والشاهد: أن الحلقة واسعة جداً، يمكن قطرها أكثر من ستة أمتار في ستة أمتار، فهل يلام هؤلاء حينما يتفرقون هذا التفرق؟ ومدرس الحديث لا يروي لهم مثل هذا الحديث وهو في صحيح مسلم : (ما لي أراكم عزين) والحديث الذي في مسند الإمام أحمد عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله تعالى عنه قال: (كنا إذا سافرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فنزلنا منزلاً تفرقنا في الوديان والشعاب، فقال لنا عليه الصلاة والسلام ذات يوم: إنما تفرقكم هذا من عمل الشيطان)، أين يتفرقون؟ هل في المسجد؟ لا. بل في الصحراء في البرية! كل طائفة أو جماعة ينتحون ناحية يتظللون بأشجارها وبسدرها ونحو ذلك، ومع ذلك أنكر ذلك عليهم وقال: (إنما تفرقكم هذا من عمل الشيطان)، قال أبو ثعلبة : (فكنا بعد ذلك إذا نزلنا منزلاً اجتمعنا حتى لو جلسنا على بساط لوسعنا) أين هذا؟ في الصحراء، فما بالكم في مجالس العلم.
ولذلك فخلاف السنة تكبير الحلقة، وإنما تصغيرها ما أمكن ذلك، ولذلك فجلوسهم هكذا صفين فقط ويبقى هناك فراغ يمكن إملاؤه هذا خلاف السنة.
فنحن نذكر في هذه المناسبة دائماً وأبداً أن مثل هذا التوجيه من النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا الاهتمام بتجميع المسلمين في أبدانهم وفي أشخاصهم، لم يكن ذلك من باب الاهتمام بالظاهر فقط دون إصلاح الباطن، ذلك لأنه من المقرر شرعاً أن إصلاح الظاهر يساعد على إصلاح الباطن، وهذا صريح في قوله عليه الصلاة والسلام المعروف: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
ونحن نقول بمثل هذه المناسبة: كما أن صلاح الجسم من الناحية المادية والصحة البدنية يتعلق بصلاح القلب وصحته، فإذا كان القلب في جسد صاحبه سليماً، فلا يمكن أن يكون الجسد إلا سليماً، والعكس بالعكس؛ إذا فسد القلب مرض الجسد، هكذا يقول نبينا صلوات الله وسلامه عليه، مذكراً لنا بوجوب الاهتمام في إصلاح الظاهر؛ لأن هذا الإصلاح يكون -أولاً- دليلاً على صلاح الباطن، ثم يكون هناك تعاون بين الظاهر والباطن، وكما أقول دائماً وأبداً: هذا الحديث يعطينا عن خاطرة أو فكرة سبقت في أذهان بعض الفلاسفة قديماً، ولم يستطيعوا حتى اليوم أن يحققوها فعلاً، وهي ما يسمونها بالحركة الدائمة، مثلاً: مجرد أن تضغط زر التيار يستمر مرور التيار إلى ما شاء الله بدون أن ينقطع إلا إذا أحببت، أو سيارة -مثلاً- إذا حركتها تستمر بدون أي قوة! حركة دائمة منها من ذاتها، هذا خيال! لكنه حقيقة فيما يتعلق بصلاح الباطن والظاهر، فصلاح الباطن يؤثر في صلاح الظاهر، وصلاح الظاهر يؤثر في صلاح الباطن، والدليل ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في الاجتماع في حلقات الذكر -كما قلنا آنفاً- في قوله عليه السلام: (ما لي أراكم عزين) وفي قوله الآخر: (إنما تفرقكم هذا من عمل الشيطان) وأكثر من ذلك قوله عليه السلام حينما كانت تقام الصلاة فلا يكبر حتى يأمر بتسوية الصفوف، ويقول لهم: (لتسوون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم) إذاً: الاختلاف في الصفوف يؤدي إلى الاختلاف في القلوب، والاستواء في الصفوف يؤدي إلى استواء القلوب وتحببها وتجمعها ونحو ذلك، لهذا كان عليه الصلاة والسلام يهتم بإصلاح الظاهر وإصلاح البدن، وقديماً قالوا: صلاح الأبدان كصلاح الأديان، فكل منهما مرتبط مع الآخر.
أنتم تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر المسلم الذي أصابه مرض ما أن يتداوى، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (تداووا عباد الله، فإن الله لم ينزل داءً إلا وأنزل له دواء) زاد في حديث آخر: (علمه من علمه وجهله من جهله) فإذاً: يجب العناية بالأمرين معاً، وليس كما يزعم بعض الجهلة: يا أخي! العبرة بما في القلوب، إذا قيل له: لماذا لا تصلي؟ لماذا لا تقوم بواجبك الشرعي؟ يقول لك: العبرة بما في القلوب، أنا والحمد لله لا أضر أحداً، ولا أغش أحداً، ولا، ولا .. إلخ، وهذا كذاب، الشيطان دلس عليه، هو يقول: لا يغش أحداً، وأول من غش هو نفسه؛ لأنه عصى ربه، فكيف يمكن أن يكون سليم القلب وهو لا يطيع الله عز وجل على الأقل فيما فرضه الله عليه.
هذه كلمة بين يدي التضام في حلقات العلم، لابد منها أن تكون على بال منكم، حتى تأتمروا أولاً بأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى تتذكروا هذه الحقيقة: أن صلاح الباطن لا يغني عن صلاح الظاهر، صلاح الأبدان لا يغني عن صلاح الأديان، وصلاح الأديان -إذا صح الجمع- لا يغني عن صلاح الأبدان.
الجواب: نعم، هناك حديث يقول: (ملعون من جلس وسط الجلسة) ولكن والحمد لله هو حديث لا يصح.. هذا أولاً.
ثانياً: لو كان يصح لكان المقصود منه الجلوس وسط الجلسة لقصد لفت أنظار الناس، كأن يقول بلسان الحال: أنا هنا، أما والحديث لم يصح فالحمد لله، وهو من حصة كتابي سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيء في الأمة.
السؤال الأول: ما هو رأي شيخنا حفظه الله تعالى في كتاب حياة الصحابة؟ وبماذا تنصحون قراء هذا الكتاب والمعتنين به والمشتغلين بتداوله؟
ولكن قدمت يومئذ مثالاً من واقع حياة هذه الجماعة جماعة التبليغ، وكان بجانبي أحدهم من الذين يدل سمتهم وهيئتهم على التمسك بالسنة، فهو تقدم بعد صلاة المغرب بالكلمة التقليدية التي تسمعونها دائماً وأبداً من المقدم لمن سيلقي الدرس بعد الصلاة، يقول: إنما فلاحنا ونجاحنا باتباع سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.. أو ما يشبه هذا الكلام، فأنا قلت: ما الذي جعل هؤلاء الإخوان الطيبين التبليغيين يحرصون على هذه الكلمة وهي من إنشاء أحدهم، ويعرضون عن السنة؟ وهنا الشاهد، قلت لهم: فتحنا لكم هذه الجلسة بخطبة الحاجة.. (إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.. وكان عليه الصلاة والسلام يزيد عليها في كثير من الأحيان: أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) لماذا أعرض جماعة التبليغ عن افتتاح جلساتهم العلمية بمثل هذه السنة المحمدية؟
ذلك لأنهم لا يدرسون السنة، هم جماعة طيبون يرغبون في التقرب إلى الله، ولذلك يخرجون ذلك الخروج المعهود منهم غير المعهود من -سلفنا الصالح- يخرجون، في ظنهم أنهم يحسنون صنعاً، فقلت للشيخ الذي كان بجانبي: لماذا لا تحيون هذه السنة (ومن سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عملها إلى يوم القيامة، دون أن ينقص من أجورهم شيء)، أنا لا أخص جماعة التبليغ بمخالفتهم هذه للسنة، بل هي مخالفة عامة، فكل الأحزاب وكل الجماعات تخالف هذه السنة، لماذا؟ سبق الجواب: لأنهم لا يدندنون حول دراسة السنة أولاً؛ لأن هذه الدراسة تعلم الناس وتوقظهم من سباتهم ونومهم العميق، ولذلك فكيف يحيون السنة وهم يجهلونها!
ومن فضائل هذا الخطبة كما شرحت هناك، وأوجز هنا ما استطعت إلى ذلك سبيلاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقدم هذه الخطبة التي تعرف عند العلماء جميعاً بخطبة الحاجة، كان يقدمها بين يدي كل كلمة، محاضرة، أو درس، أو موعظة، أو ما شابه ذلك، وكان يذكر فيها: (خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) ما هو السر في إعراض الجماعات الإسلامية كلها عن هذه الخطبة؟
الشيء الأول: أنه يصدق عليهم قوله تعالى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:187]، لكن لا أستطيع أن أقول: إنه ما طرق سمع أحدهم مطلقاً، ولا قرأ هذا الحديث في كتاب ما، وهو في صحيح مسلم أصح كتاب بعد كتاب الله، وصحيح البخاري موجود هذا الحديث فيه، فلا أتصور أن أحداً مطلقاً من هؤلاء لا علم عنده بهذا الحديث، إذاً: ما الذي يصرفهم أو يصدهم عن التمسك بهذه السنة؟
أقول: لأنها تخالف منهجهم.. كيف؟
هذا الحديث يؤسس قاعدة لا يتبناها إلا الذين ينتسبون إلى السلف الصالح من أمثالنا، ما هي هذه القاعدة؟ كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فلا تجد الإخوان المسلمين، ولا حزب التحرير، ولا جماعة التبليغ، وإن كان هناك جماعات أخرى في بلاد أخرى، لا تجد منهم أحداً يدندن حول هذه القاعدة: كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ولو أنهم اعتادوا إحياء هذه السنة لاستيقظ جماهيرهم من سباتهم، ولقالوا لهم: كيف تواضبون على هذه الخطبة: كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ونحن نسمعكم دائماً تقولون: هناك بدعة حسنة، والرسول يرسخ في أذهان أصحابه هذه القاعدة العظيمة الجليلة، وأمرها كما يقول ابن تيمية رحمه في كتابه: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، رداً على بعض الناس الذين يقولون: إن هذا العموم غير مقصود: كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، يزعم بعض المتأخرين أن هذا العموم المصرح به في هذا الحديث هو من العام المخصوص، ثم يأتون ببعض الأشياء من الروايات منها ما يصح ومنها ما لا يصح، يزعمون أن هذه روايات مخصصة لهذا العموم، ومعنى كلامهم: أن قوله صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة) لا. أي: ليس كل بدعة ضلالة.
يقول ابن تيمية، وهذا الشاهد، وأنا أقرب ذلك بمثل: لا يمكن أن يكون هذا النص من رسول الله من العام المخصوص وهو يكرره دائماً وأبداً على مسامع أصحابه في كل مناسبة يريد أن يتكلم فيها بين أصحابه يقول: (كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) يستحيل أن يكون هذا من العام المخصوص؛ لأن المفروض على النبي صلى الله عليه وسلم الذي خوطب بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ [المائدة:67]، ربك يعصمك من الناس الذين قد يقصدون القضاء عليك فيحولون -لو وصلوا إلى هدفهم- بينك وبين تبليغ الرسالة وتوضيحها وبيانها.. يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ [المائدة:67] .
ولابد لي من التذكير بأن تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم المذكور في هذه الآية: بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67].
الذي أمر به يكون على وجهين: تبليغ اللفظ، وتبليغ المعنى.
تبليغ اللفظ يعني: اللفظ القرآني كما أنزله الله على قلب محمد عليه الصلاة والسلام، فهو مأمور بتبليغه، هذا هو النوع الأول.
الأمر الثاني الذي أمر بتبليغه، معنى هذه الألفاظ لهذه الآيات الكريمات، وهذا هو المقصود من قوله تبارك وتعالى في الآية الأخرى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، هذه الآية غير الآية السابقة، الآية السابقة تعني تبليغ اللفظ وتبليغ المعنى؛ أما هذه الآية الأخرى فإنما تعني: تبليغ المعنى بدليل: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ [النحل:44] أي: القرآن، لماذا؟ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ [النحل:44] أي: بيانه عليه الصلاة والسلام، وهذا لا يحتاج الآن إلى تفصيل كل الأقسام: قوله وفعله وتقريره.
فإذاً: ابن تيمية رحمه الله يقول: استمرار الرسول عليه الصلاة والسلام في تكرار هذه القاعدة: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) على مسامع أصحابه، يستحيل أن يكون من العام المخصوص؛ لأن المفروض عليه ولو مرة واحدة أن يبين -بحكم ما ذكرنا من الآيات- أن هذا النص العام ليس على عمومه وشموله، ولم يفعل ذلك إطلاقاً، بل هو عليه الصلاة والسلام من تمام تبليغه لما أمره الله به كان يؤكد هذه القاعدة العامة فيقول: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، إلى آخر ما هنالك من أحاديث أخرى، ولسنا أيضاً في صددها.
أما المثال: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)مثاله: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)، لا يمكن أن نقول: ليس كل مسكر خمراً وليس كل خمر حراماً، هذا لا يقوله مسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكرر هذه الكلية على مسامع أصحابه، تحذيراً لهم من أن يشربوا مسكراً، أي مسكر كان، سواء سمي خمراً، أو سمي نبيذاً، أو سمي وسكاً، أو (شمبانيا) أو .. أو .. إلخ، كل هذه الأسماء تدل على مسمىً واحد وهو الخمر في اللغة العربية، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام)، كيف يمكن أن نقول: ليس كل مسكر خمراً؟ وبالتالي كيف يمكن أن نقول: ليس كل بدعة ضلالة، وهو يقول في كل منهما: (كل مسكر خمر) (كل بدعة ضلالة)؟
هذا هو المثال تأكيداً لما سمعتم آنفاً مما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أن هذه الكلية التي كان النبي يذكرها دائماً في خطبة الحاجة لا يمكن أن تكون مخصصة.
الآن آتيكم بمثال عكسي، أي: لكلية خصصها الرسول عليه الصلاة والسلام؛ حتى تعرفوا أن كلام الرسول عليه الصلاة والسلام جمع فأوعى.. سمعتم: (كل مسكر خمر) (كل بدعة ضلالة) اسمعوا الآن التقييد كيف يكون.. قال: (كلكم يدخل الجنة إلا من أبى)، دخل استثناء هنا، كان يمكنه أن يقول: كل بدعة ضلالة إلا ما كان موافقاً للعبادة أو للحسنة، أو ما شابه ذلك مما تسمعونه من المؤولين إن لم نقل من المعطلين، فقال عليه الصلاة والسلام: (كلكم يدخل الجنة إلا من أبى)، هل يجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: كلكم يدخل الجنة ويسكت وهو في نفسه استثناء؟ لا يمكن هذا، فإذاً: كيف يتصور هؤلاء الذين يقولون: كل بدعة ضلالة، هذا ليس على عمومه، معنى ذلك أنهم ينسبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ما كان في باله إطلاقاً، ولو كان ذلك في باله لكان من الواجب عليه ديانة أن يسارع ولو مرة واحدة إلى التصريح بالاستثناء، كما قال في هذه الكلية الأخيرة: (كلكم يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟) معقول أن شخصاً يأبى دخول الجنة؟! معقول وليس معقولاً، وتأملوا معي الحديث، فهو كما يقال في لغة العصر الحاضر: يضع النقاط على الحروف.. (قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى).
فإذاً: كل كلية تأتي في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فضلاً عن الآيات القرآنية، ولم يأت ما يخصصها، فيجب إبقاؤها على إطلاقها، وبخاصة إذا كانت مثل كلية: (كل بدعة ضلالة) التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يكررها على مسامع أصحابه في كل مناسبة.
نعود.. لماذا لا يحافظ جمهور الدعاة الإسلاميين اليوم على هذه الخطبة المباركة التي سماها العلماء بخطبة الحاجة؟ أي: من أراد أن تقضى حاجته العلمية فليقدم بين يدي العلم خطبة الحاجة النبوية، لماذا يعرضون عنها؟ لأنها تخالف منهجهم، فليس من منهجهم ما نهجه الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه الخطبة، خطبة الحاجة، وهي ذم عموم البدعة وذلك في الدين والعبادة.
فلذلك قلنا في تلك الجلسة هناك -كما ذكرنا لكم آنفاً- في مأدبة: لا يكفي أن تتحمس كل جماعة وكل حزب لجماعتها، وتنطلق بدون علم وبدون وعي، فننصح هؤلاء الذين يخرجون، وأولئك الذين لا يخرجون ولكنهم يتكتلون، وأولئك الذين يشتغلون دهرهم بالسياسية، وكثير منهم لا يعرفون أن يحجوا وأن يصلوا وأن يصوموا على السنة، نأمرهم جميعاً بأمر الله ورسوله، أن يتعلموا: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] كلا! لا يستوون.
ثانياً: ذكر روايات كثيرة عن الصحابة رضي الله عنهم، فإذا كانت الأحاديث التي نسبها إلى الرسول فيها أشياء لا تصح نسبتها إلى الرسول عند أهل العلم بطريق معرفة الحديث، ومعرفة الأسانيد، وتراجم رجال الأسانيد ونحو ذلك، فمن باب أولى أن يذكر في هذا الكتاب روايات كثيرة وكثيرة جداً عن الصحابة من أقوالهم، ومن أفعالهم، ومن منهجهم، ومن سلوكهم، وكثيرٌ منها لا يصح.
ويعجبني في هذه المناسبة قول لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهذا من نفيس كلامه ودقيق منهجه العلمي، حيث قال ما معناه: إن على كل باحث أن يتثبت فيما يرويه عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كما يتثبت فيما يرويه عن الله ورسوله. هذه كلمة جماهير العلماء قديماً وليس حديثاً فقط، قديماً وحديثاً قد أخلوا بها، فما تعود إلى كتاب إلا ما ندر جداً، مثل كتاب نيل الأوطار للشوكاني، هذا من الكتب التي نحن نحض طلاب العلم على الاعتناء بدراسته والاستفادة منه، مع ذلك تجده يحشد فيه أقوال الصحابة والتابعين وغيرهم بمناسبة الكلام مع الآية أو الحديث، لكنه لا يسلك هذا السبيل وهو سبيل التثبت مما ينسب إلى الصحابة، كما يجب التثبت مما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قلَّ من يفعل هذا! ومن هنا يصيب المجتمع الإسلامي شيء من الانحراف، لماذا؟ وهذه نقطة في الحقيقة مهمة جداً.
نحن قلنا دائماً وأبداً: إن منهجنا كتاب الله وسنة رسول الله، وعلى ما كان عليه سلفنا الصالح، لا يكفي اليوم أبداً أن ندعو الناس إلى الكتاب والسنة فقط؛ لأنك لن تجد في كل هذه الجماعات المختلفة حديثاً وقديماً، لن تجد جماعة منهم ولو كانوا من المرجئة أو كانوا من المعتزلة يقولون: نحن لسنا على الكتاب والسنة، كلهم يقولون هكذا، إذاً: ما الفارق بين هذه الجماعات التي كلها تقول، وهي صادقة فيما تقول، لا نستطيع أن نتهمها فيما تقول، تقول: نحن على الكتاب والسنة، لكنها غير صادقة في تطبيقهما على ما كان عليه سلفنا الصالح رضي الله تعالى عنهم.
من هنا نقول: لابد من معرفة ما كان عليه السلف لنستعين به على فهم الكتاب والسنة، فإذا جاءتنا رواية عن بعض الصحابة وهي غير صحيحة، وأخذنا بها على أساس أنها بيان للكتاب والسنة، انحرفنا كما لو أخذنا بحديث ضعيف أو موضوع، لهذا ابن تيمية يقول: يجب التثبت فيما نرويه عن الصحابة كما نتثبت فيما نرويه عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
هذا الكتاب كتاب حياة الصحابة خالف هذا النهج العلمي، فهو جمع ما هب ودب، وأنا أضرب لكم مثلاً مجملاً: هو ينقل مثلاً حديثاً عن كتاب مجمع الزوائد، يقول: رواه أحمد والطبراني، وقال في مجمع الزوائد : رجاله ثقات.
الذين يتداولون هذا الكتاب عندما يقرءون: قال في مجمع الزوائد : رجاله ثقات، ما الذي يفهمون منه؟ كما يقولون عندنا في بعض الأعراف في سوريا : (خش حديث) ما دام رجاله ثقات صار حديثاً ثابتاً، لا. عند أهل العلم أي حديث يقول فيه أحد المحدثين: رجاله ثقات، فلا يعني هذا المحدث أنه حديث صحيح، بل أي حديث يقول فيه مؤلف الكتاب: رجاله رجال الصحيح فلا يعني أنه صحيح؛ وهذا أشد إيهاماً لصحة الحديث من قوله الأول، فإذا قال: رجاله ثقات، قد يتوهم بعض الناس أنه صحيح، لكن الإيهام بالتعبير الثاني: رجاله رجال الصحيح، أكثر، مع ذلك لا هذا ولا هذا في علم الحديث يعني صحة الحديث.
إذاً: كان ينبغي على مؤلف هذا الكتاب أن يختار، لا نقول: أن يصحح كل هذه الروايات ويدقق القول فيها؛ لأنه في الحقيقة -أنا أعتقد- لو أراد رجل عالم متثبت أن يصحح وأن يضعف وأن يؤلف كتاباً مثل كتاب الصحابة لأخذ منه سنين عديدة؛ لأن الحديث الواحد التحقيق فيه قد يأخذ منه ساعات، بل قد يأخذ منه يوماً وأياماً، وهذا نحن نعرفه بالتجربة، فإذاً: لو أراد أن يؤلف مثل هذا الكتاب وعلى هذه الطريقة فسيأخذ منه عمره أو بعض عمره على الأقل، لكن كنا نرجو منه أن يختار ما صح عنده بأقرب طريق، بدون أن يخصص الكلام في كل حديث من هذه الأحاديث.
إذاً: هذا هو الجواب عن كتاب حياة الصحابة، أنه لا ينبغي الاعتماد عليه إلا بشيء من التحفظ كأكثر الكتب.
وأنا أضع الآن بين أيديكم قاعدة لكي لا تحرموا الاستفادة من مثل هذا الكتاب، فأقول: كلما رأيتم حديثاً معزواً -أولاً- لأحد الصحيحين في هذا الكتاب أو في غيره يقول: رواه البخاري ومسلم، رواه البخاري، رواه مسلم، فعضوا عليه بالنواجذ.. هذا أولاً.
ثانياً: إذا رأيتموه نقل عن أحد المحدثين أنه قال: هذا حديث إسناده صحيح، أو قال: إسناده حسن، أيضاً تمسكوا به، وما سوى ذلك فعرجوا عنه ولا تعرجوا عليه.
السائل: هل القاعدة على هذا الكتاب أو على العموم؟
الشيخ: كل الكتب.
يقول السائل: ما رأيكم بأصل من أصول جماعة التبليغ، وهو أنهم يقولون: لا نتكلم في أربعة أشياء أثناء الخروج، لما يترتب على الكلام في هذه الأشياء من المفاسد، وهي: السياسات، والفقهيات، والخلافيات، والجماعات؟
إلى ماذا يدعون هم إذاً؟ أنا لا أريد أن أقول: إنهم يدعون إلى ما يمكن أن تدعو إليه كل طائفة متدينة على وجه الأرض، مهما كان نوع دينها، إلا اليهود، فأنتم تعلمون -مثلاً- أن جماعة التبشير من النصارى هم يدعون إلى الوصايا العشر: لا تسرق، لا تزن، لا تكذب.. إلخ، أيضاً هذه الأشياء يدعو إليها الإسلام، فإذا كان الجماعة لا يريدون أن يبحثوا في السياسة قلنا لهم: لا بأس مؤقتاً، لكن في الفقهيات يقول رسول الله: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين).
أنا أعتقد جازماً أن هذه الفقرة سبب وضعها وتركها، هو نفس السبب الذي يحملهم على ترك خطبة الحاجة، ولعلكم لم تنسوا بعد ما هو السبب؟ هل لأنهم لا يؤمنون بقوله عليه الصلاة والسلام : (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)؟ هذه القاعدة التي أسسها عليه الصلاة والسلام كما ذكرنا لكم آنفاً، ولذلك فإنهم لا يعرجون على هذه السنة المتروكة ولا يحيونها، كذلك لماذا أعرضوا عن الفقهيات؟ لأنهم لا فقه عندهم؛ لأن الفقه كما قال ابن القيم رحمه الله:
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه |
ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه |
كلا ولا جحد الصفات ونفيها حذراً من التعطيل والتشويه |
فهم لا يبحثون في الفقهيات بزعم أنه يثير الخلاف، وهذا زعم يتسترون خلفه، والحقيقة أنهم لا يحسنون الفقه، كل واحد كما يقولون عندنا في الشام : جماعة التبليغ مثل الإخوان المسلمين، مثل حزب التحرير، لا فرق بينهم في نقطة واحدة، وهي: جماعة الإخوان المسلمين يجمعون بين السلفي والصوفي.. بين الحنفي والشافعي، والمالكي والحنبلي، وفي بعض الظروف بين السني وبين الشيعي، هكذا السياسة تقتضي.
حزب التحرير كذلك لا يهمهم، حتى لقد صرحوا أن من منهجهم أنهم لا يتبنون رأياً في العقيدة، هذا من حسناتهم، لكنها في نفسها سيئة، أما جماعة التبليغ فلم يصرحوا بهذا، لكن واقعهم أنهم لا يتبنون رأياً في العقيدة، كما أنهم من باب أولى لا يتبنون رأياً في الفقه، لماذا؟
لأن الفقه أُلف هناك من جماعة الأزهر الشريف كتاب اسمه: الفقه على المذاهب الأربعة، إذا أردت أن تضيع في غمرة الخلاف بين المذاهب الأربعة فاقرأ هذا الكتاب، حينئذ لا تخرج منه إلا وأنت مدوخ، لا تعرف إلى أي قول تذهب إليه وتتمسك به، كذلك دكاترة الجامعات اليوم يدرسون الفقه الذي يسمونه بالفقه المقارن على طريقة الفقه على المذاهب الأربعة، يقول لك: أبو حنيفة قال كذا وحجته كذا، والشافعي قال كذا، وحجته كذا.. إلخ، وبعد ذلك أين الحق الذي قال الله عز وجل فيه: فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ [يونس:32]؟ ما المسئول عنها بأعلم من السائل!
فإذاً: الذين لا يشتغلون بالفقهيات ليس السبب أنه يوقع الخلاف؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو سيد البشر قاطبة، وأرجو أن تفهموا هذا وتحفظوه، من أسمائه: الفارق أو المفرق، كالقرآن، فإن القرآن من أسمائه الفرقان، لماذا رسول الله مفرق؟ لأنه فرق بدعوته بين المؤمن والكافر، وكان من نتائج ذلك أن فرَّق بين الوالد وولده، هذا كافر مشرك وهذا مؤمن مسلم، إذاً لماذا نحن نخاف أن نفرق؟ نخاف أن نفرق بالباطل، ولا ينبغي أن نخاف أن نفرق بالحق؛ لأن ربنا يقول: فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ [يونس:32] لكن الحقيقة أنهم لا يعرفون الحق من الباطل، لا يعرفون الصواب من الخطأ، ولذلك تمثلوا بالمثل العامي: (الهريبـي نصف الشجاعة) المقصود فهم عرفوا أنهم كما يقال أيضاً: (ليسوا حشو الكبدة) يأتون ويقولون مثلاً: قال أبو حنيفة : خروج الدم مهما قل فهو ناقض للوضوء، والإمام الشافعي يقول: مهما كثر فهو غير ناقض للوضوء، والإمام أحمد يقول، ومالك أيضاً معه من قبل: إن كان كثيراً نقض وإلا فلا ينقض، ماذا يريدون من هذه الدوشة؟ هذا الأمر يحتاج إلى اطلاع على أدلة المذاهب أولاً، ثم إجراء معادلة ومراجحة بين هذه الأدلة ثانياً، وهذا يتطلب -إضافة على وجوب معرفة أقوال العلماء- أن يعرف علم الحديث في مصطلحه، وعلم الجرح والتعديل في توثيقه وتجريحه، وهذا أكثر الدكاترة، ليس العامة من جماعة التبليغ وأمثالهم الذين يخرجون للدعوة وأمثالهم، هؤلاء لا يستطيعون، لكني كنت أستحسن منهم أن يقولوا كما يقولون، بالأمس القريب -كما ذكرنا لكم- كنا في مأدبة، وتكلمنا حول جماعات منها جماعة التبليغ فقال لي أحدهم ممن نحسن الظن به -لأنني حضضتهم على العلم- قال: لذلك مشايخنا يقولون لنا: اذهبوا إلى العلماء، فقلت لهم: نحن نريد أن تكونوا أنتم العلماء، أنتم الذين تهتمون بدعوة الأمة، ليس أنتم تذهبون إلى العلماء ثم تخرجون ولستم علماء.
لأنه أولاً: لا يعبر عن السبب الحقيقي، وثانياً: لابد من التفريق بين الحق والباطل، بين الصواب والخطأ، وبخاصة ما كان من ذلك متعلقاً بالعقيدة، وهم كما تسمعون -كما في الفقرة الثانية- يعدونها خلافيات.. هل هناك خلاف في التوحيد؟ كثير من الدكاترة يقولون: لا يوجد خلاف يا أخي، كل المسلمين يقولون: أشهد أن لا إله إلا الله، هذا صحيح، ولكن القول شيء والفهم والإيمان شيء آخر، الكافر حينما تقوم قائمة الدولة المسلمة إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، خلص رأسه من خطفه عن بدنه، لكن هل نجا بذلك من الخلود في النار؟
الجواب: الشرط الأول: أن فهم المعنى الصحيح لهذه الكلمة أولاً، ثم آمن بهذا الفهم الصحيح ثانياً؛ نجا من الخلود في النار يوم القيامة.
فهل المسلمون اليوم كل المسلمين الذين يبلغون ألف مليون أو يزيدون، هل الألف مليون يقولون: أشهد أن لا إله إلا الله؟ يمكن يكون منهم الدروز، هل هؤلاء اتفقوا على فهم هذه الكلمة فهماً صحيحاً ينجيهم من الخلود في النار يوم القيامة؟
الجواب: مع الأسف الشديد لم يتفقوا، ولذلك هم لما قالوا هذه الكلمة يعنون ما يقولون؛ لأننا إذا دخلنا في موضوع: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19] فرقنا الصفوف، ونحن جماعة جمع، ولسنا جماعة تفريق، هذا لسان حالهم ومقالهم.
أما نحن معشر السلف فنقولها صراحة، ولكن قبل أن نقولها ندعم مذهبنا بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنحن مفرقون نفرق بين الحق والباطل، بين المحقين وبين المبطلين، ولا نساوي بين المحقين والمبطلين كما يفعل غيرنا من الآخرين.
لما كنت في دمشق كان هناك رسالة ألفها أحد شيوخ الطريقة الشاذلية، وأصله مغربي، عنوان الرسالة: لا إله إلا الله، ليس هناك أجمل من هذا، وتدخل في الداخل: لا إله إلا الله، أي: لا رب إلا الله، هكذا فسر الآية الكريمة، ولو أن كافراً قال: لا إله إلا الله بهذا المعنى الذي شرحه هذا الشاذلي ما أفاده شيئاً لا في الدنيا ولا في الأخرى، لماذا؟
لأن المشركين كانوا يقولون: لا رب إلا الله، لكنهم إذا قيل لهم: لا إله إلا الله يستكبرون، إذاً: هم بعروبتهم الأصيلة كانوا يعرفون معنى كلمة التوحيد على الوجه الصحيح، ولكن معرفتهم هذه لم تغنهم شيئاً؛ لأنهم كفروا بهذا المعنى الصحيح، وعلى العكس من ذلك؛ فبعض المسلمين حينما يقولون: لا إله إلا الله، المشركون لا يقولون: لا إله إلا الله؛ لأنهم إذا قالوا: لا إله إلا الله، نافقوا وهم يريدون أن يعلنوا، فهم يعلمون معنى (لا إله إلا الله) لذلك لا يقولون.
المسلمون لا يعلمون معنى: (لا إله إلا الله) إلا القليل منهم، ولذلك هم يقولون كلهم: لا إله إلا الله، ولكن إذا أردت أن تبين لهم أن ما يفعلونه من الإتيان إلى الأولياء والصالحين، والذبح عندهم، والنذر لهم، والحلف بهم، والصلاة عند مقابرهم.. إلخ، فهذا كافر بلا إله إلا الله؛ لأن معنى (لا إله إلا الله) ليس المعنى الذي ذكرناه عن الشاذلي: لا رب إلا الله، وإنما معناه: لا معبود بحق في الوجود إلا الله تبارك وتعالى، وحينما يفهم المسلم كلمة الشهادة هذه الكلمة الطيبة (لا إله إلا الله) فهماً صحيحاً؛ فيجب أن يطبقه تطبيقاً صحيحاً كما فهمه فهماً صحيحاً، ومن هنا يظهر الفرق بين الذين يؤمنون بلا إله إلا الله بالمفهوم الصحيح، وبين الذين يؤمنون بلا إله إلا الله بالمفهوم غير الصحيح، تختلف تصرفاتهم في هذه الحياة.
لن تجد مؤمناً بهذه الكلمة الطيبة على المعنى الصحيح يذبح لغير الله، وينذر لغير الله، ويحلف بغير الله، ويصلي لغير الله عند قبور الأولياء والصالحين، لن تجد عند هؤلاء شيئاً من ذلك، بينما الآخرون الله أكبر!! يذهبون عند من يسمى بسيدي شعيب، وانظروا إلى النذور هناك! ومن نذر لغير الله فهو ملعون، كما قال عليه السلام: (من ذبح لغير الله فهو ملعون) كيف ملعون وهو يقول: لا إله إلا الله؟! لم يفهم لا إله إلا الله. ولذلك فالدعوة إلى الإسلام بصورة غير مفهومة للأنام، هذه ليست دعوة الإسلام، وإنما هي دعوة إلى جانب من جوانب الإسلام.
الأول: ننصحهم دائماً أن يتفرغوا لطلب العلم ولا يتفرغوا للدعوة؛ لأن للدعوة رجالاً، وقد قلت لهم هناك وفي كل مكان: هل تعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل بالعشرات والعشرينات من الدعاة إلى المشركين، أو أرسل أفراداً من نخبة الصحابة كـعلي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل، وأبي موسى الأشعري، ودحية الكلبي، هؤلاء الدعاة هم الذي كان الرسول عليه السلام يرسلهم، ومرة واحدة وقعت أن أرسل سبعين من قراء الصحابة، وبهذه المناسبة يجب أن تعلموا أن معنى قراء الصحابة هم علماؤهم؛ لأننا لا نتصور يومئذ قارئاً كقرائنا اليوم يحسنون القراءة والتجويد والترتيل، لكن لا يفقهون ما يقرءون من القرآن شيئاً، الصحابة لم يكونوا هكذا.
فذهبوا إلى قبيلة مشركة، وطلبوا منهم أن ينزلوا ليدعوا إلى الله عز وجل، فأعطوهم الأمان ثم غدروا بهم فقتلوهم، قتلوا سبعين من قراء أصحاب الرسول عليه السلام، ولما بلغه خبر قتلهم قال أنس بن مالك : (فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد على ناس كما وجد على هؤلاء القراء! فكان يدعو عليهم ويقول في صلاة الفجر وغيرها: اللهم اللعن رعلاً وذكوان) وقبائل أخرى سماها عليه السلام؛ لأنهم قتلوا هؤلاء الصحابة من القراء الكبار.
هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل علماء، فما بال هؤلاء المسئولين من جماعة التبليغ ورئيسهم هناك في باكستان أو في الهند يرسل دعاة لا علم عندهم؛ لأنه لو كان عندهم علم لعلموا أنه يجب أن يقتدوا بالرسول عليه السلام، وماذا فعل الرسول؟ إلى ماذا دعا الرسول حينما أنزل عليه قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر:1-3]؟ دعا كما دعت الرسل من قبل إلى أن يعبدوا الله ويجتنبوا الطاغوت، فما لهؤلاء الناس لا يدعون إلى ما دعا إليه الرسول عليه الصلاة والسلام، وإلى ما دعا إليه الصحابة الكرام بتعليم الرسول عليه الصلاة والسلام؟
جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسل معاذاً إلى اليمن قال له: (ليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله) فهؤلاء جميعاً من كل الجماعات التي ذكرناها آنفاً، من الإخوان المسلمين، من حزب التحرير، من جماعة التبليغ، لا يكون أول ما يدعون إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وهذا له سبب سبق أن ذكرته وأجمله الآن:
السبب أنهم لا يعلمون واقع المسلمين اليوم أنهم منحرفون عن التوحيد الصحيح.
السبب الثاني وهو أهم بالنسبة إليهم: هم أنفسهم لا يعلمون حقيقة معنى (لا إله إلا الله) ولذلك لا يدعون الناس إلى معنى: (لا إله إلا الله) كما أنهم لا يدعون الناس إلى أن يشهدوا أن محمداً رسول الله، لماذا؟ لنفس السببين:
السبب الأول: أنهم يشهدون أن محمداً رسول الله، وأنا أعتقد أنهم كذلك، لكن يخالفون هذه الشهادة؛ لأنه يلزم من التصديق بأن محمداً رسول الله ألا يتقدم المسلمون بين يدي رسول الله برأي أو باجتهاد أو بنظام.. إلخ، وهذا مع الأسف موجود وواقع، وأوضح مثال قضية الاستحسان، الاستحسان في بعض المذاهب قيل بأنه دليل شرعي، وفي المجتمع الإسلامي هو قائم على قدم؛ لأنهم يقولون: هذه بدعة حسنة، وماذا فيها يا أخي! إلخ.
أيضاً: يجب على الدعاة الإسلاميين أن يبدءوا بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله بياناً وشرحاً وليس لفظاً فقط.
إذاً: لا يجوز أن نقول: ندع الفقهيات وندع الخلافيات؛ لأن معنى ذلك: أن ندع الدعوة إلى شهادة لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
أيضاً: لا ينقدون الجماعات الإسلامية.. أنا سلفي وأنت خلفي، لا تنتقدني لماذا؟ لأني على حق أم على باطل؟ قالوا: لا. هذا يفرق.. ما الفائدة إذاً من دعوتك إذا تركتني في ضلالي؟ وما الفائدة من دعوتي إذا تركتك في ضلالك؟ وهكذا.. يجب أن نقول كلمة الحق، ولهذا لم يقرءوا في كتاب حياة الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى أبا ذر بعدة وصايا ومنها: (ألا تأخذه في الله لومة لائم) هذه فقرة ووصية من وصايا الرسول عليه السلام لـأبي ذر، فيجب إذاً أن نتعلم وأن نعمل بما نعلم، والإعراض عن التمسك بهذه الفقرات الأربع معناها: إعراض عن التمسك بالإسلام الذي جاء به عليه الصلاة والسلام.
الجواب: نحن نعني بالعلم العلم المستقى من الكتاب والسنة، ونعني ثانياً: بأنه يجب على المسلمين أن يتعلموا لينجوا من هذه المسائل الأربع، أي: لينجوا من أن يقعوا في الخلاف، والخلاف قائم، فهم يرجون إبقاء هذا الخلاف بسبب بعدهم عن العلم، وكلما تعلم المسلم وزاد علمه كلما كان ناهياً عن الاختلاف، يقول الله تعالى في القرآن الكريم فضلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:32] وهذا واقع الجماعات الإسلامية، فبماذا نقضي على هذا؟ نقضي على هذا بالعلم الصحيح، ثم نحن نريد من عامة المسلمين أن يتعلموا شيئين اثنين:
ما يصححون به عقيدتهم، وما يصححون به عبادتهم، لا نريد من كل مسلم أن يكون علاَّمة في التفسير، والحديث، والفقه، واللغة، فهذا له علماء يتخصصون فيه، وهذا فرض كفاية.
فالعلم علمان كما يذكره العلماء جميعاً لا خلاف بينهم: علم فرض عين، وعلم فرض كفاية.
فرض العين هو: ما يجب على كل مسلم أن يتعلمه، وأنا أضرب مثلين اثنين فقط: كل مسلم بالغ واجب عليه أن يصلي، لا يستثنى من هذه الصلاة أحد منهم، إذاً، كل مسلم فرض عليه أن يتعلم ما تصح به الصلاة.. شروط الصلاة، وأركانها، وواجباتها، هذا فرض على كل مسلم، فهل يقوم أفراد جماعة التبليغ في أنفسهم بهذا فضلاً أن يبلغوه الآخرين؟ الجواب: لا. فإذاً: هم تاركوا فرض عين فهم مؤاخذون.
مثال آخر يقابل هذا: الحج إلى بيت الله الحرام، لا يجب الحج إلى بيت الله الحرام على كل مسلم بالغ مكلف، ذلك لأن الله عز وجل قال: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97] فقد لا يستطيع المسلم، إما لفقره، أو لمرضه، أو لأي سبب آخر، لا يستطيع أن يحج، فنقول له: لا يجب عليك أن تتعلم أحكام الحج، وهناك حجاج إلى بيت الله الحرام، لكنهم يخلون بهذا الفرض فلا يتعلمون أحكام الحج.. هؤلاء الذين يستطيعون الذهاب صار فرض عين عليهم أن يتعلموا أحكام الحج، أما الآخرون وهم الجمهور الذين لم يجب عليهم الحج فلا يجب عليهم تعلم الحج، من الذي يجب عليهم أن يتعلموا أحكام الحج؟ أولئك الفقهاء والعلماء الذين يتوجه الناس إليهم بالأسئلة؛ عليهم أن يكونوا على علم بما يتعرضون للسؤال عنه.
فإذاً: نحن لا نريد من كل فرد من أي جماعة كانت أن يصير عالماً، وكما يقول المثل السوري: فلان عالم مثل الصحن الصيني، أي: من أي جزء منه يقرع يجيب فنحن نريد من كل فرد أن يقوم بالواجب الذي يجب عليه.. الصلاة تجب على كل شخص إذا بلغ سن التكليف، لكن الزكاة ليست كذلك، والحج ليس كذلك.
فإذاً بعض هذه الأحكام فرض عين، ومن لم يفعل فهو آثم عند الله، ولذلك نرى جماعة التبليغ والإخوان المسلمين وحزب التحرير كجماعة، لا أقول: كل فرد منهم؛ لأني أعرف أن في الإخوان وفي كل الجماعات هذه أفراداً يمشون معنا على الخط السلفي؛ لأنه لا يستطيع أحد أن يجادلنا بأن هذا الخط الذي نحن ماضون فيه هو الذي قال عنه ربنا: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] لا أحد من هؤلاء يستطيع أن يجادلنا في هذا، ولذلك فنحن نعلم بالتجربة أن في كل هذه الجماعات أفراداً معنا على هذا الخط علماً وعملاً، لكن كجماعة كلهم لا يقومون بالفرض العيني، أقل شيء أن يعرفوا صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم كيف كان يصلي؛ لأنهم يعرفون، فهم إذاً لا يقومون بفرض العين، هذا الذي نريده منهم، لكن بالإضافة إلى هذا -كما ذكرت آنفاً- نريد منهم أن يكون فيهم علماء أحاطوا بقدر ممكن من العلم، بما يجب وجوباً عينياً وبما يجب وجوباً كفائياً، فإذا سأله السائل: أنا ذاهب إلى بيت الله الحرام، هل أحج -مثلاً- مفرداً، أم أحج قارناً، أم أحج متمتعاً؟ ربما يجيب مثل ما أجاب ذاك التركي الذي نصبه أبوه مفتياً، يمكن بعض إخواننا ما سمعوا النكتة، وبخاصة أنه طال الدرس، ويقولون: إن العلم جاف، فدعونا نبلها قليلاً بهذه النكتة:
زعموا أن مفتياً عرض له سفر فقال لابنه: اخلفني من بعدي، فقال: يا أبي كيف أخلف من بعدك وأنا رجل لا أعلم؟ قال: لا عليك، أنا أدلك على طريقة يمشي بها حالك ريثما أعود، قال: هات طريقتك، قال: أنت تجلس على الكرسي في مكاني، وكلما جاءك سائل سألك أي سؤال فقل له: في المسألة قولان، وقال لابنه: جزاك الله خيراً، وسافر المفتي وجلس ابنه مكانه، والناس كالعادة المفتي هو الذي يعطيهم الجواب في مشاكلهم، وهذا لا يوجد عنده جواب إلا في المسألة قولان، كان السؤال -مثلاً-: أنا قلت لزوجتي: اذهبي أنت طالق، وكلما أحل لك شيخ حرم عليك شيخ.. إلخ، هذه طلقت مني أم لا؟ يا ابني في المسألة قولان: منهم من يقول: طلقت، ومنهم من يقول: ما طلقت.. أنا عملت كذا وكذا وجب علي الزكاة أم لا؟ المسألة فيها قولان: منهم من يقول: يجب، ومنهم من يقول: لا يجب!
وعلى ذلك قيسوا أنتم؛ الأمر لا يحتاج إلى شرح كثير، أحد الأذكياء انتبه إلى المسألة أن عند هذا الشيخ روتيناً مثل المسجلة، لا يجيب بشيء جديد أبداً، إنما في المسألة قولان، في المسألة قولان، فقال لرجل بجانبه: اسأل الشيخ وقل له: أفي الله شك؟ فقال له: يا سيدي الشيخ! أفي الله شك؟ قال: في المسألة قولان!!
الآن قد يأتي حاج قاصد للحج يسأل أحد المشايخ ممن لا علم عندهم من هذا العلم القائم على الكتاب والسنة: أيها أفضل: أحج يا شيخ مفرداً أم قارناً أم متمتعاً؟ فيقول له: هناك ثلاثة أقوال فأيها فعلت صح حجك، ويزيدها: من قلد عالماً لقي الله سالماً، وإن شاء الله ما يقول: قال رسول الله؛ لأن هذا لا أصل له، أما أنها كفقه فهي فقه، من قلد عالماً لقي الله سالماً، هذا يجب أن يكون في الأمة من يرفع عنها الحيرة.. ثلاثة أقوال في حجه! الرسول حج في زمانه حجة واحدة، كما تريد، إن شئت مفرداً، وإن شئت قارناً، وإن شئت معتمراً، لابد أن يكون الحق واحداً؛ لأن الحق لا يتعدد، ولذلك قال الرسول عليه السلام في الحديث الذي تسمعونه دائماً، لكن قل من ينتبه لانحراف الناس عنه: (إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد).
إذاً: المسألة إما أن تكون خطأً وإما أن تكون صواباً، فهناك ثلاثة أقوال في مسألة الحج، الرسول ما حج في حياته المباركة إلا حجة واحدة في آخر حياته؛ لأنهم لا يعلمون، أو يعلمون لكن يحيدون، وكما يقال: أحلاهما مر.
إن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف على الصفا، فقال له رجل من الصحابة: يا رسول الله! عمرتنا هذه... لأن الرسول كان قارناً جامعاً بين الحج والعمرة، ومع أنه قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة، فأحلوا أيها الناس!) أي: اجعلوا حجكم تمتعاً، قال ذلك السائل وهو في أسفل جبل الصفا، (يا رسول الله! عمرتنا هذه ألعامنا هذا أم للأبد؟ قال: بل لأبد الأبد) عمرتنا هذه لعامنا، أي: خصوصية لنا أصحاب الرسول أم هي للأبد، فقال: (بل هي لأبد الأبد، دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، وشبك بين أصابعه عليه السلام) ماذا يريد المسلمون أوضح بياناً من هذا الكلام الممثل عملياً بتشبيك الأصابع؟ دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، وإلى الآن تجد مشايخ كباراً يخيرون الحجاج أن تحج مفرداً، أو تحج قارناً، أو تحج متمتعاً.. الرسول صلى الله عليه وسلم ألغى هذه الحجج كلها إلا حج القران، بشرط أن يسوق الهدي من ذي الحليفة وبالنسبة لنا هنا لا يوجد سوق الهدي، واحد يشتري الأغنام ويركبها معه في السيارة، وتجده مهتماً بمظهره ومتزيناً، ويمكن حالقاً لحيته من أجل العيد!! المقصود هذا غير واقع.
إذاً: لم يبق عندهم؛ لأن الذي يحج قارناً ويسوق الهدي يكون جمع بين الحج والعمرة، يكون صدق عليه هذا الحديث، لكن نسي قول الرسول: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي -أي: من ذي الحليفة - ولجعلتها عمرة، فأحلوا أيها الناس!) الذين ما ساقوا الهدي معناه أنهم يريدون القران فأمرهم بأن يتحللوا، حتى علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه كان في اليمن مبعوثاً من الرسول عليه السلام كما ذكرنا آنفاً، فبلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السنة حاج، فيمم شطر المسجد الحرام، لكنه لا يعرف ما نواه الرسول، فلبى بأنه حج كحجة الرسول عليه السلام، ولما جاء إلى مكة وطاف طواف القدوم دخل على زوجته فاطمة، فرآها حالة متهيئة لاستقبال زوجها، والبخور يعمل عمله في خيمتها، فقال لها: ما هذا؟! منكراً عليها، فأخبرته بأن هذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث: (أهل بيتي -عليه السلام- جمعوا بين الحج والعمرة وتحللوا) فلما سمع ذلك منها ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يزال في إحرامه، أما زوجته فتحللت، فذكر علي للرسول عليه السلام ما رأى من فاطمة، فقال له عليه السلام: (بماذا أهللت يا
فإذاً: قول الرسول عليه السلام: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) لا يجوز للمسلم أن يحج حجاً مفرداً.
ولماذا يلجأ كثير من الناس اليوم إلى حج الإفراد؟ هناك سببان اثنان: أحدهما وهو آفة العالم الإسلامي اليوم: الجهل بالسنة، لا يعلمون مثل هذا الحديث وغيره: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) السبب الثاني: بعضهم يعلمون ولكن يحققون في أنفسهم قول رب العالمين: وَأُحْضِرَتْ الأَنفُسُ الشُّحَّ [النساء:128] لا يريد أن يذبح، لماذا لا يذبح؟ يخسر نفسه ثلاثمائة ريال أو أربعمائة ريال، أو أقل أو أكثر على حسب الأثمان، لذلك هو يحج حجاً مفرداً ولا عليه شيء إطلاقاً، لا ذبح ولا صيام ثلاثة أيام هناك ولا سبعة أيام إذا رجع إلى بلده.
لهذا فالعلاج يا إخواننا:
الجواب: نقول: هذه الأمور كلها من الحوادث ومن البدع، ويكفي المسلم السني المتمسك بالسنة البحث السابق، أن هذا ليس من عمل السلف، واسترحنا منه، وإلا فكل من جاءنا بشيء اتبعناه فيه؛ ومن هنا جاءت البدع.
عندنا في الشام طريقة من طرق الصوفية اسمها النقشبندية، هذه الطريقة تختلف عن الطرق الأخرى بضلالة تفوق الطرق الأخرى كلها، وهي ما يسمونها بالمراقبة، وأنا أظن أن هؤلاء أقاموا مقام المراقبة هذه الضلالة، ما هي المراقبة في الطريقة النقشبندية؟ يفرضون على المريد إذا جاء يريد أن يأخذ الطريق من الشيخ، فيبايعه على الطريق، ويشترط عليه أنه إذا جلس يذكر الله فلا يجوز له أن يراقب الله، وإنما يراقب الشيخ؛ لأن هذا المريد لا يستطيع أن يصل إلى الله إلا بطريق هذا الشيخ، أما اتباع سنة رسول الله فهذه لا توصله إلى الله، إنما الشيخ هو الذي يوصله، ويذكرون -وهذا في رسائل مطبوعة- أن أحد المشايخ كان يمشي مع مريد له بعد أن أخذ منه البيعة أن يطيعه، قياساً على أخذ الخضر عليه السلام البيعة من موسى: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْراً [الكهف:66-67].
ومشى الشيخ والمريد حتى وصلا إلى شط البحر، فأخذ الشيخ بيد المريد يريد أن يخوض في البحر، وتعرفون أن البحر يتدرج، تقول القصة -وهم مؤمنون بأن هذه القصة صحيحة ومطبوعة-: لما أحس المريد بالغرق جاء يريد أن يستغيث بالله عز وجل، فقال له الشيطان: كيف تستغيث بالله وتترك الشيخ؟ فقام الشيخ وكاشف المريد -بزعمه- وعرف ما هي وسوسة الشيطان: أنه لا يجوز أن تستغيث بالشيخ وتترك رب العالمين، فقال له الشيخ: بماذا أوصيتك أنا؟ لا بد أن تتبعني، فاستغاث بالشيخ ومشى معه في البحر إلى أن وصلوا إلى الشط الثاني!! كفر بالله وأنقذه الشيخ من الشيطان! وكان الشيطان الذي لا ينصح هو الناصح!
الشاهد: هذا مما يقولون هناك هو من فوائد ربط المريد قلبه بقلب الشيخ، فيقولون: إذا جلست تذكر الله لا تراقب رب العالمين؛ لأنك لا تستطيع، وإنما راقب الشيخ.
وظهرت في الآونة الأخيرة قبل أن آتي هنا بأكثر من أحد عشر سنة ظاهرة في بيوت هؤلاء النقشبنديين، مثل هذه الغرفة إذا كانت القبلة هكذا -مثلاً- فصورة الشيخ في صدر المكان، وحولها لمبات نور، بحيث أن المريد تتجلى له هذه الصورة التي ينبغي أن يراقبها ولا يراقب رب العالمين تبارك وتعالى، هذه يسمونها رابطة، وباللغة الأعجمية يسمونها رابطة شريفة، هكذا يلقنون مريديهم، من أين جاءت هذه الرابطة؟ استحسنوها لربط قلب المريد بقلب الشيخ.
من أين جاءوا بهذا الذي يجلس في المسجد يذكر الله (الدينمو) ويمد الجماعة هناك بمدده؟ هذا أولاً: يفترض أن يكون من الصالحين، هذا المفروض حتى يكون مخلصاً في ذكره، وارتباطه مع ربه.. إلخ، ومعنى هذا أن الرجل ورطوه، أعطوه صفة رجل صالح، وأنه هو الذي يمدهم بالتوفيق في خروجهم في دعوتهم، فلا شك أن هذا من البدع الكثيرة وما قبلها كذلك.
السائل: الدعاء بعد البيان والدرس بشكل جماعي؛ أحدهم يدعو والبقية يؤمنون، وكذلك الدعاء قبل الخروج إلى الجولة، بعد تشكيل الجولات يخرجون فيقف على باب المسجد فيدعون بدعاء متعلق بالجولة، ما حكم هذا؟
الشيخ: كل هذا يأتي من الجهل بالسنة، ونسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا.
الجواب: مجال للتوسع أنهم لا يفرقون بين السنة التعبدية والسنة العادية.. الرسول عليه الصلاة والسلام كان له عصا تسمى بالمحجم لها عكفة، وكانت تنصب له في العراء إذا صلى، خاصة في المصلى كانت تنصب له ليصلي إليها، فهذه كان يستعملها الرسول عليه السلام للحاجة، كما جاء في قصة موسى عليه السلام حينما سأله ربنا عز وجل: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى [طه:17-18] يدفع عن نفسه الوحوش من الحيوانات، من البشر.. إلخ، لكن إذا خرج من بيته إلى المسجد، وهو قوي البنية شاب، فلماذا يتكئ عليها؟! لكن أنا أدري ما هو السبب:
إنهم أولاً: لا يعرفون هذه القاعدة: التفريق بين سنة العادة وسنة العبادة، سنة العبادة: هي التي نقتدي فيها بالرسول عليه السلام، أما سنة العادة فلم نكلف باتباع الرسول عليه السلام فيها، مثلاً: أنا هنا أنظر أشكالاً وألواناً من العمائم، واحد وضع عمامة بيضاء وفوقها عقالاً، فهذا خالف السنة بزعمهم، وآخر وضع بيضاء ليس فيها عقال، هذا وافق السنة بزعمهم، وثالث وضع حمراء أو نقاطاً حمراء.. إلخ، هذا خالف السنة، أو وضع قلنسوة مزخرفة فيها نقوش جميلة، أيضاً خالف السنة! كل هذه القضايا ليس لها علاقة بالسنة التعبدية، هذه سنة العادات.. سنة العادات تختلف عن سنة العبادات، فهذا هو السبب الأول في أنهم جعلوا الداعية يدعو وهو قائم متكئ على عصا.
السبب الثاني: وهذا يجب أن تحفظوه جيداً؛ لأنه منهج علمي، أنهم يقرءون في الأحاديث: (العصا سنة الأنبياء) وهذا حديث موضوع، فهم لا يفرقون بين حديث صحيح وحديث ضعيف، فيعتمدون على الحديث الموضوع كما يعتمدون على العصا، وكل هذا الاعتماد ليس بالذي يحسن من مسلم أن يعتمد عليه.
والبحث في الحقيقة طويل وطويل جداً، لكنني أريد أن أقول: على هؤلاء أن يعنوا بدراسة السنة، فهي كما قال عليه الصلاة والسلام: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض) وأخونا أبو الحارث يبشرنا بأن الخصلة الأخيرة هذه -ما يسمونه بالدينمو- بدأت تقل، وأنا أرجو أن يكون هذا من أثر الدعوة السلفية التي تبصر الناس جميعاً بدينهم، وإن كانوا هم أحزاباً متفرقين، لكنهم من الناحية العلمية لا يستغنون عن التثقف بالثقافة السلفية، أنا أعلم من القديم -وأنا أظن أن هذا نسياً منسياً- عن جماعة التبليغ أنهم كانوا إذا جلسوا على مائدة الطعام أو سفرة الطعام بدءوا بالملح، ولو بشيء بسيط، لماذا؟ لأنه هناك حديث: (من بدأ طعامه بالملح كُفي شر سبعين داء) وكذلك حديث: (العصا سنة الأنبياء) حديث لا أصل له؛ ولأنهم يعيشون هكذا سبهللاً بين التراث من الأحاديث التي فيها ما هب ودب مما صح وما لم يصح، فهم يعملون بكل ما يسمعون، ليس عندهم علم، لا أقول بالنسبة للعامة الآن، أنا أعني خاصتهم؛ لأننا قدمنا مثالاً آنفاً حينما تكلمنا عن كتاب حياة الصحابة، وأن فيه ما هب ودب، فهم يستقون من هذا المعين، وفيه الشيء العكر الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، وبهذا القدر كفاية والحمد لله رب العالمين.
الجواب: سبق الجواب عن هذا السؤال ضمناً حينما قلنا هناك وهنا: عليكم أن تتعلموا قبل أن تخرجوا، هذا هو الجواب.
مداخلة: بمعنى تصحيح؟
الشيخ: تصحيح الطريق الذي يسلكونه.
مداخلة: سمعنا عنك تخريجاً للأحاديث ومختصرات كثيرة، كذلك لابد من جهدك -إن شاء الله- في هذا الكتاب أن توليه العناية.
الشيخ: أنا أقول: أرجو الله أن يوفقني لتحقيق هذا الاقتراح، وادعوا لنا في ظهر الغيب.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر