إسلام ويب

عشرون كلمة في العلم وفضلهللشيخ : إبراهيم الدويش

  •  التفريغ النصي الكامل
  • طلب العلم وتعليمه من أجل العبادات، فيجب أن تراعى فيه الآداب الشرعية؛ ولذا كانت هذه الكلمات، وهي توجيهات ووصايا ومختارات حول العلم وفضله وأهله، هتف بها صوت يحبك في الله، على ضعف منه وتقصير، وعلى عجز فيه وقصور، ويعلم الله أنه لمحبته للنصح فاه بهذه العبارات، وقلب الصفحات لتكون هذه الكلمات. والتعليم نقل من الظلمة إلى النور، وسمو النفس إلى المعالي، وخلق وأدب، فحتى تأتي منه كل هذه الثمار لابد من قبول النصح والتوجيه، واتهام النفس والإزراء عليها.

    1.   

    سبب اختيار موضوع العلم وفضله

    إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    هذا هو الدرس الثالث والثلاثون من سلسلة الدروس العلمية العامة والتي ينظمها المكتب التعاوني بمكتب الرس، وينعقد هذا المجلس في ليلة الأحد أو ليلة الإثنين الموافق (20/ 6/ 1416هـ) وفي هذا الجامع المبارك، وعنوان هذا الدرس هو (عشرون كلمة في العلم وفضله).

    فقد اخترت هذا الموضوع في بداية السنة الدراسية توجيهاً وتذكيراً وإرشاداً وتنبيها، وما منا إلا معلم أو متعلم.

    إن طلب العلم وتعليمه من أجل العبادات، فيجب أن تراعى فيه الآداب الشرعية، ولذا كانت هذه الكلمات، وهي توجيهات ووصايا ومختارات حول العلم وفضله وأهله، هتف بها صوت يحبكَ في الله، على ضعف وتقصير منه، وعلى عجز فيه وقصور، هفواته متتالية، وعثراته متتابعة، ويعلم الله أنه لشعوره بالنقص وحاجته للنصح فاه بهذه العبارات، وقلّب الصفحات لتكون هذه الكلمات، لعل الله أن يرحم ضعفه ويجبر كسره، ويتم نقصه بالعلم والعمل.

    والتعليم نقل من الظلمة إلى النور، وسمو بالنفس إلى المعالي، وخلق وأدب، فحتى تأتي منه كل هذه الثمار لا بد من قبول النصح والتوجيه، واتهام النفس والإزراء عليها.

    أسأل الله التوفيق والسداد، والعون والرشاد، ونعوذ به من علم لا ينفع، ونستغفره ونتوب إليه من كل خطأ وزلل.

    وإليك -أخي القارئ الكريم- عرضاً سريعاً لعناصر وعناوين هذه الكلمات:

    1- العلم كنز عظيم وله فضل عميم.

    2- للأخوات المعلمات والمتعلمات.

    3- الإخلاص لله في العلم والتعليم.

    4- إنما يخشى الله من عباده العلماء.

    5- العلم والتربية متلازمان.

    6- العلم أعمال وسرائر، وليس أقوالاً ومظاهر.

    7- من علامات العلم النافع ونواقضه.

    8- المجاهدة والصبر سلاح المتعلم.

    9- كيف نكسب العلم؟

    10- بالصبر واليقين تنال إمامة الدين.

    11- الشبهات والشهوات خطر على العلم وأهله.

    12- العقيدة والسيرة صفاء للظاهر والسريرة.

    13- فن طلب العلم.

    14- قف وتأمل قبل أن يقال: فلان مات!!

    15- الابتلاء امتحان لأهل العلم.

    16- التواضع ثمرة العلم النافع.

    17- يا طالب العلم! إياك والحسد.

    18- طريقنا إلى القلوب.

    19- وقبل الختام: العمل بالعلم.

    20- دعــــــاء.

    1.   

    الكلمة الأولى: العلم كنز عظيم و له فضل عميم

    ولأهله منزلة عالية ودرجة رفيعة، واسمع لهذه النصوص والآثار بتدبر واعتبار، وهي على سبيل الإيجاز والاختصار:

    قال تعالى: يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].

    وقال عزّ من قائل: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ [آل عمران:18] فبدأ سبحانه بنفسه، وثنىّ بملائكته، وثلّث بأهل العلم وكفاهم ذلك شرفاً وفضلاً، وجلالة ونبلاً.

    وقال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9].

    وقال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].

    وقال سبحانه: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43] وفي القرآن بضعة وأربعون مثلاً، وكان بعض السلف إذا مر بمثل لا يفهمه يبكي ويقول: لست من العالمين.

    وأما الأحاديث والآثار في العلم وفضله ورفعة أهله فكثيرةٌ جداً، ومن أشهرها:

    ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة).

    وما رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سلك طريقاً يبتغي فيه علما سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم؛ فمن أخذه أخذ بحظ وافر).

    وقد رواه الوليد بن مسلم ، عن خالد بن يزيد ، عن عثمان بن أيمن ، عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من غدا لعلم يتعلمه فتح الله له به طريقاً إلى الجنة، وفرشت له الملائكة أكنافها، وصلت عليه ملائكة السماء وحيتان البحر، وللعالم من الفضل على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، والعلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورثوا العلم، فمن أخذ بالعلم أخذ بحظ وافر، وموت العالم مصيبة لا تجبر، وثلمة لا تسد، ونجم طمس، وموت قبيلة أيسر من موت عالم) قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة : هذا حديث حسن. وقال ابن حجر : أخرجه أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم مصححاً من حديث أبي الدرداء ، وحسنه حمزة الكناني . وضعفه باضطراب في سنده لكن له شواهد يتقوى بها. انتهى كلام الحافظ.

    وضعّفه الألباني من رواية عاصم بن رجاء وقال: لكن أخرجه أبو داود من طرق أخرى عن أبي الدرداء بسند حسن.

    ومن الآثار:

    ما يروى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال -وانتبه لهذا الكلام-: (تعلموا العلم؛ فإن تعليمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة؛ لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبل أهل الجنة، وهو الأنس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والزين عند الأخلاء، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة وأئمة تقتص آثارهم، ويقتدى بأفعالهم، وينتهى إلى رأيهم، ترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، يستغفر لهم كل رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه؛ لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، والتفكر فيه يعدل الصيام، ومدارسته تعدل القيام، به توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال من الحرام، هو إمام العمل، والعمل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء) وهذا الأثر أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله من طرق مرفوعاً وموقوفاً، ولا يصح بوجه لا موقوفاً ولا مرفوعاً، وقد قال ابن عبد البر : حديث حسن جداً، ولكن ليس له إسناد قوي، قال العراقي في تخريج الإحياء : قوله: حسن، أراد به الحسن المعنوي، لا الحسن المصطلح عليه بين أهل الحديث، وذكره ابن القيم في مفتاح دار السعادة وقال: هذا الأثر معروف عن معاذ ، ورواه أبو نعيم في المعجم من حديث معاذ مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم ولا يثبت، وحسبه أن يصل إلى معاذ .

    وهكذا الآيات والأحاديث والآثار التي تشير إلى العلم وفضله، وأن صاحبه يحمل كنزاً عظيماً يعلو به في الدنيا والآخرة، وأنصحك -أيها المحب!- بالرجوع إلى كلام ابن القيم الجميل في كتاب مفتاح دار السعادة ، فقد ذكر ثلاثة وخمسين ومائة وجه في العلم وفضله وشرفه، فهي كنز عظيم، مليئة بالفوائد والنوادر والغرائب والعجائب.

    1.   

    الكلمة الثانية: للأخوات المعلمات والمتعلمات

    قال صلى الله عليه وسلم: (نِعم نساء الأنصار، لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين) أخرجه مسلم وغيره من حديث عائشة .

    وقال البخاري في صحيحه : باب: هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم. وذكر فيه حديث أبي سعيد الخدري : (قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم: غلبنا عليك الرجال؛ فاجعل لنا يوماً من نفسك، فوعدهنّ يوماً لقيهنّ فيه فوعظهنّ وأمرهن..) الحديث.

    وقال البخاري أيضا: باب: تعليم الرجل أمته وأهله.

    وقال: باب عِظة الإمام النساء وتعليمهن.

    ويقال عن عائشة : معلمة الرجال والأجيال، حتى قيل: إن ما نقل عنها ثلث الدين، وكذلك بقية أمهات المؤمنين اللائي أمرن بتبليغ الناس القرآن والسنة بقوله تعالى: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الأحزاب:34].

    وهناك العشرات من الصالحات العاملات المعلمات، كـأم الدرداء ، وحفصة بنت سيرين أم الهذيل التي حفظت القرآن وهي بنت اثنتي عشر سنة، واشتهرت فيما بعد برواية الحديث، وكان أخوها محمد بن سيرين إذا أشكل عليه شيء في القرآن يقول: اذهبوا فسلوا حفصة كيف تقرأ.

    وزينب بنت أحمد المقدسية ، تعرف ببنت الكمال، ولدت سنة ست وأربعين وستمائة، قال الذهبي : كانت ديّنة خيّرة، روت الكثير، وتزاحم عليها الطلبة، وقرأوا عليها الكتب الكبار.

    وعائشة بنت يوسف بن أحمد الباعونية، هي الشيخة الأريبة العالمة الفاضلة، قالت عن نفسها: أهّلني الحق لقراءة كتابه العزيز، ومَنَّ علي بحفظه على التمام ولي من العمر ثمانية أعوام.

    ولها مؤلفات منها: الفتح المبين في مدح الأمين .

    ومريم بنت أحمد بن محمد الأذرعي، ولدت سنة تسعة عشر وسبعمائة، شيخة للحافظ ابن حجر ، كما ذكر أنه قرأ عليها الكثير من مسموعاتها، وأشياء كثيرة بالإجازة، قال عنها - أي: ابن حجر - : نِعمَ الشيخة! كانت ديانة وصيانة ومحبة في العلم.

    وكتب السير والتراجم مليئة بأسماء العالمات الفاضلات التي تثبت أن العلم الشرعي لا يقتصر على الرجال، فللنساء دورهنّ في القراءة والمطالعة وتعلُّم شرع الله تعالى، ثم في التعليم والتدريس وإلقاء المحاضرات والمواعظ، فهنّ أبلغ في أداء المهمة، وأعلم بنفسيّات النساء.

    فيا أيتها الصالحة! أيتها المرأة! من لجماهير النساء إن لم تتحركي أنت؟! ومن للغافلات إن لم تتقدم الصالحات؟

    أيتها المباركة! ما هو عذرك وحِلَق العلم معقودة، والندوات مقامة، والمحاضرات معلنة، والكتب والأشرطة ميسرة، وأنت بصحة وفراغ وعافية؟!

    إذاً: فهذا الحديث ليس خاصاً بالرجال فقط، بل هو لكِ أيضاً أيتها المعلمة والمتعلمة!

    1.   

    الكلمة الثالثة: الإخلاص لله في العلم والتعليم

    معاشر طلاب العلم! معاشر الأساتذة والمعلمين! لماذا لا نرى بركة علمنا تعلماً وتعليماً؟!

    إننا نرى كثرة الأساتذة والمعلمين والمعلمات، وربما كان في المدرسة الواحدة عدد كبير ممن يشار إليه بالبنان بعلمه وصلاحه، ولكن لا ترى أثراً يذكر لهؤلاء إلا ما شاء الله، وربما كان طلابهم أشد غفلة وبعداً عن الله عز وجل، وأنا هنا لا أبرئ الطلاب فربما كانوا سبب ذلك، ولكن لنتهم أنفسنا معاشر الأساتذة والمعلمين والمعلمات! ولنرجع إلى أنفسنا ومقاصدها في التحمل والأداء، أو في التعلم والتعليم.

    إننا نجد في تراجم السلف وسيرهم رضوان الله عليهم: أن الصالح إذا نزل ديراً أصلح الله به أهل ذلك الدير، فأين أثر الصالحين اليوم في مدارسهم؟! وأين أثرهم في مساجدهم وأحيائهم وبلدانهم؟! بل أين أثرهم في أمتهم جمعاء؟

    أخرج أبو داود وابن ماجة وأحمد وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة) يعني: ريحها.

    والحديث صحيح بشواهده.

    ما رأيكم معاشر الإخوة؟! أترون أنا طلبنا العلم من أجل الدنيا ومن أجل الوظيفة والتكسب وأكل العيش؟ أم أنا طلبناه من أجل نشره والدعوة إلى الله وإصلاح الناس؟

    كلٌ أعلم بحاله، ولكن لنتذكر أننا سنقف بين يدي من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

    فقد أخرج ابن المبارك في الزهد والطبراني في الكبير عن عبد الله بن عكيم قال: [سمعت ابن مسعود بدأ باليمين قبل الحديث فقال: والله! إن ما منكم من أحد إلا سيخلو به ربه كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر، ثم يقول: يا بن آدم! ما غرّك بي؟ يا بن آدم! ما غرّك بي؟ يا بن آدم! ما غرّك بي؟! ما عملت فيما علمت؟ يا بن آدم! ماذا أجبت المرسلين؟!].

    فيا أيها الأخ الحبيب! ويا أيتها الأخت! هل أعددنا لمثل هذا السؤال جواباً؟

    الإخلاص طريق الخلاص

    يا طالب العلم! التزم التخلص من كل ما يشوب نيتك في صدق الطلب، كحب الظهور، والتفوق على الأقران، وجعله سلماً لأغراض أو أعراض من جاه أو مال أو تعظيم أو سمعة أو طلب محمدة أو صرف وجوه الناس إليك، فإن هذه وأمثالها إذا شابت النية أفسدتها وذهبت بركة العلم.

    فعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تتعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا لتحتازوا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار!) أخرجه ابن ماجة وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك ، وقال البوصيري في الزوائد : هذا إسناد رجاله ثقات على شرط مسلم ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ، وللحديث شواهد.

    وعند مسلم من حديث أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أول الناس يقضى فيه يوم القيامة ثلاثة، وذكر منهم: ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، فقال: ما عملت فيها؟ قال: تعلّمت فيك العلم وعلّمته وقرأت القرآن، قال: كذبت، ولكن ليقال: هو قارئ فقد قيل، ثم أُمِر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار).

    وقال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء:18-19].

    أثر الغفلة عن الإخلاص لله في التعلم والتعليم

    معاشر طلاب العلم! معاشر الأساتذة والمعلمين والمعلمات! إني أهمس إليكم ونفسي بهذا الأثر، فلنقف معه يرعاكم الله.

    يؤثر عن عمر بن ذر أنه قال لوالده: [يا أبت! مالك إذا وعظت الناس أخذهم البكاء، وإذا وعظهم غيرك لا يبكون؟ فقال: يا بني! ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة].

    ورحم الله ابن القيم يوم قال: كلام المتقدمين قليلٌ كثير البركة، وكلام المتأخرين كثيرٌ قليل البركة.

    فماذا لو رآنا نحن متأخري هذا الزمن والله المستعان؟!

    إذاً: فالسر في قلة البركة في العلم، والتعلم اليوم وعدم التأثر والتأثير هو الغفلة عن الإخلاص لله في الطلب.. الغفلة عن الإخلاص لله في التعليم والتدريس.

    فيا أيها المدرسون والمدرسات! ويا طلاب العلم! لنطهر نفوسنا، وننقِ قلوبنا، لا من أجل أن ننتفع بالعلم فقط، بل ومن أجل أن ينفع الله بعلمنا ويفتح لنا القلوب.

    أسأل الله تعالى أن يصلح قلوبنا، وأن يجعل عملنا خالصاً صواباً، ونعوذ بالله من حظوظ أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.

    1.   

    الكلمة الرابعة: إنما يخشى الله من عباده العلماءُ

    نقل القرطبي أن الربيع بن أنس قال: من لم يخش الله تعالى فليس بعالم .

    وقال مجاهد : [إنما العالم من خشي الله عز وجل].

    ونقل ابن كثير عن ابن مسعود أنه قال: [ليس العلم عن كثرة الحديث، ولكن العلم عن كثرة الخشية].

    وقال ابن سعدي : فكل من كان بالله أعلم كان أكثر له خشية، وأوجبت له خشية الله الانكفاف عن المعاصي والاستعداد للقاء من يخشاه، وهذا دليل على فضيلة العلم، فإنه داع إلى خشية الله، وأهل خشيته هم أهل كرامته، كما قال تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة:8]. انتهى كلامه.

    قالت امرأة للشعبي : أيها العالم! أفتني. فقال: إنما العالم من خاف الله.

    فيا طلاب العلم! ويا أيها المعلمون والمعلمات! كل علم لا يقود صاحبه إلى خشية الله يُخشى على صاحبه، فالزم خشية الله في السر والعلن، فإن أصل العلم خشية الله تعالى.

    ألم يأن للمعلمين والمعلمات أن تمتلئ قلوبهم هيبةً وخوفاً من الله؟!

    ألم يأن لطلاب العلم أن تنضبط ألسنتهم خشيةً وخوفاً من الله؟!

    ألم يأن لنا جميعاً أن يثمر العلم في القلب خشيةً وخشوعاً لله؟!

    فإن لم يثمر العلم خشيةً وخشوعاً لله، فإنا نعوذ بالله من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع.

    فكلما كان طالب العلم أورع؛ كان علمه أنفع.

    فيا طالب العلم! ويا أيها المعلم! ويا أيتها المعلمة! إصلاح النفس والخوف من الله، وقوة الصلة به من أهم الأمور التي ينبغي أن يقوم بها من أراد العلم تعلماً وتعليماً، فللنفس شهوات ورغبات إن لم تضبط بالتقوى ومراقبة الله فلن تذعن للخير؛ [فالعلم الخشية] كما قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.

    1.   

    الكلمة الخامسة: العلم والتربية متلازمان

    يا طالب العلم! لماذا نتحمل العلم إلا من أجل أن نرقق قلوبنا ونربي نفوسنا؟

    إن تعلم مسائل العقيدة والأحكام لأجل صحة العمل ومعرفة الحلال والحرام.. إن تعلم مسائل العقيدة والأحكام لأجل بذل المال وكثرة الصيام.. إن تعلم مسائل العقيدة والأحكام لأجل القيام والناس نيام.. إن تعلم مسائل العقيدة والأحكام لأجل الصلة والبر وبذل السلام، ومن أجل إمساك اللسان عن بذاء الكلام.. إن تعلم مسائل العقيدة والأحكام لأجل نشر الحب والإخاء والوئام.

    التربية أولاً

    يا طالب العلم! إن طلب العلم ليس غاية لذاته مع فضله، بل هو وسيلة للعمل وتربية النفس وحسن الصلة بالله، وإلا ما معنى قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع)؟! وما معنى أن يُسأل المرء عن علمه: ماذا عمل به؟!

    فاسأل نفسك -يا رعاك الله!- هل نفعك علمك أم لا؟! هل عملت بعلمك أم لا؟! وانظر إلى قلبك ولسانك فأنت أعلم بحالك.

    قيل لـمالك: ما تقول في طلب العلم؟ قال: حسن جميل، ولكن انظر الذي يلزمك من حين تصبح إلى أن تمسي فالزمه .

    كان صلى الله عليه وسلم يؤصل العقيدة ويدعو إلى التوحيد ثلاث عشر سنة، لكنه كان موصولاً بربه ليل نهار، يراقب الله في حركاته وسكناته، يذكره في غدواته وروحاته، كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، كان شديد الخشية لمولاه، كان يبكي حتى تتبلل لحيته من الدموع، كان حليماً يحب العفو والصفح، كان متواضعاً يسمع الكبير والصغير والغني والفقير، كان أجود الناس في البذل والعطاء.. باختصار: (كان خلقه القرآن) بأبي هو وأمي صلى الله عليه وآله وسلم.

    كل ذلك وهو يؤصل العقيدة ويدعو إلى التوحيد، فأين نحن من ذلك أيها المحب؟!

    أثر الرقائق في الرُّقي بنفوس أصحابها

    يا طالب العلم! لا تغفل عن الرقائق والمواعظ فإن القلب يصدأ.

    فهذا محمد بن عبادة المعافري يحدث أنه وصحبه كانوا عند أبي شريح المعافري رحمه الله، فكثرت المسائل فقال: قد درنت -أي: وسخت- قلوبكم، فقوموا إلى خالد بن حميد المهري ، استقلوا -أي: استبدلوا- قلوبكم، وتعلموا هذه الرغائب والرقائق، فإنها تجدد العبادة، وتورث الزهادة، وتجر الصداقة، وأقلوا المسائل؛ فإنها في غير ما نزل تقسي القلب وتورث العداوة.

    وإليك هذا الضابط الجميل في هذه المسألة:

    قال ابن الجوزي : فالصواب العكوف على العلم مع تلذيع النفس بأسباب المرققات تلذيعاً لا يقدح في كمال التشاغل بالعلم.

    فيا طالب العلم! أين أنت ورقة القلب، وانحدار الدمع، وطيب المناجاة، والشكاية إلى الله؟!

    ورحم الله سفيان الثوري يوم قال: إنما يطلب الحديث ليتقى به الله.

    فاحرص على تزكية النفس وتربيتها، فقد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها.

    1.   

    الكلمة السادسة: العلم أعمال وسرائر، وليس أقوالاً ومظاهر

    اسمع لـابن الجوزي وهو يقول في صيد الخاطر كلاماً نفيساً جميلاً: إن للخلوة تأثيرات تبين في الجلوة، كم من مؤمن بالله عز وجل يحترمه عند الخلوات فيترك ما يشتهي حذراً من عقابه، أو رجاء لثوابه، أو إجلالاً له، فيكون بذلك الفعل كأنه طرح عوداً هندياً على مجمر فيفوح طيبه فيستنشقه الخلائق ولا يدرون أين هو، وعلى قدر المجاهدة في ترك ما يهوى تقوى محبته، أو على قدر مقدار زيادة دفع ذلك المحبوب المتروك يزيد الطيب ويتفاوت تفاوت العود، فترى عيون الخلق تعظم هذا الشخص، وألسنتهم تمدحه ولا يعرفون لم، ولا يقدرون على وصفه لبعدهم عن حقيقة معرفته، وقد تمتد هذه الأراييح بعد الموت على قدرها، فمنهم من يذكر بالخير مدة مديدة ثم يُنسى، ومنهم من يذكر مائة سنة ثم يخفى ذكره وقبره، ومنهم أعلام يبقى ذكرهم أبداً، وعلى عكس هذا.. من هاب الخلق ولم يحترم خلوته بالحق، فإنه على قدر مبارزته بالذنوب، وعلى مقادير تلك الذنوب يفوح منه ريح الكراهة فتمقته القلوب، فإن قلّ مقدار ما جنى قلّ ذكر الألسن له بالخير، وبقي مجرد تعظيمه، وإن كثر كان قصارى الأمر سكوت الناس عنه لا يمدحونه ولا يذمونه، ورب خالٍ بذنب كان سبب وقوعه في هوة شقوة في عيش الدنيا والآخرة، وكأنه قيل له: ابق بما آثرت، فيبقى أبداً في التخبيط، فانظروا إخواني إلى المعاصي أثرت وعثرت.

    قال أبو الدرداء رضي الله عنه: [إن العبد ليخلو بمعصية الله تعالى فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر].

    فتلمحوا ما سطرته واعرفوا ما ذكرته، ولا تهملوا خلواتكم ولا سرائركم، فإن الأعمال بالنية والجزاء على مقدار الإخلاص. انتهى كلامه من صيد الخاطر رحمه الله تعالى.

    فيا أيها المعلمون والمعلمات! ويا طلاب وطالبات العلم! الله الله في السرائر وإصلاح الباطن، (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) . كما في حديث أبي هريرة عند مسلم .

    إننا نحرص على أشكالنا ومظاهرنا كثيراً، ونغفل عن الاهتمام بقلوبنا، وصلاح القلب هو ثمرة العلم والتعلم.

    فهل حصلنا على هذه الثمرة؟ هل حصلنا على صلاح القلب وهل نسعى له؟! نرجو ذلك.

    1.   

    الكلمة السابعة: من علامات العلم النافع ونواقضه

    تساءل مع نفسك عن حظك من علامات العلم النافع، ومنها:

    - العمل به.

    - كراهية التزكية والمدح، والتكبر على الخلق.

    - تكاثر تواضعك كلما ازددت علماً.

    - الهرب من حب الترؤس، والشهرة، والدنيا.

    - هجر دعوى العلم.

    - إساءة الظن بالنفس وإحسانه بالناس تنزهاً عن الوقوع بهم، وقد كان عبد الله بن المبارك إذا ذكر أخلاق من سلف ينشد:

    لا تعرضن بذكرهم مع ذكرنا     ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد

    والنواقض منها:

    - إفشاء السر.

    - نقل الكلام من قوم إلى آخرين.

    - الصلف واللسانة.

    - كثرة المزاح.

    - الدخول في حديث بين اثنين.

    - الحقد.

    - الحسد.

    - سوء الظن.

    - مجالسة المبتدعة.

    - نقل الخطى إلى المحارم.

    فاحذر هذه الآثام وأخواتها، واقصر خطاك عن جميع المحرمات والمحارم، فإن فعلت وإلا فاعلم أنك رقيق الديانة، خفيف لعاب، مغتاب نمام، فأنى لك أن تكون طالب علم يشار إليك بالبنان منعماً بالعلم والعمل؟!

    سدد الله الخطى، ومنح الجميع التقوى، وحسن العمل في الآخرة والأولى. انتهى من كلام العلامة بكر أبو زيد في رسالته الجميلة حلية طالب العلم .

    1.   

    الكلمة الثامنة: المجاهدة والصبر سلاح المتعلم

    قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].

    قال ابن سعدي : على أن من جدّ واجتهد في طلب العلم الشرعي؛ فإنه يحصل له من الهداية والمعونة على تحصيل مطلوبه أمور إلهية خارجة عن مدرك اجتهاده، وتيسر له أمر العلم، فإن طلب العلم الشرعي من الجهاد في سبيل الله، بل هو أحد نوعي الجهاد الذي لا يقوم به إلا خواص الخلق؛ وهو الجهاد بالقول واللسان للكفار والمنافقين، والجهاد على تعليم أمور الدين، وعلى رد نزاع المخالفين للحق ولو كانوا مسلمين، فلا بد لطالب العلم من مجاهدة النفس والصبر والمصابرة. انتهى كلامه رحمه الله.

    فبقدر ما تتعنى تنال ما تتمنى، ومن طلب شيئاً وَجَدَّ وَجَد، ومن قرع الباب ولـجَّ وَلَج، ويقول الشاعر:

    أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته     ومدمن القرع للأبواب أن يلجا

    فلا بد من الجد والملازمة، وثني الركب، وسهر الليالي لطلب العلم.

    بجِدي لا بجَدي كل مجدي     فهل جَد بلا جِد بمُجْدي

    فكم عبد يقوم مقام حر     وكم حر يقوم مقام عبد

    ولا بد لطالب العلم من المواظبة على الدرس والتكرار في أول الليل وآخره، فإن ما بين العشائين وقت السحر، ووقت السحر وقت مبارك.

    بقدر الكد يكتسب المعالي     ومن طلب العلا سهر الليالي

    تروم العزّ ثم تنام ليلاً     يغوص البحر من طلب اللآلي

    علو القدر بالهمم العوالي     وعز المرء في سهر الليالي

    تركت النوم ربي في الليالي     لأجل رضاك يا مولى الموالي!

    وذكر ابن فضيل عن أبيه أنه قال: كنا نجلس أنا وابن شبرمة والحارث العكلي والمغيرة والقعقاع بن يزيد بالليل نتذاكر الفقه، فربما لم نقم حتى نسمع النداء لصلاة الفجر.

    وما أحسن ما قال الأصبهاني في محاضرات الأدباء : ما لزم أحد الدعة إلا ذل، وحب الهوينى يكسب الذل، وحب الكفاية مفتاح العجز. انتهى كلامه.

    1.   

    الكلمة التاسعة: كيف نكسب العلم؟

    ذكر النووي في كتابه بستان العارفين قال: قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: من أحب أن يفتح الله قلبه ويرزقه العلم فعليه بالخلوة، وقلة الأكل، وترك مخالطة السفهاء، وبغض أهل العلم الذين ليس معهم إنصاف ولا أدب.انتهى كلامه.

    قلت: أما الخلوة فللاطلاع والنظر في الأصول، وتقييد الفوائد والشوارد.

    وأما قلة الأكل فنشكو إلى الله حالنا، فكم من معصية جلبها الشبع وفضول الطعام.

    وفي المسند عند أحمد والترمذي وغيرهما: (ما ملأ ابن آدم وعاءٌ شراً من بطنه...) الحديث. وقال الترمذي : حسن صحيح.

    وقد قال تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف:31] قال بعض العلماء: جمع الله بهذه الكلمات الطب كله.

    وأما ترك مخالطة السفهاء؛ فلأنهم لصوص الأوقات وأهل الفراغ.

    قال ابن الجوزي : (فصل: أهل الفراغ بلاء): قال: أعوذ بالله من صحبة البطالين، لقد رأيت خلقاً كثيراً يجرون معي فيما اعتاده الناس من كثرة الزيارة، ويُسمون ذلك التردد خدمةً، ويطلبون الجلوس، ويجرون فيه أحاديث الناس وما لا يعني وما يتخلله غيبة، وهذا يفعله في زماننا كثير من الناس.. إلى أن قال: فلما رأيت أن الزمان أشرف شيء، والواجب انتهاؤه بفعل الخير، كرهت ذلك وبقيت منهم بين أمرين: إن أنكرت عليهم وقعت وحشة لموضع قطع المألوف، وإن تقبلته منهم ضاع الزمان -تنبه إلى العلاج- فصرت أدافع اللقاء جهدي، فإذا غلب قصرت في الكلام لأتعجل الفراق، ثم أعددت أعمالاً تمنع من المحادثة لأوقات لقائهم لئلا يمضي الزمان فارغاً، فجعلت من المستعد للقائهم قطع الكاغد وبري الأقلام وحزم الدفاتر، فإن هذه الأشياء لا بد منها ولا تحتاج إلى فكر وحضور قلب، فأرصدتها لأوقات زيارتهم؛ لئلا يضيع شيء من وقتي، نسأل الله عز وجل أن يعرفنا شرف أوقات العمر، وأن يوفقنا لاغتنامه.. إلى آخر كلامه النفيس الجميل هناك.

    وأما بغض أهل العلم الذين ليس معهم إنصاف ولا أدب، فإني لأعجب كيف كانوا من أهل العلم وليس معهم إنصاف ولا أدب؟! وأي علم هذا الذي لم يؤدب صاحبه؟!

    إنما العلم العمل.. إنما العلم خشية الله.

    قال أحمد بن حفص السعدي شيخ ابن عدي : سمعت أحمد بن حنبل يقول: لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً.

    وجاء رجل إلى أحمد بن حنبل فقال له: نكتب عن محمد بن منصور الطوسي ، قال: إذا لم تكتب عن محمد بن منصور فعمن يكون ذلك؟ فعمن يكون ذلك؟! -كررها مراراً رحمه الله- فقال له الرجل: إنه يتكلم فيك! قال أحمد : رجل صالح ابتلي فينا فما نعمل؟!

    هكذا العلم؛ إنصاف وأدب حتى مع من يخالفنا.

    1.   

    الكلمة العاشرة: بالصبر واليقين تنال إمامة الدين

    قال ابن القيم في مدارج السالكين : سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، ثم تلا قوله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].

    قال ابن القيم الوجه الحادي والثلاثون بعد المائة -أي: في مفتاح دار السعادة، أي: في فضل العلم- : أنه لو لم يكن من فوائد العلم إلا أنه يثمر اليقين الذي هو أعظم حياة القلب، وبه طمأنينته وقوته ونشاطه وسائر لوازم الحياة.. إلى أن قال: وقيل: إذا استكمل العبد حقيقة اليقين صار البلاء عنده نعمة، والمحنة منحة، فالعلم أول درجات اليقين.. إلى آخر كلامه رحمه الله.

    فيا كل معلم ومتعلم! الله الله في اليقين بالله، فإن ضعف اليقين بالله آفة أهلكت الكثير من الصالحين فضلاً عن عامة المسلمين.

    ورد عن عطاء الخراساني أنه كان لا يقوم من مجلسه حتى يقول: اللهم هب لنا يقيناً بك حتى تهون علينا مصيبات الدنيا، وحتى نعلم أنه لا يصيبنا إلا ما كُتب لنا، ولا يأتينا من هذا الرزق إلا ما قسمت. انتهى كلامه.

    وحقيقة اليقين: الصبر والثقة بموعود الله عز وجل.

    واسمع أيها الحبيب! في سر الضعف والفتور الذي أصاب كثيراً من المسلمين اليوم:

    قال لقمان لابنه: يا بني! العمل لا يستطاع إلا باليقين، ومن يضعف يقينه يضعف عمله.

    إذاً: فلعل ضعف اليقين عندنا هو السر في قلة العمل والفتور والكسل.

    اللهم نسألك يقين الصادقين، وصدق الموقنين، ونسألك قوة في دين، وحزماً في لين، وإيماناً في يقين، اللهم إنا نسألك يقيناً تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم احفظنا بحفظك يا أرحم الراحمين!

    1.   

    الكلمة الحادية عشرة: الشبهات والشهوات خطر على العلم وأهله

    ومن نظر للواقع علم حقيقة الحال، فمن نجى من الشهوة وقع في الشبهة، والقليل من وفقه الله للاعتصام بالكتاب والسنة.

    قال ابن القيم في المدارج : والقلب يتوارده جيشان من الباطل، جيش شهوات الغي، وجيش شبهات الباطل، فأيما قلب صغى إليها وركن إليها شربها وامتلأ بها، فينضح لسانه وجوارحه بموجبها، فإن أشرب شبهات الباطل تفجرت على لسانه الشكوك والشبهات والإيرادات، فيظن الجاهل أن ذلك لسعة علمه، وإنما ذلك من عدم علمه ويقينه، وقال لي شيخ الإسلام رضي الله عنه وقد جعلت أورد عليه إيراداً بعد إيراد: لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل الإسفنجة، فيتشربها فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقراً للشبهات. أو كما قال.

    قال ابن القيم : فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك، وسُميت الشبهة شبهة؛ لاشتباه الحق بالباطل فيها، فإنها تُلبسُ ثوب الحق على جسم الباطل، وأكثر الناس أصحاب حسن ظاهر، فينظر الناظر فيما ألبسته من اللباس فيعتقد صحتها، وأما صاحب العلم واليقين فإنه لا يغتر بذلك، بل يجاوز نظره إلى باطنها وما تحت لباسها، فينكشف له حقيقتها إلى أن قال: وكم قد قتل هذا الاغترار من خلق لا يحصيهم إلا الله. انتهى كلامه.

    فتنبه يا طالب العلم! للشبهات، فإن لها بهرجاً براقاً سرعان ما يتشربها القلب الضعيف، حتى يعتقدها فيدافع وينافح عنها، نسأل الله عز وجل أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

    1.   

    الكلمة الثانية عشرة: العقيدة والسيرة صفاء للظاهر والسريرة

    كيف يسمي طالب العلم نفسه طالباً وهو لم يتمكن من معرفة العقيدة وغاياتها وأهدافها، بل وتحقيق ثمارها؟!

    فما معنى أنك صاحب عقيدة؟ وما معنى أنك صاحب غاية وهدف؟ وهل سألت نفسك يوماً من الأيام: لماذا تطلب العلم؟ وهل أنت على استعداد للإجابة يوم تسأل (وعن علمه ماذا عمل به

    قال الدكتور ناصر العقل في كتابه مقدمات في الأهواء : إن قاعدة: أَن اعْبُدُوا اللَّهَ [النحل:36] تعني: تحقيق التوحيد والعقيدة السليمة، وطاعة الله والتزام شرعه، وقاعدة: وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] تعني: تجنب الأهواء والافتراق والبدع وما تئول إليه من الشرك والكفر والظلم والفسق والإعراض عن دين الله، وكل الدين جملة وتفصيلاً يدور على هاتين القاعدتين، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَن اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36].

    يا طالب العلم! كيف يسمي طالب العلم نفسه طالباً وهو لا يعرف كيف كانت سيرة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وما فيها من الفضل والرحمة والهدى؟!

    إن أهل العلم من سلفنا رضوان الله تعالى عليهم كانوا يحفظون سيرته عن ظهر قلب ويعتبرونها من أجل القربات، فهذا ابن القيم كتب زاد المعاد في هدي خير العباد وهو من أفضل كتب السيرة.. كتبه وهو في طريقه للحج.

    وانظر إليه وهو يقول في المقدمة: هذه كلمات يسيرة لا يستغني عن معرفتها من له أدنى همة إلى معرفة نبيه صلى الله عليه وسلم وسيرته وهديه، اقتضاها الخاطر المكدود على عجره وبجره، مع البضاعة المزجاة التي لا تنفتح لها أبواب السدد، ولا يتنافس فيها المتنافسون، مع تعليقها في حال السفر لا الإقامة، والقلب بكل واد منه شعبة، والهمة قد تفرقت شذر مذر، والكتاب مفقود -إذاً فهو يمليها أو يكتبها من قلبه وعلمه رحمه الله- ومن يفتح باب العلم لمذاكرته معدوم غير موجود -يعني: الطلبة- ... إلى آخر كلامه هناك.

    فيا طالب العلم! خشية الله والعلم النافع بتكرار النظر في سيرة سيد البشر: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ [التوبة:109].

    1.   

    الكلمة الثالثة عشرة: فن طلب العلم

    طلب العلم فن قد لا يتقنه الجميع، فاحفظ وصايا أهل الخبرة والتجربة من سلفنا الصالح رحمهم الله.

    ينبغي لطالب العلم أن يستغرق جميع أوقاته، فإذا ملَّ من علم يشتغل بعلم آخر.

    وكان ابن عباس رضي الله عنه إذا ملَّ من الكلام يقول: [هاتوا ديوان الشعراء].

    وكان محمد بن الحسن إذا مل من نوع ينظر في نوع آخر، وكان يضع عنده الماء ويزيل نومه بالماء.

    ووقت تحصيل العلم من المهد إلى اللحد، وأفضل أوقاته شرخ الشباب -أي: أوله- ووقت السحر، وما بين العشائين.

    وورد عن الخطيب البغدادي أنه قال: أجود أوقات الحفظ الأسحار، ثم نصف النهار، ثم الغداة، وحفظ الليل أحسن من حفظ النهار، ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع. انتهى كلامه.

    وقال إسماعيل بن أبي أويس : [إذا هممت أن تحفظ شيئاً فنم، ثم قم عند السحر فأسرج وانظر فيه فإنك لا تنساه بعد إن شاء الله] انتهى كلامه.

    وكان الشافعي يقسم الليل ثلاثة أجزاء: ثلث للعلم، وثلث للعبادة، وثلث للنوم.

    وقال ابن سعدي رحمه الله: يتعين البداءة بالأهم من العلوم الشرعية وما يعين عليها من علوم العربية، وتفصيل هذه الجملة كثير معروف، يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص... إلى آخر كلامه.

    وقيل: حفظ المتون يشد المتون.

    وقيل: من حفظ المتون حاز الفنون.

    وقيل: من لم يكن علمه في صدره صعب عليه استحضاره.

    إلى آخر وصايا سلفنا رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

    1.   

    الكلمة الرابعة عشرة: قف وتأمل قبل أن يقال: فلان مات!!

    وقفت يوماً من الأيام مع آية في كتاب الله، فخفق قلبي واقشعر بدني وأنا أتأمل معناها.

    يقول الحق عز وجل: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الكهف:103-104].

    فيا طالب العلم! اسأل نفسك بصدق: هل أنت راضٍ عن نفسك؟! وهل ما تقدمه هو لله حقيقة أم للنفس وحظوظها نصيب؟! هل غيرتك لله أم أن للحسد والغيرة نصيباً؟!

    إنك سعيد في الدارين إن كان قولك وفعلك وحبك وبغضك خالصاً لله، إنك سعيدٌ كل السعادة في سراء كنت أو ضراء، أصابتك منحة أو محنة، أياً كان حالك فأنت سعيد ما دمت تطلب العلم لله بحق، وتعمل لله بصدق، وتحب في الله وتبغض في الله.

    إنني أعيذك ونفسي أيها الحبيب! أن نكون ممن ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

    قال رجل لـأبي عبد الرحمن زهير بن نعيم : يا أبا عبد الرحمن ! توصي بشيء؟! قال: نعم. احذر أن يأخذك الله وأنت على غفلة.

    1.   

    الكلمة الخامسة عشرة: الابتلاء امتحان لأهل العلم

    قال ابن الجوزي كلاماً نفيساً في صيد الخاطر : (فصل: محك الحوادث): سبحان المتصرف في خلقه بالاغتراب والإذلال ليبلو صبرهم، ويظهر جواهرهم في الابتلاء، هذا آدم صلى الله عليه وسلم تسجد له الملائكة ثم بعد قليل يخرج من الجنة، وهذا نوح عليه السلام يضرب حتى يغشى عليه، ثم بعد قليل ينجو في السفينة ويهلك أعداؤه، وهذا الخليل عليه السلام يلقى في النار ثم بعد قليل يخرج إلى السلامة، وهذا الذبيح يضطجع مستسلماً ثم يسلم ويبقى المدح، وهذا يعقوب عليه السلام يذهب بصره بالفراق ثم يعود بالوصول، وهذا الكليم عليه السلام يشتغل بالرعي ثم يرقى إلى التكليم، وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقال له بالأمس اليتيم، ويقلب في عجائب يلاقيها من الأعداء تارة، ومن مكائد الفقر أخرى، وهو أثبت من جبل حراء ، ثم لما تم مراده من الفتح، وبلغ الغرض من أكبر الملوك وأهل الأرض نزل به ضيف النقلة فقال: وا كرباه!

    فمن تلمح بحر الدنيا، وعلم كيف تتلقى الأمواج، وكيف يصبر على مدافعة الأيام، لم يستهول نزول بلاء، ولم يفرح بعاجل رخاء. انتهى كلامه رحمه الله.

    والله عز وجل يقول: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31].

    1.   

    الكلمة السادسة عشرة: التواضع ثمرة العلم النافع

    قال وكيع : لا يكون الرجل عالماً حتى يحدث عمن هو فوقه، وعمن هو مثله، وعمن هو دونه.

    تواضع وخذ العلم النافع من الجميع ولا تتكبر، فرب مسألة يفتح الله بها على طويلب علم لم يفتح بها على عالم من العلماء الأفذاذ، فما تحلى طالب العلم بحلية أجمل ولا أحسن من التواضع.

    قال الفضيل بن عياض : [ما من أحد أحب الرئاسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يذكر أحد بخير].

    وقال أبو نعيم : والله ما هلك مَن هلك إلا بحب الرئاسة.

    فينبغي لطالب العلم ألا يستنكف أن يستفيد ما لا يعلمه ممن هو دونه منصباً أو نسباً أو سناً، بل يكون حريصاً على الفائدة حيث كانت، والحكمة ضالة المؤمن يلتقطها حيث وجدها.

    قال سعيد بن جبير : [لا يزال الرجل عالماً ما تعلم، فإذا ترك التعلم وظن أنه قد استغنى واكتفى بما عنده، فهو أجهل ما يكون].

    وكان جماعة من السلف يستفيدون من طلبتهم ما ليس عندهم:

    قال الحميدي وهو تلميذ للشافعي : صحبت الشافعي من مكة إلى مصر فكنت أستفيد منه المسائل وكان يستفيد مني الحديث.

    وقال أحمد بن حنبل : قال لنا الشافعي : أنتم أعلم بالحديث مني، فإذا صح عندكم الحديث فقولوا لنا حتى نأخذ به.

    وقد روى جماعة من الصحابة عن التابعين.

    وأبلغ من ذلك كله قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أُبي رضي الله تعالى عنه وقال له: (أمرني الله أن أقرأ عليك لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا [البينة:1]) كما عند مسلم في صحيحه .

    قالوا: ومن فوائده: ألا يمتنع الفاضل من الأخذ عن المفضول.

    إن التواضع من خصـال المتقي     وبه التقي إلى المعالي يرتقي

    ومن العجائب عجب من هو جـاهل     في حاله أهو السعيد أم الشقي

    قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: [تغفلون عن أفضل العبادة، تغفلون عن أفضل العبادة؛ التواضع].

    وكان ابن المبارك يكتب عمن هو دونه، فقيل له -أي: كأنه أُنكر عليه- فقال رحمه الله: لعل الكلمة التي فيها نجاتي لم تقع إلي.

    وقال إبراهيم بن الأشعث : سألت الفضيل بن عياض عن التواضع فقال: [أن تخضع للحق وتنقاد له ممن سمعته، ولو كان أجهل الناس لزمك أن تقبله منه].

    1.   

    الكلمة السابعة عشرة: يا طالب العلم! إياك والحسد

    يا طالب العلم! إياك والحسد؛ فإنه اعتراض على قدر الله.

    ألم تسمع لقول الله عز وجل: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:54]؟ والحسد إحراق للنفس وتعطيل لها، فلا هم لها إلا تتبع الزلات، وتصيد العيوب، والاشتغال بالمحسود، وقد يتعدى إلى أذى المحسود والكيد له، وهذا من أشنع الظلم الذي نهى الله عنه.

    أخرج الحاكم وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيصيب أمتي داء الأمم، قالوا: يا نبي الله! وما داء الأمم؟ قال: الأشر والبطر، والتكاثر والتنافس في الدنيا، والتباغض والتحاسد، حتى يكون البغي ثم الهرج) صححه الحاكم ووافقه الذهبي ، وجوّد إسناده الحافظ العراقي كما في تخريج الإحياء .

    قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم : وقد يبتلى بعض المنتسبين إلى العلم وغيرهم بنوع من الحسد لمن هداه الله لعلم نافع أو عمل صالح، وهو في هذا الموضع من أخلاق المغضوب عليهم.

    واسمع لهذا الكلام الجميل النفيس:

    قال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله تعالى: ومن أهم ما يتعين على أهل العلم معلمين أو متعلمين، السعي في جمع كلمتهم وتأليف القلوب على ذلك، وحسم أسباب الشر والعداوة والبغضاء بينهم، وأن يجعلوا هذا الأمر نصب أعينهم يسعون له بكل طريق؛ لأن المطلوب واحد، والقصد واحد، والمصلحة مشتركة، فيحققون هذا الأمر بمحبة كل من كان من أهل العلم، ومن له قدم فيه واشتغال أو نصح، ولا يدعون الأغراض الضارة تملكهم وتمنعهم من هذا المقصود الجليل، فيحب بعضهم بعضاً، ويذب بعضهم عن بعض، ويبذلون النصيحة لمن رأوه منحرفاً عن الآخر، ويبرهنون على أن النزاع في الأمور الجزئية التي تدعوا إلى ضد المحبة والائتلاف لا تقدم على الأمور الكلية التي فيها جمع الكلمة، ولا يدعون أعداء العلم من العوام وغيرهم يتمكنون من إفساد ذات بينهم وتفريق كلمتهم، فإن في تحقيق هذا المقصد الجليل والقيام به من المنافع ما لا يعد ولا يحصى، ولو لم يكن فيه إلا أن هذا هو الدين الذي حث عليه الشارع بكل طريق لكفى...

    إلى أن قال رحمه الله: وإذا كان كل طائفة منهم منزوية عن الأخرى منحرفة عنها، انقطعت الفائدة وحلّ محلها ضدها من حصول البغضاء والتعصب والتفتيش من كل منهما عن عيوب الطائفة الأخرى وأغلاطها، والتوسل به للقدح، وكل هذا مناف للدين والعقل ولما عليه السلف الصالح، حيث يظنه الجاهل من الدين... إلى آخر كلامه النفيس الجميل هناك في الفتاوى السعدية .

    اسمع لهذه الكلمة العجيبة؛ حيث يقول الأوزاعي : إذا أراد الله بقوم شراً فتح عليهم الجدل ومنعهم العمل.

    وقال ابن يحيى الوشاء في كتابه الظرف والظرفاء : على أنه لا بد للحاسد وإن لم يجد سبيلاً إلى وهن ولا سبباً إلى طعن أن يحتال لذلك بحسب ما ركب عليه طبعه وتضمنه صدره، حتى يخلص إلى غفلة أو يصل إلى زلة، فيتشبث بالمعنى الحقير، ويتسبب بالحرف الصغير إلى ذكر المثالب وتغطية المناقب، إذ من طبع أهل الحسد وأرباب المعاندة والنكد تغطية محاسن من حسدوه، وإظهار مساوئ من عاندوه، ثم ذكر هذه الأبيات:

    عين الحسود عليك الدهر حارسة     تبدي المساوئ والإحسان تخفيه

    يلقاك بالبشر يبديه مكاشرة     والقلب مضطغن فيه الذي فيه

    إن الحسود بلا جرم عداوته     فليس يقبل عذراً في تجنيه

    فيا طالب العلم! الله الله فتوحيد الصف ووضع الكف بالكف، وإياك إياك والحسد فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، وإن وجدت شيئاً منه في نفسك فاستعذ بالله منه، وجاهد نفسك واستعن بالله، وادع للمحسود أن يبارك الله له فيما آتاه، واطلب الله أن يزيدك ويزيده من فضله فإنه هو الرزاق ذو القوة المتين، وتذكر أن (من دعا لأخيه بظهر الغيب قال له الملك الموكل به: ولك مثله) كما في صحيح مسلم .

    نعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن شر حاسد إذا حسد.

    1.   

    الكلمة الثامنة عشرة: طريقنا للقلوب

    قال بعض الدعاة: طالب العلم بشوش، طلق المحيا، بادي الثنايا، يكاد يذوب رقة وخلقاً، أما الفظاظة والغلظة فمن أخلاق جفاة الأعراب وجنود البربر فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].

    وذكر ابن القيم أسباب انشراح الصدر وقال: ومنها: العلم؛ فإنه يشرح الصدر ويوسعه حتى يكون أوسع من الدنيا، والجهل يورثه الضيق والحصر والحبس، فكلما اتسع علم العبد انشرح صدره واتسع، وليس هذا لكل علم بل للعلم الموروث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو العلم النافع، فأهله أشرح الناس صدراً، وأوسعهم قلوباً، وأحسنهم أخلاقاً، وأطيبهم عيشا. انتهى كلامه من زاد المعاد .

    تعلّم فإن العلم زين لأهله     وفضل وعنوان لكل المحامد

    وكن مستفيداً كل يوم زيـادة     من العلم وسبح في بحار الفوائد

    تفقه فإن الفقه أفضل قائد     إلى البر والتقوى وأعدل قاصد

    هو العلم الهادي إلى سنن الهدى     هو الحصن ينجي من جميع الشدائد

    فإن فقيهاً واحداً متورعاً     أشد على الشيطان من ألف عابد

    1.   

    الكلمة التاسعة عشرة: وقبل الختام العمل بالعلم

    قال ابن الجوزي في صيد الخاطر : الله الله في العمل بالعلم، فإنه الأصل الأكبر، والمسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به، ففاتته لذات الدنيا وخيرات الآخرة، فقدم مفلساً مع قوة الحجة عليه.

    ونقل ابن عبد البر في الجامع قول أُبي بن كعب : [تعلموا العلم واعملوا به، ولا تتعلموه لتتجملوا به، فإنه يوشك إن طال بكم زمان أن يتجمل بالعلم كما يتجمل الرجل بثوبه] والله المستعان.

    ويروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: [العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل].

    وقال ابن القيم : سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحاً فاتهمه، فإن الرب تعالى شكور -يعني: أنه لا بد أن يثيب العامل على عمله في الدنيا من حلاوة يجدها في قلبه، وقوة انشراح، وقرة عين، فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول-. انتهى كلامه.

    إذاً: فمجرد العلم يبقى حجة عليك، فإذا عملت به أصبح حجة لك، فالأعمال تشفع لصاحبها عند الله، وتذكر به إذا وقع في الشدائد.

    وتذكر قول الحق عز وجل عن ذي النون: فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143-144].

    فيا طالب العلم! الله الله في العمل بالعلم، تجمع خيري الدنيا والآخرة.

    وقال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى : وكان السلف يستعينون بالعمل على العلم، فإن عمل به استقر ودام، ونما وكثرت بركته، وإن ترك العمل به ذهب أو عدمت بركته، فروح العلم وحياته وقوامه إنما هو بالقيام به عملاً وتخلقاً وتعليماً ونصحاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!

    وقال أيضاً: فمن شح بعلمه مات علمه بموته، وربما نسيه وهو حي، كما أن من بث علمه كان حياة ثانية، وحفظاً لما علمه، وجزاه الله من جنس عمله.

    1.   

    الكلمة العشرون: دعاء

    اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.

    اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن نفس لا تشبع.

    اللهم يا معلم آدم علمنا، ويا مفهم سليمان فهمنا، ويا مؤتي لقمان الحكمة آتنا الحكمة وفصل الخطاب.

    ربنا زدنا علماً ووفقنا لما تحبه وترضاه.

    اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، اللهم أشغله بنفسه، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميراً عليه يا حي يا قيوم، اللهم اكفناهم بما شئت.

    اللهم لا حول لنا ولا قوة إلا بك يا حي يا قيوم.

    اللهم وفق أولياء أمورنا لما تحبه وترضاه، ووفقهم لما فيه خير الإسلام والمسلمين، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة.

    اللهم أرنا وأرهم الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

    سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    1.   

    الأسئلة

    حكم الإعراض عن الدعوة خوف الرياء

    السؤال: ما رأيك فيمن يعرض عن الوعظ والإرشاد في بيوت الله مع أن الله أعطاه علماً يؤهله لأن يدعو وينصح الناس ويذكرهم، لكنه يعرض ادعاء للورع، وأنه لم يحن وقت ذلك بعد، فهل يكون ممن كتم علماً ويعاقب على ذلك؟! وجزاكم الله خيراً.

    الجواب: هذا مما ابتلي به كثير من طلبة العلم وللأسف في مثل هذا الزمن، الورع البارد أو الورع الكاذب، فتجد أن طالب العلم قد تعدى مرحلة الجامعة ولديه حصيلة طيبة من العلم درسها في خضم سنوات، وربما أنه ما زال طالباً للعلم بثنيه ركبه عند العلماء وفي حلقات العلم، ومع ذلك تجد أنه لا يعمل بعلمه ولا يقوم بالعمل بعلمه، وكلما حُدِّث أو طلب منه أمر تجده يبادر بالاعتذار مظهراً التواضع أو الورع لنا.

    ونحن نقول لهذا وأمثاله: إن لم تعمل بعلمك الآن فمتى أيها المحب؟! والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بلغوا عني ولو آية) ولا شك أنك تعلم خيراً كثيراً، فنحن نقول لكل إنسان يعلم شيئاً: بلغ هذا العلم بقدر ما عندك، لا نطلب منك فوق طاقتك ولا نطلب منك ما لا تطيق، إنما الذي نطلبه أيها المحب! أن تبلغ ما لديك بقدر ما تستطيع.

    إذاً: لا حجة لك، وأخشى والله عليك أن تقدم على الله عز وجل ولك علم بلا عمل، والله أعلم بحالك.

    مع الأسف أصبح الورع والتواضع شماعة يعلق عليها كثير من طلبة العلم كسلهم وفتورهم وقعودهم عن العمل وربما خوفهم وغير ذلك، وهذه مصيبة.

    ونقول لأمثال هؤلاء: الله أعلم بحالكم، وإن تظاهرتم لنا بالورع والتواضع.

    علاج الكسل في طلب العلم

    السؤال: بعض طلبة العلم يبدأ في الطلب وحفظ المتون ثم يصيبه الكسل فيترك الحفظ والطلب، فهل من علاج لذلك؟

    الجواب: العلاج الاستعانة بالله عز وجل وترك المعاصي والذنوب: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].

    ووالله! ما ظهر ضعفنا إلا بسبب كثرة ذنوبنا ومعاصينا وضعف الصلة بالله عز وجل، وهذا الجانب ينقص كثيراً من الصالحين وللأسف!

    فالله الله في تقوية الصلة بالله، الله الله في أن يراقب الإنسان ربه سبحانه وتعالى.

    أيها الأخ الحبيب! كم نضعف؟! وانظر إلى واقعنا وحالنا وحال كثير من الصالحين فضلاً عن عامة المسلمين، انظرهم والطاعات.. والنوافل.. وطهارة القلب وطهارة اللسان -والله المستعان- ولا نشكو إلا إلى الله عز وجل.

    انظر إلى قيام الليل، كم تلك الليالي التي وقفتها أنت في ظلمة ليل تناجي فيها ربك، وتشكو فيها إلى الله حالك، وحال الأمة الإسلامية وضعفها؟!

    إننا بأمس الحاجة إلى أن نقوي صلتنا بالله.. إننا نشكو ربما إلى البشر كثيراً ويلجأ الإنسان منا في مواقف ضعف وعجز كثيراً إلى الناس، وننسى -وللأسف- أن نشكو عجزنا وضعفنا وحالنا إلى الله سبحانه وتعالى.

    لنرفع أكف الضراعة، ولنجعل بيننا وبين الله أسراراً، وليكن بيننا وبين ربنا خلوات، لنحسن الصلة بالله عز وجل صياماً وقياماً وذكراً وطهارة قلب وسلامة صدر، وسنجد أن كلماتنا لها قبول، وأن أثرنا في المجتمع له ما له في نفوس الناس.

    بعد ذلك انظر إلى نفسك وحفظ المتون، انظر إلى نفسك وتدبر آيات الله عز وجل.. انظر إلى نفسك وكثرة العلم وكثرة النفع، والله أعلم.

    طريقة التعامل مع القرآن

    السؤال: القرآن الكريم من أفضل العلوم، فكيف تنصحنا بطريقة التعامل مع كتاب الله حفظاً ومراجعةً وعملا؟ وكيف يربي الواحد منا نفسه ويرغبها على حب العلم وطلبه؟

    الجواب: أظن أننا مما ذكرنا ضمن الدرس شيئاً كثيراً من هذا.

    أما القرآن -فكما أسلفت- فنشكو إلى الله عز وجل حالنا معه، فربما مر بطالب العلم اليوم واليومان والثلاثة ولم يفتح كتاب الله عز وجل، ونقرأ في سير السلف والعلماء رضوان الله تعالى عليهم أجمعين أن الإنسان منهم له ورد في كل يوم وليلة، وربما كان هذا الورد أن يختم القرآن في ليلة ولا نتعجب.

    وقد كنا والله نتعجب ونقول: لا يستطيع الإنسان أن يختم القرآن في ليلة، وسألنا ووجدنا كثيراً من الصالحين أنهم يستطيعون أن يختموا القرآن فعلا، وإن كان يصاحبه عدم التدبر والخشوع، هذا حق، ولكنهم يختمونه.

    المهم: أنه كان لكثير من السلف ورد وحزب من كتاب الله عز وجل ربما كان حزبه هذا هو القرآن كاملاً.

    فما هو حزبنا نحن وما هو وردنا أيها الأحبة! في اليوم والليلة؟!

    كما أسلفت ربما يمر على الواحد منا اليوم واليومان والثلاثة وربما الأسبوع ولم يقرأ فيها كتاب الله عز وجل، والله المستعان.

    الطريقة الناجحة لطلب العلم

    السؤال: هل يكتفى بمطالعة الكتب فقط، على سبيل المثال: كتب ابن القيم والماوردي وابن رجب وغيرهم من العلماء، دون ثني الركب عند العلماء، أم هما متلازمان؟!

    الجواب: أقول: هما متلازمان، ولا بد من الاستفادة من العلماء وطلبة العلم، ولا بد من ثني الركب، فإن حضور حلقات العلم وثني الركب عند العلماء فيه خير كثير وفيه فوائد جمة، ولو لم يكن فيه من الفوائد إلا أن من جلس أمامك من العلماء أو طلبة العلم أو غيرهم، إنما جاء لك بخلاصة وقته وبخلاصة عمره، فتح الكتب ونظر في الصفحات وقلب وقضى على كثير من وقته من أجل أن يحضر لك مادة علمية تسمعها وتستفيد منها.

    أقول: لو لم يكن لحضور مثل هذه الحلقات إلا أن تستفيد من هذه العصارة التي قضى ذلك العالم أو طالب العلم وقته ليجمع لك مثل هذه المادة، هذا لوحده كاف، فضلاَ عن تعويد النفس الصبر، فضلاً عن فضل مجالس الذكر، فضلاً عن مجالسة الصالحين، وخذ وعدد من فوائد حضور حلقات العلم.

    ولا يمكن أن يعتمد الإنسان على الكتاب فحسب، فمن كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه، فلا يكفي أن تتعلم من الكتب، إنما لا بد أن تستشير وأن ترجع وأن تثني الركب عند العلماء وعند طلبة العلم.

    علامات الإخلاص

    السؤال: ما هي علامات الإخلاص التي تظهر وتعرف على طالب العلم؟

    الجواب: الإخلاص أمر قلبي، والإنسان الصالح يحرص أن يخلص عمله لله عز وجل، وألا يكون فيه مراءاة للناس ولا حظاً من حظوظ النفس.

    وإذا حرص على ذلك، فلا بأس أن يظهر العمل للناس أحياناً، خاصة إن كان من أصحاب القدوة أو من أهل القدوة وممن ينظر إليهم ليس من أجل أن يحمده الناس وإنما لأنه قدوة.

    وليس كل عمل لا يظهر للناس أخلص صاحبه، كما أنه -أيضاً- ليس كل عمل أظهره صاحبه للناس إنما هو منافق ومراءٍ فيه، وإنما الإخلاص يعرف صاحبه متى حققه.

    وعلى الإنسان أن يراقب ربه عز وجل وأن يلحظ نفسه في مثل هذا الباب، والله المستعان! .

    وصلى الله على نبينا محمد.ذ

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718655

    عدد مرات الحفظ

    754729083