يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1] .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71] .
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
بما أننا قادمون على شهر الصيام شهر رمضان المبارك -إن شاء الله تعالى- رأينا أن نغتنم هذه المناسبة من هذا الاجتماع وأن نقرأ عليكم، ونبين لكم بعض الأحاديث التي وردت في كتاب الصيام من كتاب بلوغ المرام من أحاديث الأحكام، للحافظ/ أحمد بن حجر العسقلاني .
قال رحمه الله: كتاب الصيام.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه) متفق عليه .
في هذا الحديث نهي صريح عن التقدم بين يدي رمضان بصوم يوم أو أكثر من يوم، وهذا من باب المحافظة على المقدار المطلوب من الصيام، ذلك هو شهر رمضان، ولا يجوز لمسلم أن يزيد على رمضان، سواءً في التقدم أو في التأخر يوماً أو يومين.
هذا حكم صريح في النهي عن أن يتقدم الرجل بصوم يوم أو يومين بين يدي رمضان.
ويدخل في هذا -بلا شك- صوم يوم الشك كما سيأتي في الحديث التالي، فهذا النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين يؤكد وجوب المحافظة على العبادة كما شُرعت بدون زيادة أو نقص، فالذي فرضه الله عز وجل على عباده المؤمنين إنما هو صوم شهر رمضان، قد يكون تارة ثلاثين يوماً، وقد يكون تارة تسعة وعشرين يوماً، فلا يجوز أن يتقدم بصوم يوم أو يومين؛ خشية أن يصبح رمضان أكثر من ثلاثين يوماً مع مضي الزمن، ومضي العهد بالمسلمين عن العلم بالكتاب والسنة.
فأقول: في الوقت الذي ينهى هذا الحديث نهياً صريحاً عن التقدم بين يدي رمضان بصوم يوم أو يومين، كذلك كل عبادة لا يجوز أن يتقدمها، أو أن يوصل بها ما ليس منها من العبادات والطاعات الأخرى، فلا بد من الفصل الذي يحقق استقلال هذا الصوم المفروض ألا وهو صوم رمضان، لابد من الفصل بإفطار قبله وبعده؛ ليتحقق أن هذا الفرض هو فرض رمضان فقط لا يتقدمه شيء ولا يوصل به شيء.
ومن هذا القبيل تماماً ما جاء في صحيح مسلم من نهي الرسول عليه الصلاة والسلام أن يصل فرض الجمعة بالسنة التي بعدها، فأمر بالفصل بين الفرض والتطوع؛ إما بالكلام وإما بالخروج والانصراف، نهى الرسول عليه السلام عن وصل الفرض بالسنة التي بعده، هذا أيضاً من باب سد الذريعة؛ أن يوصل بالفرض ما ليس منه، فيوم الجمعة بصورة خاصة وكل الفرائض بصورة عامة، ينبغي بعد السلام الفصل فيها إما بخروج وتغيير المكان، وإما أن تتكلم مع صاحبك بكلام عادي، تحقيقاً للفصل، علماً أن الأمر كما قال عليه الصلاة والسلام بالنسبة للصلاة: (تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم) فيحل لك ما كان حراماً من قبل في الصلاة بمجرد قولك: السلام عليكم ورحمة الله في التسليمة الأولى، ولكن من باب التأكيد لهذا الفصل بأكثر من السلام، ومن باب سد الذريعة أن يوصل بهذه الفريضة -وهي فريضة الصلاة- شيء ليس منها، أكد الرسول عليه السلام على المصلي أن يتكلم أو أن ينصرف يميناً أو يساراً، أماماً أو خلفاً، كل هذا يؤكد هذا الأمر الذي أمر به الرسول عليه الصلاة والسلام، ألا يتقدم بين يدي رمضان بصوم يوم أو يومين؛ ليبقى شهر رمضان بدون زيادة عليه، كما أنه لا يجوز النقص منه، والزائد -كما يقول العامة- أخو الناقص.
يقول الرسول عليه السلام جواباً عن هذا السؤال: (إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه) هذا الاستثناء يوضح أن النهي السابق إنما هو خاص بمن يتعمد التقدم بين يدي رمضان بصوم يوم أو يومين، أما إنسان -آخر- له نظام من الصيام، كأن يكون من عادته اتباع السُّنة المعروفة وهي صيام يوم الإثنين ويوم الخميس من كل أسبوع، فاتفق أن جاء يوم الخميس وكان ذلك قبل رمضان بيوم، فهل يدخل في هذا النهي: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين)؟ الجواب: لا: (إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه) فهذا الذي اعتاد هذا الصيام المشروع له أن يتقدم رمضان بمثل هذا الصيام؛ لأنه لم يقصد هذا التقدم، وكأن المقصود مباشرة بهذا النهي هو صيام يوم الشك الذي سيأتي الحديث الخاص فيه؛ لأن الذي يصوم يوم الشك يصوم اليوم الذي هو بين يدي رمضان ولم يثبت بعد أن هذا اليوم -أي: يوم الشك- هو من رمضان، فيصومه احتياطاً، وفتح باب الاحتياط في الدين هو فتح لباب كبير من الزيادة في الدين، وهذا في الواقع له أمثلة كثيرة في بعض الأحكام الفقهية.
ولعل الحاضرين يعلمون أن بعض المذاهب توجب على من صلى يوم الجمعة أن يصليها بعد الفراغ منها ظهراً، بعض المذاهب توجب هذا، لكن هناك مذاهب أخرى لا توجبه من باب ما يوجبه المذهب الأول، وهو أن تلك الصلاة لم تصح فتصلى هذه، لكن هذا المذهب الآخر يقول: إن هناك شروطاً فيها خلاف، إذا توفرت صحت الصلاة -صلاة الجمعة- وإن لم تتوفر لم تصح الصلاة، فمن باب الاحتياط يحسن أن يصلى بعد الجمعة صلاة الظهر.
هذا الاحتياط يؤدي بقائله إلى مخالفة ما هو معلوم من الدين بالضرورة، ألا وهو أن الله عز وجل إنما فرض في كل يوم وليلة خمس صلوات، وإلى مخالفة نص آخر، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة في يوم مرتين) فنحن نعلم أن المفروض من يوم الجمعة هو صلاة الجمعة، فإذا كانت صلاة الجمعة لا تصح فصلاة الظهر، أما أن يصلي مرتين: مرة بنية الجمعة ومرة بنية الظهر؛ فهذا خلاف هذا الحديث مع مخالفة ما هو معلوم من الدين بالضرورة، كما في الحديث، حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة في يوم مرتين) فهذا في الوقت الواحد -وقت الظهر- صلى صلاتين: صلاة الجمعة ثم صلاة الظهر.
فلذلك لا يجوز أن يتقدم الإنسان على الحكم المنصوص عليه في الشرع من باب الاحتياط، أو من باب ما يقوله العامة: (زيادة الخير خير). لا خير بعدما شرع الله عز وجل على لسان نبيه عليه السلام من الخير.
الخلاصة: هذا الحديث الذي ينهى المسلم أن يتقدم بين يدي رمضان بصوم يوم أو يومين، في الوقت ذاته يوضح أنه لا مانع من صيام ما كان معتاداً له قبل رمضان، إذا كان له عادة أن يصوم -مثلاً- ثلاثة أيام من كل شهر، وجاء رمضان فله أن يصوم هذه الثلاثة الأيام، له أن يصوم يومين، له أن يصوم يوماً واحداً ما دام أنه لم يقصد الصيام من أجل رمضان؛ لأن رمضان أيامه محدودة، وإنما صام تنفيذاً لتلك العادة المشروعة التي كان عليها.
الجواب: بالنسبة للشق الأول: لا يشترط التتالي، فالنص مطلق: ثلاثة أيام، لكننا نذكّر دائماً بمثل هذه المناسبة بالأصل الذي أسسه ربنا عز وجل في قوله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133] إلى آخر الآية، ففيها حثٌ على المسارعة بالخيرات لا سيما إذا كانت من الواجبات، ومن أجل ذلك كان القول الراجح عند العلماء -ونحن على أبواب الحج إلى بيت الله الحرام- كان القول الراجح وجوب الحج على الفور لمن استطاع إليه سبيلاً لا على التراخي، وهذه الآية من أدلة هذا القول الراجح، وأصرح منها دلالة قوله عليه الصلاة والسلام: (من أراد الحج فليتعجل فقد يمرض المريض وتضل الضالة).
على هذا الأصل ينبغي المسارعة في الإتيان بالطاعات؛ لا سيما -كما قلنا آنفاً- ما كان منها من الواجبات ككفارة اليمين.
أما الشق الثاني: وهو هل يجب تبييت النية؟
الجواب: بالإيجاب، والقاعدة في ذلك أن الصوم الواجب لا بد من تبييت النية فيه، بخلاف صوم التطوع فيجوز استحضار النية من ضحوة، هذا هو الذي ثبت عن الرسول عليه الصلاة والسلام، بناءً على ذلك فمن كان عليه صيام ثلاثة أيام كفارة يمين، أو أي كفارة من الكفارات المعروفة صياماً، فلا بد فيها من تبييت النية.
السائل: عفواً أستاذي.. لعله يقصد النية التلفظية أو الكلام!
الشيخ: لا. هو يقول: هل يشترط تبييت النية قبل النوم؟ أما التلفظ بالنية فهذا سؤال من عندك، والجواب: التلفظ بالنية بدعة في كل العبادات: (إنما الأعمال بالنيات) كما قال عليه الصلاة والسلام.
السائل: ما عدا في الحج والعمرة؟
الشيخ: لا توجد نية في أي عبادة، فالحج والعمرة إنما هو ذكر.
السائل: عندما يقول الحاج: لبيك اللهم بعمرة أو بحج.
الشيخ: أجبتك سلفاً، إنما هو تلبية وذكر، لكن لا يقول: نويت الحج والعمرة، فهذا ليس له أصل.
الجواب: لم يثبت شيء صريح في الموضوع، وإن كان هناك قوله عليه السلام في الصحيحين : (من مات و عليه صيام صام عنه وليه)، وقد ذهب إلى هذا الشافعية، فأوجبوا في مثل هذا السؤال على ولي المتوفى أن يصوم ما فاته من أيام رمضان بسبب مرضه، لكن الذي رجح عندنا ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله، وهذا الحديث الذي ذكرته آنفاً: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)- من رواته عبد الله بن عباس، وقد كان يفسر هذا الحديث بأنه محمول على صيام النذر، فمن نذر على نفسه صيام يوم أو أكثر ثم لم يفِ به؛ فهنا يأتي الحديث السابق: (صام عنه وليه).
أما الصيام الذي فرضه الله عز وجل مباشرة على المسلمين تزكية وتطهيراً لهم، فهنا يرد المبدأ في الإسلام: وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ [فاطر:18] .
أما إنسان فرض على نفسه فريضة ما فرضها الله عليه -من باب النذر- فهذا هو الذي يحمل عليه الحديث السابق: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)، وقد جاءت أحاديث صريحة في هذا أن امرأة سألت الرسول عليه الصلاة السلام أن أخاها مات وعليه صيام نذر، فقال عليه السلام: (صومي عنه أو صومي عنها) وهي أحاديث صريحة في السؤال والجواب عن صيام النذر؛ فحمله ابن عباس -وهو أحد رواة هذا الحديث كما قلنا- على صيام النذر.
وهذا الذي نراه والله أعلم.
السائل: إذا مات ولم يقض صوم رمضان، فهل يسقط عنه؟
لم يقل في السؤال: لم يقضه، وإنما مات في رمضان، أو هكذا أنا فهمته، والآن سوف نقسم السؤال السابق والجواب إلى شقين:
الشق الأول: رجل مريض مات في رمضان وعليه أيام من رمضان، فعلى هذا ينصب كلامي السابق.
صورة أخرى: إنسان أفطر من رمضان أياماً وهو مريض، ثم شفي بعد ذلك وما قضى ما عليه وهو مستطيع، فهذا لا نقول بأنه يمكن لأحد أن يصوم عنه، هذا مثله كمثل الذي يفطر في رمضان عامداً متعمداً، مثله مثل من يدع الصلاة عامداً متعمداً، فهذا لا كفارة له مطلقاً، لكن المعذور، أي: الذي مات مريضاً لا يستطيع أن يقضي ما فاته من أيام رمضان، فهذا يجري عليه كلامنا السابق.
أما إنسان تعمد الإفطار في رمضان أو لم يتعمد، كأن كان مريضاً -وهذا عذر والله أعلم بنيته- ثم عوفي وشفي ومضت عليه أيام بل ربما شهر أو شهور ولم يقض، فهذا لا يقضى عنه إطلاقاً.
الجواب: ذلك أمر وجداني يشعر به كل من أنعم الله تبارك وتعالى عليه برؤية ليلة القدر؛ لأن الإنسان في هذه الليلة يكون مقبلاً على عبادة الله عز وجل، وعلى ذكره والصلاة له، فيتجلى الله عز وجل على بعض عباده بشعور ليس يعتاده حتى الصالحون، لا يعتادونه في سائر أوقاتهم، فهذا الشعور هو الذي يمكن الاعتماد عليه؛ بأن صاحبه يرى ليلة القدر، والسيدة عائشة رضي الله عنها قد سألت الرسول عليه الصلاة والسلام سؤالاً ينبئ عن إمكان شعور الإنسان برؤيته لليلة القدر، حينما توجهت بسؤالها للنبي عليه الصلاة والسلام بقولها: (يا رسول الله! إذا أنا رأيت ليلة القدر ماذا أقول؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني) ففي هذا الحديث فائدتان:
الفائدة الأولى: أن المسلم يمكن أن يشعر شعوراً ذاتياً شخصياً بملاقاته لليلة القدر.
والفائدة الثانية: أنه إن شعر بذلك فخير ما يدعو به هو هذا الدعاء: (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني).
وقد جاء في هذه المناسبة في كتابنا هذا الترغيب في بعض الدروس المتأخرة: أن خير ما يسأل الإنسان ربه تبارك وتعالى هو العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
نعم. هناك لليلة القدر بعض الأمارات والعلامات المادية، لكن هذا قد لا يمكن أن يرى ذلك كله من يرى ويعلم ليلة القدر، إلا أن هذه العلامات بعضها يتعلق بالجو العام الخارجي، كأن تكون -مثلاً- الليلة ليست بقارة ولا حارة، فهي معتدلة ليست باردة ولا هي حارة، فقد يكون الإنسان في جو لا يمكنه من أن يشعر بالجو الطبيعي في البلدة، كذلك هناك علامة لكن هي بعد فوات وقت ليلة القدر، تلك العلامة تكون في صبح تلك الليلة حين تطلع الشمس، حيث أخبر عليه الصلاة والسلام بأنها تطلع صبيحة ليلة القدر كالطست -كالقمر- ليس له شعاع، هكذا تطلع الشمس في صبيحة ليلة القدر، وقد رُئي هذا من بعض الناس الصالحين ممن كان يهمهم رؤية أو ملاحظة ذلك في كثير من ليالي القدر.
ليس المهم بالنسبة للمتعبد التمسك بمثل هذه الظواهر؛ لأن هذا الظواهر هي عامة، هذه طبيعة الجو، لكن لا يستوي كل من عاش في ذلك الجو ليرى ليلة القدر، ومن عاش في صفاء النفس في لحظة من تلك اللحظات في تلك الليلة المباركة، بحيث أن الله عز وجل يتجلى عليه برحمته وفضله، فيلهمه ويؤيده بما سبق وبغيره.
والعلامات المادية هي علامات لا تدل على أن كل من شاهدها أو لمسها قد رأى ليلة القدر، وهذا أمر واقعي، ولكن الناحية التي يجدها الإنسان في نفسه من الصفاء الروحي، والشعور برؤيته لليلة القدر، وتوجهه إلى الله بسؤاله بما شرع، هذه هي الناحية التي ينبغي أن ندندن حولها ونهتم بها؛ لعل الله عز وجل أن يتفضل بها علينا.
الجواب: هذا من الأحاديث الصحيحة التي أخرجها الإمام مسلم في صحيحه، وهو من الأحكام التي كاد الفقهاء أن يتفقوا عليها، ولكنهم -مع الأسف- لم يتفقوا، فقد جاء عن مالك رحمه الله أنه كان يكره صيام الست من شوال؛ فاحتج عليه الجمهور بهذا الحديث، وهو حجة -بلا شك- قاطعة، إلا أن بعض العلماء نقلوا عن الإمام مالك وجهاً لما ذهب إليه من كراهة صيام هذه الأيام الست، قال: لكي لا يعتقد الناس وجوبها لا سيما وهي متصلة برمضان، ولا يفرق بينها وبين صيام رمضان إلا يوم العيد، فخشية أن يتبادر إلى أذهان بعض الناس وجوب صيام هذه الست نهى الإمام مالك أو كره صيامها.
ومعنى كلام هؤلاء العلماء فيما نسبوا إلى مالك: أن مالكاً رحمه الله لا ينكر أصل مشروعية صيام هذه الأيام الست، فهو يلتقي مع جماهير العلماء الذين ذهبوا إلى استحبابها ولكنه يكره المثابرة على ذلك، فإن كل من صام رمضان ثم صام الستة الأيام، سوف يصبح صيام الست مع الزمن ولو البعيد كأنه من تمام صوم رمضان، هذا الذي خشيه مالك فذهب إلى الكراهة، ولا شك أن لمثل قوله وجاهة من حيث القواعد الأصولية الفقهية، وقد ذهب إلى مثلها بعض الحنفية في مثل اعتياد الإمام قراءة سورة السجدة وسورة الدهر في كل فجر جمعة، فنص فقهاء الحنفية على أنه ينبغي على الإمام أن يترك قراءة هاتين السورتين أحياناً؛ لكيلا يظن العامة بأن قراءة هاتين السورتين من الواجبات بل من أركان صلاة الصبح يوم الجمعة.
وهذا في الواقع -كما قلنا- من العلم الذي قل من يتنبه له، وفي بعض البلاد الإسلامية فعلاً قد يخشى -أو وقع في الخشية- أن يتوهم بعض العامة أن صيام ستة أيام من شوال هو أمر واجب؛ فحينئذ من الواجب على بعض العلماء ألا يلتزموا ذلك، مع تنبيههم في خطبهم ومواعظهم ودروسهم على أن هذا الصيام ليس من الأمور الواجبة، إنما هو من الأمور المستحبة.
الجواب: في عهده صلى الله عليه وآله وسلم، وفي عهد السلف الصالح، كانت الزكاة تجمع كزكاة الزروع والمواشي، وكذلك لم تكن تجمع زكاة النقدين -الفريضة- زكاة النقدين ما كانت تجمع، وإنما كان الأمر يفوض إلى الغني الواجب عليه الزكاة فهو يوزع ما وجب عليه في نقديه، كذلك لم يكن من سنة العهد الأول جمع صدقة الفطر، وإنما كل مكلف يخرجها، أما إعطاء الزكاة هذه -زكاة الفطر- إلى الجمعيات الخيرية اليوم، فذلك يتوقف على أمر هام -ما أدري إذا كانت هذه الجمعيات تهتم بتطبيقه- فكلنا يعلم بأن زكاة الفطر لا يجوز التقدم بإخراجها قبل يوم الفطر بأكثر من يومين أو ثلاثة أيام، فإخراجها في أول رمضان أو في منتصف رمضان -كما يفعل كثير من الأفراد- هذا خلاف السنة، فإذا كانت الجمعيات المشار إليها تراعي هذه الناحية فتجمع هذه الزكوات -زكاة الفطر- ولا تخرجها إلا قبل العيد، فلا بأس حين ذاك من توكيل هذا الجمعيات بهذه الصدقة، على أساس أنه يفترض فيها أن تكون أعلم من المزكي بالفقراء والمساكين الذين هم في ذلك الحي.
لكن أنا أخشى أن يكون هؤلاء يتبنون رأياً فيه توسيع في إباحة إخراج الزكاة قبل العيد بأيام كثيرة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى: قد يجمعونها في صندوق في الجمعية ويضمونها إلى أصل الزكاة المجموعة عندهم، فيخرجونها ربما بعد العيد بأيام وربما بأشهر؛ لذلك فيكون الأحوط أن يتولى المزكي والمخرج لصدقة الفطر إخراجها بنفسه، فهو أولاً: يخرجها قبل العيد مباشرة، وهذا هو الأفضل، فإن ترخص فقبل ذلك بيوم أو بيومين، وثانياً: يضعها في يد من يراه أنه من المستحقين لهذه الزكاة، ثم يلاحظ أن يكون من الصالحين، وهذه ناحية -أيضاً- ما أدري إذا كانت الجمعيات عندها استعداد أن تلاحظ وتطبق هذه الناحية؛ وذلك ليكون المزكي معيناً لأهل الخير والصلاح بما يقدمه إليهم من خير ومال.
الجواب: لم يفطر حتى يكون عليه قضاء.
الجواب: نقول: إنها بلغت سن اليأس فهي لا ترى الحيض، وإذا كانت خرقت العادة العامة في النساء، وأنها لا تزال تحيض بصورة منتظمة كما هي عادة النساء، فحين ذاك ترجع في هذا الدم إلى شروط دم الحيض المعروفة، فالغالب أن يكون هذا الدم استحاضة وليس دم حيض، لا سيما وهي في هذا السن -سن الستين- فالغالب أنها يائس من الحيض، ففي هذه الحالة يكون هذا الدم دم استحاضة، فليس له علاقة حين ذاك بالصيام، أي أنه لا يكون مانعاً لها من الصيام.
الجواب: النص القرآني صريح في هذا ألا وهو قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187] فالآية صريحة في إباحة استمرار المتسحر في طعامه وشرابه حتى يتبين الفجر، أي: حتى يتأكد من طلوع الفجر الصادق، وهذه الآية لحكمة ما جاء فيها ربنا عز وجل بقوله: حَتَّى يَتَبَيَّنَ [البقرة:187] لأن التبين من الشيء: هو التأكد منه، والواقع أن هناك تساؤلات كثيرة في أن المؤذنين في هذه البلاد يؤذنون مع طلوع الفجر الصادق، فقد كنا في العمرة في رمضان في مكة والمدينة، فرأيناهم يتأخرون في الأذان -أذان الفجر الصادق- قرابة نصف ساعة، ونحن لا نعلم هناك فرقاً من حيث خطوط الطول يؤدي إلى هذا الفرق بين فجرهم وفجرنا.
وملاحظتنا هذه الأخيرة هناك ذكرتنا بما نسمعه من بعض إخواننا المثقفين المتفقهين في الأردن، أنهم يقطعون بأن الأذان في الأردن بصورة عامة وليس فقط في رمضان، يؤذن قبل الفجر الصادق بنحو ثلث ساعة، ثم جاء بعض إخواننا من الأردن إلى هنا واتصلوا مع بعض إخواننا، وأيضاً راقبوا طلوع الفجر هنا في دمشق بصورة خاصة، فظهر لهم -وما أقول تبين؛ لأني بعد ما تبينت مما ظهر لهم- فظهر لهم أن الأمر هنا كالأمر هناك، ولذلك كان في نفسي أن نعمل جلسة خاصة مع بعض إخواننا، ونتدارس هذه القضية بالنسبة لنا هنا في دمشق، أي: هل يؤذن الأذان الثاني -وليس الأذان الأول- الذي به يحرم الطعام وتحل الصلاة في الوقت تماماً، أم أنه يقدم على الوقت كما يفعلون في بدعة الأذان الأول؟ حيث أنهم يسمونه بأذان الإمساك، وهو في الحقيقة من الناحية الشرعية هو أذان الطعام والشراب وليس أذان الإمساك، فهم يسمونه: أذان الإمساك، حتى سجل فيما يسمونه بالإمساكية، فصار لزاماً على كل صائم أن يمسك عن طعامه وشرابه بمجرد أن يسمع الأذان الأول، وهو شرعاً أذان الطعام والشراب، بدليل حديث البخاري ومسلم عن جماعة من الصحابة، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لا يغرنكم أذان
وقد جاء في هذا الحديث أنه كان بين أذانيهما مقدار تلاوة خمسين آية، أي أن الوقت بين الأذانين وقت قريب جداً، وليست هذه المسافة التي تأخذ من الزمن نحو ربع ساعة موجودة اليوم بين أذان الإمساك المزعوم وبين أذان الفجر؛ لذلك فممكن أن بعض الموقتين الذين يوقتون التوقيت الفلكي هذا ربما لاحظوا احتياطاً ثانياً غير الاحتياط لأذان الإمساك، لاحظوا احتياطاً ثانياً في توقيت الأذان الثاني، فتقدموا به حتى لا يدخل الفجر الصادق في زعمهم وبعضهم لا يزال يأكل فيفطر، ولئن كان هذا واقعاً فهذا يدل على جهلهم؛ لأن هناك أمرين كل منهما عبادة وطاعة، فكما أنه لا يجوز الاستمرار في الطعام والشراب بالنسبة للمتسحر حتى دخول الفجر الصادق، كذلك لا يجوز للإنسان أن يصلي قبل الفجر الصادق، فكل منهما عبادة.
فالخلاصة: هذا الأذان الثاني يجب إضافة التثبت من كونه يؤذن في الوقت، وعندنا شكوك كثيرة جداً بالنسبة للأمور التي ذكرناها، ومع ذلك فهناك فسحة ورخصة صريحة في الحديث الصحيح، فلو افترضنا أن هذا الأذان الثاني يؤذنه المؤذنون في الوقت الصحيح -في الفجر الصادق- تأتي هذه الرخصة الكريمة، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه) .. (إذا سمع أحدكم النداء) أي: النداء الثاني، أما الأول فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم، أما الأذان الثاني فتأخذ حاجتك: (إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يأخذ حاجته منه)، ففي هذا رخصة أن يستمر الصائم في الطعام حتى يأخذ حاجته، لكن لا يأتِ على التسلية، لا يجلس -مثلاً- يتفكه، أو (يفصفص) بحجة: (حتى يقضي حاجته منه) فإن هذا ليس مما له فيه حاجة، إنما هذا من باب التسلية، والحديث صريح: (إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده -الذي يأكل أو يشرب منه- فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه).
الجواب: هذا سؤال هام، والجواب عليه يختلف باختلاف الأشخاص، بين أن يكون شاباً ولا سيما إذا كان حديث عهد بعرس وبزواج، وبين أن يكون كهلاً أو شيخاً فانياً، فالأول من باب الحيطة والحذر يبتعد عن حلاله وعن زوجته، وعن كل الأسباب التي قد توقعه في المحرم عليه، ألا وهو الجماع؛ لأن السيدة عائشة رضي الله عنها التي تروي بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقبل نساءه وهو صائم، تقول: (وأيكم يملك من إربه ما كان يملك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟) فالتقبيل نوع من المباشرة.
إذاً: التقبيل بالنسبة للرجل الكهل أو الشيخ جائز قولاً واحداً؛ لأنه عادة لا يؤدي به إلى أن يتورط، وأن يقع فيما يوجب عليه الكفارة الكبرى، وهو أن يصوم شهرين متتابعين إذا ما جامع زوجته؛ بخلاف الشاب فقد يقع، ولذلك يقال: ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، فالشاب ينبغي أن يكون بعيداً عن زوجته في وقت صيامه، هذا من باب الحيطة والحذر، لكن إذا ما قبل ولم يتعد ذلك فليس فيه أي شيء؛ لأن التقبيل أصله مباح، وإنما يمنع -كما قلنا- سداً للذريعة، فإذا فرضنا أن إنساناً شاباً قوياً -ليس فقط في بدنه- بل هو أيضاً قوي في إيمانه وفي طاعته لربه، فهو يعرف الحدود فلا يتعداها؛ فله كل ما لم يحرمه الله عز وجل على الصائم، وهذا الكل هو كل ما سوى الجماع، ولكن المشكلة تبقى ضبط (الغرائز) بالنسبة للشباب، وهذه الحيطة لا بد منها.
أما الأصل فهو مباح؛ ولذلك لما جاء عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً فقال له: (هلكت يا رسول الله! قال: ما أهلكك؟ قال: هششت إلى أهلي فقبلت. قال: ما هو إلا كما لو تمضمضت بالماء) أو كما قال عليه الصلاة السلام، فالمضمضة بالماء إذا لم يدخل إلى الجوف ليس فيها شيء، لكن المهم يبقى وقوف الإنسان عند هذه الحدود.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر