إسلام ويب

مظالم العبادللشيخ : سفر الحوالي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تحدث الشيخ حفظه الله عن أنواع الدواوين عند الله يوم القيامة، فذكر منها ما تتعلق بحقوق الله وما تتعلق بحقوق العباد. محذراً من الظلم وعواقبه بذكر الأدلة الزاخرة من الوقوع فيه، ثم ذكر صوراً عديدة لظلم العباد بعضهم لبعض. مبيناً ما يتوجب على المرء فعله لرد هذه المظالم والتوبة منها.

    1.   

    دواوين الأعمال وتعلق المغفرة بها

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد :

    قال المصنف رحمه الله: " وفي معجم الطبراني ( الدواوين عند الله يوم القيامة ثلاثة دواوين: ديوان لا يغفر الله منه شيئاً، وهو الشرك بالله، ثم قرأ: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:116]، وديوان لا يترك الله منه شيئاً وهو مظالم العباد بعضهم بعضاً، وديوان لا يعبأ الله به، وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه ) '' وقال المحقق وهو الشيخ ناصر: ضعيف ولم يروه الطبراني بل أحمد (6/240) والحاكم (4/575/276) وقال: صحيح الإسناد، ورده الذهبي بقوله: قلت: (صدقة ضعفوه، وابن بانيوس فيه جهالة).

    الحديث كما ذكره الشيخ ناصر وراجعناه فوجدناه كما قال، فالحديث ضعيف في لفظه، لكن كون الدواوين ثلاثة تدل له جملة من الأحاديث والآيات.

    فأما الديوان الأول: الذي لا يغفر الله منه شيئاً كما جاء في لفظ الحديث يدل عليه قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].

    وأما الديوان الثاني: الذي يتعلق بحقوق العباد التي لا يترك الله منها شيئاً، فهذا له أدلة كثيرة استنبط العلماء من مجموعها -وهذه عادة العلماء أنهم يستنبطون من مجموع الأدلة قواعد كلية عامة قطعية في الشريعة القاعدة التي تقول: '' إن حقوق الله مبنية على المسامحة أما حقوق العباد فهي مبنية على المشاحة''.

    ومعنى ذلك: أن حق الله قد يغفره الله، ولا يؤاخذ فيه بالخطأ والنسيان والإكراه، ويقبل شفاعة الشافعين، ويتجاوز من غير توبة ولا استغفار لمن يشاء, ويقدر من المصائب ومن البلاء والهم والغم والنصب الذي يصيب المؤمن حتى الشوكة يشاكها، يكفر الله بها خطاياه ويكون له بها أجر.

    وهذا -إن شاء الله- سنأتي في تفصيله عند الكلام عن الكبيرة، والتوبة، والموازنة بين الحسنات والسيئات، والكلام عن حقيقة التكفير التي تكفره الصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والحج إلى الحج، والعمرة إلى العمرة.

    أما حقوق العباد فهي مبنية على المشاحة؛ فلا تسقط كما تسقط حقوق الله، ولذلك يؤاخذ الإنسان فيها بالخطأ والنسيان وإن لم يؤاخذ عند الله، فإنه يؤاخذ عند الناس بأمر الله وشرعه، على تفصيلٍ في ذلك على ما يقتضيه الحال والمقام والأحكام وهي كثيرة، ولكن هذه هي القاعدة العامة التي استنبطها العلماء من هذا الشأن.

    1.   

    التحذير من مظالم العباد

    يجب على العباد أن يحذروا أَشَدَّ الحَذَرِ مِنَ المظالم، ومن الوقوع في حقوق العباد، والنيل منها، ومن ظلمهم والتعدي عليهم، والإساءة إليهم.

    وهذا تشهد له جملة من الأدلة تقدم ذكر بعضها، عندما تحدثنا عن حديث المفلس، وبعضها نعرض له إن شاء الله تعالى، وهي كلها تدل على عظم حق المؤمن، بل في الحقيقة على حق العباد عموماً حتى لو كان الظلم واقعاً على غير مؤمن، فإن العبد مسئول عن هذا الظلم؛ لأن ديننا هو دين العدل والرحمة، فلا يجيز الظلم بأي حال من الأحوال حتى لو كان على كافر، وهذا مما فرط فيه كثير من الناس وأهملوه وتجرءوا على حدود الله بما يتعلق بحقوق العباد.

    وفتح هذا الباب العظيم الرافضة قبحهم الله، والخوارج وحسبكم أن يكون هذا الباب إنما فتحته هاتان الطائفتان المارقتان؛ الروافض والخوارج بالطعن في خير الناس بعد الأنبياء وهم أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والافتراء عليهم ونسبتهم إلى ما ليس فيهم، مثل أبي بكر وعمر وبقية العشرة.

    فهاتان الطائفتان فتحتا الأبواب لمن جاء بعدهم من أصحاب الفتن.

    والخوارج لا يطعنون في الشيخين، ولكن يطعنون في بقية الخلفاء الراشدين وكثير من الصحابة.

    أما الروافض فيطعنون في الجميع إلا الأربعة أو الاثني عشر على اختلاف درجاتهم واختلاف أصنافهم في الكفر والضلال، نسأل الله العفو والعافية.

    فحق المسلم على المسلم عظيم، والله أمر المؤمنين بأن يكونوا إخوانا وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً [آل عمران:103]، فهذه الأوامر من الله وهي مِنَّةً على هذه الأمة كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( وكونوا عباد الله إخواناً ).

    ويقول تبارك وتعالى في حديث أبي ذر الصحيح: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا) فالله غني عن كل أحد، وهو الذي بيده كل شيء، وكتب على نفسه سبحانه الرحمة، وحرَّم عليها الظلم؛ مع أنه لو فعل بخلقه ما يفعل سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فليس بظالم؛ لأن الخلق خلقه، والأمر أمره، والعباد عباده، ومع ذلك يقول: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا).

    فالتظالم من أكبر أسباب العقوبة في الدنيا والآخرة، وقد صح أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال فيما رواه أحمد وغيره (من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره) وهو حديث عظيم اشتمل على أربعة أمور:

    الشفاعة في حدود الله

    الحد الأول: من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره، لأنَّ أمر الله وشرعه أن تقام الحدود، وإلا فَلِمَ شَرَعَ الله حد الزنا والخمر والسرقة أو غير ذلك؟!

    وإن لم يكن من الحدود المعروفة في الاصطلاح الفقهي؛ لأن حدود الله إذا وردت في القرآن أو السنة، فهي أعم مما يذكره الفقهاء؛ فالتي يقصدها الفقهاء هي: العقوبات المقدرة؛ كل العقوبات وكل الأوامر والنواهي تسمى حدود الله، كما جاء في القرآن: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق:1] تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا [البقرة:229] والمقصود به هو كل ما شرع الله تعالى.

    ولذلك يشتمل هذا الحديث على التعزير وغيره من العقوبات المقدرة، وغير المقدرة وهي: التعزيرات؛ فمن حالت شفاعته دون حد من حدود الله فقد ضاد الله في أمره، إذ أن الله لم يشرعها إلا لتنفذ ولتقام، فمن حالت شفاعته دون قيامها فقد ضاد الله في أمره، وحاد أمر الله وعانده، وكفى بالمرء شراً ولؤماً وخبثاً وعناداً وكبراً أن يضاد الله تعالى في أمره.

    وهذا له موضوع آخر، ولكنه أول ما ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث وبقيه الثلاثة الأمور التي تتعلق بحقوق العباد.

    خطورة عدم قضاء الدين

    وأول ما ذكره الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك وهي أعظمها وأهمها الدَّين (من مات وعلية دين فليس ثم دينار ولا درهم، وإنما هي الحسنات والسيئات).

    وكثير من الناس يتهاون في أمر الدين، فيأخذ كما يشاء، ولا يبالي بالقضاء أو الأداء، فليتنبه إلى ذلك، فمن كان عليه دين من هذه القضية فإنه ليس ثَمَّ دينار ولا درهم، فيكون العطاء من الحسنات أو يؤخذ ويطرح عليه من سيئاتهم.

    المخاصمة بالباطل

    ثم قال ''ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى يرجع''.

    كثير من الناس دأبهم الخصومة بحق أو بغير حق، وهؤلاء شر الخلق عند الله تعالى، والألد الخصم هو المجادل الذي قال الله تعالى فيه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة:204]، والأصل أن هذه الصفة إنما تكون في الكفار ليس في المؤمنين.

    وهذه الأيام تظل الدعاوى سنوات طويلةً، فكم سيظل هؤلاء في سخط الله؟!

    قديماً كانت الدعاوى والخصومات أن يذهب الطرفان إلى مجلس القاضي أو الأمير أو الخليفة فيقضي بينهما وينتهي الأمر، فلا شك أنه في غضب الله منذ أَنْ خاصم وجادل حتى يرجع، ولكن في زماننا هذا تستمر دعوى المدعي أشهراً أو سنوات طويلة، وفي كل هذه الأيام يظل في غضب الله تعالى؛ لأنه يخاصم بالباطل وهو يعلم.

    وليس هذا شرطاً في دعاوى الحقوق التي يُحتاج فيها إلى القضاء، بل تكون في جدال أو في اجتهاد في قضايا علمية، فيخاصم ويجادل ويعاند فيها وهو يعلم أنه مبطل غَيرُ صادق، فإن ذلك يشمله حسماً لمادة النزاع والجدل؛ لأنها الحالقة التي تحلق الدين، كما وصفها الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    خطر الغيبة

    في آخرها قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ومَن قال في مؤمن ما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج مما قال} وردغه الخبال هي: عصارة أهل النار.

    وقد جاء الوعيد فيها لاثنين هما: شارب الخمر؛ فإنه يُسقى يوم القيامة من هذه العصارة.. وصاحب الغيبة، وبهذا يكون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قرن حد مدمن الخمر بالذي يفتري على المؤمنين ما ليس فيهم، بسبب ظنه السيئ بهم.

    وقد حذر الله ونهى عن ذلك أعظم النهي، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [الحجرات:12] ولم يقل إن كثيراً من الظن إثم، ومع ذلك حذَّر من كثيره لأنك لا تعرف أيها الإثم، وأيها ليس بإثم، إلا إذا اجتنبت كثيراً من الظن، وهذا الظن السيئ تأتي معه شبهاتٌ وأدلة لا أصل لها في الحقيقة.

    فكيف إذا كان الأمر اختلاق وافتراء ومجازفة بغير علم وبغير برهان وبغير بينة؟!

    فكان جزاؤه أن يحبس في ردغة الخبال، وهي عصارة أهل النار.

    والنار كلها عذاب، وكلها نتن، وكلها ظلمة وقسوة وشدة، لكن طينتها وعصارتها أخبث وأنتن وأجيف!

    إذاً الأمر خطير، والمسألة ليست كما يظن الناس؛ فلا يجوز للإنسان أن يقول في الناس ما يشاء، وأن ينسبهم إلى الضلال أو البدع أو الكبائر، فإنه يقول الكلمة لا يلقي لها بالاً فتهوي به في النار سبعين خريفاً كما في الحديث، ومثل هذه الكلمة التي يقولها الإنسان لا يكفرها إلا أن يستعفي ممن قال فيه، وأن يستغفر من ذلك، وأن ينشر ذلك كما نشر هذه الرذيلة، وهنا يكون الأمر في غاية الصعوبة.

    ولقد كان السلف الصالح في هذه القضية على ضربين: فمنهم من نظر إلى حال من اغتابه وافترى عليه وتكلم فيه، ونال من عرضه نظرة الإشفاق والعطف، وقال: هذا مؤمن وهذا مسلم، ولا أريد أن أقف يوم القيامة بين يدي ربي مع مؤمن ولو ساعة أو لحظة، فقال: كل من تكَّلم في عرضي من المؤمنين فهو في حل.

    ومنهم من كان على النقيض من ذلك، ومنهم سعيد بن المسيب كان يقول: ''والله لا أحل ما حرَّم الله، فالله حرَّم عرضي وحرم غيبتي فلا أحلها لأحد، فمن اغتابني فأنا أقاصه يوم القيامة '' .

    ولا سيما مع شدة حاجة الإنسان يوم القيامة إلى الحسنات، وربما كان هؤلاء المغتابون والطاعنون والمفترون من ذوي العبادة والجهاد والصلاة، ولكن وقعوا في أعراض الناس ولم يتنبهوا لهذه الديون، وهذا الخطأ الذي لا يتنبه إليه كثيرٌ من الناس، ولذلك يقول: أنا أولى بأن آخذ من حسناتهم مقابل ما أخذوا من عرضي في هذه الدنيا.

    فلذا نرجو من الله أن نكون من أهل العفو والصفح، كما أمر الله تعالى: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا [النور:22] وهو ما يحثنا إليه.

    ويحببنا إليه ولكن في مقام التحذير من الوقوع في أعراض المسلمين نقول لأنفسنا: من يضمن أن من اغتبناه أو افترينا عليه أو جرحناه يعفو عنا، فهو لا يدري أصلاً، فيأتي يوم القيامة وله حسنات مثل الجبال من أعمال الذين اغتابوه وهو لا يدري بذلك، فلذلك هو أمرٌ جلل وخطير، نسأل الله أن يعافينا منه.

    1.   

    نصوص تزجر عن ظلم العباد

    وقد ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحاديث كثيرة صحت عنه فيما يتعلق بهذا الشأن، ونعني به حقوق العباد.

    تحريم الهجر فوق ثلاثة أيام

    ومن ذلك حديث أبي أيوب الأنصاري المتفق عليه وهو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يحل للرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام} ولا ينظر إلى ما كان من العداوة.

    وهذه من حكمة الله بعباده؛ لأنه لا أحد يملك نفسه ألاَّ يغضب، وربما يوقع الشيطان النفوس بعضها ببعض، ولذلك أعطى الله النفس ما يكفيها لإشباع نزوة الغضب والهجر ثلاثة أيام؛ لأنه ما من نفس إلا وتغضب ويوقع الشيطان في النفوس ما الله به عليم، ولا يحل بعد الثلاثة الأيام الهجر، ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { وخيرهما الذي يبدأ بالسلام } لأنه هو الذي كظم غيظه كما مدحه الله في كتابه، فقال: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [آل عمران:134].

    ولهذا حتى لا تحصل مثل هذه النزاعات فقد بَيَّن الله الطريقة المثلى لإبعاد هذا الأمر، فقال تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء:53] ولم يقل: يقولوا قولاً حسناً، أو: يقولوا الحسن؛ بل قال: التي هي أحسن وأفضل، فما يمكن أن يقال يقولوه في حالة وقوع العداوة والخصومة بين المؤمنين؛ لأن الشيطان ينزع بينهم، فلو لم تقل التي هي أحسن لأوقع الشيطان بينك وبين أخيك، وباعد بينكما، وزاد الأمر فرقة.

    ولهذا أحلَّ الله الكذب في الإصلاح، وهذا من حكمة الله تعالى أن حرَّم الكذب إلا في ثلاثة مواضع، منها: إصلاح ذات البين فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40] فهؤلاء أهل الخير والإصلاح كما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه الكرام يُصلحون بين الناس ويُقربون ما بين المتهاجرين من المؤمنين.

    أما المرجفون والمنافقون والنمامون الذين قال فيهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يدخل الجنة قتات} وكفى بذلك وعيداً! فهم ينقلون ما قيل وربما زادوا عليه من عند أنفسهم، فالمصلحون يريدون أن يَصلوا ما أمر الله به أن يُوصل، وأما المفسدون فهم يَقطعون ما أمر الله به أن يُوصل.

    إن بعض الظن إثم

    والحديث الآخر حديث أبي هريرة المتفق عليه، يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث).

    وهي صيغة للتحذير، وكم من الناس يظن ويتوهم ويتخرص ويتعرض وفي النهاية يرى أن ذلك كله كان وهماً وسراباً لا حقيقة له، ويندم ولكن لات ساعة مندم (ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً) فما أعظم هذه التوجيهات النبوية للمؤمنين!

    فقد نهى عن الظن وهي قاعدة عامة، ثم فصل في أمور منهية وهي مما يعرض بين الناس (لا تحسسوا ولا تجسسوا) فمعناهما متقارب (ولا تناجشوا) مأخوذة من النجش وهو: الزيادة في السلعة وهو لا يريد أن يشتريها، وهذا سيأتي فيه حديث عظيم إن شاء الله بعد قليل.

    (لا تحاسدوا) كما قال تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:54] فالذي أعطاهم هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلماذا تحسده؟ فيما أعطاه الله من المال أو المكانة أو الشهرة أو ما أعجبك مما أعطاه؟ فما يدريك أن ذلك استدراج وأن ذلك فتنة وابتلاء وأن عاقبته تكون وبالاً؟ وأنك لو أعطيت مثله كانت عاقبتك السوء؟ فإنا نحمد الله تعالى على كل حال.

    { ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا }.

    النهي عن البغضاء والشحناء

    وقد ذكر الشيخ رحمه الله صاحب مشكاة المصابيح أحاديث في هذا الباب، عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا) فهذان عبدان صالحان مؤمنان صائمان مصليان لكن بينهما شحناء فتفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس، وهما اليومان اللذان كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتحين أن يصومهما، فيغفر الله للمؤمنين وترفع إليه الأعمال فيقبلها إلا رجلين بينهما شحناء، وهذه إحدى المفاسد والأضرار المترتبة على البغضاء، فيقال: { انظروا هذين حتى يصطلحا }.

    وهناك حديث -أيضاً- قال فيه الشيخ ناصر: إنه صحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث -هذا كما في المتفق عليه- فمن زاد فوق ثلاث فمات دخل النار) وهذا من أحاديث الوعيد.

    وعن أبي خراس السلمي أنه سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه)، قال: في إسناده لين، ولكنه في سلسلة الأحاديث الصحيحة، وذكر أنه رجع عن تضعيف الحديث وأنه حديث صحيح.

    والحديث يدل على أنه إذا استمر الهجر سنة، فكأن الهاجر قتل الآخر وسفك دمه، فأي وعيد أشد من هذا؟!

    النهي عن إيذاء المسلمين

    وهناك حديث عظيم جداً رواه الترمذي عن ابن عمر قال: ( صعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المنبر، فنادى بصوت رفيع، فقال: يا معشر من آمن بلسانه ولم يُفْضِ الإيمان إلى قلبه) والخطاب موجه لمن لم يدخل الإيمان في قلوبهم؛ لأنهم أكثر من يتعرض لهذا الأمر، ولأن من أفضى الإيمان إلى قلبه، وغمرته التقوى، وأحياه الله بذكره ونوره بطاعته لا يمكن أن ينال من عرض أخيه المؤمن، ولا يتبع عورته، ولو فعل ذلك أو شيئاً منه فسرعان ما يعود ويتراجع، ويستغفر الله مما بدر منه، ويستحل أخاه مما نال من عرضه، لكن الذين يستمرون في ذلك، والذين جُبِلوا وطبعوا وتعودوا على النيل والطعن في المؤمنين ولمزهم وهجرهم فهؤلاء هم الذين يدعون الإيمان بأفواههم، ولم يفض الإيمان إلى قلوبهم؛ ولذلك قال: (يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم) والأذى عام بكل نوع من أنواع الأذى، سواء كان في عرضه أو ماله أو في بدنه أو في أي شيء يوصل إليه الأذى.

    أمثلة على أذى المنافقين للمؤمنين

    وكان المنافقون والمرجفون في المدينة في الصدر الأول هذا حالهم، يتتبعون سقطات المؤمنين وزلاتهم ويجعلون ما ليس بعورة عورة، كما ذكر الله عنهم الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ [التوبة:79] وأحياناً لا يجد المؤمن إلا شيئاً من التمر وربما كان منه نوعاً رديئاً، فيقول المنافقون: '' أما وجد غير هذا العذق الرديء؟ أليس لديه غير هذا الحشف يقدمه؟ '' ويسخرون منه ويلمزونه، وإن أتى بخير كثير وجاء بشيء من أجود ما يتصدق به وينفق، قالوا: لو كان فيه خير لترك هذا لعياله، فهذا حال المنافقين.

    وحسبك أنَّهم افتروا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى أبي بكر وعمر.

    فهذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { قسم الغنائم يوم حنين وأكثر للمؤلفة قلوبهم، ولم يُعطِ المهاجرين والأنصار، فوجدوا شيئاً في أنفسهم من ذلك، فقال رجل والله إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله} فانظروا إلى هذا الإفك العظيم من هذا الرجل لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: {ويحك ومن يعدل إن لم أعدل}.

    فيطعنون في النيات والمقاصد.

    وهؤلاء يطعنون في النيات والمقاصد؛ فهذا الرجل لو قال: يا رسول الله كيف تعطي فلاناً وفلاناً، للمؤلفة قلوبهم الألوف وتترك خيار المهاجرين والأنصار؟ لربما كانت لمقالة وجه، لكنه قال: { إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله }، فلما قيل له هذا القول تأسى بموسى، فقال: {رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر}.

    وانظروا كيف يتأسى المتأخر بالمتقدم يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً [الأحزاب:69] وهكذا فيقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهؤلاء الذين يدعون الإيمان بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم {ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته} فإذا جعل إنسان نفسه مراقباً على أخيه المسلم، فيظل يسأل ماذا يفعل؟ فسيتتبع الله تعالى عورته، ثم قال: {ومن يتتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحلة} فالويل كل الويل لمن تتبع الله عورته فإنه يفضحه ولو في جوف بيته، فأي الناس لا يُخطئ، وأيُّ الناس لا يُذنب، كلنا لولا ستر الله.

    أحسن الله بنا أن الخطايا لا تفوح          فإذا المستور منا بين ثوبيه فضوح

    فمن رحمة الله أنه يستر الذنوب والخطايا، وإلا فإن كل بني آدم خطاء، فأي وعيد يريدون بعد هذا الوعيد؟

    أربى الربا

    وعن سعيد بن زيد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: { إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق }، وجاء في الحديث الآخر: (الربا سبعون باباً، أيسرهن مثل أن يأتي الرجل أمه) نعوذ بالله! وهل هناك وعيد أشد من هذا؟ ونهي وزجر أشد منه؟!

    ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد (درهم رباً أشد من ست وثلاثين زنية) فهذا حال الربا، وهذا وعيد الله في المرابين.

    كما أن هناك نوعاً من أنواع الربا لا يفطن له الناس ويغفلون عنه، وهو الذي نبَّه عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وإن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق) وهذا من الوعيد الذي يزجر القلوب المؤمنة عن أن تنال من أعراض المؤمنين.

    وفي حديث الإسراء يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم) وانظر أخي إلى هذه الصوة البشعة، ولو كان الذي يخدش هؤلاء هم الملائكة لكان أخف من خمشهم لأنفسهم، (فقلت: يا أخي يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس وينالون من أعراضهم) فهؤلاء كانوا في الدنيا ينهشون لحوم الناس ويتكلمون فيهم، فعقوبتهم يوم القيام أنهم ينهشون لحومهم.

    وفي حديث المستورد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من أكل برجل مسلم أكلة، فإن الله يطعمه مثلها من جهنم) فمن يتقرب إلى ذي سلطان أو غيره بالكلام في أخيه المؤمن، والافتراء عليه، وأن ينسب إليه ما لم يقل مقابل شيء يناله من الدنيا، فإن كان هذا الشيء أكلة، أطعمه الله مثلها من النار.. (ومن كسي ثوباً برجل مسلم، فإن الله يكسوه مثله من جهنم) وأيضاً لو كان الأمر مما يتعلق بالكساء والثياب فله مثل ذلك من النار.. (ومن قام برجل مقام سمعة ورياء فإن الله يقوم له مقام سمعة ورياء يوم القيامة).

    الظلم المتفشي

    ومن أعظم ما يقع فيه الناس بالنسبة لحقوق العباد الظلم، ولهذا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث المتفق عليه: {والظلم ظلمات يوم القيامة}، والله يقول: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً [الكهف:59] والقرى أهلكت بالشرك إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، ولكن يدخل في ذلك ظلم العباد، والذي يشهد به التأريخ أن الدولة الظالمة يزيلها الله وينتقم منها ولو كانت مسلمة، وأن الدولة العادلة تبقى وتستمر أركانها وإن كانت كافرة، فالظلم وحده من أسباب محق الأمم والشعوب والأفراد.

    وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته}.

    وهذا من أسباب جرأة الناس على الظلم وهم لا يشعرون، فإن الله لا يؤاخذ على الظلم من أول مرة وإنما يملي لهم، فيظلمون ثم يظلمون ثم يتعودون على الظلم حتى تصبح أعمالهم كلها ظلماً، كما كان فرعون وهامان وأمثالهم ظلمة بطاشين لا يخافون الله تعالى، فإن كان في أهله فهو ظالم لزوجته ولأبنائه، وإن كان في إدارته فهو ظالم لمن دونه، فما تراه إلا ظالماً.

    فهؤلاء ينسون أن هذا الإملاء سيعقبه انتقام من الله.. { حتى إذا أخذه لم يفلته } يأخذه أخذ عزيز مقتدر، ويجعله عبرة لمن يعتبر، ولكن العادة أن الظالمين لا يعتبرون، ولله في ذلك حكمة.

    وهنا من أعظم ما يدل على أن من عقوبة الذنب الذنب بعده، فإنك ترى الظالم يظلم وقد انتقم الله من ظالم آخر، فلا يعتبر ولا يرتدع عن ظلمه، ومن تاب منهم كان لعدم رسوخه في الظلم بعد، ثم قرأ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] وهذه الآية وإن كان ظلم القرى المذكور فيها هو الشرك، فكذلك تدل الآية على أن ظلم العباد خطير، وهو داخل في الآية كما استشهد به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    وقد بيَّن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سوء عاقبة الظالمين وإن كانوا كافرين، وإن كان ذلك في الكفر، ما فعله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفره إلى تبوك عندما مر بـوادي الحجر قال: {لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم، ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى اجتاز الوادي، ولما علم أن بعض الناس قد أخذ من مائهم وطبخ به، أمر بأن تكفأ القدر بما فيها}.

    وهذا كلام نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فيجب أن نأخذه ونعض عليه بالنواجذ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، ولنترك ما يقوله أصحاب الآثار، وأمثالهم المفترين على الله الذين يريدون أن يحيوا وأن يخلدوا هذه الديار ويصوروها وينشروها ويوزعوها، ويقولون: هذه مفخرة أن توجد في بلادنا، نعوذ بالله من الغفلة وطمس القلوب والأبصار!

    كيف تصبح أماكن نزول عذاب الله مفخرة تُعظم وتحُترم، ويطالب بأن تكون أماكن سياحية وترفيهية؟ وليس هذا من هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا من هدي الذين يخافون الله، ويعتبرون بمصارع الظالمين ومصائر الغابرين.

    والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أشد وأعظم ما نهى عنه إضاعة المال، فلا يمكن أن يأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإتلاف شيء من المال إلا إذا كان في ذلك مفسدة عظمى تربو على مصلحة هذا المال المنتفع به، فإراقتها دليل على شدة ما فيها من المفسدة.

    محاسبة النفس

    والحديث الآخر هو ما تقدم معنا من رواية البخاري عن أبي هريرة (من كان له مظلمة من أخيه من عرضه، أو شيء، فليتحلل منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إلا كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه).

    إذاً فتش نفسك يا عبد الله وفتشي نفسك يا أمة الله، وكل منا يفتش نفسه وينظر هل لأحدٍ من إخوانه المسلم مظلمة عنده من عرض أو مال أو من أي حقٍ من الحقوق، ولا تؤجلها إلى الغد فقد تموت الليلة، فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، فصلاتك وصيامك، وحجك، واعتكافك، يذهب لهذا المظلوم ويذهب هذا الجهد كله بهفوات من اللسان، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه، وهذا أسوأ من الذي قبله، وذلك أن يكون الرجل ممن يقع في حقوق العباد، فإذا كان هذا المظلوم لديه سيئات كالخمر أو الزنا وغير ذلك، فإنها تصبح في ميزان ذلك الظالم ويتحملها عنه؛ مع أنه لم يعملها، وذلك لأنه تكلم في عرض أخيه المسلم الذي يكون قد وقع في تلك السيئات.

    ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك أيضاً لما قال لأصحابه: (أتدرون من المفلس)، وهذا الحديث فيه أسلوب ونوع من أنواع التعليم النبوي، وهو من أرقى وأفضل أساليب التربية والتعليم، في الوعظ والتعليم وذلك أن يسأل العالم المتعلمين: (أتدرون من المفلس)؛ فأذهان الناس -دائماً- تتجه إلى اصطلاحات معينة، فينبه العالم فيما يقصده الشرع.

    وأن الحقائق ليست كما هو ظاهر في الحياة الدنيا، فينبههم إلى حقائق الشرع والآخرة التي بما غفلوا عنها، ولذلك قال الصحابة (المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع) وهم يعلمون بفطنتهم أن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أراد مجرد سؤال عن الذي يعلمه الناس جميعاً.

    فيقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إن المفلس من أمتي يوم القيامة من يأتي بصلاة وصيام وزكاة).

    وهذه أفضل أنواع العبادة، وهي أركان الإسلام الثلاثة بعد التوحيد، وأعظم شي يتقرب به العبد إلى الله بعد التوحيد هذه الثلاثة الأركان:

    (ويأتي وقد شتم هذا ) وقد انتشر الشتم بين المسلمين انتشار النار في الهشيم.

    وانظر إلى أصحاب الدكاكين والمدرسين -ولا سيما في المدارس- فبعض المدراء والمدرسين يشتم كل طالب ومدرس وكل فَرَّاش في الساعة الواحدة حتى إن بعضهم أصبح يشتم الجمادات، بل وربما بعضهم يشتم ويلعن نفسه ووالديه، فهذه قلوب ما هذبها الإيمان ولا روضتها التقوى.

    { وقذف هذا } والقذف قد يكون أعم من معناه الشرعي مما يتعلق بالعرض، فيراد به القذف العام: وهو رمي الإنسان بما ليس فيه، أو يراد به القذف الخاص: وهو قذف العرض، وكلا المعنيين كثير بين الناس.

    (وأكل مال هذا) وبعضهم لا يمنعه أن يأكل أموال المسلمين، وإن كانوا أيتاماً، وإن كانت من بيت المال إلا العجز والخوف أن يتفطن له الناس، ولا يخاف الله تعالى ولا يبالي بما أعد الله من الوعيد لمن فعل ذلك.

    (وسفك دم هذا) وقد يصل به الحد إلى ذلك، (وضرب هذا ) فكل أنواع الأذية تدخل في هذا الحديث، فيكون الجزاء بعد ذلك في يوم الخزي والندامة، ( فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه) والمطالبون لا يزالون يقولون: يا ربي حقي فيأخذ من سيئاتهم بقدر تلك المظلمة. إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء:40].

    فبعد أَنْ كانت له حسنات مثل جبال تهامة كما في رواية أحمد صار مفلساً.

    1.   

    أداء الحقوق

    ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الذي رواه مسلم: ( لتؤدنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء).

    وأكثرُ الناس لا يفطن لهذه الأمور، ولما مر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعنـزين قال: (أتدري فيم تنتطح هاتان؟ قال: لا. قال: ولكن الله يعلم، وسيقضي بينهما يوم القيامة) فكيف بالمسلمين؟!

    فَمِنْ عَدِلَ الله يوم القيامة أن يُؤدي الحقوق إلى أهلها حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء فهذا مثال وعبرة للناس.

    وكل إنسان يناطح مما أعطي له، فبعضهم يناطح بالمال، وبعضهم يناطح بالجاه والمنصب، وإنما يناطحون من لا قرون لهم، ممن لا مال لهم ولا جاه ولا منصب.

    ولذلك خيرٌ للإنسان في الدنيا أن يُظلم ولا يَظلِم، وخير له أن يُغتاب ولا يغتاب، وخير له أن يُسب ولا يَسب.. وهكذا.

    وكن عبد الله المقتول أو المظلوم، ولا تكن عبد الله القاتل أو الظالم، فإن الحساب يوم القيامة، وإذا كانت البهائم تقاد بينها فما بالكم ببني آدم؟!

    وهناك فرق بين حال البهائم، وحال بني آدم في العاقبة، وذلك أن البهائم إذا اقتيد لبعضها من بعض يقول الله لها: كوني تراباً!

    أما أولئك فإنهم يؤمر بهم إلى النار، فإذا رأوا عذاب الله، ورأوا عاقبة أفعالهم وسوء المصير والخزي والندامة التي تحل بهم، وأنه لا يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو أفتدى به، تمنى أحدهم، وقال: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً [النبأ:40]، فأحقر حشرات الدنيا، وأوهن البهائم وأمرضها التي تضرب وتهان، يتمنى الكافر يوم القيامة أنه كان مثلها -لأنه يقال لها: كوني تراباً- وأنه لم يكن، صاحب الجاه، أو الملك، أو السلطان، أو القوة الذي كان يستعلي على عباد الله تعالى ويظلمهم ويأخذ حقوقهم، فبعد أن يوقف للقصاص حتى يأخذوا حقوقهم كاملة يوم القيامة ويستوفوها بين يدي عزيز عليم، فإنه يؤمر به إلى النار.

    دعوة المظلوم

    ومن هذا الباب -أيضاً- ما قاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث معاذ لما بعثه إلى اليمن { ..واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب).

    وكثير من الناس لا يأبهون بهذه الدعوة، وكم من ظالم أخذه الله، ونزعه من بين أهله وبنيه وانتقم منه، وجعله عبرة بدعوة مظلوم! لأن الله عز وجل يقول لدعوة المظلوم: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) فينتقم الله له ممن ظلمه، ولو لم يكن من زاجر عن الظلم إلا أن يعلم الإنسان أن دعوة المظلوم مستجابة لكفى، وإن كان في ذلك المظلوم ما فيه فالإجابة لدعوته؛ لأنه مظلوم لا لشخصه، فكيف إذا كان المظلوم من أهل التقوى والخير والإصلاح؟!

    من عادى لي ولياً

    وقد قال تعالى في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، وفي بعض الروايات (إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب) والليث الحرب هو: الذي تشتد عداوته وتشتد شهوته للبطش والانتقام، فلا يعرض له عارض إلا وهجم عليه بأشد ما يمكن، وأنشب أنيابه وأظفاره فيه، فهذا يقال له: الليث الحرب، فالله يثأر وينتقم لأوليائه إذا تعَّرض لهم معترض كما يثأر الليث الحرب، ولهذا لم يُعادِ دعوة الله تعالى أحد إلا كبه الله على وجهه في الدنيا والآخرة، بالذل والخزي في الحياة الدنيا، وبالنار يوم القيامة.

    فالذين يستهزئون بأولياء الله، والدعاة إليه، أو ينالون منهم، أو يقعون في أعراضهم، أو يؤذوهم بما هو أكبر من ذلك، فليستعدوا لمثل هذه العقوبة، وليعلموا أنهم إنما يُحاربون الله، وأن الذي سينتقم منهم هو الله تعالى؛ لأن الواجب على المؤمن أن يكون أخاً لأخيه المؤمن، وأن يكون له مؤازراً ومناصراً، وإن لم يكن كذلك فلا أقل من أن يكف عنه أذاه وشره.

    أما أن يُصبح المؤمن عوناً على أخيه المؤمن ولا سيما إن كان من أولياء الله، ومن دعاة الحق، ومن أهل الذكر، وممن نفع الله بهم من العلماء والدعاة والفضلاء، فإن ذنبه أقبح وإثمه أعظم، وما عليه إلا ينتظر الوعيد الذي توعَّده الله به، ومن يغالب الله فإنه يغلب.

    1.   

    الذنب الذي يغفره الله

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله صحبه أجمعين. وبعد:

    تقدم الكلام حول الذنب الذي لا يغفره الله تعالى مطلقاً وهو: الظلم، والذنب الأعظم وهو: الشرك، وأرجو أن يكون الكلام قد اكتمل عن هذا الموضوع.

    أما الذنب الذي لا يُبالي الله تبارك وتعالى به، بل يغفره لمن يشاء، فهو ما كان من تفريطٍ، وتقصيرٍ في حق الله تبارك وتعالى، مع تحقيق التوحيد.

    وأما الذنب الذي لا يتركُ الله منه شيئاً فهو حقوق العباد، وقد تقدم ذكر الوعيد الشديد على انتهاكها.

    1.   

    فضل الذب عن عرض المسلم

    وينبغي بعد ذكر هذا الوعيد، أن نبشركم بشرى عظيمة من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي قوله صلوات الله وسلامه عليه: (من ذب عن عرض أخيه المسلم ذب الله عنه النار يوم القيامة) فكل واحد منا يتمنى ذلك، وغاية ما نرجوه ونتمناه أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحفظنا، ويحمينا، ويجيرنا من النار، وأن يدخلنا جنته، وينيلنا مرضاته، ويمتعنا برؤية وجهه الكريم.

    فهذا المطلب العظيم غاية غالية، تحصل لك يا أخي المسلم بأمر ليس بكثير، وليس بكبير، بل هو هين، وميسور، وسهل لمن يسره الله تعالى له.

    وهو أن تذب عن عرض أخيك المؤمن إذا ذكر بما ليس فيه وإذا اغتيب أو نيل منه وهو غائب وأنت حاضر، فما عليك إلا أن تقول: لا، اتقوا الله، وتبين أن هذا كذب، أو افتراء، أو حرام، أو إثم، وتذكر ما فيه من الخير، وما تعلم عنه من الصلاح، ولا تزكيه على الله تبارك وتعالى.

    فهذا الحديث فيه هذا الفضل العظيم، لأن الناس قد لا ينتبهون له، وقد يجاملون غيرهم، وعادة أن الناس في مجالسهم يجامل بعضهم بعضاً، فإذا تكلم واحد، قالوا: صحيح والله، ولو أن المتكلم أثنى ومدح، لقال القائل: نعم صحيح هو كذلك.

    وهكذا عادة الناس -مع الأسف- أن يجاملوا المتحدث، لكن المؤمن لا يجامل أو يثني على من لا يستحقه وإنما يقول الحق، ولذلك فإن المؤمن يرى بحسب المصلحة والمفسدة المترتبة، فيقول: لكن دينه كذا، وصلاته كذا حتى ينبه الحاضرين.

    فلا نريد المجاملة من الحاضرين والسامعين للمتحدث، فإن كان الغائب رجلاً صالحاً، فقام أحد الحاضرين وقال: لا، اتقوا الله، ما علمنا فيه إلا خيراً، وهو كذا وكذا، وأثنى عليه بما فيه من الخير، وذب عن عرضه.

    فليحتسب عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يذب الله عنه النار يوم القيامة، وكفى بذلك أجراً وكرماً من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

    1.   

    الأسئلة

    حديث: (اعدل! إنها قسمة ما أريد بها وجه الله)

    السؤال: أنبهكم أنكم عند شرحكم لتوزيع الغنائم في حنين وإعطاء المؤلفة قلوبهم قلتم: أن الرجل قال: اعدل، والذي أعرفه أنه قال: هذه قسمة لم يرد بها وجه الله، أما هذا القول فإنما قيل عند التحاكم إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التخاصم في ماء شراج الحرة، أما الذي قاله أحد الأنصار: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى لمن يعرفه في مكة أو كما قال، والراجح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا الأنصار وسألهم عن المقالة التي قالوها، وذكر الراوي أنهم كانوا لا يكذبون، ثم بشرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ولو سلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار} وأخبرهم، وبشرهم، فقال: {ألا يسركم أن الناس يرجعون بالدينار والدرهم، وأنتم ترجعون إلى المدينة بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } أو كما قال عليه الصلاة والسلام؟

    الجواب: الأخ يذكر أن الحديث -إن كنت فهمت ما يريد- أن قوله: اعدل إنها قسمة ما أريد بها وجه الله، أنها قيلت في شراج الحرة، والذي اختصم فيه الزبير بن العوام رضي الله عنه مع غيره فقال الرجل: آن كان ابن عمتك يا رسول الله؟!

    وهذه أيضاً كلمة عظيمة، وأنزل الله تبارك وتعالى في حقها قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا

    فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65]، ويقول الأخ: إن قوله: {اعدل، إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله} أنها كانت هنا.

    أما التي كانت في حنين فهي قوله للأنصار، ولا أظنه مصيباً جزاه الله خيراً.

    وأريد واحداً منكم يراجع ذلك ويأتينا باليقين، وشكر الله لكل من استدرك علينا، أو وجهنا، فنحن محل الخطأ والنسيان.

    من ضوابط الهجر

    السؤال: يقول ذكرتم حديث الوعيد لمن هجر أخاه فوق ثلاث فمات في الهجر دخل النار، فيقول كيف يكون الهجر؟

    وهل لتجنب الهجر ينبغي أن أرى الأخ قبل الثلاثة الأيام؟ أم ترك الهجر يشمل الدعوة إليه والاتصال به تلفونياً والمراسلة؟

    الجواب: رحمة الله أوسع فلا تشترط الرؤية، فلو كلمته واعتذرت منه هاتفياً أو بمراسلة، أو بأية وسيلة، أو أرسلت إليه رجلاً من إخوانك الصالحين أو المصلحين فإن ذلك يجزئ إن شاء الله تعالى.

    ضرب الأمثال ليس تشبيهاً

    السؤال: ما نوع التشبيه في الحديثين الآتيين (لله أفرح بتوبة عبده إذا تاب من رجل أضل راحلته في فلاة) الحديث المعروف فقام فقال: (اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح )، والحديث الذي ذكرناه الآن هو أحد رواية الحديث المعروف (إن الله أشد انتقاماً) أو (إني لأثار لأوليائي كما يثأر الليث الحرب

    الجواب: هذا للتقريب، ليس فيه شيء من التشبيه المذموم الذي لا يليق بصفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذا الذي فقد دابته، وعليها زاده، وماؤه، في فلاة منقطعة، يفرح إذا قام وهي واقفة عند رأسه، فالله تعالى أشد فرحاً بتوبة العبد منه.

    ففرح الله أشد فرحاً منه، وهذا لا يقتضي أن يكون فرح الله تعالى كفرح المخلوقين، ولا غضب الله تعالى كغضب المخلوقين، ولا شيء من صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كصفات المخلوقين.

    وإنما المقصود أن يفهم الناس ذلك، ولذلك عبرَّ بهذا المثال الذي هو غاية ما يتصور الإنسان من الفرح بنيل المطلوب، وإدراك الشيء الذي هو غاية ما يرجوه الإنسان، وقد يحسب أنه فات، وأنه قد ذهب عنه.

    فهذا لتقريب هذا المعنى في أذهان الناس، وإلا فإن الله ليس كمثله شيء، فلا اليد كاليد، ولا العين كالعين، ولا الوجود كالوجود، ولا الوجه كالوجه، ولا الفرح كالفرح، ولا الغضب كالغضب، ولا أي شيء من صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كصفات المخلوقين.

    وكذلك في الانتقام.. فالمقصود أن الناس يعلمون إذا غضب الليث كيف ينتقم، وكيف يثور؟ وكيف يبطش بالفريسة؟

    فليخافوا من بطش الله، وانتقامه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأنه يثأر لأوليائه مثل هذا.

    فهذا مثل حسي، ليعلم الناس كيف يكون انتقام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.. ولله المثل الأعلى.

    كفارة الغيبة

    السؤال: هذا أحد الإخوان يقول: إنه قال فِيَّ كلاماً، ولو طلبتُ أن يقف أمامكم يعتذر لقام؟

    الجواب: لا أريدك أن تقف وغفر الله لي ولك، وعفا عنا جميعاً، ونسأل الله أن يستر عيوبنا جميعاً في الدنيا والآخرة، وكما قلت لكم فيما مضى: لا أريد مثل هذا الاعتذار، بل أريد أن كلاً منا يدعو لأخيه المؤمن بظهر الغيب، فقد يخطئ كل منا ولا أحد يبرئ نفسه، فمن أخطأنا عليه أو أخطأ علينا، فأرجو أن نكتفي بأن ندعو له في ظهر الغيب، وأن يدعو لنا.

    وأما من أساء أو تجاوز بأن نشر أو افترى افتراءً ونشره وأذاعه فلا أتكلم أنا فيه بشيء.

    ولا أقول إلا كما قال فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله في محاضرته بعنوان (موقف أهل السنة والجماعة من الخلاف) فإنه قال: '' إنه من نشر شيئاً فعليه أن يكفر بمثل ما نشر إن كان كتاباً وإن كان شريطاً'' .

    لأن هذا قد لا يضر المقول فيه بشيء، ولكن ليبين بالنسبة للعامة وطلبة العلم والمخدوعين ما لبسَّ عليهم به إن كان وقع شيء من ذلك.

    ضوابط الشتم

    السؤال: ما هو الشتم؟ وهل له ضابط؟ وهل الإنسان يحاسب على عموم الشتم حتى لو كان ذلك في مصلحة؟

    الجواب: الشتم هو الشتم، يقول العلماء: توضيح الواضح من المشكلات.

    أي أن توضيح شيء واضح صعب، وهو معروف، لكن هل قد يكون للمصلحة؟

    وقد يقال لفاعل الذنب: يا فاجر يا مجرم، يا مخطئ، يا فاسق، فإن كان يستحق ذلك شرعاً فهذا قد يكون، وأما ما ورد فيه الوعيد فهو ما كان بغير حق، ولذلك لو أن رجلاً سب رجلاً فرد عليه فسبه لما كان معتدياً، لقوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ [النساء:148] ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ [الحج:60] وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ [الشورى:41] أي إذا انتصر الإنسان بعد ظلمه وعاقب بمثل ما عقوب به ورد السبة بسبة ولم يعتد، فهذا لا يُؤاخذ وليس هو المقصود، بل المقصود من سب، أو ظلم، أو سفك الدم، أو أخذ بغير حق، فنحن نتكلم على العرض المعصوم، أما من كان مستحقاً لذلك كأن يكون مِن مَنْ تجوز غيبته، كتارك الصلاة، وكأهل البدع الذين يحذر منهم لما فيهم من البدع، وليس من تظن أو تتوهم أنت أو يتوهم أحد أنهم من أهل البدع.

    فهذه نفس القضية التي ندعي الافتراء أيضاً، فلنفرق بين الافتراء وبين الحقيقة.

    فإن كان حقاً من أهل البدع أو من أهل الفجور الواضح المعلن به، فإن هؤلاء قد جعل الشرع ما يردعهم، ليس فقط أن يشتم أو يسب، بل يؤذى بما هو أكثر من ذلك من الهجر، أو التعزير بالجلد، أو الحبس أو غير ذلك من العقوبات التي قررها الشرع.

    نشر فتاوى ورسائل كبار العلماء

    السؤال: هناك فتاوى ورسائل في الأفراح للشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظهما الله تعالى، هل ننشرها ونوزعها؟

    الجواب: نعم، فهذه رسالة طيبة جداً، وحبذا لو يحتسب كل إنسان أن يوزع أو أن يطبع منها في هذه الأيام -بالذات- عند حصول الأفراح وفي المناسبات، ومن جملتها الفتوى التي تحدثنا عنها فيما مضى عن المنصة والكوشة، وقد قام بعضهم بطبعها فإن كانت مطابقة لما قلناه فلتنشر ولتعلق ولتوزع في المساجد.

    وعلى كل واحد منا إن أراد أن يأخذ مثل هذه الأشياء فليأخذها بحقها، وحقها أن يصور منها الكثير، ويُوزعها في المناسبات، وحيثما تكون المصلحة إن شاء الله.

    أخلاق المصلح

    السؤال: رجل دعوته إلى تحكيم أمر الله تعالى في مشكلة وقع فيها فأبى، وقال: حكم من وراء ظهري، مع أنه مخطئ، فقلت للذي يريد أن يصلح بين صاحب المشكلة وصاحبي: إن الرافض للتحكيم رجل متعصب للهوى، فهل هذا بهتان عليه أم أني أصبت؟

    الجواب: أنت يا أخي جعلتني قاضياً، وفرق بين القاضي والمفتي، فمقام الإفتاء سهل، لكن مقام القضاء صعب جداً، والذي أخذه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على عبده داود عليه السلام أنه لما جاءه الخصم وتسوروا المحراب وشكا أحدهما إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ [ص:23] ...إلخ القصة، ولوضوحها قال: قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ [ص:24] يريد أخذ الواحدة من المسكين!!

    لكن لو أن الآخر تكلم لربما قال: يا نبي الله إن لي (100) نعجة وسرق هذا منها نعجة، ويريد أن يأخذها، ويمكن أن يكون الحق معه، ولهذا آخذه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

    ونريد أن ننصح الإخوة نصيحةً، ولا نفتي فيها، فننصح بعدم إساءة الظن ما أمكن وحمل الكلام على أفضل المحامل، فقل: لا يعنيني، وقل: لعله كذا، ولعل كذا، حتى لو رأيت أن فيه هوىً، فقل: لعل في نفسه هوى، ولا سيما وأنت إن شاء الله من المصلحين، فالمصلح ينبغي له أن لا يتحول إلى خصم.

    وهذه الأشياء هي التي يجب أن يتحلى بها المصلح، ولهذا المصلحون دائماً أعطاهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الصبر والأناة والحلم دائماً، وإلا لم يكونوا مصلحين؛ لأن بعض الناس إذا توسط في خصام أو في مشكلة فبمجرد أن يسمع من أحدهم شيئاً يرفض أن يسمع من الطرف الآخر فيتشاجر هو والآخر، فكانت المشكلة واحدة فأصبحت مشكلتين، وما استفدنا شيئاً! فلا بد أن يكون المصلح ممن يتحمل حتى لو أساء إليه ذاك وطرده، أو رده، أو أخرجه، فيذهب ولا يشكو ولا يذكر، حتى تبقى المشكلة واحدة ما أمكن، ويحتسب ذلك عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

    وإن كان يصعب على النفوس أحياناً تحمل الظلم ومرارته، لكن أقول: المصلح لا ينبغي ولا يجوز له أن يتحول إلى خصم مهما أمكن.

    وإن كان لهذه القاعدة من الاستثناء فهو أن بعض الناس قد يكون من المنفرين نسأل الله العفو والعافية، فقد يكون ممن لا يأتيه أحد إلا وعاداه وخاصمه، فهذا إن جاءه أحد وحصل منه هذا، فيكون ممن أراد الله أن يفضحه.

    الحكم الشرعي متعلق بفهم الواقع

    السؤال: يقول العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في إعلام الموقعين عند شرح كتاب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ''ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم، أحداهما: فهم الواقع والفقه فيه، والثاني: فهم واجب الواقع '' ... إلخ. ولعلكم تشرحون لنا هذا وجزاكم الله خيراً؟

    الجواب: أظنه لا يحتاج إلى شرح، لأن هذه مشكلة، أن تتكلم عن البدهيات، فينبغي للمسئول أو لمن يتكلم أن يربأ بعقول السامعين عن ذلك، فأحياناً لا يمنع الإنسان من الكلام في موضوع إلا بداهته، فمسألة معرفة الواقع وأهميته قضية بدهية لا نستطيع أن نحصي الأدلة عليها.

    وهو أن الإنسان لا بد له مع معرفة الدليل أن يعرف الواقع ليقيم الدليل فيه، فعندما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأوامر كثيرة جداً في القرآن، إن لم تعرف الواقع لا يمكنك أن تقيمها، فأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الأمة -مثلاً- بقوله: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2] فهذا الحكم كيف ينفذ، فإنه لا يعرفه إلا من عرف واقع الحال، فهل هو زانٍ أو غير زانٍ؟ وما حقيقة الزنى؟ وهكذا في قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38] فلا بد أن تعرف الواقع والقضية وتتصورها لتحكم بالآية وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2] ما معنى ذوي عدل منكم؟

    لا بد أن تعرف من هو العدل، ولا بد أن تعرف حقيقته وهل هو من ذوي العدل أو ليس من ذوي العدل؟

    وهكذا حتى في المحرمات الجليلة الواضحة -فمثلاً- الله تبارك وتعالى حرم الخمر، فإن لم يكن الإنسان يعرف الخمر فكيف يفتي!

    ولهذا انظروا إلى الأشياء التي فيها اشتباه تجدوا أنه يشكل على العلماء أن يجيبوا عليها، فمثلاً: لو سألوا عن الكلونيا: ما حكمها؟ لقال بعضهم: تبين لي أنها مسكر وأنها خمر فهي حرام، وبعضهم يقول: لا. فيها نسبة قليلة، وبعضهم يقول: ليس فيها شيء، فكل أجاب بحسب معرفته لواقعها أو بحسب واقع هذا الشيء... فهكذا لا يمكن معرفة أي شيء إلا بمعرفة واقعها.

    أما الأدلة والنصوص، فهذه الكتب موجودة، وهذا كتاب الله وهو أعظم كتاب، وكتب الأحكام الفقهية ملأت الأرض والحمد لله، فمن الممكن أن يحفظها بعض الناس عن ظهر قلب، ويكون كما قال بعض العلماء: زادت في البلد نسخة.

    فإن قيل له: إن فلاناً يحفظ كتاب سيبويه أو كتاب كذا، لقال: زادت في البلد نسخة، وهذه نسخة زايدة فقط، لماذا؟ إن لم بنبن على هذا الحفظ حفظ الأدلة ومعرفة الواقع الذي هو تحقيق مناط هذه الأدلة، لا يصلح الأمر.

    فإذا جاءك رجل مثلاً وسألك عن أمر من الأمور وخاصة مما يتعلق بأحوال الناس، فإن لم تكن تعرف واقع المسئول عنه أو واقع السائل، فقلما تصيب، فلا بد من إقامة الأدلة كما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وذلك أن تنزَّل منازلها كما أمر الله تعالى وكما شرع، فكيف نعرف الظالم من العادل؟ وكيف نعرف البر من الفاجر؟ وكيف نعرف الحلال من الحرام؟

    إلا بمعرفة الواقع، وليس المقصود من ذلك أن الإنسان يحيط بكل أمور الواقع فليس كذلك، لكن أمامنا أمران أو حلان:

    الأمر الأول: أنه يجب على المفتي كما ذكر هنا الشيخ ابن القيم رحمه الله تعالى أن يستطلع ما استطاع من أمور الواقع ليعرفها، ولهذا كان بعض الفقهاء ينزل إلى الأسواق ويرى كيف يتبايع الناس ليفتي.

    فقد يأتيك إنسان ويقول لك: ما رأيك في شرائي أرضاً بالتقسيط من أحد الناس فماذا تفتيني؟ فهل بسرعة تقول: يجوز أو لا يجوز، إذا كنت تعرف أن هذا حيلة، وأن هذا كذا، وتعرف واقع الناس لتفتي في محله، وحتى تكون فتوى في محلها، أما إن أخذت بظاهر القول فربما تحرم حلالاً أو تحلل حراماً، وهكذا ينبغي لمن تصدر للدعوة والعلم والإفتاء أن يلم بالواقع ما استطاع.

    الأمر الثاني: إن كل إنسان لا يستطيع أن يلم، بكل شيء فهذا أمر طبيعي، فقبل أن تفتي في مسألة، اسأل أهل الخبرة فيها وأهل الشأن، ولهذا كان عمر رضي الله عنه يجمع أهل الشورى، وهو أعلم الناس بالأدلة، وفقه عمر رضي الله تعالى عنه من أوسع وأعظم أبواب الفقه.

    فيكفيكم أن تعلموا أن ما عند ابن عباس من العلم وكثير مما عند ابن مسعود وغيرهما رضي الله تعالى عنهما أخذاه من عمر ومن فقه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، ومع ذلك تنزل به النازلة، فيجمع أهل الشورى ويسألهم عن هذه الواقعة، فإن كانت من أمور الجهاد، فلا يفتي فيها بسرعة، حتى يسأل أهل الجهاد وأهل الخبرة في الجهاد، فإن كانت من أمور المال سأل أهل المال.

    فكثير من الأسئلة التي يسألها الناس لو سألت من يعمل في البنوك لأراحك، لأنه يقول لك مثلاً: الاعتماد البنكي حقيقته كذا، وكذا، والتأمين حقيقته كذا وكذا، والقرض القصير الأجل كذا، والطويل الأجل كذا، فتكون الفتوى فعلاً في محلها.

    إذاً نسأل أهل الخبرة، وهذا معلوم ليس بجديد، فهو معلوم من عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الآن، وأعني به الاستعانة بأهل الخبرة في شأن ما، ولهذا فرح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قال القائل: {إن هذه الأقدام بعضها من بعض}؛ فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ بقوله؛ لأنه صاحب خبرة في القيافة وفي معرفة من يلحق بالنسب، فاستعان به وفرح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسره ذلك, واستشار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مواقف كثيرة من أجل هذا الشيء، وهذا أمر مقرر من سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    فمثلاً لما جاء فقهاء الكوفة كان مذهبهم بالنسبة للأشربة خاطئ، حتى إن الإمام أحمد رحمه الله تعالى كتب من أجل ذلك كتاب الأشربة رداً عليهم، وفقهاء العراق، وأهل الكوفة كانوا لا يرون الخمر إلا ما كان من العنب، وأفتوا بذلك في أواخر عهد الصحابة رضي الله تعالى عليهم، فرد عليهم أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه كما في الصحيحين رداً عظيماً جداً، لأنه كان من صغار الصحابة وعاش حتى أدرك هؤلاء.

    قال: [[لقد نزل تحريم الخمر، وما في المدينة عنبة، وإنما كان الخمر من كذا وكذا]] فقد رد عليهم بعلم الواقع، فهو يقول: ليس في المدينة عنب فإنه لما حرم الله الخمر وأراقها المؤمنون وجرت في سكك المدينة لم يكن عندنا في المدينة عنب، وإنما كان التمر والشعير وأمثالها، فهذا الرد من أقوى أنواع الردود في إبطال مذهب أهل العراق، في دعوى أن الخمر فقط ما كان من العنب، وأن غيره يقاس عليه، وهكذا يكون الاستدلال بالواقع المعاصر.

    ولما قيل في حديث الحمام: إنه موضوع قالوا ذلك، لأنه لم يكن في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حمامات، وكذلك لما قالوا: حديث أجرة الطحان أيضاً، قالوا: الحديث ضعيف، أو موضوع، أو موقوف، فليس من كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث أنه لم يكن في عهده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يطحن ويستأجر.

    وغيرها من الأشياء التي لا أستطيع أن أحصرها، فلو كتبت رسالة دكتوراه في ذلك لتبين من كثرة الشواهد والأدلة على أن معرفة الواقع أمر ضروري لا بد منه في الفتيا وفي الحكم.

    أما أن الإنسان يفتي فتوىً مجردة فلا بأس.

    فعلينا أن نُفرق بين من يقول: أنا وجدت أن الخمر حرام، ويفتي بفتوى الأدلة، وبين من يقول: هذا حلال، أو حرام في هذه القضية النازلة وهو لا يعرف حقيقتها، فهنا يكون التقصير في هذه القضية الواقعة.

    أما القول بفتوى عامة فلا بأس، ولذلك تجد العلماء والمفتين -جزاهم الله خيراً- لو سئلوا هل هذا العمل حرام أو حلال؟

    فإنهم يعطونك القاعدة بقولهم: إن كان كذا فهو حرام، وإن كان كذا فهو حلال، لأنه لا يعرف الواقع فأعطاك القاعدة، وأنت طبق على الواقع، لكن لو كان يعرف الواقع لما احتاج أن يقول لك: كذا وكذا ولاكتفى أن يقول: هذا حرام، أو هذا حلال.. وهكذا.

    وحتى المصطلحات تختلف -وهذا أيضاً من فقه الواقع- ففي أصول الفقه مصطلحات للحنفية غير مصطلحات الأئمة الثلاثة، وأحياناً مصطلحات الأصوليين عامة غير مصطلحات أهل الحديث عامة، فهذا مصطلح وهذا مصطلح.

    كما أن مصطلح بعض البلاد غير تلك البلاد؛ فالكلمة بالعراقي لها معنى غير الكلمة بـالمدينة ولذلك لو وجدنا فتاوى من علماء العراق كتلاميذ عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه وأمثاله، لوجدنا أنها غيرها -مثلاً- في المدينة أو في مصر ويكون لها معنى آخر.. وهكذا.

    فإذاً: لابد من معرفة الواقع، ومعرفة اللفظ، ومعرفة المدلول.

    فهذه أظن أنها أجلى من أن نحتاج أن نتكلم فيها، ومن سوء حظ هذه الأمة -والله المستعان- أننا وصلنا إلى حالة من الانحطاط الفكري وضيق النظر وضيق الفهم، فأصبحنا ننازع في البدهيات وأصبحت البدهيات موضع مناقشة وإلى إثبات وتحتاج إلى أدلة، والله المستعان.

    مثل هذا الكلام تماماً قاله فضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم وغيره من العلماء الذين كانوا يشترطون في القاضي أن يكون بصيراً وعارفاً بواقع الناس وأحوالهم، ولهذا اختلف العلماء: هل يجوز أن يتولى الأعمى القضاء؟

    مع أن الراجح أنه يجوز، لكن هذا خلاف قديم موجود في كتب الفقه القديمة.. لماذا؟ قالوا: لأنه قد لا يبصر، وقد يكون الأعمى من أعلم الناس، هذا معروف قديماً وحديثاً، لكن القضاء غير الفتيا، فكيف يقضي وهو لا يتصور بعض الأمور، ولا يراها ولا يعرف طبائع الأشياء مثلاً؟! فهذه وجهة نظر من قال بذلك.

    إعانة المجاهدين في أرتيريا

    السؤال: كيف نمد يد العون لإخواننا المجاهدين في إرتيريا جزاكم الله خيراً؟

    الجواب: إخوانكم المجاهدون في أرتيريا نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينصرهم ويعلي كلمته، وأن يذل الصليبيين واليهود والنصارى والمجرمين أينما كانوا، فقد كشروا عن أنيابهم هذه الأيام، وأصبح المسلمون في كل مكان يرون هذه العداوة منهم واضحة وضوح الشمس.

    سمعتم وقرأت عندنا في الصفحات الأولى من الجرائد أن إسرائيل تهدد بضرب المفاعل النووي في باكستان، انظروا إلى جرأة اليهود والنصارى على المسلمين، فلا يريدون أن يكون لهم أية قوة أبداً، بل يريدون أن يضعفوهم ويستعبدوهم، ولذلك هذه الدولة اليهودية الخبيثة تتجرأ على مفاعل نووي بعيد، بينها وبينه دول وأمم، فالآن الصليبية الخبيثة كشرت عن أنيابها في أفغانستان فأصبحت المسألة واضحة وضوح الشمس أن المجاهدين لا يحاربون روسيا وحدها كما كان يظن، وإلا فقد أذلها الله وأخزاها، لكنها سحبت جيوشها، وحولت القضية إلى الغرب كله وأمريكا ومن معها، وأصبحت الألاعيب تدار لوأد هذا الجهاد، وأصبحت داخل المجاهدين تزرع الفتن، وتقدم المساعدات الأمريكية والغربية من أجل التنصير وما إلى ذلك، أصبح أمراً مشهوداً في الفلبين وفي كل مكان.

    الشاهد هنا حتى لا نخرج عن الموضوع أن مندوب حركة الجهاد الإسلامي الأرتيري، لشرح أحوال وأوضاع المهاجرين والمجاهدين كتب له فضيلة الشيخ الوالد محمد بن صالح العثيمين حفظه الله تعالى في 13/رمضان/1411هـ، هذه التزكية، وهذا نصها:

    بسم الله الرحمن الرحيم

    إن الأخ عبد الوهاب بن يوسف الزياني معروف عندي وهو محل ثقة وله نشاط في شرح الجهاد الأرتيري والسعي في نجاحه.

    ولا شك أن الجهاد في سبيل الله من أفضل ما بذل المسلم فيه ماله ونفسه، فنسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلنا من المجاهدين في سبيله المنتصرين به، وأن يجزي أخانا عبد الوهاب على سعيه خيراً.

    كتبه: محمد بن صالح العثيمين في 13/ رمضان / 1411هـ ووضع ختمه حفظه الله.

    - هذا ويوجد حساب في الراجحي لإخواننا المجاهدين والمهاجرين الأرتيريين برقم (291).

    - وآخر لصالح الأيتام برقم (289) وكلاهما بفرع الشرفية (2) بـعنيزة.

    قضاء الدين المجهول

    السؤال:كيف أؤدي ديناً لآدميٍ نسيت من هو وكم هو الدين؟

    الجواب: هذه مشكلة، فبعض الإخوان يهديهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، نسأل الله أن يمن علينا وعليكم جميعاً بالتوبة، وكثيراً ما يقول: إنني قبل أن أعرف الله حق المعرفة وأتوب، أخذت من فلان وفلان، وأضعت بعض الحقوق فلا أعرفها، ففي حالة ما إذا كان صاحب الحق مجهولاً، أو إن كان الدين -أيضاً- مجهولاً فلا يعلم مقداره، ففي هذه الحالة إن عمي الأمر من كل جهة، فعلى الأخ أن يتصدق، وأن ينفق بقدر ما يستطيع عن هؤلاء، وأن يستغفر الله ويديم التوبة، والاستغفار، والندم، ويتصدق بما يستطيع عن هؤلاء حتى يرى أنه قد أدَّى ما عليه.

    زيارة ديار العذاب

    السؤال: ما ذكرتموه عن ثمود وقوم صالح كيف يجمع بينه وبين قوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [النمل:69]؟

    الجواب: لا تعارض بينهما، ففرق بين من يسير في الأرض ويتأمل أحوال الأمم وأخطارها، بين هذا الأمر العام، وبين أمر خاص في اجتناب مكان معين، فلو تأمل الإنسان وأراد الاعتبار، فكل ما أمامك فيه عبرة قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ [النمل:69] والناس لا بد أن يسيروا بطبيعة الحال في الأرض، فأينما سرت فتأمل.

    فنحن الآن في جدة، فلو كان لنا عبرة وعقول لتأملنا هذه المباني القديمة في جدة، التي كانت قبل زمن قريب ليس بكثير أعظم وأفخم ما في جزيرة العرب من القصور والمباني.

    والآن لو تُهدى لأحدنا فلن يقبلها إلا من أجل مكان الأرض، أما غير ذلك فليس فيها فائدة، ولذلك لن يقبلها ولن يسكن فيها، وسيستوحش لو نام فيها.

    فأينما تذهب تجد العبرة، سواء كانت ديار قوم مجرمين ومفسدين فلتعتبر ولتخف الله، وإن كانت -أيضاً- لقوم صالحين، فلتعلم -أيضاً- أن هذه عاقبة ونهاية الدنيا، حتى مع الأخيار الأطهار الأبرار، فهذه نهايتها وهذه عاقبتها، فأينما سرت تجد طرقهم، وتجد آثارهم، وتجد قراهم، وتجد البيوت الخاوية، وتجد المدن المهجورة، وتجد الحضارات المندثرة، فليتأمل الإنسان وليعتبر وليتعظ.

    لكن لا يعني ذلك أن ينوي سفراً خاصاً لزيارة آثار منطقة معينة، فهناك نهي خاص عن هذا، ولا يجوز، أما الاعتبار العام والسير العام، أينما ذهبت.

    فمثلاً: الآثار الرومانية موجودة في الأردن وسوريا وليبيا وتونس، وقرطاجنة، التي في تونس ما كان أحد يحلم أنها تفتح، وفتحها المسلمون والحمد لله، آثار عجيبة جداً، حتى ولو لم ترها إلا في صورة أو في كتاب أو في فيلم.

    فأحياناً تجد في هذه الأفلام هذه الآثار، فنرى عجباً حيث أنها تبين لك كيف كان هؤلاء الناس، وكيف أنهم أثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمرناها، وكيف أن الأرض أخذت زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها، ونسوا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لهم بالمرصاد، فأتاها أمره ليلاً أو نهاراً، فجعلها حصيداً كأن لم تغن بالأمس، فأينما تذهب تجد هذه الآثار.

    ضرورة إنكار المنكر

    السؤال: ما رأي فضيلتكم في صحيفة الشرق الأوسط؟ وكيف نتعامل مع ما تنشره من أباطيل؟

    الجواب: هذه الصحيفة تجعل الواحد منا يتعجب منها في مرات عديدة، ومنها أنها كتبت عن قرية في سينا وهذه القرية مشهورة نساؤها بالحجاب، فهذا يدل على أن الحجاب ليس غريباً على مصر ولا سينا، وهو الذي جعل هذه المجلة تكتب عنها مقالاً فقالت: ''إن النساء فيها يتحجبن'' ونشروا هذا الخبر العجيب، وصوروا النساء وأجروا مقابلات، بأن المرأة لا يراها أحد ولا تكشف وجهها ولا يراها إلا المحارم، فما وجه الغرابة في هذا؟

    كأن المفاهيم الغربية قد رسخت فينا حتى أصبح الحجاب غريباً، وأيضاً ينشر هذا الكلام في مجلة سعودية وأكثر ما تباع في المملكة.

    يقال: هناك بلاد بعيدة في صحراء المرأة تتحجب، ونحن هنا -والحمد لله- نساؤنا محجبات، وهكذا إذا انتكست المفاهيم نسأل الله العفو والعافية.

    أيضاً لهذه صورة لامرأتين لا يُرى منهما شيء، يقول هذا الكلام في عمان عام (1942م) صورة تُعبِّر عن الفتاة كما كان الحال في السابق، وإلا فهي كما هي في الصفحة الثانية مثل هذه العرايا، نعوذ بالله، فماذا يريدون منا ومن نحارب في هذه الحالة؟

    هذا الكلام لو كتبته مجلة أمريكية أو فرنسية، ولو قلنا بعض الدول العربية فإن هذا يحتمل، لكن أن يكون ذلك مجلة سعودية، وتعلم أن الله تعالى قد فرض الحجاب وأمر به فهذا غريب.

    كما أن أكبر سوق تباع فيها هنا، والقائمون عليها من أبناء هذه البلاد، وتتعجب أنه بقي من النساء من تحتجب، وتنشر هذا الخبر، وهذا والله مؤلم جداً، وهذا مؤذن بعقوبة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لا للمجلة هذه، فإن الله قد ابتلاها بعقوبات كثيرة لا يعلمها الكثير، حيث ابتليت بمدراء تحرير نهبوا أموالها، جمعوها من حرام فذهبت في حرام والحمد لله، وابتليت بمصائب كثيرة، ولكن نخاف نحن أن نُبتلى؛ لأن هذه الشركة سعودية، ولها ميزات وتخفيضات، وتشتريها الدوائر الحكومية، والمصالح والمؤسسات؛ ولها ميزات كما لكل المجلات المحلية، بل ربما أكثر، وفي نفس الوقت نسوقها ونروجها، ففي أية بقالة تلقاها، وهي تنشر مثل هذه السموم ومثل هذا الإفك.

    فالمرأة المسلمة عندما تقرأ هذا، ترى أنها غريبة، فتقول: والله فعلاً أنا باقية أتحجب! فكأنها في عالم قد تحرر وانطلق وهي قائمة على أمر الله، محافظة لما فرض الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

    وهي الآن المرأة التي يشتاق العالم كله، ويتطلع إلى أن يرجع لما هي فيه من الخير والسعادة والعفاف والطهارة والفضيلة والحمد لله، لكن هؤلاء يريدون عكس هذه المفاهيم، فنأثم نحن عندما نبيعها، أو نروج لها، وعندما لا ننكر عليها.

    بعض الإخوان يقول: لماذا نتعرض لمثل هذه القضايا؟

    فنقول: والله إن لم تنكر هذه المنكرات ولو في مجلس واحد، أو في مسجد واحد، والله إننا نخشى أن يعمنا الله بعذاب من عنده، فهذه أحكام الله، وهذا كتاب الله يضرب به عرض الحائط، وهو ليس كلام فلان وعلان، فوالله ليس هناك دولة ولا حكومة ترضى أن تصدر أوامر ويهملها الناس بالكلية، أو يتجرأ عليها وتسب، فإذا كانت الدولة لا ترضى مثل هذا الكلام، فكيف برب العالمين شديد العقاب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الذي كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إذا عملت المعصية ولم تنكر كان من غاب عنها كمن شهدها}.

    إذا لم ينكر المنكر فمن غاب عنه كمن شهده، فإذا لم نتكلم في هذه المنكرات فكأننا شهدناها وسكتنا وكأننا فعلناها، وهذا ما ذكره الله تعالى عن أصحاب القرية التي كانت حاضرة البحر من بني إسرائيل لما أخذ الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يعملون.

    فلا بد أن ينكر المنكر، بل لا نستطيع أن ننكر المنكرات كلها لأنها منكرات عمت وطمت حتى أصبح الإنسان لا يتكلم إلا عن قطرة من بحر في هذه البحار، لكن أقل شيء أن تلقى ربك وتقول: يا رب! قد قلت، أما أن تلقى الله وأنت ساكت وأنت مداهن؛ فأعوذ بالله من أن نلقى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على ذلك.

    ونحن إذا قال أحد كلمة في مجلس فإننا ننكرها، لكن أن تنشرها على مليون مجلة أو في تلفاز لم ننكرها، فهل هذا من المنطق؟

    فالأولى بالإنكار هو المنكر المعلن، ويجب على الأمة أن تنكر المنكر المعلن بقدر إعلانه وجوباً.

    ولذلك من تكلم فإنه قد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من لم ينكر بالمرة فيخشى أن يكون شريكاً لمن فعل.

    لا بد أن يكافئ الإنكار المنكر، فإذا نشر المنكر في مجلة تطبع (100.000) نسخة، فيجب أن ينشر بقدر ما يمكن حتى يصير (100000) أو أكثر رداً لإنكار هذا المنكر، وإن كان على جهاز إعلام يسمعه أو يراه الملايين، فيجب على الأمة بمجموعها أن تنكر المنكر بحيث يسمعه الملايين أيضاً.

    فلا بد أن يتكافأ الإنكار بالمنكر، أما أن يظل المنكر ينشر بالملايين، والمنكرون ينكرونه إما (20) أو (100) أو (200) ومع ذلك يقال: كيف ينكرون؟

    فهذا والله عجب، وهذا والله هو المنطق الأعوج الذي لا نرضاه لديننا ولا نرضى أن نلقى به ربنا.

    إيجابيات وسلبيات التسجيلات والتعامل معها

    السؤال: الإخوان أصحاب التسجيلات جزاهم الله خيراً يقولون: عندما تكلمنا على حق المسلم وحفظ عرضه ونقل كلامه، يقولون: قد يلحقهم شيء من ذلك لأنهم يسجلون؟

    الجواب: حقيقة بغض النظر عن الفتوى فيها، فالآن أنا أقول: إن من مصائب هذا العصر المسجلات، ففي العصر الأول كان العلماء في راحة وكان الدعاة والمفتون في راحة.

    يقولون القول ويسمعه تلاميذهم، بل كان بعض العلماء يشترط ألاَّ ينقل عنه إلا تلاميذ معينون، وكثير من العلماء الثقات الجبال ما كان يسمح لأي أحد أن يروي عنه أصلاً أو ينقل عنه، لكن نحن الآن كل كلامنا يسجل فهي نعمة لا ننكرها، لكن كل نعمة تقابلها نقمة.

    فمن نعم الله انتشار هذه الوسائل، فالإنسان يقول الكلمة، فبدلاً أن ينفع الله بها (100) أو (200) أو(1000) الذين حضروا في المسجد، فقد ينتفع بها (100000) بإذن الله ممن يسمع الشريط.

    وأما جانب النقمة التي فيها فهي أن الخطأ قد ينتشر، وأن الكلمة قد تنتشر أيضاً.

    فلو قال قائل: قال الله ويأتي بحديث، وهذا يقول: قال رسول الله ويأتي بآية، فالخطأ ممكن في أي شيء، فتكون فرصة للمتربص وللحاقد والنمام.

    وأيضاً: قد يَضل أحد بناءً على كلام غير محرر، لأن الكلام المحرر المكتوب المؤصل غير الكلام الملقى، فالكلام الملقى دائماً يعتمد على ذاكرة الإنسان المعرضة للسهو، لكن ما يكتب ويراجع فإن السهو قليل فيه، ومع الأسف فإن الناس اليوم يستسهلون ما يسمعون من الفتاوى والمواعظ، أما الفتاوى المكتوبة فإنها لا تُنشر إلا قليلاً، مع أنها هي التي ينبغي أن نحرص عليها لأنها مكتوبة ومنضبطة بعكس الكلام الملقى، فقد يقول: رواه البخاري، وهو يقصد الترمذي، ويقول: ضعيف وهو صحيح، فينتج عنه شيء من المفاسد، وهو ما يجعل بعض الإخوان في التسجيلات يقولوا نحن السبب في ذلك؟

    ونحن نقول لهم: اتقوا الله ما استطعتم، واحرصوا على أن تتأكدوا، والأمور التي قد تلبس أو تنشر الفتنة، أو شريط لرجلٍ ما غير معروف فلا تنشروها.

    فلو دققنا وطبقنا تعامل السلف الصالح فبمجرد أن الشخص مجهول فإنهم لا يتعاملون معه، وانظروا في كتب الرجال كم بها من مجهول، فما قالوا: فيه شر، أو فاجر مبتدع ظالم، بل مجهول، فلكونه مجهولاً أقصي، فلو جاءك شريط لمجهول وهذا الشريط فيه طعن وسب وفيه فتاوى، فبمجرد أنه مجهول لا تعرفه ولا تعرف حقيقته فينبغي أن تتثبت.

    إذا أخذت الآية قول المجهولين في المعروفين فمن يبقى؟ ولكان الكلام في العلماء سهلاً حتى من أصحاب المقاهي ونحوهم، فإذا ُصدِقَ الكلام وانتشر فمن يبقى لنا؟!

    فيقال: إن هناك شخصاً تكلم في المشايخ، فحين تسأل عنه لا تعرف سابقته ولا علمه ولا خيره ولا فضله، بمجرد أنه قال ما قال نشر قوله.

    فينبغي لإخواننا أهل التسجيلات أن يتقوا الله وأن يتريثوا، وألا يكون الدافع المادي هو الهدف الأساسي، ولكنه موجود عند البعض على الأقل، أو مجرد أن هذا الشريط يشترى فنبيعه، وإن كان فيه أخطاء، ومادته العلمية ضعيفة، وفيه انحراف وجرح وطعن وتشويه للدعاة وضرر على الدعوة لكنه يشترى فنبيعه، فلا يجوز أن يكون الهدف المادي هو الأساس، لأن هذا علم مما يبتغى به وجه الله، فمن جعله وسيلة لكسب الدنيا الرخيصة ناله الوعيد.

    فحقيقةً إن موضوع التسجيلات مالها وما عليها، وكذلك موضوع التسجيل ماله وما عليه يحتاج إلى ضوابط معينة في سماع الكلام وفي سماع الأشرطة، بخلاف الشيء المكتوب، فإذا نسبت إلى أحد ما كتبه وقاله وحرره، أو الكلام المكرر بالذات فلا بأس، بخلاف مجرد الكلام في شريط، أي: إذا كان للإنسان آراء تعلم أنه يعتقدها ويكررها ويدين بها ويقولها فلا بأس أن تأخذها، أما كلام في شريط مثلاً أو كلمة واحدة أو مقالة تحتمل عدة تأويلات، فتبني عليها قاعدة كبرى، وتترك القطعيات الواضحة في كلامه هذا لا يصح، وهي محتاجة إلى ضوابط لعل الله ييسر بها.

    هجر مرتكب الكبيرة

    السؤال: كان لي زميل بيني وبينه عِشرة، وكنت أجهل ارتكابه لبعض الكبائر، وعند اكتشافي لذلك نصحته مراراً، وكان كل مرة يستجيب بلسانه ولكنه لا يكف، مما دعاني إلى هجرانه منذ أكثر من سنتين، حيث أنه لا يزال يقترف هذه الكبائر، وأنا أبتغي بهذا الهجران وجه الله، فهل أدخل -والحال هذا- في أحاديث الوعيد في هذا الباب؟

    الجواب: لا يدخل المؤمن الذي يهجر لله، لكن نخاطبك يا أخي من باب آخر، وهو باب الحكمة في الدعوة، فإذا كان كل من عمل منكراً هجرناه فما فعلنا شيئاً، وخاصة إذا كثر أهل المنكر وقلَّ أهل الطاعة والتقوى، ولكن الواجب أن نصبر، وأن ندعو الله له وأن ندعوه ونزوره، ونحرص بكل ما نستطيع وخاصة إن كان قريباً تربطنا به قرابة، أو كان زميلاً في العمل، فليس بجيد لك هجرانه وألاَّ تكلمه ولا يكلمك وأنتم في إدارة واحدة، بل ينبغي أن تصبر، وأن تجتهد في نصحه، وكم من غاوٍ هداه الله بعد سنتين أو ثلاث أو أكثر!!

    أما إن كان من المجاهرين المعاندين الذين لا يسمعون ولا يرعوون فنعم، ففي هذه المسألة حالات، وهذا يرجع إلى تقدير الأخ الداعية، لأن الله تعالى قال: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [النحل:125] فالحكمة أن تضع الشيء في موضعه، والحكمة ليست هي الضعف ولا اللين ولا العفو فقط، فهذا جانب من الحكمة، ولكن الحكمة أن تضع الشيء في موضعه، وهذا شيء يرجع إلى تقديرك أنت، فاجتهد، واستعن بالله أن تقدِّر أن هذا يهجر، وهذا لا يهجر، ولذلك يفرق الإنسان بينهما.

    وانظروا إلى سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف يفرق بين أحوال الذين تخلفوا في يوم بدر ويوم أحد، وبين من تخلفوا في يوم تبوك، فيوجد هناك في أشياء معينة ترجع إلى فقه الواقع -كما قلناه سابقاً- وإلى أمور معينة، فالذين هجرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -الثلاثة الذين خلفوا- لهم صفات ولهم وضع، فمن الحكمة أن يهجروا، بخلاف من قبلهم فهنا حال غير الحال، ووضع غير الوضع.

    فالعالم أو الأخ الفاضل طالب العلم عندما يأتي بفاحشة أو موبقة أو ببدعة أو يخالط أناسا لا خير فيهم وتهجره، فهذا جيد، لأنه إذا هجره الأخيار وعنفوا عليه وعاتبوه، يرجى أن يكون هذا الهجر رادعاً له، لكن إذا ما اهتدى في أول الطريق وهجره الأخيار فإنه يستمر مع الفجار، فبينهما فرق لأن الأول نعلم ونطمئن أنه لن ينحرف بالكلية، لأننا إذا هجرناه فسيرتدع، أما ذاك إذا هجرناه فسينحرف، وهكذا توضع الأمور في نصابها.

    الفرق بين الولي والواصل عند الصوفية

    السؤال: ما الفرق بين الولي والواصل عند الصوفية؟

    الجواب: الصوفية بحر متلاطم، لا تستطيع أن تقول إن معناه كذا -فقط- عند الصوفية.

    فالولي عند بعض الصوفية درجة فوق النبوة، وخاتم الأولياء عندهم مثل خاتم الأنبياء أو أعظم من خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه، والولي عند بعضهم أو عند عمومهم مجرد العابد الذي له ميزات معينة، أما الواصل فهو اسم أو مصطلح لمن يمشي في طريق التصوف، فأول ما يبدأ يسمونه: المريد.

    ثم ثانياً: يكون السالك، في الطريق، والثالث: وهو الأخير يسمونه الواصل، فهذا من الواصلين، أي: أصبح من خاصة الخاصة الذين لا يتوبون من الذنوب ولا يتوبون من التوبة، لكن يتوب من الإيمان، ويتوب من رؤية الإيمان، نعوذ بالله.

    ومن أراد الاستزادة فهناك كتب كثيرة منها كتاب هذه هي الصوفية وكتاب التصوف بين الحق والخلق.

    توريث الزوجة التي لم يدخل بها

    السؤال: أنا شاب متزوج، ولم أدخل بعد، وعلي دين، فماذا يترتب علي بالنسبة للزوجة إذا توجهت للجهاد وقدر الله بوفاتي؟

    وهل يجوز أن أوصي سداد ديني مما أملك، مثل أن تباع سيارتي؟

    وهل للزوجة ميراث أو وصية خاصة؟ وأسألك أن تدعو لي أنت ومن حضر، لعل الله أن يتقبلني شهيداً عنده وأن يجمعنا بكم في دار كرامته!

    الجواب: بالنسبة للزوجة فنعم، فلها عليك أن تعطيها، وأن تحسن إليها، وأن تحسن عشرتها ما بقيت، فإذا ذهبت فعليك أن توصي بها خيراً لعلك تعود، وإن أنالك الله تبارك وتعالى الشهادة فإنها ترث منك.

    وبالنسبة للدين فأول ما يخرج الدين مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12] سواء كانت سيارة أو مالاً أو أي شيء يُباع ويخرج الدين منه، ثم بعد ذلك تكون أنصبة الورثة، والزوجة من جملة الورثة في مثل هذه الحالة، كما قدر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، واكتب وصية خاصة توصيها وتوصي أهلك وإخوانك بتقوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأما الفرائض فإنها تقسم كما قسمها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بين زوجتك وبين غيرها، فقد يكون لك أب، وقد يكون لك أم وإخوة.

    الفرق بين التحسس والتجسس

    السؤال: ما هو الخلاف بين نهي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { ولا تجسسوا }، وبين قوله تعالى: يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ [يوسف:87]؟

    الجواب: لا فرق بينهما، فالتحسس إذا كان لمصلحة كمصلحة هذا الأب الحزين الكئيب الذي فقد ابنه، فيرسل أبناءه ليتحسسوا عنه لعلهم يجدونه، فهذا لا شيء فيه.

    وبين أن يكون لتتبع العورات والسقطات، فهذا يدخل في التجسس، وكما قلنا بأن لهما معنىً واحداً، مؤداهما ونتيجتهما واحدة، فلا تعارض يا أخي بارك الله فيك!

    ظلم العباد وكيفية التوبة منه

    السؤال: إذا كان الإنسان يرى أنه قد ارتكب كل ما ذكرت في هذا الموضوع من أخطاء وسيئات، فما هو المخرج؟

    الجواب: المخرج: التوبة والاستغفار، ورد الحقوق والمظالم إلى أهلها، والتحلل ممن تكلمت فيهم، أو اغتبتهم، أو أخذت مالهم، أو ظلمتهم، قبل أن يأتي اليوم الذي لا درهم فيه ولا دينار، كما أرشد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

    الفرق بين توضيح الخطأ وتتبع الأخطاء

    السؤال: هناك من الشباب هداهم الله عندما يسمعون من العلماء المعاصرين خطأً في فتوى معينة يقولون: عقيدته فيها كذا، أي: إذا أخطأ في فتوى طعنوا في عقيدته؟

    الجواب: سبحان الله! ما الذي أدخل هذا في هذا، فالاجتهاد الفقهي لا علاقة له في مسألة عقيدته، والبعض الآخر منهم يبحثون عن عقيدة العلماء المعاصرين، مع أنهم الظاهر عليهم أنهم من أهل السنة والجماعة، وبعضهم يتكلف ويتتبع، فإن بلغه أن أحد العلماء أو أحد الدعاة عنده مائة محاضرة فيجلس يسمعها كلها من أجل أن يجد فيها عشرة عيوب! أشغلك الله بهذا الإنسان إلى هذا الحد؟! ومن الذي كلفك بهذا؟!وماذا تريد من هذا؟!

    قال: أريد أن أنظر ماذا عنده من أخطاء حتى أنشرها! فإن نشرتها فماذا فعلت؟ نشرت بين الناس أن هذا الذي يثقون فيه ويحبونه ويسمعون كلامه، وهدى الله به قوماً كثيرين -إن شاء الله- يكون فيه كذا وكذا عيب لكن وبعدها ما الفائدة؟

    فقد يرتد بعض الناس عن الخير والصلاح، وقد يفسق وتقل قيمته.

    إذا قلت: قيمة العلماء والدعاة فإن هذا يعم الجميع، ولا نتصور فقط أن هذا ينحصر بواحد بعينه، لا، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعرض عنه، كما قال بعض السلف حكمة عظيمة جداً يقول: [علامة إعراض الله عز وجل عن العبد أن يشغله بما لا يعنيه].

    فبعض الناس يقول: أريد أن أتتبع فتاوى شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية لكي يبينوا ما فيها من أخطاء، سبحان الله!

    فما أحسن هذا عند أهل البدع وعُبَّاد القبور، والمجرمين، والملحدين، والمؤولين! أن تقول: ابن تيمية أخطأ في كذا، وكذلك إذا قال: سوف أتتبع عيوب الألباني، فهذا عند أهل السنة من أكبر الأخطاء، وهو منافٍ للحكمة في الدعوة، فنحن لا نقول: إن أحداً لا يُخطئ حتى شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، لكن نبه عليه! فمثلاً: إذا كتبت موضوعاً أو تطرقت إلى موضوع في بحثك أو في فتوى فقل: وأما قول شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله فيبدو لي أن الصواب خلاف ما قال، مثل سماحة الشيخ ابن باز حفظه الله في كتاب الحج -مثلاً- عندما قال: وبعض العلماء يقول: إن المتمتع يكفيه طواف وسعي واحد، فإن ابن تيمية رحمه الله قال هذا الشيء وأخطأ، لكن عندما تكتب أو تتكلم عن قضية بذاتها، أو أمام طلاب علم، أو في بحث معين فلا بأس، وهذا موجود، ولا ينكره أحد، كأن تقول: إن ابن تيمية أو ابن القيم أو ابن حجر رحمهم الله في هذه المسألة على ما يبدو لي قد أخطئوا في اجتهادهم، أو أن الصواب خلاف ما قالوا رحمهم الله وتثني عليهم، فهذه لم يعترض عليها أحد.

    لكن المشكلة هي أن تقول: أنا أجمع أخطاءه وأبينها للناس، فتقول له: لماذا؟

    فيقول: إن الناس يقرءون الفتاوى كثيراً، فمن أجل أن لا يغتروا أُبين لهم ما أخطأ فيه، فهذه مصلحة، لكن نظرك قصير، فعندما تنظر لهذا النظر القصير تنسى المفسدة الكبيرة، لأنه قد يقول لك بعضهم إنه لن يشتري الفتاوى، لماذا؟

    تجده يقول: نظرت إلى الكتاب الذي ألفه فلان عن أخطاء هذه الفتاوى فهذا الذي جعلني لا أشتري هذا الكتاب، والآخر ألف كتاباً في أخطاء ابن حجر ويقول الآخر لن أقرأ فتح الباري.. لماذا؟

    لأن فيه أخطاء، جميل وماذا تقرأ؟ فإن تركنا الفتاوى وتركنا ابن حجر وابن القيم والألباني والشيخ ابن باز، فكل واحد -مثلاً- عنده أخطاء، فعندها لا بد أن نرجع ونقرأ لأهل البدع وإلا إلى أين نذهب؟!

    فهذا من فهم الأمور وعكسها على غير حقيقتها، ولهذا قس نسبة الخطأ الذي قاله وقس الحاجة إليه بالمفاسد المترتبة، وبما ينتشر في الأرض من منكرات وإلحاد وعلمانية وفجور ودعوة إلى ارتكاب أكبر المحرمات وهو الشرك بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فعندها تجد أن كلامك ليس له معنى وعملك لا معنى له أبداً، أما إن كان من الأحياء فاكتب له، وقل له، واسمع منه.

    فأحياناً الإنسان يقول قولاً لسبب ما -وهذا مجرب لدى أكثر الناس- فمثلاً في خطبة الجمعة، قد تضطر إلى أن تقول في الخطبة كلاماً ولو سألك واحد بعد الصلاة لماذا؟

    تقول هناك سبب معين، أو هناك شيء معين اقتضى أقول هذا الشيء؛ لأنه حدث كذا..، ثم يأتيك بتفاصيل أسباب قوله هذا الكلام، فأنت إذا سمعت من أحد شيئاً فقبل أن تنكره، اسمع منه فقد يعطيك عذره ويجعلك تقتنع بغير ما قال، وهكذا.

    ثم إذا وصل الأمر إلى أنه اجتهاد، فهناك قاعدة عند العلماء: ''الاجتهاد لا يبطل الاجتهاد'' وشَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله له رسالة بهذا وقررها أعظم تقرير.

    ولذلك لو أن قاضياً حديث عهد بالتخرج في أدنى مراتب القضاء، أفتى وحكم في مسألة باجتهاده فلا يجوز حتى لرئيس القضاء وأكبر عالم، أن ينقض الاجتهاد بالاجتهاد، لماذا؟

    لأنه اجتهاد باجتهاد، أما لو كان خالف النص فإنه ينقض الاجتهاد بالنص، أما الاجتهاد الذي فيه قولان وفيها اجتهادان، فهذا قال بقول وهذا قال بقول، فلا ينقض هذا بهذا، ولا يقتضي ذلك عداوة، ولا بغضاء، ولا شحناء، ولكن لضيق الأفق فهو الذي يحول دون استيعاب هذا.

    فمثلاً: الخوارج ماذا أخرجهم؟

    أصل خروجهم أنهم قالوا: كيف يختلف الصحابة؟ وكيف يتقاتلون؟ وما الحل؟

    فمثلاً: قالوا: نقتل علياً ومعاوية ونقتل عمرو بن العاص، ونريح الأمة من المشكلة، وفعلاً هذا الذي أرادوه، لكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يرد أن يُقتل أو يموت إلا علي رضي الله تعالى عنه فهل هذا حل، لأنهم اختلفوا أو تقاتلوا؟

    فبدلاً من أن تقول: يا أمة الإسلام! اذكروا محاسنهم، وكفوا عما شجر بينهم، ولكل منهم اجتهاده وإن تقاتلوا فكذا وكذا، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، فقالوا: لا، الحل أن نريح الأمة منهم فنقتل الثلاثة وبعدها الأمة تختار خليفة وتجتمع عليه، ثم إنهم بعدها قتلوا أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه، وأما عمرو ومعاوية فاخطؤوهم، فهكذا بعض الناس يرى أن الحل هو القتل، وليس شرطاً القتل بسفك الدم، لكن أن تقضي على العالم الفلاني أو الداعية الفلانية لترتاح من شره، فليس في هذا راحة، بل بالعكس: هذا حل الذين لا يدركون الأمور ولا يقدرونها حق قدرها، وهو فهم ناتج عن ضيق النظر من عدم الصبر، ومن عدم معرفة فقه الاختلاف وأدبه بين العلماء قديماً وحديثاً.

    الإنكار والنصح عن طريق وسائل الإعلام

    السؤال: لما تكلمنا عن واجب كل منا في إنكار المنكر في الجرائد ونحوها فقد كتبت نصيحة بذلك، فهل هذا يجزئ عني، وأني أديت ما علي؟

    الجواب: شكر الله لك وأثابك ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يكثر من أمثالك، فهذا أخ فاضل لما تحدثنا فيما سبق عمن يحتسب عند الله أن يكتب لبعض الجرائد على ضوء نصيحة سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين أثابه الله التي قرأناها عليكم، فهي كلمة -والحمد لله طيبة- فيها التذكير، والنصح، والأمر بالعدل، ويطلب منهم أن يستقيموا وأن ينصفوا جزاه الله خيراً.

    على كل حال، فهذا أدَّى ما عليه إن شاء الله تعالى، ولو أن كل واحد منا كتب أو تكلم بمثل هذا الأسلوب المشرق الطيب، لوجد إن شاء الله الاستجابة ولأقام الحجة.

    محاربة وسائل الفساد

    السؤال: ما رأي فضيلتكم في انتشار مراكز الجمال والرشاقة -مثلاً- هذه الأيام علماً بأن من يقوم بها نساء؟

    الجواب: ظننا أنها قد خفتت وإذا بها قد ظهرت، واستعيذوا بالله من الفتن -نسأل الله العفو والعافية- فمحلات الرشاقة والجمال تقول: لكل من تهتم بجمالها، فخدماتنا منزلية، (24ساعة) وبدون إجازات، تجهيز عرائس، قص، استشوار، وتشقير إلى آخره، فكل هذا خدمات منزلية و(24 ساعة) وبالتلفون، اطلب وتأتي المجملة، أو المزينة هذه إلى البيت، وهذا يحصل في أرض من؟ وعند من؟ في بلاد المسلمين، وتحت أنظار من يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقرؤون قول الله تبارك وتعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104] أصبحت هذه هي الشغلة، وهذه الطلبيات جاءت من باريس أو نيويورك هل تظنون أن الدول الغربية تبيح الدعارة بالشكل الذي قد يتصوره بعضنا.

    إنه من السذاجة أن يظن ذلك أن هذا مكان للزنى، فقد كانت موجودة حيث كان هناك مكان معد للزنى وطبيب يشرف على الزانيات والزناة ويكشف عليهم، وبعد ذلك يدفعون الأجرة، والدولة تأخذ ضريبة على ذلك، فحورب البغاء بهذا الشكل حتى على مستوى الأمم المتحدة.

    لكن البغاء الموجود الآن مثل هذا البغاء، اتصل وتأتي معها أدوات الزينة والتجميل إلى أين تذهبين؟

    فتقول: أنا ذاهبة إلى فلان، لأنه طلبني وهذا كرت عملي، فماذا يكون من المفاسد؟ وماذا يترتب عليه؟ وهل يجوز أن يسكت على هذا؟

    فهذه والله مصيبة وإن كان من كان أصحابها، فالمنكر لا بد أن ينكر، ولا فرق عند الله بين أصحاب الثراء وأصحاب الجاه وبين غيرهم، فسيبتلينا وسيعذبنا إن لم ننكر مثل هذا المنكر، وأنا أظن أن هذا المنكر إذا أنكر فإنه بإذن الله سيمنع.

    لأنه منكر واضح، مهما كان صاحبه فسيمنع بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يمنعننا من الإنكار مهابة أن يقال: إن هذا لفلان أو فلانة، فإذاً ما معنى الإيمان بالله؟! وما معنى العقيدة التي نعتقدها؟! فهل هي عقيدة نظرية، أو كلام في الذهن؟ لا! وإنما عقيدتنا أن نتوكل على الله ونشرع في هذا، فكم من منكرات أكبر لأناس أكبر أزيلت والحمد لله.

    فمن كان يقول: إن فندق البلاد يقفل، ولكن الحمد لله أنكر أهل الخير وتعاونوا حتى أقفل، فهذه أتفه من فندق البلاد، وأصحابها أتفه وأقل، فتوكلوا على الله وأنكروا المنكر، ولا تخافوا ولا تخشوا في الله لومة لائم، فهذه بيعة رسولكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في حديث عبادة بن الصامت (بايعنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وعسرنا ويسرنا، وأن نقول الحق ولا نخاف في الله لومة لائم) قل كلمة الحق بدليلها وبأسلوب حسن وألقها، وستجد القبول بإذن الله.

    ونحن في أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي مجتمع خير، فستجد من يقبلها في الإمارة أو الشرطة أو الهيئة أو في المسجد، المهم أن تقولها ولا تمنعك مهابة الناس من أن تقولها.

    ترك ما يؤدي إلى مفسدة

    السؤال: إذا كان الصلح بين الأخوين يؤدي إلى مفسدة، فما الحكم؟

    الجواب: كل شيء يترتب عليه مفسدة أعظم منه فيترك.

    اتهام النبي بسماع الغناء

    السؤال: هل صحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يستمع إلى الغناء كما نشر في جريدة الأخبار؟

    الجواب: آخر ما نختم به التنبيه على جريدة الأخبار وهي من الجرائد الذي تطبع أكثر من (1.500.000) يومياً تفتري على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعنوان كبير (النبي كان يستمع للغناء) -أعوذ بالله- ولا من حسيب ولا رقيب، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سمع الراعي، وضع يده هكذا، وهؤلاء يقولون: إنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يستمع الغناء، والذي يسمع هذا يعرف أنه الغناء الموجود الآن في الإذاعة وفي التلفزيون وهذا من الكذب والبهتان.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755964431