أما بعد:
فحياكم الله جميعاً أيها الإخوة الفضلاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم جل وعلا الذي جمعنا في هذا الجمع الكريم المبارك على طاعته، أن يجمعنا مع حضراتكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها الأحبة الكرام! ما أحوجنا إلى أن نقضي هذه الدقائق مع آية في كتاب الله جل وعلا استمعنا إليها في صلاة العشاء، ألا وهي قول الله سبحانه وتعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68].
قد نُتهم بأننا نكثر الحديث عن الدار الآخرة، وقد نُتهم بأننا إذا ما أكثرنا الحديث في هذا الجانب أننا نجهل الواقع، ولكن من فتح كتاب الله جل وعلا وجد القرآن كله يركز على الترغيب والترهيب -يُذكر بالجنة والنار- بل إن أول ما نزل من القرآن أنزل الله جل وعلا آيات كريمة طيبة تذكر الناس بالجنة وتحذرهم من النار كما قالت عائشة رضي الله عنها: [إن أول ما نزل من القرآن سور تذكر الجنة والنار، ولو قال الله عز وجل: لا تزنوا، لا تشربوا الخمر، لقالوا: لن ندع الزنا ولن ندع الخمر أبداً].
فالأمة الآن في هذه الأوقات تعيش في واقع مرّ أليم، متشرذمة كتشرذم الغنم في ليلة شاتية ممطرة!
والمتدبر لهذا الواقع يعلم يقيناً أن الأمة الآن في أمس الحاجة إلى أن تعيد وتصحح عقيدتها في اليوم الآخر، وتنظر إلى هذا اليوم نظرة واقع وعمل، فإن الإيمان باليوم الآخر ركن من أركان الإيمان، ومحال أن يتأصل الإيمان في قلب مسلم بهذا اليوم المهيب إلا إذا أكثر تذكره؛ وأكثر السماع لأهواله.
إن الأمة الآن تعيش حالة من الماديات والشهوات الطاغية، وتحتاج إلى من يذكرها دوماً بالله وبجنة الله، ويذكرها دوماً بالنار، ويحذرها منها، فلقد كان النبي يرتقي المنبر ويقول للناس: (أنذرتكم النار، أنذرتكم النار) حتى تسقط الخميصة أو الرداء من على ظهره، يقول أحد الصحابة: [لو كان رجل بالسوق لسمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينادي في الأمة ويقول: أنذرتكم النار، أنذرتكم النار]. طغت الماديات والشهوات بصورة شغلت كثيراً من الناس عن رب الأرض والسماوات، وعن التفكر في هذا اليوم الذي سيقف الإنسان فيه بين يدي الله جل وعلا.
أيها الحبيب! كيف يكون حالك إذا عُدت الليلة إلى دارك فرأيت خطاباً من قاضٍ من قضاة الدنيا يأمرك فيه بالمثول بين يديه في الصباح الباكر، أتحداك أن تنام الليل، مع أنك ستقف أمام عبد فقير حقير.
لقي الفضيل بن عياض رجلاً، فقال له الفضيل: كم عمرك؟
قال: ستون سنة.
قال الفضيل : إذاً أنت منذ ستين سنة تسير إلى الله توشك أن تصل.
فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون!
فقال الفضيل: هل عرفت معناها؟
قال: نعم، عرفت أني لله عبد وأني إليه راجع.
فقال الفضيل: يا أخي! إن من عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع عرف أنه موقوف بين يديه، ومن عرف أنه موقوف عرف أنه مسئول، ومن عرف أنه مسئول فليعد للسؤال جواباً.
فبكى الرجل وقال: يا فضيل! وما الحيلة؟
قال الفضيل: يسيرة.
قال: ما هي يرحمك الله؟
قال: اتق الله فيما بقي من عمرك، يغفر لك الله ما قد مضى وما قد بقي من عمرك.
تذكر وقوفك يوم الحشر عريانا مستوحشاً قلق الأحشاء حيرانا |
والنار تلهب من غيض ومن حنق على العصاة ورب العرش غضبانا |
اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا |
لما قرأت ولم تنكر قراءته أقررت إقرار من عرف الأشياء عرفانا |
نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبد عصى للنار عطشانا |
المشركون غداً في النار يلتهبوا والمخلصون بدار الخلد سكانا |
يقول جل وعلا: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ [الزمر:68]جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! ما الصور؟ فقال المصطفى: قرنٌ ينفخ فيه) والقرن هو البوق، والنافخ هو إسرافيل باتفاق الأمة، يأمر الله إسرافيل أن ينفخ في الصور.
ولقد اختلف أهل العلم، فمنهم من قال: إن إسرافيل ينفخ في الصور نفختين، ومنهم من قال: إن إسرافيل ينفخ في الصور ثلاث مرات، ووقف بعضهم وهذا ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية طيب الله ثراه عند آيات القرآن.
أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغي بل أين فرعون وهامان |
أين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلم وطغيان |
هل أبقى الموت ذا عز لعزتـه أو هل نجا منه بالسلطان إنسان |
لا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جان |
ما الذي بدل استقرارها وأمنها؟
ذلك بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:5-8].
يخرج الجميع حفاة عراة غُرلاً، ليعرض الجميع على الله جل وعلا؛ ليكلمك الله، ويعطيك كتابك، فإن كنت من أهل التوحيد السعداء -أسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، وأن يختم لنا ولكم بالتوحيد- أعطاك الله كتابك بيمينك، وقيل لك كما في الصحيحين من حديث ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يدنى المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع رب العزة عليه كنفه -والكنف في اللغة لا تأويلاً للصفة فلسنا ممن يؤول الصفات، هو الستر والرحمة- يدنى المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع رب العزة عليه كنفه، ويقرره بذنوبه فيقول: لقد عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا، فيقول المؤمن: رب أعرف، رب أعرف، فيقول له الله جل وعلا: ولكني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ويعطيه صحيفة حسناته) أما الآخرون -عياذاً بالله- ينادى عليهم على رءوس الأشهاد: ألا هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين!
يدنى المؤمن من ربه ويكلمه الله جل وعلا -ينادى عليه- وتعطى هذه الصحيفة التي لا تغادر بلية كتمتها، ولا مخبأة أسررتها، بل كم من معصية قد كنت نسيتها ذكرك الله إياها، وكم من مصيبة قد كنت أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها، فيا حسرة قلبك وقتها على ما فرطت في دنياك من طاعة مولاك، فتدبر هذه الآية: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68] ستعرضون على الله جل وعلا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً [مريم:93-95].
فيا أيها الحبيب! أكثر من ذكر هذا اليوم واستعد له بالعمل الصالح؛ بالقرب من الله جل وعلا، وبالبعد عن المحرمات والمعاصي والذنوب، واعلم بأن أقرب غائب تنتظره هو الموت فإن العبد إذا مات قامت قيامته، يسأل في هذا القبر الضيق: عن ربه، ونبيه، ودينه.
فيا أيها الحبيب الكريم! أذكر نفسي وإياك بالعمل والاستعداد الجاد لهذا اليوم العظيم: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6].. يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89].
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور |
إذ كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تصير |
وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور |
وإذا الجبال تقلعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسير |
وإذا العشار تعطلت وتخربـت خَلتِ الديار فما بها معمور |
وإذا الوحوش لدى القيامة أحشرت وتقول للأملاك أين نسير |
وإذا الجليل طوى السما بيمينه طيَّ السجل كتابه المنشور |
وإذا الصحائف نشِّرت وتطايرت وتهتكت للعالمين ستور |
وإذا الجنين بأمه متعلق يخشى القصاص وقلبه مذعور |
هذا بلا ذنب يخاف جناية كيف المصر على الذنوب دهور |
وإذا الجحيم تسعرت نيـرانها ولها على أهل الذنوب زفير |
وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت لفتىً على طول البلاء صبور |
قال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68] أسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لطاعته، وأن يوفقنا وإياكم للاستعداد الجاد لهذا اليوم العظيم، يوم نقوم لرب العالمين، وأسأل الله أن يختم لي ولكم بخاتمة التوحيد، وأن يحشرنا وإياكم في زمرة الموحدين، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر