وبعــد:
أيها الإخوة في الله: يدور الزمان دورته، وتمر الليالي والأيام، ويعود إلينا شهر رمضان، فرصة يتيحها الله للمؤمنين، وتمديد في الأعمار، وتأجيل للآجال، وقد يأتي رمضان ونحن في عالم آخر؛ في عالم الأموات، كما صنع بغيرنا من الناس، فكم من أسرة كانت -في رمضان الماضي- ترى يد رب الأسرة وهي تمتد إلى الطعام في وجبة الإفطار والعشاء والسحور، افتقدت هذه اليد في هذا الشهر، وكم من أسرة افتقدت يد الأم وافتقدت يد الولد وافتقدت يد البنت، وما حصل للناس يمكن أن يحصل لنا، وما لم يحصل لنا في هذا العام فقد يحصل لنا في العام القادم، والخاسر هو الذي يفوت مثل هذه الفرص، كما سمعتم قول الله عز وجل : قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [الأنعام:31].
أما آن للإنسان أن يتوب -أيها الإخوة!- إلى متى وهو يتعاقب عليه الليل والنهار وهو يسير إلى النار؟! لماذا يقطع رحلة المصير والنار إلى جهنم؟! يقول عز وجل : أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16].
أنت تسير يا أخي! ولا تدري أنك راكب على مطية الليل والنهار وهي تنزل بك في منازل الآخرة وأنت لا تشعر، فهل الأولى والخيار المناسب لك أن تنتقل عبر مطايا الليل والنهار إلى السعادة والفوز والفلاح والنجاح، أم إلى الشقاء والدمار والهلاك؟ لا خيار لك، فالخيار الأفضل والبديل الأمثل أن تستجيب لداعي الله، يقول الله عز وجل : وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً [الأحزاب:36].
ما لك خيار في الجنة والنار، لا بد لك -وقد قضى الله عز وجل- أن تعبده، يقول عز وجل: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الإسراء:23] فما دام قضى الله أن تعبده -وليس لك خيار فيما قضى الله- فلا بد أن تستجيب، والذي لا يستجيب ويأبى إلا أن يركب رأسه ويسير إلى النار، فهذا يقول الله فيه: وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ [لقمان:23] ويقول عز وجل: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [المرسلات:46] ويقول: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:3] ويقول عز وجل: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية:25-26].
هذه الأيام مطايا
أين العدة قبل المنايا؟
أين الأنفة من دار الأذايا؟
أين العزائم أرضيتم بالدنايا؟
إن بلية الهوى لا تشبه البلايا
إن خطيئة الأحرار لا كالخطايا
يا مستورين!! ستظهر الخفايا
سرية الموت لا تشبه السرايا
قضية الزمان لا تشبه القضايا
ملك الموت لا يعرف الوساطة ولا يقبل الهدايا
أيها الشاب! ستسأل عن شبابك
أيها الكهل! تأهب لعتابك
أيها الشيخ! تدبر أمرك قبل سد بابك
يا مريض القلب! قف بباب الطبيب
يا منحوس الحظ! اشك فوات النصيب
لذ بالجناب ذليلاً
وقف على الباب طويلاً
واستدرك العمر قبل رحيله وأنت بداء التفريط عليلاً
إخواني! أين من أدرك مقامات المقبولين؟
أين من خفت مطاياه خلف المشمرين؟
أين من تأهب لأفزاع يوم الدين؟
أين من اتصف بصفات أهل اليقين؟
لله در نفوس تطهرت من أدناس هواها
وتدرعت بلباس الصبر عن عاجل دنياها
فرضي الله عنها وأرضاها
سهرت تطلب رضى المولى
فرضي عنها وأرضى
يا من عليه نذر الموت تدور
يا من هو مستأنس في المنازل والدور
لا بد من الرحيل إلى دار القبور
والتخلي عما أنت به مغرور
غرك والله الغرور
بجنون الخداع والغرور
يا مظلم القلب وما في القلب نور
الباطن خراب والظاهر معمور
إنما ينظر إلى البواطن لا إلى الظهور
لو تفكرت في القبر المحفور
وما فيه من الدواهي والأمور
كانت عين العين منك تدور
يا من يجول في المعاصي قلبه وهمه
يا معتقد صحته فيما هو سقمه
يا من كلما زاد عمره زاد إثمه
يا طويل الأمل! وقد دق عظمه
يا قليل العبر وقد تيقن أن اللحد عما قليل يضمه
أما وعظك الزمان وزجرك ملمه
وقيل لـابن مسعود رضي الله عنه: [لا نستطيع قيام الليل، قال: قيدتكم خطاياكم].
قال الأصمعي: خرجت حاجاً إلى بيت الله الحرام وزيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا أطوف حول الكعبة الشريفة في الليل وكانت ليلة قمراء، إذ أنا بصوت حزين، فاتبعت الصوت فإذا أنا بشاب حسن الوجه ظريف الشمائل عليه أثر الخير، وهو متعلق بأستار الكعبة، وهو يقول: إلهي وسيدي ومولاي، غارت النجوم ونامت العيون وأنت ملك حي قيوم، إلهي أغلقت الملوك أبوابها، وقامت عليها حجابها، وبابك مفتوح للسائلين، وها أنا سائل واقف مذنب ببابك مسكين ثم قال في أبيات له:
يا من يجيب دعا المضطر في الظلم يا كاشف الضر والبلوى مع السقم |
قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا وأنت يا حي يا قيوم لم تنم |
أدعوك ربي حزيناً راجياً فرجاً فارحم بكائي إله البيت والحرم |
أنت الغفور فجد لي منك مغفرة واعطف عليَّ بفضل الجود والكرم |
إن كان عفوك لا يرجوه غير تقي فمن يجود على العاصين بالنعم |
قال: ثم رفع رأسه إلى السماء وهو يقول: إلهي وسيدي ومولاي أطعتك بمنتك فلك الحمد عليَّ، وعصيتك بجهلي فلك الحجة عليّ.
قال الأصمعي: فكان يردد هذا الكلام حتى وقع على الأرض مغشياً عليه، قال: فدنوت منه ورفعته فإذا هو زين العابدينعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، قال: فرفعت رأسه فإذا هو يبكي، فبكيت لبكائه فوقعت قطرتان من دموعي على خده فأفاق.
وقال: من هذا الذي شغلني عن ذكر مولاي؟.
فقلت: أنا الأصمعي، فما هذا البكاء وما هذا الجزع، وأنت من أهل بيت النبوة أليس الله يقول: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب:33].
قال: هيهات هيهات يا أصمعي، إن الله خلق الجنة لمن أطاعه وإن كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه وإن كان حراً قرشياً، أما سمعت قول الله عز وجل: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [المؤمنون:101-102] يعني: بالعمل الصالح فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون:101-104].
إخواني: هذه الحياة منهل يرده الناس كلهم ويختلفون فيما يردون ويريدون: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ [البقرة:60].
فالمحب لربه يتلذذ بمناجاة محبوبه.
والخائف على ذنبه يتضرع بين يدي مولاه ويبكي على ذنوبه.
والراجي يلح في سؤال مطلوبه.
والغافل المسكين أحسن الله عزاءه في حرمانه وفوات نصيبه.
إذا تذكر الإنسان هذا؛ فإنه لا بد له من أن ينظر في خلاصه، وأن يراجع نفسه، وأن يقف وقفات جازمة مع هذه النفس، ليعرف أين هي؟
وما مركزه الإيماني؟
وما مكانته عند الله؟
أين هو من أوامر الله؟
أين هو من نواهي الله؟
ما علاقته بكتاب الله؟
ما صلته ببيوت الله؟
كيف هو في عينه إذا نظرت؟
كيف هو في أذنه وما سمعت؟
كيف هو في لسانه وما نطقت؟
كيف يده وما بطشت؟
كيف رجله وأين سارت؟
كيف بطنه وما أكلت؟
كيف فرجه وأين وفع؟
محاسبة حازمة جادة مع هذه النفس؛ لأنه إن لم يفعل هذا فقد خسر، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
روى أبو نعيم والحاكم أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه شيع جنازة من أهله، ثم أقبل على الناس فوعظهم وذكرهم بالموت، وذكر الدنيا وتنعمهم بها، وما سيصيرون إليه بعد الموت، من ظلمات القبور، وكان من كلامه رحمه الله أنه قال: إذا مررت بالمقابر فنادهم إن كنت منادياً، وادعهم إن كنت داعياً، ومر بعسكرهم وانظر إلى تقارب منازلهم، سل غنيهم ما بقي من غناه، وسل فقيرهم ما بقي من فقره، وسل عن اللسان الذي كانوا به يتكلمون، وعن الأعين التي كانوا بها إلى الحرام ينظرون، وسلهم عن الجلود الرقيقة والوجوه الحسنة والأجساد الناعمة ما صنعت بها الديدان، محت الألوان، وأكلت اللحمان، وعفت الوجوه، ومحت المحاسن، وأبانت الأعضاء، وأخرجت الأشلاء.
أين حجابهم وكيانهم؟
أين خدمهم وعبيدهم؟
أين جمعهم وكنوزهم؟
والله ما وضعوا لهم في القبر فراشاً، ولا وضعوا معهم هناك مسكاً، ولا غرسوا لهم هناك شجراً، ولا أنزلوهم من اللحد قراراً، أليسوا في الخلوات، أليسوا في الظلمات، أليس الليل عندهم والنهار سواء؟ أليسوا في مدلهمات ظلماء، قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة والأهل، وأصبحوا ووجوههم بالية، وأجسادهم عن أعناقهم بائنة، وأوصالهم متفرقة، وقد سالت الحدق على الوجنات، وامتلأت الأفواه صديداً، ودبت دواب الأرض في أجسادهم، وتفرقت أعضاؤهم، ثم لم يلبثوا حتى أصبحت العظام رميماً، قد فارقوا الحدائق والبساتين، وساروا بعد السعة في الضيق، تزوجت نساؤهم، وترددت في الطرقات أولادهم، وتوزعت القرابات ميراثهم، فمنهم والله الموسع له في قبره، ومنهم من هو في حفرة من حفر النار والعياذ بالله؟
مر علي بن أبي طالب على مقبرة فسلم على القبور وقال: [يا أهل المقابر! أما الديار فقد سكنت، وأما الأموال فقد قسمت، وأما الزوجات فقد تزوجت، هذه أخبارنا فما أخباركم؟ ثم بكى وقال: والله لو تُركوا لقالوا: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197]].
يا ساكن القبر غداً ما الذي ضرك من الدنيا؟
هل تعلم أنها تبقى لك أو تبقى لها؟
أين دارك الفيحاء؟
أين قصرك الواسع؟
أين سيارتك الفارهة؟
أين ثمارك اليانعة؟
أين رقاق الثياب؟
أبن الطيب والبخور؟
أين كسوتك في الصيف والشتاء؟
أما والله وقد نزل الأمر فما يدفعه عنك أحد، وخلا الوجه يرشح عرقاً، ويتلمظ عطشاً، ويتقلب في سكرات الموت، جاء الأمر من السماء، وجاء طالب القدر والقضاء، فهيهات هيهات!!
يا مغمض الوالد والولد وغاسله!
يا مكفن الميت وحامله!
يا تاركاً له في القبر وراجعاً عنه!
ليت شعري كيف كنت على خشونة الثرى، ومتى ستكون أنت المحمول؟
كم حملت من الأموات؟
ومتى تكون أنت المحمول؟
كم سمعت من الأخبار عن الأموات؟
ومتى ستكون أنت الخبر بالموت؟
كم تركت في القبور من الأموات؟
ومتى ستكون أنت المتروك في القبر ويذهب الناس إلى بيتك؟
لا إله إلا الله أيها الإخوة في الله!! ما أغفلنا عن ذلك المصير، لا حول ولا قوة إلا بالله.
أما والله لو علم الأنام لما خلقوا لما هجعوا وناموا |
لقد خلقوا لأمر لو رأته عيون قلوبهم تاهوا وهاموا |
ممات ثم قبر ثم حشر وتوبيخ وأهوال عظام |
ليوم الحشر قد عملت رجال فصلوا من مخافته وصاموا |
ونحن إذا أمرنا أو نهينا كأهل الكهف أيقاظ نيام |
من خلق فقد ورط، وليس له من مخرج إلا مخرج واحد، المال ليس مخرجاً، فقد رأينا أرباب الأموال يوم أن ماتوا كيف سلبوا أموالهم، لم تغن عنهم أموالهم شيئاً، قارون جمع الأموال، قال الله عنه: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ [القصص:81] ما نفعته أمواله، وليس المنصب والجاه والرتبة والمكانة والوظيفة بديل ولا مخرج، فقد رأينا أصحاب المناصب والرتب كيف يموتون ويخلسون من مناصبهم، ويودعون في الحفر المظلمات، وليست الزوجات ولا الأولاد ولا البنات ولا الريالات؛ ليست كل هذه مخارج من ورطة الحياة، المخرج من ورطة الحياة الإيمان بالله والعمل الصالح، يقول عز وجل: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ:37].
أموال وأولاد لا تنفع كلها، حتى الكفن الذي تخرج به من الدنيا لا ينفعك في الآخرة، هل ينفع الكفن؟ لو ينتفع الإنسان بالكفن لتكفن الأثرياء في أكفان من ذهب، لكن الكفن يواري عورتك إلى أن تدس في القبر، ثم تحل الأربطة ويتحلل في التراب ولا تنتفع به، سواء جديداً أو قديماً، ولهذا يقال: إن أبا بكر الصديق لما جيء له بكفنين نظيفين جديدين قال: [أعطوها الأحياء وهاتو لي كفناً بالياً، قالوا: لم يرحمك الله؟ قال: إن كنت على خير فعند الله أفضل منه، وإن كنت على شر فما يغني هذا الجديد شيئاً]. تكفنت في جديد أو قديم لا ينفع شيئاً، ما الذي ينفعك؟ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً [سبأ:37] فقط.
هل وطنا أنفسنا على هذا المخرج أيها الإخوة؟
هل نحن مرتبون أوضاع حياتنا على أن نعيش لهذا الغرض؟
هذه هي الوظيفة الرئيسية لنا في هذه الحياة، وقد وضحها الله في محكم التنـزيل بقوله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] هذا هو الغرض من خلقك ووجودك على ظهر هذه الحياة؛ أن تعبد الله، أن تؤمن بالله، أن تعمل الصالحات، وما تعمله من وظائف أخرى كلها مسخرة لخدمة هذا الغرض، فتأكل لتعبد الله، وتشرب لتعبد الله، وتتزوج لتعبد الله، وتنجب الولد ليعبد الله، وتتوظف لتعبد الله، وتنام لتعبد الله، وتستيقظ لتعبد الله، كل حياتك تسخرها من أجل الغرض الرئيسي الذي من أجله خلقك الله عز وجل.
هذا هو الهدف، لماذا؟ لأنه هو المخرج لك، ليس المخرج لك غير هذا أبداً بأي حال من الأحوال، ولما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأمة، وكانت تعيش في دياجير الجهل والشرك والظلم والبعد عن الله عز وجل، وأخبر الناس أنه جاء لإنقاذهم وقال لهم: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، عرفوا معنى هذه الكلمة، وعرفوا أن مضمون الكلمة يشمل ويغطي جميع حياتهم، ولم يفهموها كلمة مجردة، أو كلمة عارية عن المعنى، لا. بل فهموها على أنها كلمة تشمل حياتهم كلها وتغطي مسار حياتهم كله، في الليل والنهار، في السر والجهار، في البيت والمكتب والمزرعة وفي كل مكان.
لا إله إلا الله تحكم العين فلا تنظر إلى ما حرم الله.
لا إله إلا الله تحكم اللسان فلا يتكلم به فيما حرم الله.
لا إله إلا الله تحكم الأذن فلا تسمع ما حرم الله، وتحكم الفرج فلا يطأ ما حرم الله، وتحكم البطن فلا ينـزل فيه ما حرم الله، وتحكم اليد فلا تبطش فيما حرم الله، وتحكم الرجل فلا تسير حرم الله.
لا إله إلا الله؛ لا مطاع إلا الله، ولا معبود إلا الله، ولا مرجو إلا الله، ولكن لما قالوا هذه الكلمة قدموا البراهين عليها، فأُخرجوا من ديارهم ولا أحد يتصور أنه يخرج من بيته منهم.
حتى النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من بعد أن أوحي إليه ودخل على خديجة رضي الله عنها وأخبرها بالخبر وقال: (زملوني). يعني: غطيني، كان في حالة نفسية صعبة، إذ نزل عليه الوحي بأمر لم يكن يتوقع -فكان في حالة نفسية- فقال لها: ما حدث له فقالت: والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتقري الضيف، وتعين على نوائب الدهر والله لا يخزيك الله] ثم ذهبت إلى ورقة بن نوفل ابن عمها وأخبرته، فدعا النبي وقال: (إنه الناموس الذي نزل على موسى وعيسى -يعني: إنه الوحي الذي ينـزل على الأنبياء- ليتني كنت فيها جذعاً أنصرك نصراً مؤزراً إذ يخرجك قومك، قال: أومخرجي قومي؟!! -أمعقول يخرجونه وهم يحبونه وهو الأمين عندهم- قال: إنه ما جاء نبي قومه بمثل ما تأتي به إلا أخرجوه قومه وآذوه، فقال: الله المستعان!).
فهم الصحابة هذا الفهم فقدموا التضحيات في سبيل هذا الدين، أُخرجوا من ديارهم وأموالهم، صهيب الرومي رضي الله عنه لما خرج من مكة مهاجراً وكانوا قد أقاموا حصاراً حول الفقراء من المؤمنين، لكن الأغنياء والأقوياء خرجوا عنوة مثل عمر خرج فقال: [الذي يريد أمه أن تبكي عليه فليلحقني في الوادي] وخرج في نصف النهار، لكن المساكين لا يقدرون، فأقاموا حراسة عليهم، فخرج يوماً صهيب رضي الله عنه إلى الخلاء ثم تأخر قليلاً حتى غفلوا عنه، ثم فر بدينه، فلما افتقدوه ركبوا الخيل وطاردوه ولحقوه على أطراف مكة، قالوا: جئتنا صعلوكاً والآن تريد أن تذهب، فخرج على دابة وأخرج قوسه ثم قال: [والله ما أضعها إلا في كبد واحد منكم، دعوني أفر بديني] قالوا: تفر بدينك لكن الأموال لا تأخذ منها شيئاً، قال: [أرأيتم إن دللتكم على مالي تدعوني؟] قالوا: نعم. فأعطاهم الذي معه ودلهم على الذي في مكة ثم خرج بنفسه، ونزل فيه قول الله عز وجل: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ [البقرة:207].
ولما قدم إلى المدينة رآه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (ربح البيع
من الناس الآن من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الشيطان، يشتري المجلة بعشرة ريالات: مجلة عارية ساخرة قذرة، ويشتري الفيلم بخمسين ريالاً ليفسد نفسه وزوجته وأولاده، ويشتري الدخان، ويشتري المعاصي والعياذ بالله، يحجز بآلاف الريالات ويأخذ أسرته بالكامل ليخرج إلى بلاد غير مسلمة من أجل ألا يسمع فيها الله أكبر، ولا يرى فيها بيوت الله، ولا يرى فيها داعي الله، لماذا؟
قلبه منكوس، يشري نفسه ابتغاء مرضاة الشيطان والعياذ بالله، أولئك الصحابة فهموا هذا الدين هذا الفهم، وقدموا التضحيات وعاشوا للإسلام وأُخرجوا وأوذوا، وكان منهم بلال الحبشي رضي الله عنه الذي كان يوضع على رمضاء مكة في الحر الشديد -وأرض مكة إذا كانت حارة لا يتحمل الإنسان أن يمشي بقدمه عليها- وهو عار من ثيابه، ثم يمرغ على الرمضاء التي مثل الجمر الأحمر، ثم توضع الحجارة المحماة على صدره ويسحب ويقلب عليها وهو يقول: أحد أحد، أحد أحد، أحد أحد.
وآل ياسر يعذبون بالنار ويكوون بالجراح ويأتي أبو جهل ويطعن سمية بنت خياط أم عمار بن ياسر رضي الله عنها أول شهيدة في الإسلام، يطعنها بالرمح في بطنها ويخرج من سوءتها ميتة، ويمر عليها النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (صبراً آل
ويخرجون إلى الحبشة ويطردون، ويخرجون مرة ثانية إلى الحبشة ويرجعون، ويخرجون إلى المدينة ويحبسون قبلها في الشعب ثلاث سنوات حتى أكلوا ورق الشجر، وفي بيعة العقبة لما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أهل المدينة -الأنصار- على البيعة قام أسعد بن زرارة وقال: (يا قوم! أتدرون على ما تبايعون؟ قالوا: بايعنا، قال: تبايعون على أن ترميكم العرب بقوس واحد، بايعتم على قطع الرقاب وعلى الخروج من الأموال وعلى ترك الأولاد والأهل فإما أن تصدقوا ولكم الجنة، وإما ألا تبايعوا ولكم عند الله عذر، فقام
وفعلاً -رضي الله عنهم وأرضاهم- أتموا البيعة، ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة استقبلوه، وتكالبت عليهم قوى الأرض وحوربوا.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم في معركة بدر متخوف من موقف الأنصار، ولما قال: (أيها الناس! ما تقولون؟ قال
عبد الله بن أنيس رضي الله عنه صحابي جليل لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم أن خالد بن سفيان الهذلي -رجل شرس من أشرس العرب قوي الجثة، كبير الرأس، شجاع من أشجع الناس- جمع حوله مجموعة من أشاوس القوم في الجزيرة العربية، وأعد لهم معسكراً في عرفات بجانب مكة، ودربهم على أعلى تدريب من أجل اقتحام المدينة وقتل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يخفي هذا الأمر ولا يخبر به أحداً، حتى يفاجئ الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الله أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لـعبد الله بن أنيس: (يا
اجتهد وصلى إيماءً إلى غير القبلة، ثم لما قرب منه أنكر ذلك الخبيث هذا الرجل وقال له: من الرجل؟ فأجابه عبد الله بن أنيس: رجل من العرب سمعت أنك تجمع لقتل هذا الرجل فأتيت لذلك -وهو صدق أنه جاء لذلك- فقال له: نعم. أتصحبنا؟ قال: نعم. أصحبك، فاستضافه تلك الليلة، ونام معه في الخيمة، ولما نام أخرج السيف من تحت الثوب وحز رقبته وقطع رأسه، ثم ربطه بحبل وأخذه على كتفه، وسرى من ليله، ونفذ المهمة حتى وصل إلى المدينة، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قتلته أفلح الوجه، ثم أخذ عصاه وأعطى
وكانت معه رضي الله عنه حتى مات، ولما مات وضعت بين كفنه وجلده ودفنت معه في قبره، ليلقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هؤلاء الصحابة الذين فهموا الدين حقيقة، فهموه أنه تشريف وتضحية وموت في سبيل الله، والله يقول: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ [البقرة:214] المؤيد بالوحي وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة:214] يكادون ييئسون من نصر الله، لماذا؟ تمحيص وامتحان، فالجنة غالية، وكيف تريد أن تدخل الجنة وأنت مقيم على المعاصي والملذات؟!! من الناس من تقول له: اترك الدخان يا أخي! قال: والله لا أستطيع.
سبحان الله! تنهزم أمام سيجارة، تريد الجنة وأنت عبد لسيجارة، من الناس من يقال له: اعف لحيتك، طبق سنة نبيك، قال: ما قدرت، سيقول الناس عني: إني مطوع، لا يتحمل كلمة مطوع في سبيل الله، لا يريد أن يقول له أحد: مطوع، لا إله إلا الله! قطعت الرقاب في سبيل الله وهذا لا يتحمل كلمة واحدة في سبيل الله، كيف يدخل الجنة بهذا القدر الضعيف من الإيمان وبهذا المستوى الهزيل من الاعتزاز الهزيل بدين الله عز وجل؟!!
حنظلة بن عامر الأسدي رضي الله عنه لما تزوج بزوجته وبنى بها وفي ليلة عرسه - وليلة العرس أسعد ليلة عند كل شاب، حتى إنه يأخذ إجازة من الدوام فلا يذهب ليداوم في ذلك اليوم، بل بعضهم يأخذ شهراً، فليلة العرس ليلة العمر كما يسمونها، لكن الصحابة ليلة العمر عندهم هي ليلة الجهاد في سبيل الله، ليلة إعلاء كلمة الله، ليلة نصرة هذا الدين، ولما بنى بها وفي آخر الليل سمع منادي الجهاد ينادي: يا خيل الله اركبي! يا خيل الله اركبي! فقام من على زوجته ولم يغتسل، لا يوجد وقت للاغتسال فالمعركة محتدمة، والسيوف مصلتة، والجياد متلاحمة، فركب حصانه ومعه سيفه واقتحم المعركة وقاتل حتى قتل، ضحى بزوجته وضحى بالدنيا كلها من أجل الله، ولما جيء في آخر النهار والصحابة يتفقدون القتلى، وإذا برأس حنظلة يقطر بالماء، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (والذي نفس محمد بيده لقد رأيت الملائكة تغسله في صحاف من ذهب بماء المزن بين السماء والأرض) ولما سألوا زوجته قالت: إنه خرج وهو جنب، ولا يدخل الجنة وهو جنب لا بد من التغسيل، لكن ما غسل بماء الدنيا بل غُسل بماء المزن، وما غُسل في صحاف الدنيا وحمامات الدنيا ولكن غُسل في صحاف من ذهب، وما غسلته أيدي أهل الدنيا ولكن غسلته الملائكة.
هل خسر شيئاً؟ خسر زوجة فربح اثنتين وسبعين حورية، الواحدة خير من الدنيا وما عليها، ليست الحورية بل شيلتها كما جاء في الأثر يقول: (نصيفها -يعني الشيلة- على رأسها خير من الدنيا وما عليها) ولو أنها في المشرق ومزكوم في المغرب لشم رائحتها، ولو بصقت في ماء البحر لجعلته عذباً، كبدها مرآته وكبده مرآتها، كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:58] هؤلاء الذين آمنوا بهذا الكلام ضحوا في سبيله.
يقومون من على زوجاتهم للموت وأنت لا تقوم من فراشك للمسجد، المسجد مكيف والطريق معبد ومضاء بالكهرباء وأنت آمن آكل شارب شبعان تسمع المنادي ينادي وأنت تقول: لا. النوم أحسن والنوم أفضل، لا إله إلا الله ما قمت تصلي فكيف تقوم للجهاد في سبيل الله عز وجل؟!! لا بد -أيها الإخوة!- من مراجعة للنفس فنسألها: من أين نبدأ؟ وهو موضوع الدرس.
أولاً: لا خيار لك في هذا الطريق، لا بد من طريق الإيمان.
ثانياً: لا مجال لك في تأخير التوبة؛ لأن التأخير مجازفة، والمجازفة خاسرة، فلا بد من التوبة من الآن؛ لأنك لا تعلم متى تموت، لو أننا نعلم متى نموت لكنا برمجنا الحياة بحيث إذا كان قبل الموت بيومين أو ثلاثة ضبطنا الأمور وتبنا، لكن من منا يضمن أنه يعيش هذه الليلة؟ لا ندري والله، والله يركبون السيارات ولا ينزلون منها، ويلبسون الثياب ولا يخلعونها، وينامون على الفرش ولا يستيقظون منها، ويركبون الطائرات ولا ينـزلون منها، كثر الموت، والموت آت لكل منا، والذي لا يموت اليوم يموت غداً والذي لا يموت غداً يموت بعده، فأنت لا خيار لك في أن تتوب الآن.
ثالثاً: تستشعر وتعرف وتفهم أن هذا الدين تضحية، هذا الدين دين امتحان وابتلاء، يقول الله تبارك وتعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2] ويقول الله عز وجل: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الكهف:7] الله خلقنا للابتلاء، والابتلاء صوره وأشكاله كثيرة من ضمن أنواع الابتلاء: الابتلاء بالتكاليف الشرعية، توحيد وعقيدة صافية خالية من الغش ومن الخداع ومن البدعة ومن الضلال ومن الشرك، وبعدها عبادة: صلاة.. صيام.. زكاة.. حج.. عمرة.. أمر بمعروف.. نهي عن منكر.. حب في الله.. بغض في الله.. قراءة لكتيب.. صلة للأرحام.. إحسان إلى الناس.. فعل الخيرات في كل مجال، هذه ابتلاءات وهذه الأعمال فيها مشقة وفيها كلفة، لكن كلفتها تنظيمية من أجل تنظيم حياتك -أيها المسلم!- عند الله عز وجل.
وابتلاك الله بشيء آخر وهو ترك المعاصي، فترك المعاصي نوع من الابتلاء؛ لأن المعاصي محببة إلى القلوب، شهوات مزينة وملمعة، زنا.. أغاني.. نوم عن الصلوات.. أكل ربا.. شرب خمور، هذه شهوات، والله ابتلانا بتحريمها، لماذا؟ ابتلاء، (ليعلم الله من يخافه ورسله بالغيب) وليعلم من يقف عند أوامره وينتهي عن نواهيه، حتى يكون أهلاً لدخول الجنة، ولهذا جاء في الحديث في الصحيحين قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (حفت النار بالشهوات، وحفت الجنة بالمكاره) فإذا تجاوزت المكاره وصبرت دخلت الجنة، وإذا اتقيت الشبهات والشهوات دخلت الجنة، أما إذا انهزمت أمام المكاره وضعفت، وانهزمت أمام الشهوات ووقعت، وقعت في النار والعياذ بالله.
فلا بد من توطين النفس على أن هذا الدين ابتلاء، ابتلاء بالأوامر وابتلاء بالنواهي، وابتلاء في الأموال، وابتلاء في الأعراض، وابتلاء في الأنفس، وابتلاء في كل شيء، يقول الله: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157].
والله يؤكدها بتأكيدات كثيرة: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) كم فيها من مؤكدات؟ بشيء من الخوف والجوع هذه كلها ابتلاءات لماذا؟ تمحيص من أجل أن يقول المؤمن: إنا لله، إذا ذهبت نفسي في سبيل الله فالنفس من الله، إذا ذهب مالي في سبيل الله فالمال مال الله، إذا مات ولدي فالولد من الله.
أم سليم لما مرض ولدها -رضي الله عنها وأرضاها- وكان محبوباً عند أمه وأبيه، ولما مرض مات ودخل أبو سليم قال: ما صنع الغلام؟ قالت: [هو أهدأ ما يكون -وصدقت؛ لأنه قد مات ولم يعد يتحرك- وغطته بغطاء ثم ذهبت وتجملت وتعطرت، وجاءت إليه وعرضت نفسها عليه حتى واقعها، فلما انتهى قالت له: أرأيت لو أن قوماً لديهم عارية لقوم آخرين، فجاء أهل العارية وطلبوها أيرجعونها أم يرفضون؟ قال: بل يردونها، قالت: احتسب ولدك عند الله عز وجل، إنه عارية قد أخذه الله، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون] ، ثم لما كان الصباح ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولما رآه ضحك وقال: (بارك الله لكما في ليلتكما).
فرزقوا في تلك الليلة بولد ورزق الولد بتسعة أولاد كلهم حفظوا القرآن؛ لأنها امرأة صالحة، آمنت بالله، عرفت أن الموت بيد الله، الله هو الذي أخذ الولد وهو الذي يأخذ البنت وهو الذي يأخذ الأب، مؤمنين بالله عز وجل.
فيا إخوتي في الله: لا بد أن نفهم هذا المفهوم، أن الإيمان بالله كلفة وأنه ابتلاء وامتحان، وأن نوطن أنفسنا على أن نخضع لأوامر الله، وعلى أن ننـزجر عن نواهي الله، وبعد ذلك نكون قابلين لكل ما جاء من الله عز وجل، إنا لله وإنا إليه راجعون.
رابعاً: يبدأ الإنسان بنفسه، فيعرض عليها أوامر الله وينفذها بسرعة، عرفت أن الصلاة واجبة وأنها لا بد أن تكون في المسجد من الآن تلتزم وتقول: والله لا أصلي إلا في المسجد، من يمنعك إلا الشيطان، لا تطع الشيطان، عرفت أن الصيام واجب فصم، عرفت أن الزكاة واجبة فزك، عرفت أن بر الوالدين واجب فبرهما، أوامر الله نفذها كاملة، تأتي إلى النواهي فتنتهي عن كل ما نهى الله عنه، والنواهي معروفة، وتدخل النواهي من سبعة أبواب: من باب العين ومعصيتها النظر، ومن باب الأذن ومعصيتها سماع الغناء والكلام الساقط، ومن باب اللسان ومعصيته اللعن والسب والشتم والغيبة والنميمة والكذب والفجور والأيمان الفاجرة والعياذ بالله، ومن باب الفرج ومعصيته الزنا واللواط، ومن باب البطن ومعصيته أكل الحرام من ربا أو رشوة أو من غش أو من دخان، أو مخدرات أو خمور أو أي شيء خبيث، ومن باب الرجل ومعصيتها أن تمشي بها إلى ما حرم الله، ومن باب اليد ومعصيتها أن تمدها إلى معصية الله عز وجل، وبعد أن وقفت على ذلك، وأقمت الإسلام في نفسك، وبدأت البداية الصحيحة من نفسك، تنتقل بعدها إلى الأسرة، وتعقد حلقة علم في بيتك، من تتصور أنه يكفيك..أمك وأبوك..أخواتك وإخوانك وزوجتك وأولادك، تريد الجماعة يدخلون بيتك يعلمونهم؟!!
يخبرني أحدهم أن زوجته لها عنده خمس عشرة سنة ويوم أن سألها يوماً من الأيام بعد خمس عشرة سنة أن تقرأ الفاتحة يقول: والله ما استطاعت أن تقرأها، يقول: فخجلت من نفسي أن زوجتي معي خمس عشرة سنة وهي لا تستطيع أن تقرأ الفاتحة، فلما عاتبتها قلت: لماذا لم تتعلمي؟ قالت: لا أحد يعلمني، وخشيت أني أطلب من ابنتي أن تعلمني فتضحك عليّ، أو أطلب من ولدي أن يعلمني فيضحك عليّ، أو أطلب منك أنت أن تعلمني فتضحك عليّ، قال الزوج: أنت أمية لا تقرئين حتى الفاتحة؟ يقول: فأدركت أنني أنا المقصر يقول: فعقدت حلقة في البيت وبدأت أقرأ الفاتحة وهي تقرأ بعدي وكلما أخطأت رديت عليها، وقرأ الولد وقرأت البنت وقرأنا الفاتحة، يقول: مر علينا أكثر من شهرين وأصبح البيت كله يحفظ جزء عمَّ.
فعليك أن تبدأ من الأسرة، في أن نعقد حلقة ليلية في كل بيت، أليس هذا ممكن -أيها الإخوة؟- إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طلب من الصحابة أن يخرجوا من بيوتهم وأموالهم إلى مكة خرجوا، وعندما أمرهم أن يخرجوا إلى المدينة خرجوا، وعندما أمرهم أن يهاجروا إلى الحبشة هاجروا، نحن الآن نطلب من الناس شيئاً سهلاً لا نأمرهم أن يخرجوا من ديارهم ولا من بيوتهم وأموالهم ولا يتركون وظائفهم، نقول لهم: أدخلوا نور الإيمان في بيوتكم؛ لأن النور إذا دخل ماذا يخرج؟ الظلام، الآن لو أطفأت الكهرباء -ونسأل الله ألا تطفأ هذه الليلة- لو أطفأت الكهرباء ماذا يحصل؟ يظلم المسجد، كيف نخرج الظلام؟ بإيقاد النور، فإذا أشعلنا النور ذهب الظلام.
الآن في البيوت ظلام..في الأعين ظلام..في الألسن ظلام، والدليل أن العيون تنظر إلى الحرام، لو أن العين فيها نور ما نظرت والله إلى الحرام، ولو أن الآذان فيها نور الله عز وجل ما سمعت الحرام، ولو أن الألسن فيها نور الإيمان ما تكلمت بالحرام، ولو أن الأجسام فيها نور ما نامت عن الصلوات، ولو أن المرأة في قلبها نور ما سمعت الأغاني، ولو أن المرأة في قلبها نور ما كشفت الحجاب وتبرجت؛ لأن الحجاب ليس عادة ولا تقليداً، الحجاب شرع ودين وعقيدة تنبعث من النفس، الحجاب شريعة الله وفريضة في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا قلبها ليس مملوءاً بالإيمان وما عندها نور الإيمان تجدها تتحجب تقليداً، لكن لو وجدت فرصة للخلاص من هذا الحجاب لقذفته إلى غير رجعة، لكن المؤمنة التي عندها نور الإيمان في قلبها تتحجب، والله لو رميتها في البحر ستبقى متحجبة، لماذا؟ لأن القناعة بالحجاب تنبعث من داخل نفسها، فالآن في البيوت ظلام ما في ذلك شك، الولد نائم عن الفريضة؛ لأن في قلبه ظلمة المعاصي، البنت لا تصلي إلا بالمتابعة؛ لأن في قلبها ظلمة، نريد أن نخرج هذه الظلمات من البيوت، كيف نخرجها؟ بإدخال النور، ما هو النور؟ نور القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، أما القرآن فقد سماه الله نوراً في القرآن، قال عز وجل: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52] فهو نور، إذا دخل القرآن في بيتك وعلمت أولادك القرآن وشرحت لهم القرآن ذهب الظلام من قلوبهم، وندخل سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نور بنص القرآن يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً [الأحزاب:45-46].
فإذا دخل القرآن والسنة في بيوتنا وعقدنا تلك الجلسات الإيمانية ذهب الظلام، ولتكن بعد صلاة العشاء، ويجب أن نبرمج أوقاتنا على هذا الوضع، بعد صلاة العشاء، أو قبل النوم، بنصف ساعة لله، ألسنا نجتمع على الرز واللحم كل غداء وكل عشاء وكل فطور؟ فنجتمع أيضاً على مائدة الإيمان قبل النوم، ولا نسمح لأي فرد من أفراد الأسرة بالتغيب، فتجتمع الأسرة كاملة على قراءة القرآن فتقرأ مثلاً سورة الفاتحة حتى يحفظها كل فرد من الأسرة، وبعد أن يحفظوها يقرءون تفسيرها، يأخذون تفسيراً ميسراً مشتملاً على المعاني، وبعيداً عن التطويل والتعقيد واسمه: أيسر التفاسير، ثمنه خمسون أو ستون ريالاً، للشيخ أبي بكر الجزائري حفظه الله، يجب أن يكون هذا الكتاب في كل بيت، يبقى معك إلى أن تموت وتورثه لأولادك، وأولادك يورثونه لأولادهم إلى يوم القيامة، وهذا العلم معك، ما أكلته ورميته.
والليلة الثانية نجعلها سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولنأخذ كتاباً اسمه: مختصر السيرة للشيخ محمد بن عبد الوهاب، يبين لنا كيف عاش النبي صلى الله عليه وسلم: مولده .. نشأته .. مبعثه .. هجرته .. جهاده .. غزواته .. حياته، كل ما كان في حياته موجود في مختصر السيرة، فتقرأ هذه الدروس العملية، وبعد السيرة يمكن أن تنتقل إلى خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وإلى خلاقة عمر، وإلى التاريخ الإسلامي، تمتد معك الليالي حتى تكمل التاريخ بإذن الله عز وجل، والليلة الثالثة تكون درساً في الفقه في دين الله، ولنبدأ بكتاب آداب المشي إلى الصلاة ونبدأ من كتاب الطهارة، فبعض النساء لا تعرف كيف تتوضأ، وبعض النساء لا تعرف كيف تغتسل من الجنابة، ولا كيف تغتسل من الحيض ولا من النفاس، من مسئول عنها؟ القبيلة أو الجماعة أم عليك أنت؟ عليك أنت والله سيسألك: (والرجل راعٍ في أهل بيته ومسئول عن رعيته) ليست الرعاية والمسئولية أن تأكلها وتشربها فقط، لا. هذه مسئولية، لكن الأولى منها أن تعلمها دين الله، والله يقول: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132] والليلة الرابعة نأخذ درساً في العقيدة، وليكن الأصول الثلاثة، كتاب صغير نحو عشر صفحات تقرأه أنت وأولادك وتحفظه أولادك، أو القواعد الأربع من أعظم ما يمكن.
إذا عملت بهذه النصيحة فإنه لا تمر عليك سنة واحدة إلا وأنت في خير، والليلة الخامسة تأخذ كتاب رياض الصالحين، أو تأخذ كتاب بلوغ المرام وتتعلم فيه كل ليلة حديثاً واحداً تحفظه أنت ثم يحفظه أولادك، وتحفظه زوجتك، ولا يمر عليك وقت طويل إلا وقد نور الله بيتك ونور الله بصيرتك وبصيرة زوجتك وأولادك، وأصبحت حياتك كلها مغمورة بالنور الذي عمره، لماذا؟ لأنك عشت في ظلال النور ومع النور فيخرج كل ظلام من قلبك بإذن الله عز وجل.
ومن هنا -أيها الإخوة!- نبدأ، من هنا من البيوت، فلو قام كل إنسان منا بمسئوليته تجاه نفسه وأولاده لصلحت أحوالنا، لكن أين دور الآباء مع الأبناء وهم يدورون في الشوارع؟ أين دور البيوت مع الأولاد وهم الآن في المنتزهات وفي الحدائق وفي أماكن اللغو واللهو، والرجل في المسجد؟!
أما يظن أنه مسئول يوم القيامة؟ والله إنك مسئول عن هذا الولد يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً [التحريم:6] ولا تقولن: إن الولد كبير، لا. يجب أن تكون رعايتك له حتى تموت، ولو عمره أربعين سنة لا بد أن تشعره بأن لك سلطان عليه، ومراقبة له، أما أن تربيه إلى أن يكبر ثم تتركه وتقول: لا أريد أن أربطه في البيت دعه يخرج.
أحد الآباء قلت له: يا أخي! امسك ابنك في الليل قال: هل هو بنت حتى أقيده؟ دعه يتعلم الرجولة، قلت: يتعلم الرجولة بتركه؟ يا أخي! لو أنه (تيس) عندك ما تركته، هل هناك أحد يترك (التيس) ولا يربطه؟ وكيف يتعلم الرجولة في الشوارع؟ بل يضيع ويهلك، يضيع دينه وأخلاقه والعياذ بالله، لو ذهب الأب إلى البيت وما لقي (التيس) في البيت هل ينام أم يبحث عنه؟ والله لا يأتيه النوم بل يذهب يبحث عن (التيس) لكن الولد لا يسأل عنه، يتناول المخدرات.. يسمر على الفساد.. يذهب مع المفسدين.. لا. ما يدري، لا يفتش حقيبته، وما يدري عن ولده، ما يدري عن سلوك ابنته، مهمته كلها فقط أنه يملأ الثلاجة لحماً وفواكه وخضروات ورزاً ويربي عجولاً بشرية في بيته، وأما كيف دينهم وكيف عقيدتهم لا يسأل، لا. هذه هي مسئوليتك يا أخي! يقول الله : وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132].
فمن هنا أيها الإخوة: نبدأ في هذا الشهر الفضيل -رمضان- بالتوبة، ونبدأ من البيوت ومن الأنفس، وإذا سرنا على هذا المنهج فإن شاء الله لن يضيع الله جهودنا.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يوفقنا وإياكم إلى ما يحبه الله ويرضاه، وأن يوفقنا وإياكم إلى كل عمل صالح.
أولاً: بكثرة التلاوة، فإن تلاوة القرآن في هذا الشهر من أعظم القربات؛ لأنه شهر القرآن: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185] فيجب أن يكون لك ورد يومي لا يقل عن عشرة أجزاء، كان بعض السلف يختم في ثلاثة أيام في رمضان، وكان بعضهم يختم في اليوم مرة، وكان بعضهم له ختمتين في كل يوم، ختمة في الصباح وختمة في المساء، فمنذ أن سمعت هذا الكلام استغربت وقلت: كيف يختم في اثني عشرة ساعة؟! ولكن قدر لي في يوم من الأيام أن أعتكف وبدأت من صلاة الفجر مع القرآن وما أتى العصر إلا وقد انتهيت منه، ما رقدت ذلك اليوم لأني أقرأ.
فنقول للناس: أكثروا من التلاوة في هذا الشهر فإنه شهر القرآن والتسبيح.
ثانياً: أكثروا من الصلاة والقيام، خصوصاً مع الإمام الذي يطيل، فإن هذا فيه ثواب عظيم، في البخاري ومسلم يقول عليه الصلاة والسلام: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) الشروط: إيماناً: تصديقاً، واحتساباً: تحتسب على الله هذه الوقفة، الإمام يطيل ويقرأ مثلاً في كل ركعة صفحة أو صفحتين، نعم أنت تتعب، لكن تتعب في سبيل من؟ واقف بين يدي من؟ كم يتعب أصحاب اللعب وأصحاب الفوضى وأصحاب المقاضي، كم يدورون بالشوارع من ساعات، بعضهم يخرج إلى الأسواق يدور من الساعة العاشرة إلى الساعة الثانية من الليل، يشتري حذاء لامرأته ويرجع وما وجد حذاء، وكلما اشترى حذاء ردته وقالت: أرجعه لا أريده هذا ليس جيداً، ضيع أربع ساعات في حذاء لكن أنت قضيت ساعة بين يدي الله عز وجل إيماناً واحتساباً، يعني: طلباً للمثوبة والأجر من الله عز وجل.
ثالثاً: كثرة الذكر في الصباح والمساء.
رابعاً: كثرة الإنفاق في هذا الشهر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان أجود من الريح المرسلة، وكان أجود ما يكون في رمضان).
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب حتى عصى ربه في شهر شعبان |
ها قد أظلك شهر الصوم بعدهما فلا تصيره أيضاً شهر عصيان |
اتل الكتاب وسبح فيه مجتهداً فإنه شهر تسبيح وقرآن |
كم كنت تعرف ممن صام في سلف من أهل وجيران وإخوان |
أفناهم الموت واستبقاك بعدهم حياً فما أقرب القاصي من الدان |
ومعجب بثياب العيد يقطعها فأصبحت في غدٍ أثواب أكفان |
حتى متى يعمر الإنسان مسكنه مصير مسكنه قبر لإنسان |
استغل هذه الأيام في الإنفاق في سبيل الله؛ لأنك تحت ظل صدقتك يوم القيامة، كما جاء في الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: (المرء تحت ظل صدقته يوم القيامة) و(ما نقص مال من صدقة) بل تزيد وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39] إذا كان عندك مليون ريال وأخرجت منه مائة ألف تتصور أنه نقص المليون، والله ما نقص، بل زاد، لماذا؟ قال الله: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا [البقرة:276] وماذا؟ وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276] والحسنة في هذا الشهر بألف حسنة، وقد اعتاد الناس أن يخرجوا زكاة أموالهم، ولو أخرجت الزكاة على القدر الصحيح الشرعي ما بقي فقير.
فأنا أدعو أصحاب الأموال الأثرياء أن يخافوا الله في أموالهم وأنفسهم، ولا يضحكوا على أنفسهم، هذه الأموال والله إن لم تخرج زكاتها فستتصفح يوم القيامة صفائح من نار ثم تمشي عليها وتقلب على ظهر العبد وبطنه وجنبه يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:35] ماذا تريد من ملايين تتصفح ناراً يوم القيامة على جنبك؟! أخرج زكاة المال، احصر الأموال الموجودة المنقولة والأموال الثابتة من العقار الذي للبيع والشراء، أما العقار الممتلك لقصد البنية والامتلاك فليس فيه زكاة، لكن في دخله إن كان مؤجراً، ثم احصر الديون التي عند الناس واجمعها كلها ثم اضربها كلها في اثنين ونصف وأخرج الزكاة طيبة بها نفسك، ولا تظن أن لك منة أو فضلاً فالمال مال الله، فالله أعطاك مائة وطلب منك اثنين ونصف، جئت من بطن أمك وأنت لا تملك ريالاً واحداً.
فأخرج هذه الزكاة وابحث عمن يستحقها، لا تبرأ ذمتك بإلقاء الأموال على عواهنها وإعطائها من لا يستحقها، ابحث عمن تثق فيه في دينه وأمانته ليكون وكيلاً لك على تزكية الأموال، ولا تنسوا إخواناً لكم من الفقراء، في بقاع كثيرة من المملكة، كثير من الناس يرسل أمواله إلى الخارج، وهذا يجوز إذا كان قد حصل الاكتفاء، لكن في المملكة فقراء، وأنا أعرف في منطقة الجنوب في سواحل تهامة وفي جبال تهامة من الفقراء من يفتقدون كسرة العيش، ومن يحتاجون إلى قطعة القماش، ومن يعيشون تحت كهوف الجبال، وتحت ظلال الأشجار، يحتاجون إلى كل شيء من الأموال.
وأنا مستعد بالتعاون مع الأثرياء الذين يملكون مالاً ويريدون إيصالها إلى هؤلاء، مستعد أن أتعاون معهم وأذهب إلى هؤلاء المساكين، رغم أن في الأمر مشقة وفيه جهد وتعب ولكن نحتسبه عند الله عز وجل، وأذكر في العام الماضي أن رجلاً من الأثرياء من هذه المدينة المباركة بعث لي بمائتي ألف ريال وقال: وزعها على الفقراء في تهامة، فأرسلت إلى مجموعة من الشباب الذين قد طلبوا العلم في أبها في كليات الشريعة وهم من تلك الجهات، أرسلت إليهم فجاءوني وطلبت من كل واحد أن يقدم لي كشفاً بالفقراء في قبيلته وحالة الفقير الاجتماعية، كم عدد أزواجه وكم أولاده، كم دخله من الوظيفة أو من الضمان الاجتماعي، والله لقد رأيت ما يقطع القلوب -أيها الإخوة!- يمكن (90%) كلهم غير موظفين، وقليل منهم الذين هم مسجلون في الضمان الاجتماعي، والبقية يعيشون على قليل من العيش يتتبعون تلك الماعز في ظهور الجبال ويتتبعون بها منازل القطر والمطر وليس معهم شيء، وبعضهم عنده زوجتان وعنده عشرة أو أحد عشر ولداً أو اثنا عشر طفلاً لا يعرفون الفاكهة، لما نزلنا وقسمنا عليهم العيش قالوا: ما هذا؟ لم يروه في حياتهم، فأخذت الكشوف هذه وبدأت أقسم المبالغ هذه وجعلت للأسرة الكبيرة خمسمائة والذي بعده أربعمائة والذي بعده ثلاثمائة وأقل شخص الذي لم يوجد معه أحد ولا زوجة نعطيه مائة ريال.
يقول لي الإخوة بعد ما نزلوا يقولون: إن المائتا ألف غطت مساحة كبيرة في منطقة تهامة، ودعا الناس كلهم لذلك الرجل الصالح الذي أنفق هذا المال، ويمكن أنها زكاة عشرة ملايين، المليون زكاته خمسة وعشرون ألفاً، والعشرة الملايين فيها مائتين وخمسين ألف -ربع مليون- لكنها تبلغ عند الله عز وجل مقاماً كبيراً، وعنواني لمن يريده هو عند فضيلة الشيخ عادل الكلباني مستعد للتعاون رغم أن في هذا مشقة وأنا والله ما عندي وقت، لكن لدينا من يخدمنا من إخواننا المخلصين الصالحين بحيث يوصل تلك الأموال إلى من يستحقها ونؤدي زكاة أموالنا.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو لي ولكم التوفيق، والله أعلم، وباختصار سوف أجيب على بعض الأسئلة.
الجواب: شيء طبيعي ألا تبقى النفوس كلها على مستوى واحد من الإيمان، لكن ما هو سلوكك بعد خروجك خارج المسجد؟ هل تغفل وتقع في المعاصي والذنوب، أم تغفل وتبقى في المباحات؟ إن كنت تقع في الذنوب والمعاصي فمعنى هذا أنك لم تستفد من الموعظة، أما إذا خرجت من المسجد وعدت إلى ملابسة الدنيا ومعافسة النساء والأزواج لكن في حدود الحلال فهذا شيء طبيعي، وقد شكا حنظلة إلى أبي بكر قال: (نافق
فالقلب لا يبقى على ما هو، المهم أنه لا يقترب إلى الحرام، لا تخرج من المسجد فتنظر إلى النساء، لا تخرج من المسجد فتسمع الأغنية وأنت في السيارة، لا تخرج ثم تذهب إلى الأسواق لتعاكس وتنظر إلى الحرام، معناه: أنك ما استفدت من الجلسة هذه، بل كانت وبالاً عليك يوم القيامة والعياذ بالله، لكن اذهب من الآن إلى البيت واجلس مع زوجتك ونم معها ولاعبها أو لاعب أطفالك أو اسمر معهم، لا شيء عليك؛ لأنه حلال إن شاء الله.
الجواب: قد قلت لهن: إن الحجاب هو شريعة ليس قطعة سوداء تغطي بها المرأة وجهها، وليس عباءة تلفها حول جسدها، ولكنه شريعة الله عز وجل المنـزل في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكما أمر الله المرأة بالصلاة أمرها بالحجاب، وكما أمرها بالزكاة أمرها بالحجاب، وكما أمرها بالصيام أمرها بالحجاب، وآية الحجاب محكمة في كتاب الله عز وجل.
أما ركوب المرأة مع السائقين من غير محارم فهذا محرم، ولا يجوز للمرأة ذلك حتى ولو جاءت للمسجد، لا يجوز شرعاً أن تركب المرأة مع سائق أجنبي من غير محرم لأنه في تلك الحال تكون هناك خلوة؛ في الحديث: (ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما) أما إذا لم تكن خلوة ولم يكن سفر يعني: من الحي إلى هنا، من أي حي من أحياء الرياض إلى المسجد وهم مجموعة من النساء ولو كان لا يوجد رجل لكن مجموعة نساء وتؤمن الفتنة فلا بأس، المهم الخلوة، أما أن تأتي المرأة لوحدها والسائق لوحده وليس معهم أحد إلا الشيطان فقد حذر وحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر.
الجواب: أركان الصلاة أربعة عشرة ركناً منها الطمأنينة، والطمأنينة: هي السكون وعدم الحركة، وإذا رأيت إنساناً يكثر الحركة فاعلم أن قلبه غير خاشع، وإذا رأيت شخصاً يعبث بلحيته، أو يحك ظهره، أو يثبت عقاله وغترته، فاعلم أن قلبه غير موجود في المسجد؛ لأن القلب إذا سها سهت اليد، وسهت العين، وتعبت قدماه، وقامت يده تحك لماذا؟ لأن ملك الجوارح غير موجود وهو القلب، لكن إذا سكن وحضر القلب حضرت الجوارح.
نظر أحد السلف إلى رجل يعبث بلحيته في الصلاة فقال: والله لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه. فكثرة الحركة في الصلاة التي تؤدي إلى الإخلال بها مبطلة.
أما إذا كانت الحركة يسيرة وأيضاً ليست مستديمة وتقتضيها ظروف أو ضرورة، مثل: وضع شيء من المتاع، أو أخذ شيء ضروري جداً، ولم يكن كثيراً فنسأل الله عز وجل أن يغفره.
الجواب: أبداً يا أخي! لا يحرمك هذا السفر من الحوريات إذا تبت وحسنت توبتك، فإن الله عز وجل يغفر الذنب، ومهما كان ذنبك فإن رحمة الله ومغفرته أعظم من ذلك، يقول الله عز وجل: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر:49] ويقول: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر:53] ويقول: فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان:70] بل يقول بعض أهل العلم: إن العاصي إذا تاب وحسنت توبته يمكن أن يرتفع إلى درجة أعظم من الطائعين، ليكون قد بدل الله له سيئاته حسنات، وأما حرمانك من الحور العين فلن يكون بإذن الله إذا صحت توبتك واستمريت على التوبة إن شاء الله.
أسأل الله ألا يحرمني وإياك من الحور العين.
الجواب: صدق، اللحية الآن في معركة مع صاحبها هو عليها بالسلاح الأبيض فما موقفها هي؟ تخرج عليه مثل الرماح تقول: تذبح وأنا أطعن، فالمعركة قائمة، لكن إذا أعلنت الهدنة ووضعت السلاح عنها فإنها سوف تعلن الهدنة وتضع السلاح معك، وستنبت بداية مثل الدبوس لكن بعد أن تكبر قليلاً تنبت مثل الحرير، وتعلن المهادنة معك، أما ما دمت تحاربها؛ لا بد من حاربك أن تحاربه، واللحية -أيها الإخوة!- ليس من الضروري أن الواحد يتفكر في الموضوع على أنه مسألة شعر لا. اللحية معلم من معالم الرجولة، وهدي من هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
الله خلق الرجل رجلاً وخلق المرأة امرأة أليس كذلك؟ أليس هناك ميزات وفروق بين الرجل والمرأة؟ بلى. ومن ضمن الفروق هذه اللحية، يخرج الطفل والطفلة من البطن سواء عندهم شعر في الرأس، وشعر في الحواجب الولد والبنت سواء، وشعر في الجفون الولد والبنت سواء، فإذا اكتملت رجولة الرجل وأنوثة الأنثى طلع شعر في العانة عند الرجل والمرأة سواء، وشعر في الإبطين للمرأة والرجل سواء، لكن شعر في الوجه للرجل وليس للمرأة شعر، يظهر لها أثداء في الصدر ويغلظ صوته ويرق صوتها، وتعظم أكتافه وتعظم أردافها، فروق فردية، فالله أراد أن تكون رجلاً فميزك بهذه اللحية، ولذا لا تصلح أنت إلا بلحية والمرأة لا تصلح بلحية، ما هو رأيك الآن إذا ذهبت البيت وامرأتك معها لحية؟ فقلت: ماذا بكِ؟ قالت: أريد أن أكون مطوعة، هل تقبلها بلحية؟ لا تقبلها أبداً، فكما أنك لا تقبلها بلحية هي أيضاً لا تقبلك بغير لحية، وقد تقول: أنا حليق وامرأتي قابلة لي، نقول: ماذا تعمل صابرة بالغصب، لكن لو عندك لحية فهي تفضل ذلك.
وقد أجري استفتاء لمجموعة من النساء؛ أربعمائة امرأة وسئلن: هل تفضل المرأة الرجل الأمرد، أم الرجل الذي له لحية؟ وكلهن بالإجماع قلن: نريد رجلاً له لحية؛ لأن المرأة تشعر أمام الرجل الذي معه لحية تشعر بالأنوثة؛ لأنها أمام شكل مغاير لها، انظروا لأسلاك الكهرباء؛ سلك حار وسلك بارد، ضع بارداً مع بارد ماذا يكون؟ تكون كهرباء؟ لابد من حار وبارد حتى تولع النار، وكذلك رجل وامرأة لا تكون الحياة مضبوطة إلا برجولة وقد تقول أنت: إن هناك معالم للرجولة ثانية، صدقت هناك معالم أخرى، لكن هذا معلم بارز، وهي مثل الظرف الذي عليه عنوان، قد يكون في الظرف شيكات لكن لا أحد يعلم ماذا فيه، وقد يكون في قلبك شيكات من الإيمان والعمل الصالح لكن لا يعلم الناس ماذا في قلبك، أظهر على وجهك سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأكرمها، فإن الله قد أمرك بها، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (أكرموا اللحى) وإكرام اللحية أن تتركها في أكرم موضع فيك وهو وجهك، لكن إذا حلقتها هل أكرمتها؟ أين يحلق الرجل الآن؟ في الحمام، يحلق على المغسلة وتذهب لحيته مع الماء وتذهب في البلاعة، هذه لحية المسلم الذي أمر بإكرامها؟ والذي لا يحلق في الحمام يحلق عند الحلاق في السوق، وتنتقل اللحية بعد الحلق إلى تحت قدم الحلاق، وبعد ذلك يكنسها بالمكنسة ويضعها في الزبالة، عشرين ثلاثين سبعين لحية، وإذا جاءت سيارة البلدية قال: يا ولد! تعال احمل اللحى، وجاء عامل البلدية وأخذ اللحية ووضعها فوق الزبالة وذهب بها إلى المحرقة، رحلة معذبة، مسكينة هذه اللحية مع هذا الرجل، وبعد ما راحت طلعت الأسبوع الثاني وقام عليها.
يا أخي: اتق الله في وجهك لحيتك اتركها تملأ وجهك، كم وزن اللحية؟ كم كيلو هي؟ أطول لحية وأكبر لحية لا تزن خمسين غراماً، لا تعب في حملها يا أخي! فاترك لحيتك؛ لأنها معلم وفي نفس الوقت تعينك على طاعة الله، إذا الرجل ملأت وجهه لحيته يستحي أنه ينـزل في منازل السوء، لماذا؟ قال: ما تستحي على وجهك، لكن إذا كان أحلس أملس سهل عليه الاندساس ولا أحد يلومه.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو لكم التوفيق، والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر