذنوب وأجلها معصية لله علام الغيوب, ولذلك ثبت في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان إذا جلس في المجلس يقول: [أحرج بالله على قاطع رحمٍ, ألا يجلس معنا, وأن يقوم من مجلسنا هذا] فيقول: إني سمعت خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تنـزل الرحمة على قوم فيهم قاطع رحم) إذا كان هذا فيمن جاور قاطع الرحم فكيف بقاطع الرحم -والعياذ بالله- ولذلك قال الله عز وجل فيمن قطع رحمه: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23].

    يقال: إن الإنسان إذا قطع رحمه يصيبه الصمم وعمى البصيرة, بمعنى أنه لا ينتفع بموعظة يسمعها بأذنه -والعياذ بالله- ولا يعتبر بآية يراها بعينه, فيختم عليه تماماً والعياذ بالله, فهذه من ثمرات قطيعة الرحم.

    ومن ثمراتها: أنك تنال إثم من قطعت وذلك إذا كان قريباً ولم تصله, فإن الله يحاسبك عن قطعه, لمَ قطعته؟

    كذلك أيضاً من ثمرات قطع الرحم: أنك إذا قطعت الرحم فورثه الابن أو الابنة حملت وزره والعياذ بالله: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [العنكبوت:13] فاتق الله في الرحم، خذ ابنك وعوده زيارة الأقارب, وإذا كان رحمك لا يسلم عليك ويغضب عليك؛ فصله فكأنما تسفه المل كما قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إن لي رحماً أصلهم ويقطعونني, وأحسن إليهم ويسيئون إلي, قال: إن كان كما قلت، فكأنما تسفهم المل), فاعلم أنك الرابح وأنهم الخاسرون, وأنك الناجي وهم الهالكون.

    أما الطريقة التي تعظ بها من قطع رحمه، أن تنظر إلى الأسباب التي من أجلها قطع الرحم, فإن كانت الدنيا فاقطعها من قلبه, وعلق قلبه بالله جل جلاله, وذكره بالأخوة وبالقرابة, قل له: أخوك وابن عمك وابن أختك وابن خالتك أوصاك الله جل وعلا به وهو من البر, تقطعهم من أجل شبر من الأرض يفرق بين الأخ وأخيه, ويفرق بين ابن العم وابن الخال وابن الأخ وابن الأخت، كل ذلك على شبر من الأرض, أصبحت القلوب مليئة بهذا كله, كان الرجل يتنازل عن بيته لأخيه المسلم فضلاً عن قريبه, يراه بحاجة إلى بيت فيتنازل عن ذلك البيت, فإنا لله وإنا إليه راجعون من ضعف الإيمان في قلوب الناس, ما بُلي الناس بهذه المصائب والجرائم إلا بسبب ضعف الإيمان في قلوبهم, فانظر إلى السبب الذي من أجله قطعت الأرحام, وذكرهم بالجنان والنيران, والموقف بين يدي الواحد الديان, وأعلمهم أنها حقوق لا يرضى عنها الرحمن, إلا إذا أديت على الوجه الذي يرضيه سبحانه الديان.

    فكن -أخي في الله- على بصيرة في تذكيرهم بالله جل وعلا, فكم من نصائح تبذل لقطعة الرحم لا تفيد شيئاً, ثم خذ بالأسباب من اختيار الوقت الذي تؤثر فيه النصيحة والأسلوب المؤثر, نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل, وأن يوفقنا في القول والعمل, والله تعالى أعلم.

    حكم من يريد الحج وعليه دين

    السؤال: عليّ ديون لإخوة لي في الله، ولست مطالباً بتسديدها في وقت معين, بل إن بعضهم أعطاها دون أن يفكر في أن ترجع إليه, وأنا أريد الحج فما الحكم وجزاكم الله خيراً؟

    الجواب: من كان عليه دين فلا يجوز له أن يحج إلا بعد أن يستأذن صاحب الدين, ولكن إذا كان الدين أقساطاً على الشهور وأدى الإنسان قسط آخر شهر كذي القعدة فإنه يجوز له أن يحج, ولذلك لا يجب الحج على المديون, لأنه لم يستطع إلى البيت سبيلاً, وإنما يجب على من يجد فضلاً عن قوته من زاد وراحله, فالمقصود أنك لا تحج إلا بعد استئذانهم.

    وأما ما ذكرته من أن بعضهم لا يفكر في رجوعه فإياك أن تتساهل في الدين, إذا أخذت أموال الناس فلا يغرك اليوم أنه لم يبالِ بك ولكن خذها وفي عقيدتك أن تردها, قال صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه, ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) فإياك أن تأخذ الدين وأنت تفكر ألا ترده, ولذلك نفس المؤمن مرهونة بدينه, حتى إن الشهيد يستشهد في سبيل الله فيحبس ويرهن -قيل: عن النعيم في قبره- حتى يؤدى الدين عنه, ولذلك لما تحمل أبو قتادة الدينارين, قال: (يا رسول الله، هما عليّ قال: فما زال يلقاني النبي صلى الله عليه وسلم في سكك المدينة ويقول: أديت عنه؟ فأقول: لا بعد, حتى لقيني يوماً فقال: أديت عنه؟ قلت: نعم, قال: الآن بردت جلدته) أموال الناس عظيمة, ولذلك جعل الله حرمة المال كحرمة الدم, فإياك أن تتساهل في الدين, وأن يكون همك قبل أن تنام أن تفكر دائماً في سداد الدين, ولذلك استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال) فاستعن بالله عز وجل في أداء حقوق الناس, ونسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياكم الخلاص من حقوق العباد والله أعلم.

    حكم الاقتداء بالحي

    السؤال: هل يجوز أن يقتدى بالحي؟

    الجواب: أما الحي فإن كان على صلاح واستقامة فهو قدوة, لأن الله عز وجل أمرنا أن نقتدي بمن أحب, وقال عن عباد الله: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74] قال بعض العلماء: بمعنى أكثر الخير منا حتى يرانا الناس فيقتدون, ما حيت الأمة إلا بالأحياء, من الذي يبث الخير غير العلماء والدعاة الذين إذا نظرت إليهم ذكرك بالله منظرهم, وإذا استمعت إليهم ذكرك بالله مخبرهم, الحي قدوة إذا كان صالحاً في قوله وعمله, ولا حرج على الإنسان أن يقتدي بحي ولكن لا ينبغي الغلو في الصالحين, ولا ينبغي التنطع واعتقاد صلاح إنسان بعينه, بمعنى أنك تزكيه في جوهره, بعض الناس يطعن أخاه ويقطع رقبته, فيقول: فلان من الصالحين, يا فلان أنت من الصالحين فادع لنا, لا يجوز للإنسان أن يزكي على الله جوهر الإنسان، فيقول: فلان من الصالحين، ولكن يقول: أحسبه ولا أزكي على الله أحداً, أرجو أن يكون صالحاً, أرجو أن يكون فيه خير, أرجو أن يكون رجل خيراً, ونحو ذلك من الكلمات التي لا يتحمل مسئوليتها أمام الله عز وجل.

    ولذلك إياك أن تزكي أحداً على الله، قال تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32] ولذلك لا يجوز التبرك بآثار الصالحين, ولا شرب فضلتهم على اعتقاد صلاحهم, ولا التمسح بثيابهم ولا أماكن صلاتهم, ولا عبادتهم لأن ذلك يفضي إلى الشرك -والعياذ بالله- والكفر والخروج من الملة, ومن اعتقد فيهم الاعتقاد الذي يصل إلى الغلو فإنه يكون مشركاً قد حرمت عليه الجنة خالداً في النار مخلداً فيها والعياذ بالله.

    فإياك والغلو في الصالحين, تأخذ القدوة ولكن لا تبالغ فيه, فإن الأمور بالخواتيم, كان عمران بن حطان آية في علم الحديث وفي الصلاح, تزوج ابنة عمه وكانت خارجية، فقال: أنصحها حتى تتوب، فأصبح خارجياً والعياذ بالله, ونسأل الله السلامة والعافية، ونسأل الله العظيم بعزته وجلاله إذا رزقنا الصلاح أن يثبتنا عليه, وأن يزيدنا منه إلى لقائه، إنه ولي ذلك والقادر عليه, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

    1.   

    كلمة أخيرة

    هذه رسالة من هيئة الإغاثة الإسلامية بـالطائف أحب منكم أن تستمعوها, يقول: فضيلة الشيخ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, يشاء الله أن يعيش المسلمون اليوم مرحلة حرجة جداً لعلها بإذن الله تمثل آخر الليل الذي خيم على الأمة الإسلامية، والذي سيعقبها بإذنه تعالى فجر جديد من العمل والأمل, ولعله لم يعد خافياً على أحد تلك المآسي الرهيبة، وصنوف الهوان التي تلحق بالمسلمين في أماكن كثيرة من العالم، كـالبوسنة والهرسك وليبيريا وكشمير والهند والصومال وموزمبيق وبورما وكردستان وفلسطين وأماكن كثيرة, حتى أصبح اللاجئون تزيد نسبتهم عن (90%) في العالم, وأمست الأقليات المسلمة تعاني من هدر لحقوقها في حين تواصل المنظمات الأجنبية عمليات تهجير للأطفال والأيتام.

    خلاصة الأمر: أعينوا إخوانكم أعانكم الله، وابذلوا فإنه لا يضيع البذل عند الله.

    وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755950311