إسلام ويب

ويؤثرون على أنفسهمللشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الأخوة في الله من أجل القربات إلى الله، لذلك حرص النبي صلى الله عليه وسلم على غرس هذه الأخوة في مطلع دعوته، فكان أصحابه خير قدوة لنا في هذا الأمر، ثم سار على ذلك النهج التابعون وتابعوهم بإحسان إلى يوم الدين، وتظهر أعلى مراتب الأخوة بالإيثار الذي هو علامة على صلاح المجتمع.

    1.   

    فضل الأخوة في الله وصفات المتآخين فيه

    الحمد لله الذي اصطفى لمحبته الأخيار، وصرف قلوبهم في طاعته ومرضاته آناء الليل وأطراف النهار.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مقلب القلوب والأبصار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الأطهار، وعلى جميع أصحابه الأخيار من مهاجرين وأنصار، وعلى جميع من سار على نهجهم واقتفى آثارهم ما أظلم الليل وأضاء النهار.

    أما بعد:

    فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    إخواني في الله: الحمد لله الذي جمعني معكم في هذا البيت من بيوت الله، وبعد هذه الفريضة من فرائض الله.

    الحمد لله الذي شرح بالقرآن صدورنا، وأنار بالإسلام قلوبنا.

    الحمد لله حمداً وهو أهله، والشكر لله جميعه وكله.

    يعلم الله حبي لكم في الله وشوقي إلى هذا المجلس من مجالس ذكر الله، شَكَرَ الله مسعاكم، وقرن بالجنة طيب خطاكم.

    وأسأل الله العظيم أن يجمعنا بكم في جنان النعيم حيث الحفاء والتكريم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    إخواني في الله: إن الأخوة في الله والدين من أوثق عرى الإيمان بالله رب العالمين. إنها الأخوة بكل ما تدل عليه من معاني الحب والوفاء والود الصادق والإخاء. إنها الأخوة التي سار عليها سلف هذه الأمة من الماضين من العلماء العاملين، وطلاب العلم الصادقين، والأخيار والصالحين، ساروا على نهجها متحابين متآلفين، ساروا على نهجها متعاطفين متراحمين، ساروا على نهجها متناصرين متآزرين، يوم كان المسلمون كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)! يوم كان الإسلامُ وكان أهلُه! يوم كان القرآن وكان جيله! يوم كانت عيون المسلمين تسح بالبكاء والدموع لدموع إخوانهم في مشارق الأرض ومغاربها! يوم جمع الله القلوب على هذا الكتاب العظيم، وعلى هذا النور الكريم! فسبحان من جمع شتاتها! وسبحان من ألَّف بينها! وسبحان من وحَّد كلمتها! سبحانه! ما أعظم شأنه! يوم كان الإسلام وكان رجاله! يوم كان القرآن وكان رعيله وأجياله!

    صور من أخوة الصحابة وإيثارهم على أنفسهم

    ولقد غرس النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأخوة الصادقة في قلوب المهاجرين والأنصار، يوم وقف الأنصاري أمام أخيه المهاجر فقال: أخي! هذا مالي بيني وبينك، هذه دنياي! نصفُها لي ونصفها لك، هاتان زوجتاي! انظر إلى أحسنهما أطلقها وهي لك.

    فالله أكبر! ما أعظم سلطان الإيمان على القلوب!

    والله أكبر! ما أعظم سلطان القرآن على القلوب! والله أكبر يوم استجابت! والله أكبر يوم أذعنت وأسلمت! يوم كان المسلم مسلماً مستسلماً لله منقاداً ذليلا طائعاً! يوم كان ذليلاً على المؤمنين، عزيزاً شديداً على الكفار وأعداء الدين، يوالي في الله رب العالمين، إخوته على نهج الإيمان والدين! يوم كان أولئك الأجيال .. يوم كان أولئك الأبطال .. يوم كان أولئك الرجال الذين زكاهم الكبير المتعال من فوق سبع سماوات.

    وقف رجل من الأنصار على النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاة العشاء في ظلام الليل، في زمانٍ شديدٍ أَمْرُه فقال: يا رسول الله! إني مجهود -أي: بلغ بي الجوع والظمأ ما بلغ- فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أم المؤمنين وزوجة من أزواجه -رضي الله عنهن أجمعين-: هل عندكم طعام؟ فأرسلت إليه: والله ما عندنا شيء إلا الماء، فلما رجع رسولُها أرسله إلى زوجة ثانية، فقالت: والله ما عندنا من شيء إلا الماء، فأرسله إلى الزوجة الثالثة، فقالت: والله ما عندنا شيء إلا الماء، حتى انتهى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم -فصلوات ربي وسلامه عليه يوم خلا بيته من الطعام، ومُلِئ حكمةً وإيماناً من القرآن- فلما جاء الرسول من عند آخر زوجة وأخبره بأنه لا طعام، قام في أصحابه فقال: مَن يستضيف هذا أو يطعمه رحمه الله؟ فقام أبو طلحة ، وأخذ بضيف النبي صلى الله عليه وسلم بيده إلى طعامه وطعام أهله وزوجه، وقرع الباب على تلك المؤمنة الصالحة فقال: هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم -فرحَّبَتْ وابتهَجَتْ وسُرَّت- وقالت: والله ما عندنا من طعام إلا طعامي وطعامك وطعام الصبية، فقال لها: أطفئي السراج ونوِّمي الصبية، فلما أُطْفئ السراج ودنا الضيف إلى الطعام جعل أبو طلحة رضي الله عنه وأرضاه يتظاهر بالأكل، كأنه يأكل حتى أتى الضيف على الطعام كله، وبات أبو طلحة جائعاً، وباتت زوجه جائعة فلما غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم -غدا إليه جائعاً، غدا إليه مُقْفِر الأحشاء طاوياً؛ ولكن غدا إليه بقلب يحب الله ورسوله، غدا إليه بإيمان، وببر وطاعة وإحسان، غدا إليه بالإيثار- ووقف أمام النبي صلى الله عليه وسلم، تهلَّل وجه النبي صلى الله عليه وسلم بالبشر والسرور فقال لـأبي طلحة تلك البشارة العظيمة: (عجب الله من صنيعكما بضيفكما البارحة!) الله أكبر! ملك الملوك وجبار السماوات والأرض يعجب من الإيثار! يعجب من الأخوة الصادقة من الأنصار! يوم جاعت الأحشاء والأمعاء؛ ولكن مُلِئت القلوب بحب الله فاطر الأرض والسماء! عجب الله -والعجب صفة من صفاته كما يليق بجلاله وكماله- عجب الله من الإيمان! وعجب من التسليم والإذعان! وعجب من الصدق والبر والإحسان من أبي طلحة رضي الله عنه وأرضاه! وما هي إلا لحظات حتى ينزل جبريل من السماوات بثناء الله جل وعلا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها على ذلك الصادق الطاهر، وذلك الذي تبطن في قلبه الجواهر من تلك المعاني السامية، وَالَّذِينَ تَبَوَّئُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].

    هنيئاً بهذه الشهادة! هنيئاً بمن شهد الله له بالإيثار! وشهد له بالصدق في المحبة والعبودية لله الواحد القهار! طبتَ وطاب غناك! وطبت وطاب ممشاك! وطبت وطاب بذلك لله جل جلاله!

    إنها المعاني الكريمة التي غرسها النبي صلى الله عليه وسلم في قلوبِ الصحابة؛ قلوبِ أولئك الأخيار من المهاجرين والأنصار، قال يوماً من الأيام للأنصار: (هلمُّوا أعطيكم مالاً من البحرين ، فقالوا: لا والله حتى تقسمه بيننا وبين المهاجرين) يميناً وطئت بها الدنيا بالأقدام المؤمنة، أولئك الذين آمنوا، أولئك الذين صدقوا، وما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خرج من الدنيا إلا والصحابة قد تغلغل في قلوبهم هذا المعنى الكريم، تغلغل في قلوبهم حب المؤمنين، والتذلل لعباد الله المتقين، تغلغل في قلوبهم ذلك المعنى الذي أخبر الله بحب أهله: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [المائدة:54].

    فما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا والأخ يشد أزر أخيه، وفي طاعة الله يثبته ويواسيه. توفي النبي صلى الله عليه وسلم وهم محافظون على الأخوة وعَهْدِها، محافظون على الأخوة وبِرِّها وودادِها، هذا أبو الدرداء رضي الله عنه وأرضاه يقول: [والله إني لأدعو لسبعين من أصحابي؛ أسميهم رجلاً رجلاً في سجودي] هذا هو الحب الصادق، والحب في الله، والموالاة في الله يوم أن كانت الدنيا تحت أقدامهم.

    قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه: [أُهْدِي إلى رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رأسُ شاة وهو جائع ومحتاج، فلما وضع الرأس بين يديه قال: اذهبوا به إلى فلان، فوالله إنه لأحوج إليه مني، فحُمِل ذلك الرأس إلى أخيه، فلما وُضِع أمامه نظر إليه والجوع يكويه فقال: اذهبوا به إلى فلان فوالله إنه لأحوج إليه مني، ثم انتقل إلى الرجل حتى عاد إلى الصحابي الأول، قال رضي الله عنه وأرضاه: سبعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتداولونه].

    كانوا -يوم كانوا- يؤثرون الآخرة! كانوا وكأنهم في السفينة الماخرة إلى لقاء الله والبرزخ والدار الآخرة، فقد هانت عليهم الدنيا، وكان الإيمان في قلوبهم أسمى وأسنى وأعلى وأبهى من حطام الدنيا الزائل، ومتاعها الفاني الحائل.

    صور من الأخوة والإيثار عند التابعين

    ولقد غرس أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم هذه المعاني الكريمة، والمعاني الجليلة في قلوب التابعين الأخيار، فهذا إمام من أئمتهم يقول: [والله لو جُمِعَت لي الدنيا في لقمة واحدة، وجاءني أخ في الله لوضعتها في فمه ولا أبالي].

    وهذا علي زين العابدين ؛ إمام من أئمة التابعين، وسيد من سادات العلماء المجتهدين، كان رحمه الله طيباً بن طيب بن طيب؛ علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين؛ عنه وعن أبيه وعن جده ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:34].

    يسمونه: زين العابدين ؛ لِزَيْنِ عبادته، وكمال خشوعه بين يدي ربه.

    كان إذا توضأ احمرَّ وجهُه واصفرَّ وتغيَّر، فقيل له ذات مرة: [ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ قال: ألا تدرون مَن أناجي؟! ألا تدرون مَن أقف بين يديه؟!] وهو الله جل جلاله.

    وكان إذا أراد الحج والعمرة ولبس إحرامه فقال: [لبيك] خرَّ مغشياً عليه، وذات مرة قال: [لبيك! ثم خرَّ مغشياً عليه، ثم أفاق، فقال: لبيك! ثم خرَّ مغشياً عليه، فلما كان في الثالثة قيل له: ما هذا يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: أخشى أن يقال لي: لا لبيك ولا سعديك!].

    وكان حَيَّ القلب، نقيَّ العبادة، نقيَّ الجوهر رضي الله عنه وأرضاه.

    هذا الإمام الجليل كان إذا جنَّ الليل، حمل الطعام على ظهره إلى بيوت الأرامل والأيتام في شدة الظلام؛ ليشتري به رحمةَ الله جل جلاله، وكان يتَلَثَّم فلا يعرفه أحد، فلما توفي -رحمه الله- فَقَدَ أكثرُ مِن ستين بيتاً من بيوت المسلمين وضعفائهم رجلاً كان بالليل يطرق عليهم بالطعام. هذا الإمام كان وحده -رحمه الله- يحمل الطعام على ظهره، فلما أُرِيْدَ تغسيلُه وتكفينُه جُرِّدَ من ثوبه، فانكشف ظهرُه، فإذا فيه أثر الأكياس التي كان يحملها في الظلام، رحمة الله على تلك القلوب المؤمنة، وسلامٌ على قلوب ضمَّت أشلاؤهم! وسلامٌ على قبور ضمَّت أجسادهم! يوم أن صدقوا مع الله جل جلاله، وباعوا الدنيا من أجل إخوانهم المسلمين، وكانوا أحبةً في الله والدين، فكانت الدنيا عندهم حقيرة ذليلة مهينة.

    كان الواحد إذا لقي أخاه تلقاه والبشر على صفحات وجهه، والسرور على ظاهره، يشعره بالأخوة في الدين، وكان الإمام والعالم منهم لا يستطيع الواحد أن يعرفه بين الناس من التواضع وترك الرياء، رحمة الله عليهم أجمعين، وكانوا إذا دخل بعضهم على بعض أَكْرَموا وتنافسوا للخير وتسابقوا.

    فهذا عبد الرحمن بن أبي ليلى ، أدرك أكثر من مائة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يقول عنه ابن أبي زياد : والله ما دخلنا عليه إلا حدثنا بأطيب الحديث، وأطعمنا بأحسن الطعام.

    وكان الحسن البصري رحمه الله سيداً من سادات التابعين، فقد كان رحمه الله إذا دخل عليه أخوه قام فأكرمه بنفسه، وهو الإمام في العلم والورع.

    كانوا مؤثِرِين للأخوة في الله والدين، وأحبة في الله متراحمين متواصلين متباذلين، يوم كان الإسلامُ وكان أهلُه، يوم كان القرآن دليلَهم، وكان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إمامَهم وأمامَهم، يوم كانوا عاملين بكتاب الله، ثابتين بكلام الله، يوم وَصَفَهم الله بأنَّهم رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29] فكم من عيون منهم سَحَّت بالبكاء لبكاء عيون من المسلمين!

    أين هذه النماذج الكريمة؟!

    أين هذه الأمة الطاهرة البَرَّة الرحيمة؟!

    أين هذه القلوب العظيمة؟!

    أين هي من نماذجِ اليوم؛ يوم صاح الأيتام، وصاحت الأرامل، فلم تجد لها مغيثاً غير الله جل جلاله؟!

    أين هذه القلوب الرحيمة؟!

    أين هذه الأمة الكريمة؛ يوم قَطَّعَت الأرحام، فضلاً عن أخوة الإسلام، حتى اقتتل الرجلان على شبر من الأرض، ولا حول ولا قوة إلا بالله! يوم سَبَّ المسلمُ أخاه، وانتهك عرضَه، واستباح غَيْبَتَه على متر أو مترين من الأرض، وإنا لله وإنا إليه راجعون! يوم أصبح الإسلام اسماً على الظواهر، بعيداً عن القلوب والجواهر، وأصبح العبد يوالي في الدنيا، ويعادي في الدنيا، فالناس بها عنده مراتب، نسأل الله السلامة والعافية من حال أهلها.

    1.   

    حقيقة الإيثار وأسبابه

    أيها الأحبة في الله: الإيثار! وما أدراك ما الإيثار! رحمةٌ من الله الكريم الغفار .. رحمةٌ أسكنها قلوب المؤمنين، فبذلت وضحت لوجه الله رب العالمين، اقتحم أصحابُها العقبة، ففكوا الرقبة، وأطعموا في كل يومٍ ذي مسبغة، يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة، قلوبُ أهلها رقيقة لينة حليمة رحيمة، لا تحتمل فواجع المسلمين، بل تهتز لدعاء المصابين والمنكوبين.

    الإيثار! وما أدراك ما الإيثار! أن تجعل القبر أمام الأنظار، فتسعى إلى رحمة الله الكريم الغفار، في إجابة دعوةٍ مِن أرملة، أو دعوةٍ مِن بائسة، أو دعوةٍ مِن مكروب، أو دعوةٍ مِن مهموم أو مغموم، أو كربة تفرِّجها على مديون ومعسر.

    الإيثار! وما أدراك ما الإيثار! رحمة الله الكريم الغفار، يوم تُخَطُّ في الدواوين الحسنات، ويوم تُرْفَع به لأصحابه الدرجات، ويوم يستوجب من الله عظيم المغفرات، فكم مِن أيدٍ لهم سَخَتْ آناء الليل وأطراف النهار، فغُفِرَت معها ذنوبُ العمر، ومُحِيَت بِها سيئاتٌ وخطيئات! فالله أكبر! ما أعظم فوز أهله! يوم خلفوا الدنيا وراء ظهورهم، واستقبلوا الآخرة أمام عيونِهم!

    الإيمان بالله وإخلاص العمل له

    لا إيثار إلا بأمور:

    أولها وأعلاها وأسماها وأشرفها وأبهاها: الإيمان بالله، وإخلاصُ العمل لله:

    حينما يسعى العبد حثيثاً إلى الله مُجِدَّاً لا متريثاً، حين يسعى إلى الآخرة، فلا يفتُر عن حسنة يبذلها، أو قُرْبَة بإذن الله يكسب بها إيماناً.

    الرحمة واللين

    ثانيها: الرحمة:

    فلا إيثار إلا برحمة، ولذلك لا يمكن أن يكون الإنسان مؤثراً إلا إذا رزقه الله قلباً رقيقاً ليناً رحيماً، وإذا رَحِمَه الله من قسوة القلوب، فأصبح قلبُه يتفطر للأشجان والأحزان، فلا إيثار إلا بهذه الرحمة التي سماها الله: رحمة، وهي لين القلوب.

    فما أَبْعَدَ مَن قَسا قلبُه عن الإيثار! وقاسي القلب لا يعرف الإيثار إلى قلبه سبيلاً ولا دليلاً.

    أما لَيِّن القلب فما أحراه بالإيثار! فلِيْنُ القلب الذي هو رحمةٌ من الله علام الغيوب امتنَّ الله بها على نبي الهدى صلى الله عليه وسلم، فقال جل جلاله: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران:159].

    إن الإيثار يحتاج إلى قلبٍ رقيق، يحتاج إلى صاحبٍ صِدِّيق رفيق، وإلى ذلك القلب الذي ما إن يبثُّ إليه المهموم هَمَّه حتى يتفطر حزناً وألماً، يحتاج إلى قلبٍ يتسع لهموم المسلمين وغمومهم، وإلى قلبٍ صاحبُه إذا ابتدره المصاب بشكواه دَمَعَت قبل النهاية عيناه، فالإيثار يحتاج إلى قلبٍ رقيقٍ رفيق.

    فاسألوا الله لين القلوب؛ فَبِهِ يُرْحَم الإنسان، وبه يُكْرَم بالله الكريم المنان.

    سلوا الله لين القلوب، فبه يُكْسَى العاري، وبه يُطْعَم الجائع، وبه يُمْسَح على رأس اليتيم، وبه يغدو العبد إلى المسكين، وبه يُفَرِّج كربات المنكوبين والمعسِرين بإذن الله رب العالمين.

    سَلِ الله القلب الرقيق، فإن الله إذا أكرمك بهذا اللين، وأكرمك بهذا القلب الرفيق فتح لك أبواب رحمته، وفتح لك أبواب الخير منه، فلا ترى منكوباً إلا أعنته، ولا ترى مهموماً مغموماً إلا واسَيته، كن رحيماً بعباد الله، كن ليناً بعباد الله المؤمنين، فإن الله وصف المؤمنين بقوله: رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29]. فلا إيمان إلا برحمة، وإذا انتُزِعت الرحمة من القلوب فمَن يسمع ويُصغي لشكوى الأيتام والأرامل والبائسين؟! إذا نُزِعت الرحمة من القلوب، فمن يسمع صيحات المتأوهين ونكبات المفجوعين؟!

    سل الله أن يجعلك رحيماً، فإن الله يرحم الرحماء.

    سل الله أن يجعلك رحيماً فإن الله يعطف على الرحماء.

    سل الله أن يجعلك رحيماً فكم لَطَفَ اللهُ بالرحماء! وكم صرف عنهم من شدائد الدنيا وأهوالها ونكباتها لَمَّا رحموا عباده وما ينتظرهم في الآخرة من رحمات القبور، ورحمات هول البعث والنشور أجلُّ وأسمى وأسنى.

    فالرحمة واللين إذا دخلتا إلى القلب أصبح صاحبهما يتوهج حنيناً وشوقاً إلى الأعمال الصالحة، يريد مرضاة الله، يبيع نفسه لله مبتغياً الأجر والمثوبة من الله، قال الله في هؤلاء: وَمِنَ النَّاسِ ... [البقرة:207] أي: ليس كل الناس ومَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [البقرة:207].

    يَشْرِي نَفْسَهُ [البقرة:207] أي: يبيع نفسه.

    ابْتِغَاءَ [البقرة:207] أي: طلب مرضاة الله.

    يبيع نفسه ويبيع ليله ويبيع نهاره ويبيع تجارته فيأتيه الشيطان فيقول له: هذا مالٌ سعيتَ عليه آناء الليل والنهار، فهو تجارتك وأموالك التي كدحت عليها ونصبت من جمعها، ثم تعطيها لخامل لَمْ يسعَ في تحصيلها؟!

    فجاهد وصابر واصطبر، وأعطِ لوجه الله جل جلاله إيماناً وتسليماً، فإذا سكنت الرحمة في القلوب فسل الله أن يرزقك القلب الرحيم، فإن الله إذا رزق العبد قلباً رحيماً عَفَّ وكَفَّ عن أذية المسلمين، وكان صاحبه أحرص ما يكون على نفع عباد الله المؤمنين.

    بهذه الرحمة تصغي إلى من أراد أن يحدِّثك.

    وبهذه الرحمة يألفك الكبير ويألفك الصغير، حتى إن المهموم يأتيك، ولا يجد بينك وبينه حاجزاً برحمتك به.

    الرحمة .. هي الطريق للإيثار.

    ذكر الموت

    السبب الثالث، وهو من أعظم أسباب الإيثار، ومن أعظم الأسباب التي تعين المسلم على أن يحفظ نفسه عن أذية المسلمين، وأن يسعى بكل حرص في بذل الخير إليهم طلباً لمرضاة الله رب العالمين، هذا السبب الذي تفطرت به قلوب الصالحين: ذكرُ الموت والبِلَى، وقرب المصير إلى الله جلَّ وعلا:

    أن يذكر العبد أنه إلى الله صائر، وأنه مغموم بين الْجَنادل والْحَفائر، فما ذُكِر الموت في كثيرٍ إلا قلله، ولا في جليلٍ إلا حقَّره.

    أن يذكر العبد أنه إلى الله صائر، وأنه مضموم بالأجداث والبلى والجنادل، حتى إذا ذُكِر ذلك هانت عليه دنياه، وعَظُم عليه ما هو مستقبلٌ له من أخراه.

    تذكر الموت وسكرته!

    تذكر القبر وضجعته!

    تذكر القبر وضغطته!

    بكيتُ لما علاني الترب منجدلاً صار التراب فوقي فآلمني

    في ظلمة القبر لا أم هنـاك ولا أب ولا أخ ولا صديق يؤنِّسني

    يوم أن يصير الإنسان وحيداً، قد سار إلى الله ذليلاً حقيراً فريداً، يومئذٍ تهون عليه تجارته، وتهون عليه أمواله، ويهون عليه أولاده، يريد الفكاك، والنجاة، والخلاص!

    فمَن ذَكَرَ هذه المنازل، وذَكَرَ هذه الجنادل هانت عليه الدنيا، وسَخَت يدُه بالإنفاق لوجه الله، وأخرج المال العزيز على قلبه ليشتري به رحمة الله، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً [الإنسان:9-12].

    اللهم إنا نسألك أن تجعلنا منهم.

    فمَن أكثر مِن ذكر هذه المنازل هانت عليه الدنيا التي قَطَع من أجلها رحمه، ومن تذكر هذه المنازل هانت عليه هذه الدنيا التي والى من أجلها وعادى!

    ما الذي يأخذه الإنسان من تجارته؟!

    وما الذي يجنيه من سوقه وعمارته؟!

    وما الذي يخرجه من الدنيا غير زاده وكفنه؟!

    إنا إلى الله صائرون، وإنا إليه راجعون، وبين يديه مختصمون: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر:30-31] يوم يتعلق بك الذليل الذي أذللته، ويتعلق بك أخوك في الإسلام فيقول: يا رب! سَلْ أخي، إنه أهانني .. يا رب! سل أخي، إنه ما عَظَّمَ أخوة الإسلام التي بينه وبيني، يومها يحس الإنسان بحقارة نفسه وذله بين يدي الله ربه.

    تذكروا هذه المنازل، فإنها تعين على الجود والسخاء، وتعين على الأعمال الصالحة المقربة إلى الله فاطر الأرض والسماء.

    تذكَّرْ يوم تَقْرَع القوارع، وتَفْزَع الفوازع، ويُبَعْثَر ما في القبور، ويُحَصَّل ما في الصدور، يوم أن ينادي عليك منادِ الله أن تخرج من قبرك حافياً عارياً إلى لقاء الله، فتخرج ذليلاً حقيراً .. يوم تخرج إلى الديان وحيداً فريداً .. يوم أن تصير إلى الله بلا حسبٍ ولا نسب .. يوم أن تصير إلى الله بلا مالٍ ولا ولد، يومئذٍ تهون عليك تجارتك، وتصغر في عينك عمارتك، يومها تعرف حقارة الدنيا، وذل مقامك بين يدي الله جل وعلا.

    1.   

    ضرورة الحذر من الاعتداء على حقوق المؤمنين

    أيها الأحبة في الله: ما ذكر العبد هذه المواقف إلا هانت عليه الدنيا، وأحب لإخوانه المسلمين ما يحب لنفسه، وسعى في خلاص نفسه وفكاكها من ذنوب العباد، فما أشقى مَن عَظُمت مَظالِمُه! وما أشقى مَن عَظُمت مآثِمُه! فويلٌ لمن كثرت خصومته بين يدي الله جل جلاله! وويلٌ لمن آثر الدنيا على الإخوان، فظلم هذا، وأكل مال هذا، وانتهك عرض هذا! وويلٌ لمن أطلق لسانه في غِيبة فلان وعلان، فجاء يوم القيامة وحيداً فريداً بين يدي الله الواحد الديان، وتعلق به صاحبه وقال: يا رب شتمني هذا، يا رب اغتابني ونَمَّني هذا.

    فالفكاك الفكاك من هذه الحقوق العظيمة، ومن هذه المواقف الجليلة .. يوم لا حسب ولا نسب ولا جاه إلا الجاه عند الله .. يوم لا مقرِّب إلا التقوى .. يوم تنفصم الأمور فلا تبقى إلا العروة الوثقى.

    اللهم الطف بنا إذا صرنا إلى ذلك المصير، اللهم الطف بنا إذا صرنا إلى ذلك المصير.

    ما أعظم النجاة إذا خرجتَ من قبرك وقد سترتَ عورات المسلمين، وفرجتَ كربات عباد الله المنكوبين! يوم أن تخرج إلى الله بتلك الصحائف المشرقة .. يوم أن تخرج إلى الله بحسناتك للأيتام والأرامل .. يوم أن تخرج إلى الله بتلك الحسنات العظيمة والأجور الكريمة! فكم لك من يدٍ عند الله جل جلاله، إذا نادى منادِ الله فقمتَ إلى تلك المشاهد في ظل صدقتك التي تصدقتَ بها! فما أطولها! وما أعرضها! وما أنعمها! وما أبركها! يوم أن تتلقاكَ الملائكة: هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104].

    فيا أيها الأحبة في الله: ما أعظم الخصومة بين يدي الله في المظالم، يوم يحشر الإنسان من سبع أرضين، قد اختنق حاله في شبر من الأرض ظَلم أخاه فيه! يوم يتعلق به الخصوم، ويُنْصَف منه المظلوم، ويُعطى منه المحروم! ويقول الله كما في الحديث القدسي : (يا عبدي! ألم أنعم عليك؟ ألم أتركك ألم أسوِّدك؟ ألم أرفعك؟ فيقول: بلى يا رب، فيقول: ماذا عملت لي؟) ثم يقول جل جلاله: (يا بن آدم! استطعمتُك فلم تطعمني، قال: يا رب! كيف أطعمك وأنت ربي؟! قال: استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمتَ أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا بن آدم! استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب! كيف أسقيك وأنت ربي؟! قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقِه، أما علمت أنك لو سقيته لوجدتَ ذلك عندي؟ يا بن آدم! مرضتُ فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك وأنت ربي؟! قال: مرض عبدي فلان فلم تعدْه، أما علمت أنك لو عدته لوجدت ذلك عندي؟).

    الله أكبر من يومٍ عظُمَت حسناتُه!

    الله أكبر من مشاهد قَرَعَت قلوب المؤمنين فـ كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18].

    الله أكبر من مواقف أقَضَّت مضاجع الصالحين!

    الله أكبر من مواقف وقوارع حفَّزَت همم عباد الله مِن السلامة من ظلم عباد الله! فمن أراد السلامة فليبتعد عن المظالم.

    اتقِ الله في لسانك الذي تطلقه في أعراض إخوانك.

    اتقِ الله يوم تلمز فلاناً في نسبه؛ فتقول: فلان فيه كذا، وفلان من بني كذا، وتعيِّره وأنت ضاحك باسمَ الثغر، فوالله لك يومٌ موعود، ولقاء مشهود، يبدو إلى الله جل وعلا ما لفظه لسانك: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].

    إن عورات المسلمين محرمة، واللهُ يغار عليها، فلا يسمعنَّ اللهُ منك كلمة تؤذي بها مسلماً غائباً أو حاضراً، احفظ لسانك، فكم من لسانٍ كبَّ صاحبَه على وجهه في النار، قال معاذ : (يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نقول؟! قال: ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم -أو قال: على مناخِرهم- إلا حصائدُ ألسنتهم؟!) حصائد هذه الألسنة: يوم افتخرتَ بقبيلتك، ويوم افتخرتَ ببني عمومتك، فجئت يوم القيامة لم تنفعْك الأرحام، ولا الأحساب، ولا الأنساب، لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ [الممتحنة:3] فلا جاه إلا جاه أهل التقوى، ولا عز إلا عز أهل الدين والهدى.

    جعلنا الله وإياكم منهم.

    اللهم آمين.

    من أحب أن يُسَلِّمه الله من هذه المواقف العظيمة، ومن هذه المشاهد الجليلة فليحفظ لسانه وسِنانه وجوارحه وأركانه عن أذية المؤمنين، إذا سَلِم المسلمون من أذيتك، واجتهدتَ في طاعة الله على قدر وسعك، فأنْعِمْ عند الله وأكْرِمْ بها حياة! ولتخرُجَنَّ من هذه الحياة طيباً مطَيَّباً، فلا تُذْكَر إلا بخير.

    عُفَّ لسانك عن أعراض المسلمين، عُفَّ لسانك عن إثارة العداوة والبغضاء بين المؤمنين، فمِن أشد الجرائم وأعظمها أن تُقْطَعَ هذه الأخوة وتُقْطَعَ أواصرُها بكلمة من عبدٍ لا يخاف الله ولا يتقيه، يوم أن يُخْرِج تلك الكلمات التي يوغر بها صدور عباد الله بعضِهم على بعض، فهم يصلُّون في المسجد الواحد .. أمة واحدة .. يؤمنون جميعاً .. ويركعون جميعاً .. ويسبحون ويمجدون .. ويستقبلون قبلة واحدة .. ويدْعون رباً واحداً .. وما إن يخرجوا من باب المسجد حتى يتلقفهم هذا الشرير بشره؛ لكي يبث إلى هذا كلمةَ عداوة، ولكي يبث إلى هذا ما يوجب البغضاء والشحناء.

    فويل له إذا حمل بين يدي الله وزرها، وويل له ثم ويل له إذا طُبِع عليه، فصار هَمَّازاً مهيناً مَشَّاءً بنميم، لا مكانة له عند الله رب العالمين، والله يقول في كتابه: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم:10-11] أي: لا تطع أهل النميمة، ولا تصغ بسمعك لهم، واحفظ جوارحك عنهم، فإن الله يسلمك من هذه المشاهد العظيمة.

    احفظ جميع ما وهبك الله من حولٍ وقوة، واستغله في طاعة الله جل جلاله.

    فإن سَلِمْتَ من ذنوب الناس، وأصبحتَ خفيف الحمل من ذنوب الناس فأنْعِمْ برحمة الله جل جلاله.

    1.   

    العفو والصفح عن المسيء من موجبات رحمة الله

    الوصية الأخيرة: أن نشتري مرضاة الله جل جلاله بخصلة من خصال أهل الإيمان:

    وهذه الخصلة ما حافظ عليها أخٌ مع أخيه إلا عامله الله بها في الدنيا والآخرة!

    أتدرون ما هي؟!

    إنها العفو عن المظالم، العفو عن المسيء، العفو عمَّن أساء، فإنها موجبةٌ لرحمةَ الله جل جلاله، يوم أن تقف أمام أخيك الذي يزِلُّ عليك بلسانه، أو يزِلُّ عليك بجوارحه وأركانه، فيأتيك ابن عمك فيقول: يا أخي! خذ بحقك، إنك ذليلٌ إن عفوتَ، وإنك حقيرٌ إن صفحتَ، وإنك كذا، وإنك كذا، فيخذِّلك عن طاعة الله جل جلاله؛ لكن يأبى إيمانُك، ويأبى يقينُك وعلمُك بلقاء الله ربِّك إلا العفوَ والصفحَ لوجه الله جل جلاله.

    دخل النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فطأطأت له رءوسُ الكفار، وذلَّت له أعناقُ الأشرار، وأصبح يومَها المُلْكُ لله الواحد القهار!

    وقف صلى الله عليه وسلم يوم الثاني من الفتح وقريش تحته كلُّها، وجاء وقتُ الثأر، وجاء أخذ الحق والقصاص يوم سُفِكَت دماء أقاربه، يوم قُطِّعت أشلاء أصحابه وأحبابه!

    وقف صلى الله عليه وسلم على رءوسهم والماضي ماثل بين يديه بما فيه من الفجائع، وبما فيه من الأمور التي تُقِضُّ المضاجع!

    فوقف صلى الله عليه وسلم ساعة الثأر، وأخذ بعضادَتَي باب الكعبة وقال: (يا معشر قريش! ما تظنون أني فاعلٌ بكم؟! -ما الذي يخطر ببالكم الآن بعد أن أعزني الله وأذلكم، ورفعني ووضعكم، وجبرني وكسركم؟!- فقالوا: أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريمٍِ، فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء).

    الله أكبر ما أوسع صدور المؤمنين في الحلم والرحمة!

    الله أكبر ما أوسع قلب المؤمن!

    لأنه رجل كامل، والرجل الكامل: هو الذي يعفو ويصفح، ولذلك قال الله عن أهل العفو: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35].

    فعندما يَزِلُّ عليك أخوك في الإسلام بكلمة، فيأتيك الشيطان، وتأتيك حمية الجاهلية أن ترد عليه بعثراتها، وأن تُخْرِس لسانه بأسوأ منها؛ عند ذلك اذكُر الله جل جلاله، وتذكَّر أن هذا اللسان ما يلفظ بكلمة إلا وهي مخطوطة في الديوان، وأنك ستَلْقَى الله جل وعلا؛ لتنتهي بك إما إلى جنانٍ أو إلى نيران، وقل: أستغفر الله لي ولك.

    جاء رجل إلى الحسن فقال: [إن فلاناً يشتمك، قال: والله لَأُغِيْظَنَّ مَن أَمَرَه بذلك: اللهم اغفر لي ولأخي].

    وجاء آخر إلى الحسن فقال له: [فلانٌ يقول فيك كذا وكذا، فقال: أما وَجَدَ الشيطان رسولاً غيرك؟!]. أي: أما وجد الشيطان رسولاً ينقُل الأحاديث على لسانه غيرك؟!

    فلا بد أن يحاول الإنسان أن يكون سمحاً، وأن يكون حليماً.

    فإن مَن رَحِمَ الناسَ وعفا عنهم عفا الله عنه، وأنت أحوجُ ما تكون إلى عفوه!

    ولَئن رحمتَ الناسَ لَيَرْحَمَنَّك الله، وأنت أفقر ما تكون إلى رحمته!

    فقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الراحمون يرحمهم الله).

    وقال: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).

    وبرحمة الإنسان وعفوه عمَّن أساء تَعْظُمُ الخيرات، وتَنْزِل من السماء البركات، ويكون للناس خيرُ الدين والدنيا في الحياة وبعد الممات.

    فليحاول الإنسان أن يشتري رحمة الله عز وجل بالعفو والصفح، إياك أن تأخذك حمية النفس للانتقام! فإنك إن عفوت عن إنسان لوجه الله عفا الله عنك في عرصات يوم القيامة.

    ولذلك ورد في الحديث أنه: (إذا جُمِع الناس في عرصات يوم القيامة نادى منادٍ على رءوس الأشهاد: من كان أجره على الله فليَقُم، فتقول الملائكة: ومن هذا الذي أجره على الله؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: فلا يقوم إلا مَن عفا عن ذُلٍّ).

    فنسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا وإياكم منهم.

    ألا وإن من أفضل العفو وأطيبه وأكرمه: أن تعفو عن المديون المعسر إذا جاء يريد سداد دينه، فإذا نظرتَ إلى أخيك المكروب المعسر، وتجاوزت عنه لوجه الله، تجاوز الله عنك في عرصات يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن كان قبلكم رجل يداين الناس، وكان يقول لغلمانه: إذا وجدتم رجلاً معسراً فتجاوزوا عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، فلما لقي الله قال الله: يا ملائكتي، إن عبدي تجاوز عن عبادي، ونحن أحق بالعفو عنه، تجاوزوا عن عبدي).

    فمن تجاوز عن المعسر والمديون والمكروب كان أحرى أن يرحمه الله، وهو المكيال الأوفى الذي يوفي اللهُ لصاحبه الأجر بغير حساب.

    اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن ترزقنا إيماناً يرضيك عنا.

    اللهم انزع من قلوبنا الشحناء، والبغضاء لعبادك المؤمنين.

    اللهم هب لنا قلوباً تقيةً نقية.

    اللهم سلِّمنا وسلِّم منا، وتب علينا وتجاوز عنا.

    اللهم آمِنَّا يوم الوعيد، اللهم أمِّنْ في يوم الوعيد رَوْعَنا، اللهم استُر فيه عوراتنا، اللهم أمِّنْ فيه روعاتنا، اللهم اغفر لنا فيه، ولآبائنا، وأمهاتنا، ومن حضر مجلسنا، وغاب عنا.

    لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.

    سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:180-182].

    وصلى الله وسلم وبارك على نبيه، وآله.

    1.   

    الأسئلة

    الأسباب التي تؤدي إلى لين القلوب

    السؤال: السلام وعليكم ورحمة الله وبركاته، فضيلة الشيخ: إني أحبك في الله.

    ما هي الطرق التي تؤدي إلى لين القلوب؟ جزاكم الله خيراً.

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    فأحَبَّكَ الله الذي أحببتني من أجله، وأُشْهِدُ الله العظيم رب العرش الكريم على حبكم فيه، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعنا بكم جميعاً في دار كرامته فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:55].

    أخي في الله: أنت تسأل عن الأسباب التي تلين القلوب!

    أعظمُ هذه الأسباب وأجلُّها: أن تسأل الله أن يرزقك قلباً ليناً، وأن تستعيذ بالله من القلب القاسي :-

    فإن الناس لضعف قلوبهم وعقولهم يظنون أن قوة القلوب هي الرجولة والفحولة؛ ولكن أقول: لين القلوب هو الرجولة الكاملة، والإيمان الكامل.

    فسَلِ الله أن يعطيك، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن دعاءٍ لا يُسْمع، ومن علم لا ينفع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع).

    سَلِ الله أن يعيذك من القلب القاسي، وسَلِ الله أن يرزقك قلباً ليناً رقيقاً رفيقاً بعباده، فإنه سبحانه وحده مقلِّب القلوب والأبصار، وهو وحده الذي يستطيع في لحظة واحدة وطرفة عين أن يقلِّبها فتصير أذل ما تكون لعباد الله المؤمنين، فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54].

    جعلنا الله وإياكم منهم.

    اللهم آمين.

    السبب الثاني الذي يعين على لين القلوب: كثرة ذكر الآخرة :-

    أن تتذكر أنها ستمرُّ عليك مثل هذه اللحظة وأنت ضجيع القبر والبِلَى، والله لَتَمُرَّنَّ عليك ولو بعد حين! وكم من ضاحكٍ منا قد نُسِجت أكفانُه وهو لا يدري!

    فكثرة ذكر الموت والدار الآخرة وقُرب المصير إلى الله يلين القلوب، ويجعل الإنسان في همٍّ وغمٍّ من الآخرة وحدها حتى يخلف جسر جهنم وراء ظهره.

    أما السبب الثالث -وهو داخلٌ في السبب الثاني-: زيارة المقابر:

    زُرِ القبور، وقِفْ بين أهلها، وانظر إلى حال أغنيائها وفقرائها! إنهم جيرانٌ لا يتزاورون! وسكانُ لَحْدٍ وشِقٍّ منه يبعثون! ينادُون ولا مجيب! ويَسْتَعتبون ولا مُعْتِبٌ ولا مستجيب! قد زالت فوارقهم! وذابت أنسابهم! وصاروا إلى الرفات.

    صاحِ هذه قبورنا تملأ الرحبَ فأين القبور من عهد عادِ؟!

    خفِّف الوطء! ما أظن أديم الـ أرض إلا من هذه الأجسادِ

    انظر في الأمم التي مضت وانقضت وولَّت! كم بينها أناسٌ آكَلُوك! كم بينها أناسٌ شارَبُوك! كم بينها أناسٌ زاوَرُوك! كم بينها أناسٌ بينك وبينهم المودة والمحبة قد انقطعوا إلى الله، وصاروا إلى لقاء الله، وانقطعت عنهم الحيلة، وأصبحوا رهناء بما قالوا وما فعلوا!

    فمَن تذكَّرَ هذه المنازل هانت عليه الدنيا، وأصبح لَيِّن القلب يفكر في نجاته من لقاء ربه جل جلاله.

    ومن الأسباب التي تعين على لين القلوب: زيارة المرضى وعيادتهم:

    واسمع إلى هذا يتأوه! واسمع إلى هذا يشتكي! واسمع إلى هذا قد كُسِرت ساقه! وهذا قد قُطِعت يده! وهذا قد كُفَّ بصره! وقل: الحمد لله الذي عافاني؛ لكي تحس أنك حقيرٌ ذليلٌ تحت سطوة الله جل جلاله، حتى يذهب الغرور الذي يرفع الإنسان عن قدره ومكانه، حتى تعرف من أنت تحت رحمة الله جل جلاله وسطوته ونقمته، فإن العبد تراه قوي البدن صحيح الجسم ما أن يبتليه الله بسقمٍ خفيف في عضو من أعضائه حتى يَخِرَّ كالميت مجندلاً يتأوه من سقمه ومرضه.

    الله أكبر! ما أعظم سلطانه إذا أخذ! وما أعظم سلطانه إذا نزل!

    فهذا يلين القلب ويعرِّف الإنسانَ بقدره.

    ومما يلين القلوب: زيارة الصالحين، وحب الصالحين، وغشيان حِلَق الذكر، فهم القومُ لا يشقى بهم جليس :-

    فلا تزال تزور حِلَق الذكر، وتسمعُ المحاضرات والندوات، حتى يُلَيِّن الله قلبك؛ لأن الوحيَ وكلامَ الله وكلامَ رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلامَ الصالحين وكلامَ الدعاة والهداة كالغيث للقلوب، يُلَيِّنها ذلك بإذن الله جل جلاله.

    فأكْثِر من سماع الذكرى، وأكْثِر من سماع المواعظ، فإنها تقرِّبك إلى الله جل جلاله.

    ومن الأمور التي تلين القلوب: البُعْد عن أهل الغفلة الذين يكثرون من ذكر الدنيا فإن عاشرتهم قسا قلبُك، وإن عاشرتهم نسيتَ ربَّك ولَهَوْتَ مع اللاهين، وجَرُّوك إلى ويلات، وأخَذْت ترتع في أودية الدنيا السحيقة، ولن يكون لك منها إلا ما قسم الله لك، ولن تخرج إلا بما كتب الله لك من الرزق، فلا تزال تلهث معهم، ولا يزال الإنسان يشتغل بأحاديثهم؛ باع فلانٌ، واشترى فلانٌ، وقَضَى فلانٌ، وعُمِّر فلانٌ، وهَدَم فلانٌ، حتى تأتيه قاصمة الله فلا يبالي الله به في أي أودية الدنيا هلك.

    نسأل الله السلامة والعافية.

    فإياك والجلوس مع أهل الغفلة! ابحث عن الصالحين، عن قومٍ إذا رأيتَهم ذكرت الله جل جلاله.

    أما الوصية الأخيرة: فامسح على رأس اليتيم، وواسِ الأرملة والمسكين يلين الله قلبك، وصِلْ رحمك، واعفُ عمن أساء إليك، واتخذ من الصالحات سبيلاً:

    فإنك لا تزال تفعل الصالحات حتى تتغشاك الرحمة تلو الرحمة، حتى يصبح قلبك ليناً لله جل جلاله، حتى إنك لن تسمع آية إلا فاضت عيناك من الدموع لله سبحانه وتعالى.

    والناس في لين القلوب على مراتب، فمَن كَمُلَت له هذه الأسباب، فإن قلبه يلين.

    ألا وإن أعظم الأسباب وأجلها:

    تذكر كلام الله جل وعلا.

    وكثرة تلاوة القرآن.

    والاعتبار بمواعظه.

    والوقوف أمام مشاهده.

    فإن ذلك يلين القلوب.

    نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يليِّن قلوبنا وقلوبكم، وأن يعيذنا وإياكم من القلب القاسي، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    والله تعالى أعلم.

    الحث على الدعوة إلى الله

    السؤال: يا شيخ! إني أحبك في الله، وأرجو يا شيخ أن تحث شباب الصحوة على الدعوة في هذه المنطقة بالذات؛ لأنهم يهتمون بأنفسهم فقط دون غيرهم من الشباب الغافلين عن ذكر الله، من حيث النصيحة ونشر الشريط الإسلامي وغيرهما من أساليب الدعوة! جزاكم الله خيراً.

    الجواب: جزاك الله خيراً، وأسأل الله أن يكتب لك الأجر، ويعلمُ الله كم سُرِرْتُ حينما لقيتكم، ويعلم الله شوقي إلى لقائكم.

    وأسأل الله أن يكثر الخير فينا وفيكم، وأن يجعلنا وإياكم من عباده الصالحين وأوليائه المتقين، وأن يكثر فينا وفيكم الصالحات والصالحين.

    إخواني في الله: أفضل الأعمال وأحبُّها إلى الله: كلمةٌ تَهدي القلوب إلى الله .. كلمةٌ تدل بها على السبيل .. كلمةٌ تكون بها دليلاً ونعم الدليل! يوم تَهدي إلى الله العظيم الجليل.

    ولقد شهد الله في كتابه أنَّ أحبَّ الكلام إليه من أوليائه كلامٌ هَدَى إليه سبحانه وتعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33] فـ(مَنْ): بمعنى: لا، أي: ولا أحسن قولاً ممن دعا إلى الله جل جلاله!

    فأطيب الكلام بعد كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم: كلام يهدي إلى الله جل جلاله.

    تكلم فلعل كلمة تُذَكِّر غافلاً!

    تكلم فلعل كلمة تنبِّه وتوقظ نائماً!

    تكلم بالكلام الطيب ولو لم يكن لك شرف إلا أن تكون من خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم، فإن نبوَّتَه وَرِثَها العلماء والصلحاء في كل زمان ومكان، فكُنْ من أولئك المشاعل للنور والهداية.

    أيها الأحبة في الله: أولُ ما ينبغي على الداعية: أن يكون قدوة في نفسه. فحاول قدر استطاعتك أن لا تسمع بأمر من أوامر الله إلا فعلته، وألا تسمع بنهي من نواهي الله إلا اجتنبته وتركته.

    وأن تكون فيك الأخلاق والآداب الإسلامية التي تدل على أنك مسلم حقاً ومؤمن صدقاً، فإذا أصبحتَ بهذه المثابة، فوالله إنك لداعٍ ولو لم تتكلم بلسانك. قال جعفر الصادق لأصحابه -ذلك الإمام من أئمة أتباع التابعين- قال لهم: [ادعوا وأنتم صامتون، قالوا: رحمك الله! كيف ندعو ونحن صامتون؟! قال: ادعوا الناس بأخلاقكم وآدابكم قبل أن تتكلموا بألسنتكم].

    فالآداب والأخلاق والشمائل الحميدة لا يزال الشاب الصالح الوضيء المشرق وجهه من طاعة الله يدعو بها ولو لم يشعر.

    فالوصية الأولى: الأخلاق:

    أن تلتزم بآداب الإسلام، وتكون نفسك تواقة إلى معالي الأمور، فتسعى وتسمو إلى حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتبيع نفسك في مرضاة الله، فتجلس في المجالس، وتشتغل بذكر الله، وإذا سمعت أحداً يغتاب آخر تقول له: يا أخي! اتقِ الله! وإذا سمعت أحداً ينقل نميمة تقول له: يا أخي! اتقِ الله! وإذا سمعت أحداً يتكلم فيما لا يعنيه تقول له: يا أخي! اتقِ الله!

    فلا تزال الكلمة تخرج منك تلو الكلمة، وتخط لك الأجور التي لا يعلمها إلا الله جل جلاله.

    ولقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم: (أن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما يلقي لها بالاً يكتب الله له به رضاه إلى يوم يلقاه) فتَمُرُّ على رجل شاربٍ للدخان فتأتيه بالنصيحة الثمينة وتقول له: يا أخي! أي نفس تعذبها؟! وأي روح في مهدها تقتلها؟! أما تتقي الله في نفسك؟! يا أخي! اتقِ الله في هذا المال الذي أعطاك الله إياه، وحرمه الفقير غيرك! أما تتقي الله أن تسعى في هلاك نفسك؟! فقولك: (أما تتقي الله) وأنت لا تبالي بهذه الكلمة يَكْتُبُ الله لك بها رضاً لا سخط بعده إلى يوم القيامة: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ...).

    وقد تجلس في البيت فترى المنكر، فتنصح النصيحة، وتخرج منك غيرة على دين الله وحدوده ومحارمه فيكتب الله لك بهذه الغيرة رضاً لا سخط بعده أبداً.

    فمَن بذل نفسه للدعوة إلى الله، واشترى رحمات الله بالكلام الصالح والتذكير بالله فأنْعِم به مِن رجل! وأنْعِم به مِن داعية ومِن متكلم!

    وما الذي يأخذه الناس من المجالس غير كلمة تقرب القلوب إلى الله؟!

    وما الذي نأخذه من الدنيا غير طاعة الله جل جلاله؟! وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْـهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِـينُ [الذاريات:56-58].

    سبحانه! لا إله إلا هو!

    فالله لا يريد منا شيئاً إلا العمل الصالح، والذي بيننا وبين الله هو: العمل الصالح، وأفضل الأعمال وأحبها: الدعوة إلى الله.

    والوصية الأخيرة: لن يكون هناك شاب تائهٌ ضائع تعرفه وتقصر في دعوته، إلا كان لك خصماً بين يدي الله جل جلاله :-

    فإذا مررتَ على جارك وعرفتَ أنه لا يصلي، فسكتَّ عنه، أتى يوم القيامة يتعلَّق بك وهو يقول: يا رب! سَلْ جاري، فإنه ما دعاني إلى الصلاة يوماً من الأيام!

    فإذا رأيت جارك على منكر أو معصية فقلت: ما لي وله، وما لي وللناس؟ فهذه كلمة يسيرة؛ لكنها عند الله عظيمة، فإذا وقفتَ بين يدي الله، علمتَ هل هذا من شأنك أو ليس من شأنك!

    كذلك تذكير الغافلين، فالناس فيهم خير، خاصةً في هذه البيئات المسلمة، الناس على الفطرة، واللهِ إن فيهم خيراً مهما عملوا من سيئات وذنوب، واللهِ إن العبد تجده على أشد ما يكون من معصية لله جل جلاله، وما إن تقرعه بآية من كتاب الله إلا ويطأطئ رأسه ذليلاً ويقول: جزاك الله خيراً. فهذا نعمةٌ وخيرٌ في الأمة المسلمة؛ لكن الإنسان إذا كان شاباً وبه طيش وغرور يحتاج منك إلى يد حانية، ونصيحة غالية، ثم إذا نصحتَ إياك أن تكون حجرة عثرةٍ عن سبيل الله وصراط الله، بل انصح بالتي هي أحسن، انصح باللين والرفق، وأشْعِر الذي تنصحه، كأنك يدٌ تريد أن تنتشل غريقاً، ولستَ بصاحب تشهير ولا أذيةٍ ولا تعيير؛ ولكن صاحب بِرٍّ ودعوةٍ وإحسانٍ وصلاح.

    نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.

    والله تعالى أعلم.

    حكم صيام التطوع في السفر

    السؤال: أنا أدرس بكلية البنات بـالخرج ، وأصوم يومي الإثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، فهل يُعَدُّ صيامي هذا من التكلف والمشقة، لأنني سمعتُ بأن هذا فيه مشقة على النفس، أرجو توضيح ذلك، مع العلم أن الخرج تبعد عن الحوطة بـ(85) كيلو متراً. وجزاكم الله خيراً؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    فأنتِ تسألين عن حكم صيام التطوع في السفر، وهل يعتبر صيامكِ للإثنين والخميس من الغلو والكلفة والمشقة أو لا يعتبر؟

    فأصح أقوال العلماء رحمهم الله في هذه المسألة: أن الناس يختلفون:

    فمن كان منهم مُطِيقاً للصوم ولو كان مسافراً فإنه يُشْرع له أن يصوم، ولذلك أجاز النبي صلى الله عليه وسلم لصحابي أن يصوم وذلك في السفر. قال العلماء: لأنه يطيق السفر.

    وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس مِنِ امبر امصيام في امسفر) فهو محمول على المشقة، ولذلك قال: (اكلفوا من الأعمال ما تطيقون).

    فإذا كان صيامك في السفر يلحق بك المشقة، وقد يحول بينك وبين الواجبات، ويحصل به تعذيبٌ للنفس وعناءٌ فإن الأفضل تركه.

    وقال بعض العلماء بكراهيته في هذه الحالة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس مِنِ امبر امصيام في امسفر).

    وأما إذا كان صيامكِ قد ألِفْتِيه واعتدتيه، ولم يؤثر عليكِ في السفر، ولا يؤثر على طاعةٍ واجبةٍ عليكِ، فهنيئاً لهذا الفضل والخير الذي حباك الله به، واستديمي الصيام على خير.

    والله تعالى أعلم.

    الخوف من الرياء .. حكمه وأنواعه

    السؤال: إني عند قيامي ببعض الأعمال: كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أخشى من الرياء والسمعة، فأرجو توضيح ذلك! مع العلم بأني أعاني نفسياً من أن تكون أعمالي فيها سمعة ورياء، وجزاكم الله خيراً.

    الجواب: نعم النفس المؤمنة الخائفة التي تتهم نفسها بالتقصير دائماً! قال الحسن البصري رحمه الله: [لا يزال المؤمن الصالح يتهم نفسه].

    فقول القائل: هذا العمل ما أردتُ به وجه الله، هذا القول: (ما أردتُ به وجه الله) يعني به أنه يتهم نفسه بالتقصير في الإخلاص.

    فإن كان شعورك بالتقصير يحول بينك وبين العمل فهذا من الشيطان، وإن كان شعورك بالتقصير يدفعك إلى المبالغة والصدق في الإخلاص فنِعْم والله الشعور! فهو شأن عباد الله الأخيار؛ ما فعلوا طاعة إلا احتقروها، قال بعض السلف: [المؤمن يحمل الهم في الأعمال الصالحة في مواقف حمل هم الصواب، فإذا وُفِّق للصواب حَمَل هم التوفيق لعمل الصواب] فكم من صوابٍ تعملُه ولا يوفِّقِ الله لفعله، فقيام الليل مَن منا يقوم الليل؟! وصيام الإثنين والخميس من منا يصومهما؟! وصيام يومٍ وإفطار يومٍ من منا يفعله؟!

    فأولاً: الصواب.

    ثم التوفيق لعمل الصواب.

    ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أسألك العزيمة على الرشد) فإذا وُفِّقَ العبد لعمل الصواب، وتهيأ لعمله حَمَل هم الإخلاص فيه، وألا يريد به إلا وجه الله جل جلاله، فإذا وُفِّق للإخلاص وختم عملَه وكان صواباً خالصاً لوجه الله حَمَل هَمَّ القبول من الله جل وعلا، ولا يزال هَمُّ القبول في قلب المؤمن حتى يلقى الله، فتنكشف الحقائق له؛ هل عملُه مقبول فيهنأ، أو غير مقبول فيحزن، فإن العبد يُنْشَر له عمله، فيقول الله جل جلاله: (قد جعلتها هباءً منثوراً) فتُنْشَر له الحسنات والأثقال؛ ولكن ما أراد بها وجه الله.

    وجاء في الخبر: (إن العبد تُنْشَر له الحسنات والأعمال الصالحة، فيقول الله له: اذهب فخذ أجرك ممن راءَيْتَ له) اذهب إلى جماعتك الذين كنت تريد منهم الفخر والرياء وتحب أن يمدحوك، اذهب وخذ منهم الأجر .. اذهب إلى قرابتك .. إلى الناس .. إلى مسئولك .. إلى مديرك .. إلى والدك .. إلى والدتك .. إلى ابنك .. إلى زوجك .. إلى كل من راءَيْتَه، فخذ أجرك منه، فإن هذا العمل لم يُرَدْ به وجهُ الله جل جلاله.

    فأما إذا كان هذا الحديث يدعوكِ إلى ملازمة الإخلاص فهو حديثُ خير، يَحْمِل على الطاعة والبِر، وهو مَحمود غير مذموم.

    أما إذا كان يمنعكِ عن العمل الصالح، وأصبح الإنسان كلما أراد عملاً صالحاً جاءه الشيطان وقال له: أنت لا تخلص فيه؛ فهذا من الشيطان؛ ولكن اجتهدي واعملي العمل، فإن وجدتِ فيه الرياء فقولي: أستغفر الله وأتوب إليه. فإن الله يقول: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82].

    والله تعالى أعلم.

    حكم لبس الحجاب الذي فيه زينة

    السؤال: صدَرَت فتوى من الشيخ ابن عثيمين -جزاه الله خيراً- عن لبس العباءة التي فيها زينة من (قيطان) و(كِلْف) بأنها لا تجوز؛ لأنها تجعل الحجاب زينة في نفسه، فهل ينطبق الحكم على الغطاء المسمى: شِيْلَة، حيث أني أرى كثيراً من الأخوات يلبسن غطاءً به (كِلْفٌ وقيطان) أرجو توضيح ذلك، وجزاكم الله خيراً؟

    الجواب: جزى الله سماحة الشيخ الوالد محمد العثيمين -رحمه الله- كل خير على هذه الفتوى، وهي قولٌ سَبَقَ أن نبَّه عليه العلماء، فقد ذكر أهل العلم رحمهم الله: أن المرأة يحرم عليها أن تُظْهِر الزينة فيما ظهر من بدنها؛ لأن الله جل وعلا نهى عن إبداء الزينة: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ [النور:31] فحرامٌ أن ترى هذه الزينةَ عينٌ غير عينِ الزوج.

    وتشمل تلك الزينة:

    الحلي.

    والخلاخل.

    والأسورة.

    ونحوها مِن التي تُكْشَف عند مشي المرأة، أو عند أخذها أو عطائها فهذه من الزينة.

    كذلك: الزينة الباطنة، كزينة الوجه من كحل ونحو ذلك، كل هذه من الزينة المحرمة.

    ومما ذكره العلماء من الزينة المحرمة: الزينة في اللباس، فقد نص العلماء على تحريم الزينة في اللباس؛ لأن المرأة إذا نُقِشَت عباءتُها قد ينظر الرجل إليها فيَرى النقوش، فينظر أولاً من أجل النقوش، فيجره ذلك إلى النظر إلى مفاتن المرأة، وقد تقول المرأة: إن وجود النَّقْش في العباءة ليس بزينة، فنقول: نعم، هو ليس بزينة في الظاهر؛ ولكنه يقود إلى استرسال النظر، وإلى الوقوع في المحظور، والوسائل آخِذَةٌ حكم المقاصد كما هو مقرر في قواعد الشريعة، والله تعالى أعلم، فلا يجوز وضعها في الحجاب، ولا في الشِّيْلات، ولا في كل لباس ظاهر.

    أما اللباس الباطن الذي لا يطَّلع عليه الرجل من الخارج فهذا لا حرج فيه، ولا عُتْبى على المرأة في وضعه على شرط أن لا تراه عينٌ ممن حرَّم الله رؤيتها إليه.

    والله تعالى أعلم.

    حكم الإيثار في القربات

    السؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فضيلة الشيخ: هل الحديث: (لا إيثار في الطاعة) صحيح أو ضعيف؟

    الجواب: هذه قاعدة من قواعد أهل العلم: (لا إيثار في الطاعة) وبعضهم يقول: (لا إيثار في القُرْبة) ومعنى هذه القاعدة: أن الإنسان لا يفضل غيره في الدين.

    توضيح ذلك: أن الصف الأول -مثلاً- قُرْبة وطاعة، فلا يحق لك أن ترجع عن الصف الأول وتدخل غيرك ولو كان أخاً لك في الله؛ لأنه زُهْدٌ في الأجر، ولا يجوز للمسلم أن يزهد في الأجر.

    واختلف العلماء في هذه المسألة:

    فقال بعض العلماء: يجوز الإيثار في الطاعات، ولهم أصلٌ في ذلك.

    ولكن الصحيح والأقوى: أنه (لا إيثار في القُربة) وأن الإنسان ينبغي عليه أن يحرص على القربة، وقد دل على ذلك دليل السنة: فإن ابن عباس كان يوماً من الأيام جالساً عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم، وعن يساره الأشياخ، فأُتِي بشرابٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انتهى منه أعطاه للذي عن يمينه وهو ابن عباس وقال قبل أن يعطيه: (يا غلام! أتأذن لي أن أعطيه الأشياخ؟ فقال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه -النبراس، والقبس الوهاج علماً وحكمة-: ما كنتُ لأوثر بنصيبي منك أحداً -أي: لا أفضِّل في الدين، هذا محل الشاهد- فأخذه فتله بيمينه صلوات الله وسلامه عليه) فهو أقرَّه، واعتبرها قربة؛ لأنه لم يؤثِر بهذا الأمر الذي هو طاعةٌ وقربةٌ لله جل جلاله.

    فأصح الأقوال: أنه (لا إيثار في القربة).

    والله تعالى أعلم.

    ولكن استثنى بعض السلف مسألة، منها: استثناء الإمام أبي عبد الله مالك بن أنس ؛ إمام دار الهجرة، في قوله: أحب لأهل المدينة إذا حضر الحجاج أن يتقاصروا عن الروضة. الحجاج من الآفاق يقدمون وساعاتهم وأيامهم قليلة، فأحَبَّ لهم التقاصر، ففَهِم بعض أصحابه رحمة الله عليه: أن هذا يدل على أنه يجيز الإيثار في القربة؛ ولكنها مسألة خاصة لا تقتضي التعميم.

    والله تعالى أعلم.

    وصايا في غض البصر عما حرم الله

    السؤال: لقد انتشر في هذا البلد ما يسمى: بالبث المباشر. أرجو منكم نصح أهل هذه البلاد جزاكم الله خيرا.ً

    الجواب: ما أظن -إن شاء الله- أنه موجود، وأسأل الله عز وجل أن لا يوجد هذا الشيء.

    وأوصي بأمور:

    الأمر الأول: تقوى الله الذي لا إله غيره :-

    وأن يعلم كل إنسان أن السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36]، وأن البصر بريد الزنا، وطريقٌ إلى الحرام، وأنه لا يزال العبد يُمَتِّع بصره بالمناظر الخليعة حتى يَمْقته الله جل وعلا، ويطفئ نور الإيمان من وجهه، ولذلك قال العلماء: الغالب أن صاحب النظرات المسمومة والمحرمة لا يأمن الفتنة في دينه.

    وأُثِر عن بعض السلف : أنه رأى رجلاً من حفاظ القرآن ينظر إلى شابٍّ أمرد نصراني فقال له: والله لتجدن غِبَّ هذه النظرة ولو بعد حين! أي: لا تَخْرُج من الدنيا حتى يعاقبك الله على هذه النظرة المسمومة، فمكث عشرين سنة، وبعد عشرين سنة نام ليلته، فأصبح لا يحفظ من القرآن حرفاً واحداً، نسأل الله السلامة والعافية.

    كل الشرور مَبداها من النظـرِ ومُعْظَمُ النار من مُسْتَحْقَر الشررِ

    كم نظرة فتكت بقلب صاحبها فتك السهام بلا قوسٍ ولا وتَرِ

    والمرء ما دام ذا عينٍ يقَلِّبُها في أعين الغِيْد محفوفاً على خطرِ

    يَسُرُّ مُقْلَتَه ما ضَرَّ مُهْجَتَه لا خير في سرور قد جاء بالضررِ

    ويلٌ لهم من الله إذا نشرت بين يدي الله النظرات!

    ويلٌ لهم من الله جل جلاله يوم تُكْشَف بين يدي الله تلك النظرات! ويَحْمِل صاحب ذلك البث المسئوليات والتَّبِعات عن الأبناء والبنات!

    ويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلٌ لمن أدخل البلاء على أهله وولده ففُتِنَت تلك القلوبُ البريئةُ عن صراط الله وطريقه! ويلٌ له من الله يوم يحمل بين يدي الله وزرهم! يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [عبس:34-36]، يفر مخافة هذه المظالم التي جناها عليهم! ولا حول ولا قوة إلا بالله! وأعظم بلاء يُدْخِله الإنسانُ على أهله: ما فيه فتنةٌ لهم.

    الأمر الثاني: كل من أَدْخَل فتنةً فاقتدى به غيره فإنه يحمل وزر كلِّ من جاء بعده إلى يوم القيامة :-

    فلو أن شخصاً كان الأول في إدخال الفتنة، فاقتدى به أحدٌ، فوالله ما مِن أحد يُدْخِل إلى هذا البلد أو إلى هذا المكان من هذا شيء إلا حَمَل إثمه ووزره بين يدي الله إلى يوم القيامة والعياذ بالله: (من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لا يَنْقُص من أوزارهم شيء).

    وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [العنكبوت:13].

    ثم يا أخي: اتقِ الله في البصر! الله نوَّر لك نور البصر! كم من أعمى كفيفٍ لا يرى، واللهُ قد أعطاك هذا النور الذي والله لو قُبِض هذا النور لا يستطيع أطباء الدنيا أن يعيدوه لحظة من اللحظات! هل سمعت أن إنساناً كفَّ بصرُه فاستطاع الأطباء أن يردوه إلا إذا كان مرضاً عارضاً؟! إذا سلب الله البصر، وإذا ختم الله على السمع والقلب والفؤاد فلا يستطيع أحد أن يغني لصاحبه من الله شيئاً: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:23] نسأل الله السلامة والعافية.

    هذا البصر أعطاه الله لك، وكلُّ لحظة مكتوبة، وكل ثانية محسوبة، لم يعطِه الله لك عبثاً، بل أعطاه لك لكي تتقرب إليه، وتشتري رحمته!

    فتنظر في ملكوته فتقول: لا إله إلا الله!

    وتنظر إلى السماء فتقول: سبحان مَن بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا [النازعات:27-29]!

    وتنظر إلى الأرض فتقول: سبحان مَن دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا [النازعات:30-31]!

    وتنظر إلى ملكوته وجبروته وعزِّه!

    وتمر على الديار الخالية فتقول: لا إله إلا الله! سبحان مَن جعلها خراباً بعد أن كانت عزاً وجاهاً.

    وتمر على ديارٍ كانت خرِبة، فأصبحت عُمراناً وخيراتٍِ وحساناً فتقول: لا إله إلا الله! مخرج الحي من الميت! سبحانه لا إله إلا هو!

    كل هذا حتى تشتري رحمات الله بهذه النظرات.

    هذا هو الذي تشترى به الرحمات، فالصالحون يفوزون برحمات الله بالأبصار، والفاسد يتهاوى ببصره في الجحيم ودركات العذاب المقيم، اللهم سلِّمنا وسَلِّم مِنَّا.

    ثم الأمر الثالث والوصية الأخيرة: قلَّ إنسان ينظر إلى هذه المحرمات فيرجع إلى دينه سالماً والعياذ بالله :-

    فالغالب فيمن يشاهد الأفلام الخليعة والمناظر الفاتنة ألا يرجع إلى دينه سليماً إلا أن يرحمه الله، ويحتاج إلى توبة وبكاء وتضرع صادق، وهذا بالتجربة. فسل الله العافية، فإذا عافاك الله إياك أن تقترب منها! فإنها السم القاتل للدين لا للدنيا، إياك أن تقترب ولو للحظة، فإذا قال لك الشيطان: انظر لحظةً.

    فقل: الله.. الله.. أخشى أن تمتد بي هذه العين إلى أن أسَقط!

    وإن قال لك: انظر لِلَحظة.

    فقل: أخشى العماية في الحشر: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه:124-126].

    فالله.. الله.. في هذا البصر! واتق الله، فإن الإنسان إذا نظر إلى هذه المفاتن الغالب أنه لا يَسْلَم، وإذا حفظتَ البصر حفظ الله دينك، فإنك إذا غضضتَ فإن العين لا تبكي يوم القيامة، يقول صلى الله عليه وسلم: (كل العيون باكيةٌ أو دامعةٌ يوم القيامة إلا ثلاث أعين:

    عين بكت من خشية الله ...) إذا جلستَ بعد العشاء فتذكرتَ ذنوبك وأنت خالٍ وحيدٌ في غرفتك فقل: إنا لله وإنا إليه راجعون! ما أعظم ما فعلتُ! أحسنَ اللهُ إليَّ وأسأتُ! وأكرمني وأهنتُ! واستغفر وتُب، وفِضْ بالدمع، حتى يظلك الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، (... إلا ثلاث أعين:

    عين بكت من خشية الله.

    وعين سهرت في سبيل الله.

    وعين غضت عن محارم الله).

    حتى وأنت في الطريق إذا مرَّتْ عليك عورة من عورات المسلمين فقل: أستغفر الله العظيم! فإن هذا الغض يُكْتَب لك حسنات عند الله، فلا تزال هذه في صحيفة عملك حتى توافى بها يوم القيامة، فالناس يبكون في عرصات يوم القيامة، وعينك لا تبكي بهذا الغض.

    نسأل الله أن يحفظ أبصارنا، وفروجنا، وجوارحنا.

    والله تعالى أعلم.

    السنة في العقيقة

    السؤال: فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل يجوز أن أذبح العقيقة وأدعو إليها بعض الأصدقاء، أو أتصدق بثلثها وأهدي ثلثها وآكل ثلثها؟

    الجواب: أما العقيقة فالأصل فيها حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وحديث سمرة بن جندب -رضي الله عنهما وأرضاهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل غلامٍ مرهونٌ بعقيقته تُذْبَح عنه يوم سابعه) وجاء في حديث عائشة : (تُقََطَّع جدولاً) وجدولاً بمعنى: لا يُكسَر فيها عظم، قال بعض العلماء: وردت السنة بذلك حتى يكون تفاؤلاً بسلامة المولود، والفأل يحبه الله كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب الفأل، ويكره الطِّيَرَة والتشاؤم) فالفأل الحسن محمود وغير مذموم؛ لأن فيه حُسْن ظن بالله جل جلاله، فلا يُكْسَر فيها عظم وإنما تُقَطَّع من مفاصلها، ثم أنت بالخيار بين أمور:

    الخيار الأول: إن شئت طبختها وأحسنتها وهيأتها :-

    فإذا فعلت ذلك فادعُ إليها الفقير والغني، وخُصَّ بالدعوة قرابتك، فإن أحق مَن يُدْعَى إليها الأقرباء، فيدعو الإنسانُ إليها قرابته من النسب، وقرابته من الأصهار، والأرحام كأقارب الزوجة.

    وهذا مِن أفضل ما يكون كونك تهيئها للمساكين والمحتاجين وتدعوهم وتكرمهم؛ ولكن لا تدعوهم فتهينهم، فيجلسون في أضعف المجالس، فهذا لا ينبغي، إنما ادعُهم واحمد نعمة الله جل وعلا، قال بعض السلف : ما كان أعز الفقراء في مجلس سفيان ! سفيان إمام عالم، كان إذا حضر عنده الفقراء أجلسهم في صدر المجلس، فكانوا يشعرون بالعزة والكرامة وهم ضعاف يحتقرهم الناس.

    فإذا أعطاك الله عز وجل نعمة ودعوتَ لها فادعُ إليها الفقراء، وأنا أنبِّه على هذا الأمر؛ لأنه يحصل فيه خطأ شائع ذائع، حيث يُنْزِل الإنسانُ أقرباءه وأبناء عمومته ويجعلهم في الصدر، ويأتي بالفقير لكي يَكْسِر خاطره ويهينه فيجلسه في أضعف المجالس ويحتقره وربما رمى له بالكلمة الجارحة، فبئس والله ما فعل! ولربما عاد بذنوبٍ أكثر من الأجور.

    فاتقِ الله، وليكن عندك من حب الله والولاء في الله ما يردعك عن هذه الأمور التي لا ترضي الله من حمية الجاهلية وضعف العقول، نسأل الله السلامة والعافية.

    الخيار الثاني: أن تقطِّعها جَدْولاً وتقسِّمها:

    قال بعض العلماء: اقسمها ثلاثاً فتعطي الأغنياء الثلث، وتعطي الفقراء الثلث، وتعـطي أهـلك الثلث، كمـا قال تعالى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ [الحج:36] فالقانع: هو الغني الذي فيه قناعة، والمعتر: هو المُعْتَوِر السائل الذي يَعْتَوِرُك بالحاجة.

    قالوا: فاقسمها إلى ثلاثة أقسام:

    فَكُلُوا مِنْهَا [الحج:36] الثلث.

    وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ [الحج:36] الثلث.

    وَالْمُعْتَرَّ [الحج:36] الثلث.

    وهذا هو الهدي، فألحقوا العقيقة به بجامع أن كلاً منهما دم لازم القول بالوجوب.

    والله تعالى أعلم.

    حكم تغيير لون الشعر بالأصباغ

    السؤال: ما حكم وضع المرأة لشعرها ما يسمى بـ(الميش)؛ وهو صبغ الشعر بألوانٍ مختلفة، الأشقر منها والبني وغيرهما، مع العلم بأنها مواد كيميائية؟ وجزاكم الله خيراً.

    الجواب: الميش لا يجوز؛ لأنه تغيير للخلقة، وقد ثبت في الحديث عن النبـي صلى الله عليـه وسلم في الصحيحين أنه: (لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشرة والمستوشرة، والمتفلجات بالحُسْن المغيرات خلق الله).

    فعَلَّل النهي بتغيير خلق الله تعالى، وهذه مواد كيميائية لا تُؤْمَن، فحتى لو لم تُحَرَّم بهذا اللعن لَحُرِّمت من جهة الإضرار؛ فإن الخِلْقة إذا كانت سوداء وجاءت المرأة وقالت: أريده أشقر أو أسود أو نحو ذلك فتغير الخلقة فكأنها بذلك التغيير لم ترضَ عن عطاء الله جل جلاله، ولذلك استحقت اللعنة.

    لماذا ورد اللعن؟

    لأن الذي يغير لون الشعر لا يرضى بقسمة الله عزوجل، فيقول: لا. الأصفر أجمل، والأشقر أبهى، يعني: أن الله سبحانه وتعالى ما أعطاه الأجمل، وما أعطاه إلا القليل، فيطلب الكثير؛ فاستحق اللعن والعياذ بالله من هذا الوجه.

    فلا يجوز استخدام (الميش)، ومن فعله سابقاً فليتُب إلى الله جل وعلا، بل ينبغي دائماً الحفاظ على نساء المؤمنين، وخاصة طالبات العلم والخيِّرات والصالحات، فيبتعدن عن هذه الأمور التي لا تليق بهن.

    والله تعالى أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755972092