فحياكم الله جميعاً أيها الأحبة، وطبتم وطاب ممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا، الذي جمعنا وإياكم في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعني وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة والمصطفى في جنته إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله: إننا الليلة على موعد في هذه اللحظات مع محاضرة تحتاج إلى وقت طويل، إننا الليلة على موعد مع هذه التبعة الثقيلة، والأمانة الكبيرة، والمسئولية العظيمة، ألا وهي تبعة الدعوة إلى الله عز وجل، الذي شرف الله جل وعلا بها الأنبياء والمرسلين، وجعلها وظيفة باقية في خير أمة أرسلت للناس، فالدعوة إلى الله جل وعلا هي أشرف عمل على ظهر الأرض، ولم لا وهي دعوة أنبياء الله ورسله: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33] إنها وظيفة الأنبياء، ووظيفة المرسلين، وقد امتن الله عز وجل على لبنة تمامهم ومسك ختامهم وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم؛ فجعل هذه الوظيفة في أمته إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ففي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا وكان له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل).
فما من نبي إلا وله أنصار، وحواريون وأصحاب، يحملون راية دعوته، ويتحركون بها معه في حضوره وبعد وفاته، وقد شرف الله عز وجل هذه الأمة فنقل إليها وظيفة الأنبياء والمرسلين، ومن ثم شهد الله سبحانه وتعالى لها بالخيرية؛ فشهادة الله بالخيرية لهذه الأمة -أيها الأحبة- لم تكن اعتباطاً ولم تكن من فراغ، وإنما لأن هذه الأمة قد حملت راية الدعوة إلى الله، وتحركت لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ولتعلن على مدى الزمان والمكان إيمانها بالله جل وعلا، قال سبحانه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه [آل عمران:110].
والدعوة إلى الله عز وجل الآن -كما قال أكثر علمائنا- فرض عين وليست فرض كفاية؛ وذلك لكثرة المنكرات، ولقلة الآمرين بالمعروف، ولتحرك أهل الباطل لباطلهم بكل السبل والوسائل، فأصبحت الدعوة إلى الله الآن فرض عين على كل مسلم ومسلمة، كل على حسب استطاعته وعلى حسب مقدرته.
وأنا أود أن يفرق الأحبة بين أمرين: بين طلب العلم الشرعي، وبين الدعوة إلى الله، فكثير من الأحبة الكرام يتقاعس عن الدعوة إلى الله جل وعلا بحجة أنه لا زال يطلب العلم! وأنا أقول: من قال لك بأن طلبك للعلم سينتهي عند فترة من فترات العمر، إن طلب العلم لا ينتهي ما دمت في هذه الحياة، رأى أحد الناس إمام أهل السنة الإمام أحمد رحمه الله تعالى يحمل المحبرة بين يديه يوماً من الأيام، فتعجب هذا الشيخ، وقال: يا إمام، وصلت إلى ما وصلت إليه ولا زلت تحمل المحبرة! فقال الإمام أحمد : مع المحبرة إلى المقبرة.
فطلب العلم لا ينتهي، ولم لا، ولا يزال الأمر الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم ممتداًً إلى قيام الساعة: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114]! فلا بد أن نفرق بين طلب العلم الشرعي الذي لا ينتهي عند فترة من الفترات، وبين التحرك في الدعوة إلى رب الأرض والسماوات، كل بحسب قدرته واستطاعته؛ لقول النبي، بل وإن شئت فقل: لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، والأمر في هذا الحديث للوجوب لا للندب، إذ لم تأت قرينة تصرف الأمر من الوجوب إلى الندب.
والحديث رواه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو ، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (بلغوا عني ولو آية) فكم تحفظ -أيها المبارك- من الآيات؟ وكم تحفظ من الأحاديث؟! (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).
أنا لا أختلف معك أنك تحمل في قلبك هموماً كثيرة، فهذا يحمل هم الوظيفة، وهذا يحمل هم البيت، وهذا يحمل هم الأولاد، وذاك يحمل هم المال ... إلخ، لا بأس على الإطلاق، لكن فتش في قلبك ما هو أول هم تحمله؟ هل هو هم الدعوة؟! هل هو هم الدين؟! هل هو هم هذه الأمة المسكينة التي تشرذمت وذلت الآن للذليل قبل العزيز، وللقاصي قبل الداني، وللضعيف قبل القوي؟!
فكر في هذه الدعوة .. هل فكرت في أن تدخر جزءاً من مالك لتستغل هذا المال في الدعوة إلى الله إن عجزت أنت أن تتحرك بلسانك؟ فإن الدعوة إلى الله لا تقتصر على الدعاة والعلماء، بل لولا أن الله قد سخر شباباً هنا ما سمعتم مثل هذه الكلمات، وهؤلاء جنود، هؤلاء الإخوة الكرام في مركز الشباب هم الذين قاموا على أمر الدعوة، وهم الذين تكلفوا لتسمعوا دعوة الله عز وجل، فهذه دعوة، وهذا الذي أخذ إعلاناً لمحاضرة ووضعه في مسجد دعوة، وهذا الذي دعا أخاه، أو دعا زوجته، أو دعا ابنته ليحضر ليكثر سواد المسلمين، هذه دعوة، وهذا الذي طبع مائة أو ألف شريط، وتحرك على سائقي السيارات ودفع إليهم الأشرطة ليبلغوا دين الله، قد شارك في الدعوة، فلا تحقرن من المعروف شيئاً، فمن رحمة الله سبحانه أن فتح لنا من المعروف أبواباً كثيرة؛ ليتحرك كل مسلم على قدر استطاعته، وعلى قدر طاقته لدين الله عز وجل.
ولكن الذي ينبغي أن نفجره في القلوب، هو أن ينام كل مسلم ليفكر في دين الله وفي دعوة الله، لا تنم ملء عينك، ولا تأكل ملء بطنك، ولا تضحك ملء فمك وأنت منشغل عن دين الله، وعن دعوة الله، وكأن الأمر لا يعنيك، والله لتسألن عن هذا الدين: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع ...) ستسأل عن كل هذه النعم .. عن الأموال، وعن العمر، وعن الصحة، وستسأل عن كل هذه النعم بين يدي الله عز وجل، وفي قبرك ستسأل عن هذا الدين .. من ربك؟ من نبيك؟ ما دينك؟ فهل ستستطيع أن تجيب وتقول: ديني الإسلام وأنت ما بذلت لدين الله! وأنت ما تحركت لدعوة الله! وأنت ما أنفقت الوقت والجهد والمال والطاقات الهائلة التي منَّ الله بها عليك لدعوة الله؟!
كانوا إذا أرادوا أن يأتوا بالماء مروا على من يسكن الطابق الأعلى، فكأنهم تضايقوا من أذاهم للآخرين، فقالوا: (لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ من فوقنا) ما الذي يمنع أن نخرق في قاع السفينة خرقاً ونأخذ الماء مباشرة من قاع البحر، ولا نمر على من فوقنا ونؤذيهم بمرورنا؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً).
فنحن جميعاً -أيها الأحبة- ركاب سفينة واحدة، ينبغي أن يبذل كل واحدٍ منا على قدر استطاعته، لأننا نلحظ في الأمة سلبية قاتلة وسلبية مدمرة، أخرت الأمة سنوات طويلة، بحجة مفهوم أو فهم مغلوط لآية محكمة من كتاب الله، ألا وهي قول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] كثير من الأحبة يردد الآن هذه الآية، ويقول: ما شأني بضلال الضلال، إذا كنت أنا على طريق الكبير المتعال، وعلى طريق منهج سيد الرجال، لا ينفعني ولا يضرني!! لا. لقد خاف الصديق الأكبر رضي الله عنه يوماً من هذه السلبية القاتلة، ومن هذا الفهم المغلوط لهذه الآية، فارتقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وقال: (أيها الناس! إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه؛ أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده) وفي لفظٍ صحيحٍ آخر: (إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده -وفي لفظ- ثم يدعونه فلا يستجاب لهم) والحديث رواه أصحاب السنن وأحمد وهو حديث صحيح.
فينبغي أن يبذل كل واحد منا على قدر استطاعته لدين الله جل وعلا.
لا نريد أن نتعصب تعصباً بغيضاً أعمى للجماعات، وأن أجعل كل همي الجماعة، أدعو إليها وأوالي وأعادي عليها، هذا من العقبات الكئود التي تؤخر العمل الإسلامي الآن، إنما السبيل أيها الأحبة: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية طيب الله ثراه: "وليس لأحد أن ينصب للأمة شخصاً يدعو إلى طريقته، ويوالي ويعادي عليها غير النبي صلى الله عليه وسلم". لا ينبغي أن نرفع شخصاً من الشيوخ أو من العلماء، لنوالي ونعادي عليه، لنلقي السلام على من جلس بين يديه، ولنغض الطرف عمن فارق مجلسه، هذا لا يليق، إنما يجب أن يكون ولاؤنا وبراؤنا لله جل وعلا، لا لشخص من الأشخاص ولا لجماعة من الجماعات، ولا لمنهج يخالف منهج الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ورد في الحديث الطويل الذي رواه البخاري من حديث أبي هريرة، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (طوبى لعبد آخذٍ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استشفع لم يشفع له، وإن استأذن لم يؤذن له)، رجل مطموس، لا يزعجه أين مكانته بين الدعاة إلى الله، هل هو في الصدارة بين صفوف القادة، أم في المؤخرة بين صفوف الجند، ما دام على طول الطريق يعمل لله جل وعلا .. لا يزعجه أن يشير إليه الإعلاميون والصحفيون أو لا يشيروا، لأنه لا يريد طبلاً أو مزماراً إعلامياً أو سياسياً، إنما يريد أن يرضي ربه جل وعلا، في سبيل الله لا يبتغي إلا رضاه.
واعلم أن من أوائل من تسعر بهم النار يوم القيامة عالم وقارئ للقرآن، والحديث رواه مسلم من حديث أبي هريرة .. لماذا؟ لأنه لم يبتغ بعلمه أو قراءته وجه الله، هؤلاء هم أهل الرياء والكذب، وإن زوروا في الدنيا أنهم يعملون من أجل الله، إلا أن الله جل وعلا يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، انظروا إلى هذا الدرس من دروس التجرد لله، لأنني أعلم علماً يقيناً أن الله لن ينصر الأمة إلا بمثل هذه القلوب المتجردة، التي تخلص عملها ودعوتها لله جل وعلا.
لما ولى الصديق -أيها الأخيار الكرام- خالد بن الوليد قيادة الجبهة في بلاد الشام ، على أمين الأمة أبي عبيدة بن الجراح -انتبه ماذا قال الصديق لـأبي عبيدة - أرسل له رسالة ليقول له فيها: [بسم الله الرحمن الرحيم، من خليفة رسول الله إلى
يا إخوة: ينبغي ألا يزعجنا من سيرفع الراية إن كانت الراية سترفع، ينبغي ألا نخاف على لسان من ستقال كلمة الحق ما دامت ستقال، يرفع الراية أبو عبيدة فلترفع، وليقف خالد إلى جانبه ليعينه إن كلَّ أو مل، يقول الحق أبو عبيدة فليقل، نريد إخلاصاً لله: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ [يوسف:108] وأنت عندي خير منه، لكنه في الموطن المناسب هو رجل ساعة، أراد الله بنا وبك خيراً والسلام.
انظر إلى عظمة أبي عبيدة، هل قال أبو عبيدة : لن أطيع أمر الخليفة ومعي الجيش، وإنما تنازل على الفور عن القيادة، ليصبح أبو عبيدة جندياً مطيعاً بعد أن كان بالأمس القريب قائداً مطاعاً، وانظر إلى عظمة خالد هو الآخر، يتلقى الأمر من خليفة رسول الله فيرسل خالد بن الوليد رسالة إلى أبي عبيدة ليقول فيها: [بسم الله الرحمن الرحيم، من خالد بن الوليد إلى أخيه الأمين أبي عبيدة بن الجراح ، سلام الله عليك وبعد: فإني قد تلقيت أمر خليفة رسول الله، يأمرني فيه بالسير إلى بلاد الشام ، والقيام على جندها، والتولي لأمرها، والله ما طلبت ذلك وما أردته -والله ما أردت هذا ولكنه الإخلاص لله، إنه التجرد- فأنت في موضعك الذي أنت فيه يا أبا عبيدة لا نقطع أمراً دونك، فأنت سيدنا وسيد المسلمين، أراد الله بنا وبك خيراً، والسلام].
وهذه هي النقطة الثالثة: منهج الدعوة هو منهج أنبياء الله جل وعلا، وهو الحكمة؛ فما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه.
ووالله يا إخوة! لقد قرأنا التاريخ فما وجدنا على طول الخط إلا أن العنف يهدم ولا يبني، ويفسد ولا يصلح، والشدة تدمر ولا تعمر، فينبغي أن نتحرك، نحن لا نملك الآن إلا أن نحرك القلوب بكلام علام الغيوب، وكلام الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلم، أما أن يهتدي الناس أو لا فليس هذا من وظيفتك ولا من شأنك .. أما أن نحكم على الناس بجنة أو نار، ليس من شأنك وليس من شغلك: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ [الرعد:7] هذا خطاب الله لسيد الدعاة عليه الصلاة والسلام: وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [العنكبوت:18] وإن لم تفعل فما بلغت رسالته .. لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272].
ما عليك إلا أن تتحرك بالدعوة خالصاً لله، أما أن يهتدي الناس أو لا يهتدون فهذا ليس من شغلنا ولا من شأننا، هذا هو شأن الملك الذي يملك القلوب بين يديه جل وعلا، ووالله لو استطاع داعية على ظهر الأرض أن يهدي أحداً من أقرب الناس إليه؛ لاستطاع سيد الدعاة أن يهدي عمه أبا طالب الذي كان حجر عثرةٍ وسدٍ منيع لسيوف المشركين في مكة .
دخل عليه وهو على فراش الموت -والحديث في الصحيحين - وعنده بعض المشركين، فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: (يا عماه! قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله يوم القيامة، فقال له أهل الشرك: أترغب عن ملة
انظروا إلى هذا المشهد العصيب الرهيب، ما استطاع النبي أن يهدي عمه، فما عليك إلا أن تتحرك بهذا المنهج الذي ما تركه الله ليجتهد فيه كل داعية كيف شاء! لا، المنهج محدد وواضح، معالمه بينه. أمر من الله إلى سيد الدعاة: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125].
يقول الإمام ابن القيم في كتابه القيم إعلام الموقعين : "ولقد شرع النبي لأمته إيجاب إنكار المنكر؛ ليحصل من المعروف ما يحبه الله ورسوله -وتنبه معي لهذه الكلمات الدقيقة- ولقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته إيجاب إنكار المنكر؛ ليحصل من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإن كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه، فهو أمر بمنكرٍ وسعي في معصية الله ورسوله، وإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، سيقول الشاب المتحمس: هذا كان في مكة في مرحلة الضعف! اصبر وتدبر ما قاله الإمام ابن القيم ، يقول: ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرى في مكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله عليه مكة ، وصارت مكة دار إسلام، وعزم النبي صلى الله عليه وسلم على هدم البيت ورده على قواعد إبراهيم، لم يفعل ذلك مع قدرته على فعل ذلك؛ لأن قريشاً كانت حديثة عهد بكفر وقريبة عهد بإسلام. إنها الحكمة، فما هي الحكمة؟
والتعريف لـابن القيم في المدارج في كتابه المدهش، يقول: الحكمة هي قول ما ينبغي، أو فعل ما ينبغي، في الوقت الذي ينبغي، على الوجه الذي ينبغي.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم -والحديث رواه البخاري من حديث معاوية -: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) قال الحافظ ابن حجر : يفقهه في الدين أي: يفهمه.
فلا بد من الفهم الصحيح والدقيق، لتتحرك لدعوة الله ودينه عز وجل على بصيرة.
أيها الأحبة: إن الدعوة أكبر من الدعاة، وإن الدعوة أبقى من الدعاة، والدعاة يجيئون ويذهبون ويموتون وتبقى الدعوة خالدة على مر الأجيال والقرون، فليكن ولاؤنا لدين الله ودعوته لا لأشخاص الدعاة، فينبغي أن نتحرك لنؤصل المنهج في القلوب، ولنربط الناس بمنهج علام الغيوب، ومنهج الحبيب المحبوب صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ حتى إذا ما مات داعية، أو سافر أو تحرك يبقى الناس مرتبطين بالمنهج؛ بمنهج الله سبحانه وتعالى.
ولذلك لما تعلق الصحابة بالنبي صلى الله عليه وسلم تعلقاً جعل البعض منهم يلقي السلاح في غزوة أحد، بعد ما أشيع الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، وألقى بعض الصحابة السيوف وقالوا: وماذا نفعل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ومن نقاتل؟ لقد انتهى أمر هذا الدين، فأراد الله أن يربيهم وأن يعلمهم هذا الدرس العظيم، فنزل قول الله جل وعلا: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144].
أيها الأحبة الكرام: فكروا في همِّ الدين وفي دعوة الله، وليفكر كل واحد منكم الآن: ماذا أقدم لدين الله، ولدعوة الله؟ وماذا يجب عليه أن يبذله وأن يقدمه وأن يفعله.
أيها الأحبة: لقد خلقنا الله سبحانه وتعالى لهذه الغاية ولهذه الوظيفة: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] فعليك أن تعيش لهذا الهدف ولهذه الغاية، وأن تحمل هذا النور الذي منَّ الله به عليك، وأن تتحرك به إلى غيرك من الناس، لعل الله أن يهدي بك رجلاً: (فلأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم).
أسأل الله جل وعلا أن يشرفنا وإياكم بالعمل لهذا الدين, وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يجعلنا وإياكم من أنصار وحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر