إسلام ويب

رسالة إلى الدعاةللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الدعوة إلى الله من أشرف المقامات وأعلى المنازل، حيث إن الداعي إلى الله هو أحب العباد إليه، وقوله هو أطيب القول لديه، والدعوة مرتبطة بالعلم ارتباطاً وثيقاً، بل يعتبر العلم أول لبنة تبنى عليها الدعوة، فإنْ توفَّر العلم وجب التزام العمل، وفي هذا الطريق الطويل يجب على الداعية التزام أمور وخصال تعينه على الاستمرار والثبات، وهذه الخصال مذكور كثير منها في هذه المحاضرة.

    1.   

    شرف الدعوة إلى الله وعلو منزلتها

    الحمد لله الذي اصطفى العلماء العاملين والأئمة المهتدين فجعلهم حملة لهذا الدين، وشعلة نور يستهدي بها من أراد رضا رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى الأمين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته والتابعين، ومن سار على نهجهم المبارك إلى يوم الدين، أما بعد:

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    وأسأل الله العظيم أن يبارك لنا في هذا المجلس المبارك، وأن يجزي إخواننا الذين تسببوا فيه كل خير بما صنعوا.

    إخواني في الله: أشرف المقامات وأعلى المنازل في هذه الحياة ذلك المقام لذلك الداعية، وذلك العالِم العامل الرباني، الذي اصطفاه الله عز وجل لدينه فصقل قلبه وصقلت قلبه روحانية الكتاب والسنة، ففقه عن الله دينه وعلم عن الله شرعه، فسار على هدى من الله، ونور من الله يهدي عباد الله إلى الله، ذلك العالِم الذي نور الله بصيرته ونور بهدايته الخلق، الذي ما إن تكلم حتى تفجرت ينابيع الحكمة من لسانه، وإذا أبان تفجرت ينابيع الحكمة من بيانه، عالِم وداعية نور الله قلبه، وهادية نور الله بصيرته.

    إنها النعمة التي اختص الله عز وجل لها رجالاً واصطفى لها رجالاً هم صفوته من خلقه، فصفوة العباد من عباد الله هم المطيعون لله، وصفوة أولئك المطيعين هم العلماء الربانيون الذين تعلموا وعملوا وعلّموا، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى فضلهم فقال عليه الصلاة والسلام: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) فمن تعلم كتاب الله وعلم بما فيه من آيات الله وانشرح صدره لهداية العباد به إلى الله فهو خير العباد عند الله.

    وإذا أردت أن تعرف مقام الإنسان عند الله عز وجل فانظر إلى علمه وعمله واجتهاده في الدعوة إلى الله، إذا علم هذا الأصل وهو أن أحب العباد إلى الله هم ورثة أنبياء الله، العلماء العاملون والهداة الربانيون الذين علموا فكانوا قدوة في العلم جداً واجتهاداً ومثابرةً وتحصيلاً وأخذاً للعلم عن أهله، وحفاظاً على الوقت، وحفاظاً على الزمان، وحرصاً على الفائدة، وفرحاً بها وتأدباً بأخلاق أهلها الذين يريدون وجه الله والدار الآخرة، ثم اجتهدوا بعد ذلك في العمل بالعلم فما إن تعلموا سنة حتى طبقوها والتزموها وكانوا أسبق الناس إلى العمل بها والتزامها، فأصبحت أقوالهم وأفعالهم تسير مع العلم الذي علموه، وتسير مع الفهم الذي أوتوه، وقد أشار الله تعالى إلى أنه لا فلاح للعالِم إلا بالعمل فقال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً [الجمعة:5] فمن أبأس ما يكون أن يكون العالِم بعيداً بعلمه -والعياذ بالله-.

    1.   

    مراتب الناس في العلم والدعوة

    إذا علم فضل العلم، وأن الله اصطفى أهله واجتبى أهله، فينبغي أن يعلم أن الناس في هذه النعمة على مراتب: فمنهم مستكثر ومنهم مستقل، ومنهم ذلك العالِم الذي نزل إلى أعماق العلم وأخذ من المعين الصافي فلم يشبع من ري، وارتوى حتى نضحت أضلاعه مما روى محبة لله وطلباً لرحمة الله، ومنهم من هو أقل ودون ذلك وصدق الله إذ أشار إلى ذلك بقوله: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76].

    لذلك -أحبتي في الله- إذا أراد الإنسان الخير وأراد السعادة والفلاح فليجند نفسه لكي يكون من العلماء والهداة والدعاة إلى الله، فالعلم إذا كان نعمة من الله فينبغي للإنسان أن يستكثر من هذه النعمة، وأن لا يستقل عطية الله فيها، وكل واحد منا إذا تعلم أي سنة وعلم أي حكم من الشرع فليعلم أنه طالب علم، وأن طلب العلم لا يقتصر على الجلوس في حلق العلماء فقط بمعنى: أن يكون الإنسان مداوماً مداومةً كاملة بل كل عالِم بقدر ما علم، وقد كان أصحاب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، ورضي الله عنهم أجمعين يجلسون مع النبي صلى الله عليه وسلم المجلس الواحد، ثم ينطلقون دعاة وهداة إلى الله، فلذلك كل واحد علم أي حكم أو أي سنة فليعلم أن الله شرفه بطلب العلم.

    1.   

    طلب العلم والدعوة ليس مقصوراً على طائفة معينة

    الإنسان إذا أراد أن يسلك هذا السبيل يأتيه الشيطان من كل فج ومن كل صوب، يأتيك ويقول لك مثبطاً ومخذلاً: من أنت حتى تكون عالماً؟ ومن أنت حتى تكون طالب علم؟ ومن أنت ومن أنت؟ فما أبوك بعالِم ولا أنت من بيت علم .. إلى آخر ما يقوله عدو الله، فينبغي للمؤمن أن تكون همته عالية وأن تكون نفسه أبية تنافس في طاعة الله، وتسابق في مرضاة الله فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

    إن العلم ليس حجراً على أحد، وطلب العلم ليس حكراً على قوم معينين، ولا على طائفة معينة، ولا على قبيلة بعينها، ولا على جنس معين، طلب العلم إنما هو منحة من الله لعباد الله، قال تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة:269].

    هو المعلم وهو المفهم وهو الهادي إلى سواء السبيل، فإياك أن يثبطك الشيطان عن طلب العلم، وإذا وفق الله لك في البلدة أو المدينة التي أنت بها ووجدت فيها رجلاً من أهل العلم فاحتسب عند الله بخطواتك إليه، واحتسب عند الله جلوسك في مجلسه، واحتسب عند الله بإنصاتك لحديثه وعملك بما يقول، قال تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122].

    فينبغي لنا إذا كنا في أي مكان وتيسر وجود العالِم ألا نقصر في غشيان حلق العلم، الله الله أن توجد تلك الحلقة ويسبقك غيرك إليها فتكون أدنى منزلةً عند الله؛ لأنك إذا كنت بين قوم يطلبون العلم وأنت متقاعس عن طلب العلم فهذا زهد في الخير ونقصان في الأجر -والعياذ بالله-، ولذلك قال بعض السلف يوصي ابنه: إياك أن تعرض عن العالِم، فإنك إن أعرضت كان الضرر عليك ولم تضر العالِم شيئاً. فالعالِم لا يضره إعراض المعرضين وإنما يستضر من أعرض عن العالِم، قال الجد رحمة الله عليه:

    ومن صد عنا بحسبه اللوم والقلى ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته

    فالمقصود: أنه ينبغي لك أن تشمر عن ساعد الجد في طلب العلم.

    1.   

    أهمية العمل بالعلم وتطبيقه والدعوة إليه

    لا تتعلم أي سنة أو أي علم إلا طبقته ولو مرة واحدة، سمعت عن آية فيها ذكر لله طبقها ولو مرة، سمعت عن حديث فيه ذكر عند القيام .. عند القعود .. عند النوم .. عند المساء .. عند الصباح طبقه ولو يوماً واحداً، التزم بالسنة، فإن الإنسان إذا عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم، فالعمل بركة العلم، ولذلك قال السلف:

    هتف العلم بالعمل فإن أجابه ولا ارتحل

    فينبغي لك أن تقدم على العمل هذه المرحلة الأولى.

    والمرحلة الثانية: العمل بالعلم.

    وينبغي للإنسان أن يستكثر من هذا العمل، فإن الإنسان قد يتعلم السنة الواحدة يبلغ بها درجةً عند الله عز وجل ومغفرة.

    1.   

    أهمية الدعوة إلى الله

    أما الأمر الثالث وهي المرحلة التي يدور عليها الحديث: قضية الدعوة إلى الله.

    فبعد أن تعلم وتعمل تنطلق مشعل نور ورحمة وهداية في مجتمعك، تنطلق هادياً إلى الله وداعياً إلى الله وسراجاً منيراً بين قومك وأهلك، حتى تتشرف فتكون وارثاً للنبي صلى الله عليه وسلم، حتى تتشرف ويثقل ميزانك بحسنات أقوام هديتهم إلى الله، حتى تتشرف فتقيم حجة الله على عباد الله، فأعلى مقام للعبد مقام الدعوة إلى الله، وقد أشار الله تعالى إلى هذا المقام الشريف والمنصب المنيف بقوله سبحانه وتعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ [فصلت:33] و(مَن) هنا بمعنى: لا، أي: ولا أحسن قولاً ممن دعا إلى الله.

    فما أطيبها من كلمات عند الله حينما تذكر بها عباد الله!

    وما أسعدها من لحظات حينما تجلس بين قوم تهدي قلوبهم إلى الله!

    فليحتسب كل واحد منا أن يقوم بهذا الواجب، وهذا الواجب لا يقتصر على قوم معينين، بل واجب الدعوة إلى الله أمانة في عنق كل واحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، الدعوة إلى الله واجب على كل أحد، حتى إن الإنسان العامي من المسلمين تجب عليه الدعوة بمقدار ما علم، فلو مر على إنسان يعبد غير الله لا يقول أنا عامي فإن الدعوة إلى توحيد الله ونبذ ما يعبد من دون الله واضحة لا تحتاج إلى كثرة علم، وهناك أمور خاصة كمعرفة الأحكام والشرائع فالدعوة إليها خاصة بأهل العلم، ولكن هناك دعوة عامة وهي الدعوة إلى أصل الدين، وتوحيد رب العالمين، وإقامة حجة الله على خلقه أجمعين، وهي التي وردت فيها الآيات العامة، ثم يليها الدعوة إلى ترك المحرمات والفواحش والمنكرات.

    فما حَيَّتْ الأمة إلا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا ماتت القلوب ولا هانت الأمة إلا حينما أضاعت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولن تجد الأمة في زمان سما مكانها وعز بين العباد شأنها إلا وجدتها أحرص ما تكون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو نظرت إلى زمان من عصور الإسلام الزاهرة وأزمنته الغابرة التي كانت فيها في عز ومجد ورفعة، لو قرأت التراجم وجدت تلك الأمة التي كانت تعتصر قلوبها غيرة على الدين، وجدت الصغير يغار على الدين قبل الكبير، ووجدت القلوب تتمعر لله، ووجدت الألسن تهدي إلى الله وتدعو إلى الله، فلما كانت الأمة بهذا الحال صلحت أحوالها وعظم عند الله مكانها وعز بين الخلق شأنها.

    فالمقصود أن الإنسان ينبغي له أن يقوم بهذا الواجب، فلو مر إنسان على إنسان يعصي الله عز وجل في كبيرة من الكبائر أو صغيرة من الصغائر لا يقول: أنا لست بعالِم، بل هذه الكبيرة أو هذه الصغيرة يستوي في النهي عنها الصغير والكبير، ليس الأمر بعسير على إنسان تراه يشرب حراماً أن تقول له: اتق الله يا هذا، اتق الله فيما تشرب، أو ترى إنساناً يأكل حراماً تقول له: اتق الله فيما تأكل، أو ترى إنساناً ينتهك حرمةً لله ليس بالصعب أن تذكره بالله، فلربما كلمة تكلمت بها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم تلق لها بالاً كتب الله لك بها رضواناً لا سخط بعده، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يلقي لها بالاً يكتب الله له بها رضاه إلى يوم يلقاه)، تمر عليه وتقول له: اتق الله! بقلب يتمزق غيرةً على دين الله، يكتب الله لك بها رضاً لا سخط بعده.

    فالله الله في هذا الواجب العظيم، الله الله في رسالة أفضل الأنبياء والمرسلين، إذا تخاذلنا عن هذا الدين، من الذي يقوم به؟! وإذا تقاعسنا ولم تكن عندنا غيرة على هذا الدين، من الذي يغار على سنة سيد المرسلين وإمام المتقين صلوات الله وسلامه عليه؟! والخوف كل الخوف أننا إذا تقاعسنا، سيبدل الله عز وجل من هو خير منا، سيبدل الأمة بمن هو أفضل منا، والله إذا تقاعس طلاب العلم أورث الله الأمة طلاب علم صادقين خيراً ممن تقاعس، وإذا تقاعس العلماء أبدل الله علماء ربانيين خيراً ممن تقاعس وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [محمد:38]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54] فالله الله أن يستبدل الله بنا قوماً ولا نضره شيئاً، فينبغي للإنسان أن يحيي هذا الواجب في قلبه وأن يحيي هذا الفرض في نفسه وأن ينطلق مشعل هداية.

    1.   

    كيف يؤهل الإنسان نفسه للدعوة؟

    أما النقطة الأخيرة من السؤال: فكيف يؤهل الإنسان نفسه للدعوة؟

    الأمور التي يجب أن تكون قبل الدعوة وأثناءها

    يؤهلها أولاً: بالعلم.

    هناك أمور يجب أن توجد قبل الدعوة، وهناك أمور ينبغي أن توجد أثناء الدعوة، وهناك أمور ينبغي أن توجد بعد الدعوة؛ أما الذي يسبق الدعوة فعلم عن الله وفقه عن الله وبصيرة في دين الله قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108] ليس عن عمى، ولا عن غي وهوى، ولكنه على سبيل الطاعة والهدى، أما الذي يكون مع العلم وأثناء العلم فتلك الآداب الطيبة والأسلوب اللين الذي يؤثر في القلوب فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طـه:44].

    فالإنسان يبتدئ بالأسلوب الطيب، ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (كان أول ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات فيها ذكر الجنة والنار، ولو نزل لا تسرقوا .. لا تشربوا الخمر .. ما آمن أحد).

    أولاً: تأليف القلوب بأسلوب الحكمة، وباللين، وبالموعظة الحسنة، فإذا جاء إنسان لإنسان عاصٍ أحس أنه أمام إنسان غريق، أحس أنه أمام إنسان يحتاج إلى من ينقذه، ولا ينظر إليه على أنه إنسان عدو بمعنى: أن يسيء له في الخطاب والأسلوب الذي يوجب نفرته، فلذلك ينبغي للإنسان أن يراعي الأسلوب الطيب في الدعوة، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام المتقين وقدوة الدعاة المهتدين كيف كانت أساليبه؟! كان يغزو القلوب بحسن خلقه قبل أن يغزو العقول بأفكاره ومبادئه صلوات الله وسلامه عليه، وكانت الكلمة إذا خرجت منه خرجت بعد أن تمهدت القلوب لسماعها، وبعد أن طابت القلوب لوعيها، فينبغي للإنسان أن يترسم سبيله، وأن يسير على طريقه، وأن يكون أسلوبه أثناء الدعوة أسلوباً طيباً، حكيماً جذاباً رقيقاً رفيقاً.

    الأمور التي تنبغي على الداعية بعد الدعوة

    أما ما ينبغي على الداعية بعد الدعوة فهناك أمور: منها أنه لا يخلو من حالتين: إما أن تستجاب دعوته، وإما أن ترد دعوته، فإن استجيب لدعوتك ووقعت في موقعها فالله الله في الإخلاص، الله الله أن يدخلك الغرور بالنفس، فكم من داعية هلك بسبب الغرور، وكم من ناصح هلك بسبب الغرور، وكم من عالِم أهلكه الله بغروره بعلمه، فلا تعتقد أن الناس تأثرت بأسلوبك وبلاغتك، ولكن للقلوب مفاتيح ربانية وهبات إلهية ومنح من الله عز وجل يتفضل بها على من يشاء، هو الهادي إلى سواء السبيل، وهو الذي يشرح الصدور بفضله وينورها بكرمه، وليس الفضل لأحد، بل الفضل كله لله وحده لا شريك له، وأصدق شاهد على ذلك نبي الله نوح، ونبي الله لوط، نبي قام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً ما استطاع أن يهدي زوجته وكانت من أهل النار، فدل هذا أننا لا نملك لأنفسنا فضلاً عن أن نملك لغيرنا شيئاً، فينبغي للداعية ألا يغتر بأسلوبه.

    الأمر الثاني: أنه ينبغي عليه إذا وجد القبول أن يحرص على سقي تلك البذرة الطيبة، فإذا وجد القلب استجاب له لان له أكثر وتوطأ له أكثر واقترب منه أكثر وأعطاهم من الود والمحبة أكثر مما كان عليه، هذا صنيع من يغار على الدين ويريد أن يهدي عباد الله إلى رب العالمين، تنزل نفسك للعباد إذا وجدت الاستجابة والقبول بنفس طيبة ونفس منشرحة ترجو بذلك رحمة الله، وتطمع في رضوان الله وعفو الله سبحانه وتعالى.

    أما الأمر الثاني أيضاً مما يترتب على الإنسان بعد الدعوة وهي الحالة الثانية: إذا نفر الناس من موعظتك وأعرضوا عن كلمتك وجفت لدعوتك فماذا تصنع؟!

    أولاً: عليك بالدعاء أن يشرح الله صدورهم وأن ينور قلوبهم، وأن يحسن الاستجابة منهم.

    ثانياً: إياك أن تقنط، فإن الشيطان حريص على إبعادك منهم.

    ثالثاً: ربما أن الله -لحكمة- لا يجعل أذناً تصغي لموعظتك؛ لعلمه أن ذلك أعظم في أجرك وأثقل في ميزانك وأرفع لدرجتك، يكون معك زميل في العمل أو يكون معك جار بجوار البيت تدعوه فلا يستجيب وتذكره فلا يجيب، وهكذا اليوم ثم الغد ثم بعد الغد وهكذا، وإذا بتلك الكلمات تمر عليك سنة كاملة وأنت تنصح وما تدري كم لك من الحسنات في تلك النصائح، ولربما أنه لو استجاب من أول مرة ما فزت بتلك الدرجات، فلله حكمة في إعراض الخلق عنك، فإن نوحاً عليه الصلاة والسلام مكث ألف سنة إلا خمسين عاماً وما قنط إلا في الأخير حينما قال: وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً [نوح:27] فقامت الدلائل على أن لاّ منفعة فيهم، فقنط منهم ويئس من دعوتهم، فالمقصود أن الإنسان لا ينبغي له أن يقنط أو ييئس من دعوته، وهناك أمور ينبغي عليه أن يراعيها إذا حصلت الإساءة من الغير: وهي مقابلة الإساءة بالإحسان، فإذا وجدت من الناس أذية في دعوتك وتهمة في كلمتك وسوء ظن بمنهجك فلا تلتفت إلى ذلك، وإنما علق الأمل بالله، ولا ترد السوء بالسوء فإن خُلُقَ أنبياء الله والدعوة إلى الله أن يردوا السوء ولا يردوا عليه بسوء قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ [الأعراف:66].. قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ [الأعراف:67] كان بإمكانه أن يقول لهم: أنتم السفهاء، ولكن انظر إلى أسلوب الأدب الإلهي الذي أدب به أنبياءه: قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ [الأعراف:67] فالمقصود أن يبتعد الإنسان عن الخنا وعن الكلمات التي لا خير فيها، وعن تنفير العباد بسوء أسلوبه، وفي الحقيقة أنني لا أحب أن أسترسل في هذا الموضوع وهو موضوع من الأهمية بمكان، ولكن نظراً لضيق الوقت أقتصر على هذا، وأرجو من الله تعالى أن يضع فيه البركة، فقليل مع البركة خير من كثير لا بركة فيه، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    1.   

    الأسئلة

    العلاقة بين قيام الليل ورضا الله

    السـؤال: فضيلة الشيخ أخبركم بأنني أحبكم في الله، وسؤالي: هو أنني كلما حاولت قيام الليل لا أستطيع ذلك هل هذا يدل على عدم رضا الله عني وجزاكم الله خيراً؟

    الجـواب: أحبك الله الذي أحببتني فيه، أولاً أشهد الله على حبكم جميعاً فيه، وأسأل الله أن يجمعنا وإياكم في مستقر رحمته.

    إن الإنسان إذا لم يوفقه الله لقيام الليل فإن ذلك لا يدل على عدم رضا الله عز وجل عنه، وإنما هو نقص إذا كان على استقامة في بقية أموره، فإن هذا يدل على نقص الرضا وليس على نفي الرضا، وفرقٌ بين نقصان الرضا وفقد الرضا، فإن الناس في رضوان الله على مراتب -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم في أعلاها وأسناها- فإذا كان الإنسان محافظاً على الفرائض والنوافل والطاعات سباقاً إليها على أكمل ما يكون فهو أكمل الناس رضا، ومن نقص عن ذلك فهو أنقص، والله تعالى أعلم.

    كيفية التعزية الشرعية

    السـؤال: فضيلة الشيخ فصّل لنا في كيفية التعزية الشرعية، وعن حكم الاجتماع عند أهل الميت، وصفة الطعام منهم ولهم، وأكل الناس عندهم، ومدة التعزية مع ذكر الأدلة ما استطعتم؟

    الجـواب: أولاً: قضية التعزية يقصد منها تسلية المؤمن في مصابه وتعزيته في كربه وبلائه، والمقصود من التعزية طمأنة القلوب حتى لا تنفر، وكذلك تسليتها حتى يعظم لها الأجر عند الله عز وجل.

    الأمر الثاني: إذا علم هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان هديه في ذلك أكمل الهدي، فإنه قال للمرأة المصابة: (مرها فلتصبر ولتحتسب) وقال عليه الصلاة والسلام: (إن لله ما أعطى وله ما أخذ وكل شيء عنده بمقدار، فلتصبر ولتحتسب) فهذا يدل على أن المقصود من التعزية تثبيت القلوب وطمأنتها ودفع القلق عنها، ويذكره الإنسان بما له عند الله من الأجر حتى يكون لهم مثل أجره.

    الأمر الثاني: إذا علم أن هذا المقصود، فإن التوسع فيه والخروج عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم يعتبر خارجاً عن هذا الأصل، والذي ينبغي الاقتصار عليه، وأما مسألة الطعام للميت، فإنه ثبتت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يصنع لأهل الميت طعاماً، قال عليه الصلاة والسلام: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم) ويصنع لأهل الميت خاصة، ويكون ذلك على المعروف وذلك بالخروج عن الإسراف والبذخ، وكذلك دعوة الناس إلى هذه الوليمة، فإن الدعوة إليها مما لا أصل له، فيقتصر على أهل الميت.

    أما الأمر الثالث: ما يفعله الناس من دعوة الغير إلى هذه الولائم وتكثير الناس عند أهل الميت، فإن هذا خروج عن الهدي وخروج عن السنة، وكره العلماء ذلك ونصوا على بدعية الاجتماع عند أهل الميت خاصةً في هذا الزمان، الذي بلغ ببعضهم أنه يجلس عند أهل الميت أياماً ويحرص على الكلام في فضول الدنيا، تقول له: يا أخي اتق الله ما يصلح أن تتكلم وهؤلاء مصابون، يقول لك: حتى أروح عنهم، وهذا نوع من الخطأ بمكان. سبحان الله!! يعني: أن الإنسان ما يكفيه أنه خارج عن الهدي حتى يأتي بأمور يكون فيها إساءة لأهل الميت؛ لأن الكلام في فضول الدنيا دليل على الغفلة، تروح عنهم بماذا؟ موت الميت هذه نعمة من الله قد تهديهم إلى الله، قد تذكر الغافلين منهم بالله، فتأتي وتزيدهم غفلة على غفلة ولا حول ولا قوة إلا بالله! هذا من البلاء، الناس في العزاء وعند موت أقاربهم يتذكرون، وتكون فرصة للدعوة إلى الله، ويأتي هذا لكي يسهر الليلة الأولى والثانية والثالثة ليس عنده قصد إلا الإتيان بالمضحكات والمسليات، يقول: حتى أروح عنهم، إنا لله وإنا إليه راجعون! فهذا بلاء أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً [فاطر:8] نسأل الله عز وجل ألا يطمس لنا ولكم بصيرة.

    أما الأمر الثالث: فهناك منكر عظيم وهو أن أهل الميت يقومون بصنع الطعام، ويكون ذلك أشد حرمة ومنكراً إذا كان من أموال اليتامى والقاصرين، وهو داخل في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النساء:10] فهذا إذن وقع لا شك أنه منكر واعتداء على أموال اليتامى، فاليتامى أموالهم تحفظ قال تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً [النساء:2] فنهى عن أكل مال اليتيم قال: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الأنعام:152] .. ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ [الأنعام:152] فمن حفظ وصية الله يبتعد عن هذا المنكر العظيم.

    الأمر الأخير الذي ينبغي التنبيه عليه: أن الإنسان إذا جاء ليعزي أخاه يحاول دعوته وتذكيره بالله، إن كان بعيداً عن الله قربه إلى الله وقال له: انظر إلى فلان كان بالأمس أمامك حياً واليوم كأن لم يكن.

    بينما امرئٌ بين يديك حياً إذ صرت لا تبصر منه شيّا

    في لحظة واحدة كأن لم يكن، فتذكره بالله، وإن كان طائعاً منيباً خيراً وكان والميت على صلاح تسليه وتثبته.

    إنا نعزيك لا أنا على ثقة من البقاء ولكن سنة الدين

    ليس المعزى وإن طال عمراً بعد صاحبه ولا المعزي بباقي إلا إلى حين

    فذكره بالله وثبته على الصبر على هذه المصيبة، ولله در القائل:

    أبكيه ثم أقول معتذراً له وفقت حيث تركت ألأم دارِ

    جاورت أعدائي وجاور ربـه شتان بين جواره وجواري

    تسليه وتثبته، فهذا الذي ينبغي تعاطيه، والله تعالى أعلم.

    المقصود من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً)

    السـؤال: نريد المزيد عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً) لعله أن يكون السبب لأنه استشهد معه زيد بن حارثة واستشهد عبد الله بن رواحة وكذلك حمزة وكثير من الصحابة ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم (اصنعوا لآل جعفر طعاماً) لأن هذا الحديث احتج به كثير من الناس حتى الآن يأتوا بالذبائح ونحن نصنعه في المطابخ، فلعلك تعطينا المزيد جزاك الله خيرا؟

    الجـواب: هذا الحديث الناس فيه على طوائف بين إفراط وتفريط، قوم قالوا: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً) فأخذت الذبائح تنهال على أهل الميت، وأصبح بيت الميت أشبه ببيت فيه وليمة عرس، وهؤلاء القوم قد أفرطوا في ذلك وبالغوا وجاوزا هدي الشرع.

    والقسم الثاني فرطوا وقالوا: أبداً ما نصنع شيئاً، وتراهم يقصرون في حق أهل الميت، نعم وردت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً) وهذا قاله وخصه؛ لأنه كان من قرابته عليه الصلاة والسلام، فكانت سنة للأمة وليست خاصة بـجعفر ؛ لأنه لو أخذ بهذه القاعدة لعم الخبر على الكل، لو أخذ بهذه القاعدة لتركت كثير من السنن، ولقيل: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال ذلك في غير هذا، ألا ترى في تعزية ابنه إبراهيم حينما قال: (إن لله ما أعطى وله ما أخذ ...) ما قال هذا الكلمة حينما بلغه استشهاد كثير من الصحابة، فالمقصود أنه لا يقال بالتخصيص، فقوله عليه الصلاة والسلام عند ورود الحادثة المعينة لا يقتضي التخصيص، والذي نص عليه العلماء رحمهم الله تعميم هذه السنة؛ لأن العلة المذكورة في النص تقتضي التعميم؛ لأنه قال: (فقد جاءهم ما يشغلهم) وهذه العلة يستوي فيها آل جعفر وغيرهم.

    فنقول: إن السنة باقية ولكن في حدود الشرع وهذا أمر مجرب، تجد الإنسان تأتيه الفاجعة -مثلاً- قبل صلاة الظهر، يموت الميت عنده، وتراه في شغل وحزن وأهله في حزن حينما يأتي جاره بالطعام أو يأتي قريبه بالطعام يحس أن إخوانه معه وقرابته والأمة بأكملها، وهذه أمور لها مقاصد شرعية نبيلة يتعزى ببعض مصابه، لكن لو جاع يومه لربما بلغ ما به ما بلغ ولاجتمعت عليه مصيبتان: ظاهرة وباطنة، فالمقصود: أنه ليس المقصود الطعام بذاته ولكن المقصود تأليف القلوب والربط بين عباد الله وتآلف المجتمع، فالذي نص العلماء عليه بقاء هذه السنة، ولا يقال: بأن النبي صلى الله عليه وسلم خصها فالعلة عامة، ويبقى هذا على الأصل الذي قررناه، صحيح أن الناس توسعوا وأفرطوا وزادوا فهذا أمر منكر ليس له أصل في الشرع، والله تعالى أعلم.

    حكم صنع أهل الميت طعاماً للضيوف إكراماً لهم

    السـؤال: بعض الناس ربما يحرجون من ضيوفهم يأتي في البيت فيحتاج إلى أن نصنع له طعاماً، وهو لا يصنعه على أنه يعتقد فيه أنه للميت ولكن يصنعه من باب إكرام الضيف، أحياناً يكون البيت مملوءاً بالضيوف فماذا يفعلون؟

    الجـواب: إذا جاء الضيف للإنسان، هو في الأصل والحقيقة أنه ليس هناك حاجة أن يتكلف الناس بالسفر والانتقال والمبالغة، فهذا كله مما لا أصل له، لكن قد ينتقل الأخ والقريب الذي له صلة فيأتيك ضيفاً فتحب أن تكرمه، فلا حرج في ذلك، وهذا نص العلماء رحمة الله عليهم من المتأخرين على أنه لا حرج في إكرام الضيف بقدره أو بحقه، وأما بالنسبة للممنوع أن يتوسع في ذلك وأن يخرج به عن الهدي المعروف، والله تعالى أعلم.

    سائل: إذا كنا نعرف أنه لأضيافه فندعو المتواجدين ونقول لهم: تعالوا الليلة لعشاء أو غداء عندنا وهو لضيوفه.

    الشيخ: نعم هو هذا.

    حكم شراء السيارة بالتقسيط مع زيادة الثمن

    السـؤال: فضيلة الشيخ أريد أن أشتري سيارة من معرض بالأقساط، ولكن صاحب المعرض لا يبيع السيارة إلا بالدفع الفوري، ولكن قال لي: بإمكانك أن تشتري السيارة بالأقساط عن طريق شركة الراجحي، يقول هنا ملاحظة: معنى الشراء أن يبيع صاحب المعرض سيارة لشركة الراجحي ثم أشتريها من الراجحي بالأقساط بقيمة تزيد عن قيمة الدفع الفوري؟

    الجـواب: أنا عندي قاعدة في الحقيقة وهي أنه إذا سُميت شركة فلا أجيب؛ لأنه أحياناً قد يكون الإنسان فهم نظامها خطأ، فيأتي ويقول: لا يجوز، فيصبح الناس يقولون: لا يجوز التعامل مع شركة كذا. فإذا سأل شخص مرة ثانية فمن أدب السؤال أن يجعل السؤال عاماً، فيقول هناك شركة تقول: كذا وكذا، حتى يكون أدعى؛ لأنه أحياناً قد يفهم الإنسان المعاملة خطأ، وهذا حتى لا نظلم الناس، أو قد يأتي موظف عادي فيفهم منه الشخص خطأ ويأتي ويقول: ذهبت إلى شركة كذا فقالت كذا فهل يجوز، فيقول العالِم: هذا ربا، فيصبح الناس يقولون: شركة كذا تتعامل بالربا، فأنا في الحقيقة أرى أنه يحتاط فيه، وإذا سألت اسأل سؤالاً عاماً؛ لأن الهدف الفائدة فما هناك أي داعي لتسمية شركة كذا أو كذا؛ لأن ذلك أقرب وأبعد عن الأذية وبناء على ذلك نطبق القاعدة ولو الليلة فقط.

    لكن على العموم إذا كان الإنسان اشترى السيارة وحازها -أي شركة حازت السيارة وقبضتها- فيجوز لك أن تشتريها بعد الحوز، ولا يجوز لك أن تتعاقد مع الشركة قبل الحوز، فلو جئت إلى أي شركة وقلت لها: أنا أريد أن أشتري سيارة كذا، قالوا: نحن نشتريها بخمسين ونقسطها عليك بمائة، فهذا ربا، لماذا؟ لأنها دفعت عنك خمسين مقدمة بمائة مؤجلة، كأنه قال لك: خذ هذه الخمسين وردها مائة وخمسين أو مائتين، فهذا المقصود يعتبر من الربا، فإن الله تعالى يقول: فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ [البقرة:279]، أما لو حازتها الشركة وقبضتها وتعاقدت مع شركة أخرى وأصبحت في ملك الشركة الثانية، فيجوز لك أن تأتي وتشتري من الشركة الثانية تقسيطاً أو نقداً، والله تعالى أعلم.

    وهذه شبهة أخرى وهي: فيما لو تعاقد مع الشركة الوسيطة هذه قبل قبض السلعة وحوزها يعتبر من (بيع المجهول) وأيضاً يعتبر من (ربح ما لم يضمن) ويعتبر من (بيع ما ليس عندك) وكل هذا يعتبر من الآفات، والعيوب، فهذه فيها عدة آفات وليست ربا فقط.

    أما بيع المجهول بالوصف، فأصح الأقوال فيه: أنه يصح إذا كان وصفه وصفاً صحيحاً، فإذا وصفه -مثلاً- فقال لك: عندي بيت على صفة كذا وكذا وكذا يصح، ولو لم تر البيت، ثم يكون لك الخيار بعد الرؤية إن وافق الصفة لزمك البيع، وإن كان خالف الصفة فإنه في هذه الحالة كان لك خيار الرد؛ لأنه قد خالف الصفة، وهذا مأثور عن قضية عثمان رضي الله عنه مع أبي طلحة، وأصح الأقوال صحة هذا البيع؛ وهو بيع الموصوف في الذمة إذا كان غائباً، والله تعالى أعلم.

    حكم القول بضرورة تجديد أصول الفقه الإسلامي

    السـؤال: بعض أهل العلم المعاصرين يقولون بتجديد أصول الفقه الإسلامي، واستدلوا بقول القائل: (هم رجال ونحن رجال فنأخذ من حيث ما أخذوا) فما قولكم في ذلك؟

    الجـواب: هذا السؤال قولهم: إن أصول الفقه تحتاج إلى تجديد، أو يقولون: إن الشريعة تحتاج إلى تجديد، لا فرق بين القولين، هذا القول ابن أخت خالة القول الأول، على العموم هي كلمة حق أريد بها باطل؛ فإن الشريعة قديمها جديد وجديدها قديم، والشريعة صالحة لكل زمان ومكان، وهذا أمر مسلَّم من البدهيات، فإن الله تعالى يقول: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً [المائدة:3] رضي بهذه الشريعة التي آمن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا إليها منذ أربعة عشر قرناً، رضيها الله عز وجل لنبيه، ورضيها لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين، وكذلك رضيها للأمة إلى يومنا هذا، بل إلى قيام الساعة.

    فلو جاء أي شخص يريد أن يغير في مفاهيمها أو يقلب أصولها وموازينها، ولو كانت عبارته منمقة أو مزوقة فقد حاد عن سواء السبيل -نسأل الله السلامة والعافية-.

    فلذلك هذه الكلمة كلمة حق أريد بها باطل، فأصول الفقه هي أصول فهم الدليل، وأصول فهم الدليل باقية إلى قيام الساعة، والذي فهم به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نفهم به نحن، وإذا خالف فهمنا فهمهم بمعنى: أنا تركنا موازينهم في الفهم وتركنا موازين السلف الصالح في الفهم فقد ضللنا -والعياذ بالله-، فلذلك إذا كانت هذه مفاهيم خير القرون فهي صاحلة لشر القرون، فقرننا من شر القرون التي قبله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تقوم الساعة) كما ثبت في صحيح مسلم .

    فإذاً الذي صلح لخير القرون من باب أولى أن يصلح لما هو شر منه، هذا الأصل الأول.

    الأمر الثاني: قولهم: (هم رجال ونحن رجال) نعم هم رجال ونحن رجال، لكن شتان ما بين رجال ورجال، شتان ما بين رجال شهد التنزيل أنهم رجال ورجال هم أشباه الرجال، شتان ما بين رجال رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن بلسانهم فعايشوا أحوال الكتاب، وعرفوا ناسخه من منسوخه، وحلاله من حرامه، وواجبه وحدوده، عرفوا كل صغير فيه وكبير، ففقهوا عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، شتان ما بين هؤلاء وما بين من جاء من بعدهم من الخلوف، ووالله لو جئت تزن الواحد منهم بهذه الأمة قد يكون راجحاً لهم، فأين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن بعدهم؟!!

    فالمقصود: أن هذه كلمة حق أريد بها باطل، وأما قول الإنسان: نحن نأخذ من حيث ما أخذوا. فهذا ضلال، فإن الله تعالى أمرنا بالرجوع إلى العلماء فقال: فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، ولو كان كل شخص يذهب إلى الكتاب والسنة فما فائدة العالِم، ولو كان كل شخص يفهم الكتاب والسنة فما فائدة أهل العلم، والله تعالى يقول: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83] ولم يقل كلهم، وإنما قال منهم قال: لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ [النساء:162] .. بِاللَّهِ [النساء:162] وهم الذين يفقهون عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والذي ينبغي الرجوع إليهم والفهم عنهم وأخذ السنة عنهم، ومن قال: هم رجال ونحن رجال. فقد ضل سواء السبيل، ونقص من مكانة سلف هذه الأمة، والغالب أن لا يقول ذلك إلا إنسان مفتون، أو من عنده فتنة يريد الدعوة إليها وترويجها، فالله الله في سلف الأمة، والله الله في أولئك العلماء الأفاضل الذين أبقى الله علومهم وبارك في أفهامهم، ولو لم يكن من الدليل على إخلاصهم إلا بقاء علومهم لكفى في ذلك دليلاً.

    فأوصي إخواني طلاب العلم، بل أوصي كل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتأدب مع سلف الأمة، وأن يكون ورعاً فيما يقوله تجاه سلف الأمة، فمن أجلهم وأكرمهم فإنه عبد تقي؛ لأن إجلالهم إجلال لدين الله، وإكرامهم إكرام لدين الله، وانتقاصهم ثلمةٌ في الإسلام -والعياذ بالله-.

    وقول القائل: هم رجال ونحن رجال. هذه كلمة حق أريد بها باطل، فإن الكلام قد يكون حقاً لكن فيه سوء أدب، وفيه خروج عن الهدي، والهدي الكامل الذي ينبغي للمؤمن أن يلتزمه، ولذلك لو قال قائل: الله رب القردة والحمير والخنازير، كلمته صحيحة ولكن فيها نوع سوء أدب، فلو قال: رب الخلق. لكان أكمل أدباً، وكان أرعى حرمةً لله عز وجل، فليس كل كلام ظاهره أنه مزوق أنه يقبل، فالإنسان يرجع إلى سلف الأمة ويرتبط حاضر الأمة بماضيها، هذا الباب الذي فتح الآن من بعض المتفيهقين الذي يقولون -سامحهم الله وهدانا وإياهم إلى سواء السبيل- يقولون: نعيد النظر، ونريد تجديد الشريعة ومسايرتها للعصر، هذا مما لا ينبغي، ومقالته هذه قد تؤدي -والعياذ بالله- إلى هدم الشريعة ونقضها، لكن قد يكون مقصود البعض مقصوداً حسناً في جانب نستثنيه وهو أن يقال: إننا نريد من يترجم فهم السلف للخلف بأسلوب معاصر، فهذا كلام طيب، وكلام مقبول بمعنى: أن تأخذ الكتب التي عن سلف الأمة وتأتي بأسلوب صحيح سوي يناسب الأفهام، فهذا كلام صحيح، وهو واجب الدعاة وواجب العلماء، والحمد لله هم قائمون به في فتاويهم وتعليمهم ودروسهم.

    أما لو قيل: نريد أن نغير الفتاوى لتغير الزمان، أو نريد أن نجدد الشريعة، فالله أعلم أنها فتنة وقانا الله وإياكم شرها، فلا خير في إنسان يعرض عن خيار هذه الأمة.

    ولذلك أقول: ينبغي أن نبدأ من حيث انتهوا ولا نكرر ما فعلوا؛ لأنهم سلف الأمة المختار لها -نسأل الله عز وجل أن يرزقنا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى حبهم، وأن يرزقنا سبيلهم، وأن يرزقنا الحشر في زمرتهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

    أما أصحاب المذاهب فالناس فيهم على ثلاث طوائف: طائفة تقول: هؤلاء رجال ونحن رجال كأصحابنا من قبل، وطائفة ثانية تقول: هؤلاء المعصومون، وهؤلاء الذين لا يمكن أن يخرج الحق عنهم، وهؤلاء هؤلاء .. حتى بلغوا بهم مقاماً قد يصل إلى مقام الأنبياء، وأقوام وسط نزلوا أهل العلم منزلتهم، وأجلوا حملة الدين إجلالهم، ووقروا حملة الشرع توقيرهم، فحفظوا مكانتهم، ونظروا في قولهم، فما وافق الحق قبلوه، وما خالف الحق اعتذروا لصاحبه، وتأدبوا في الاعتذار عنه؛ لأن هؤلاء الذين اختلفوا من سلف الأمة كان هدفهم الحق وكانوا يريدون وجه الله ويريدون الدلالة على الصواب في دين الله لا أقل ولا أكثر، ما كانت عندهم شهوات وأهواء وأغراض، فلذلك ينبغي للإنسان أن يسلك السبيل القيم ديناً قيماً لا اعوجاج فيه وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153].

    والمتون الفقهية التي يقرأ الناس فيها على ثلاث طوائف: طائفة قالت: ما نقرأها، هذه أقوال قوم (هم رجال ونحن رجال) وهم كمن قبلهم.

    وطائفة قالت: هذه الكتب لا نجاوزها ولو كان النص بخلافها -والعياذ بالله-.

    وطائفة قالت: هذه كتب على أعيننا ورءوسنا ما وافقت كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن خالفت فإننا نظن بأهلها خيراً، ولكن الحق أحب إلينا منهم فيلتزموا صواب ما دل عليه الكتاب والسنة من الصواب، ولا يحيدون عن ذلك قيد شعرة طلباً لمرضاة رب الأرباب فهؤلاء هم السعداء، وانظر في سلف الأمة لن تجد عالماً إلا وجدته قد التزم مذهباً بدليله.

    انظر إلى علماء الإسلام وفقهائه الأعلام تجدهم قد قرءوا المذاهب بالدليل، ما قرءوها مجردةً عن الدليل ولا تعصبوا، انظر إلى الحافظ ابن عبد البر الإمام الجليل كان على مذهب المالكية رحمة الله عليه ثم صار مجتهداً، ومع ذلك وافق الإمام مالك فيما وافقه وخالف الإمام مالك فيما خالفه، واعتذر عند مخالفته، ومع ذلك ينتسب إلى مذهبه، ويناصر مذهبه إن وافق الحق، ويرده إذا خالف الحق.

    شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول في فتاويه: قال أصحابنا، وأجاب أصحابنا، وهو مذهب أصحابنا، من هم أصحابه؟ أصحاب الإمام أحمد رحمه الله، وبه يقول إمامنا، واحتج إمامنا بكذا وكذا، مراده الإمام أحمد رحمه الله، ولكن قرأ فقهه بالدليل، ثم وافق الإمام أحمد وخالف الإمام أحمد فما نقص ذلك من قدر الإمام أحمد ، ولا نقص كذلك من فضل شيخ الإسلام رحمه الله وقدره، وهكذا علماء الإسلام ما تجد أحد إلا وقد قرأ مذهباً لكن بدليله، هذا هو السبيل البين الذي نسأل الله عز وجل أن يقيمنا وإياكم على صراطه، والله تعالى أعلم.

    حكم قول الصحابي

    السـؤال: ما رأي فضيلتكم فيمن يقول: إن قول الصحابي ليس بحجة؟

    الجـواب: إذا ورد القول عن الصحابي لا يخلو من حالتين:

    الحالة الأولى: أن يكون مما لا مجال للرأي فيه، كإخبار عن علم بالغيب من أمور القبر أو البرزخ ... فهذه أمور غيبية سمعية مثلها لا يقوله الصحابي باجتهاد منه، فهذا يسميه العلماء الموقوف لفظاً المرفوع حكماً، وهو حجة؛ لأن الصحابة كان عندهم ورع، ما كانوا يتكلمون في هذه المسائل إلا بدليل، فهذه حالة، وهي إذا كانت المسألة مما تحتاج إلى نص ودليل.

    الحالة الثانية: أن تكون من المسائل التي فيها رأي واجتهاد، فلا يخلو قول الصحابي من حالتين:

    الحالة الأولى: أن يكون قوله موافقاً للنص، فحينئذٍ لا إشكال أن قوله حجة، فالأصل في تلك الحجة التي وردت هو السنة التي اعتبرها الصحابي.

    والحالة الثانية: أن يخالف قوله السنة، ويعتذر له بعدم بلوغ السنة له، أو نسيانه للسنة، كما ورد في فتوى أبي هريرة رضي الله عنه حينما روى غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً وأفتى بالثلاث، فإن العبرة بما روى لا بما أفتى كما يقول العلماء، وهو مذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة أن الصحابي: إذا روى وخالف قوله ما روى عُمل بما روى لا بما أفتى، ومن أمثلته أيضاً، قول ابن عباس: "إن المرأة إذا ارتدت لا تقتل"، وقد روى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن بدل دينه فاقتلوه) فإن (مَن) مِن صيغ العموم تشمل الذكر والأنثى، فقوله في هذا مرجوح والعمل بالنص.

    والله تعالى أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756280559