يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
[آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً
[الأحزاب:70-71].
أيها الأحبة في الله: أشكر الله جل وعلا، ثم أشكركم، وأسأل الله أن يجزيكم خير الجزاء، فالفضل لله ثم لكم، حيث أكرمتموني وشرفتموني بهذه الدعوة وبهذا المقام بين أيديكم، وما ذكره فضيلة الشيخ/ محمد المحيسني في مقدمته أسأل الله أن يجزيه خير الجزاء، إنما هو حسن ظن، نسأل الله أن نكون خيراً مما تظنون، وأن يغفر لنا ما لا تعلمون.
أحبتنا في الله: حديثنا عن شباب مشغولين بلا مهمة، هذه المشاغل التي أشغلت هذا الشباب أين ظرفها؟ وأين مكانها؟
إنها في الزمان، إنها في الوقت، إنها في العمر، إنها في الحياة، إنها في العصر الذي أقسم الله به: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ
[العصر:1-2]..
وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ
[الفجر:1-2]..
وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى
[الضحى:1-2] كل هذه المشاغل هي في الساعات، وفي الليالي، وفي النهار:
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ
[الروم:17].
هذا الزمن -أيها الأحبة- الذي بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن العبد مسئول عنه حيث قال: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه) هذا الزمن الذي دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى اغتنامه، والانشغال فيه بما يعود على العبد بمنافع الدنيا والآخرة، حثَّ النبي العباد على الاشتغال بما ينفع، ونادى بعبارة الغنيمة فقال: (اغتنم خمساً قبل خمس) ولفظ (الغنيمة) فيه إشارة على أن الأمر إن لم تبادره فاتك، ولفظ (الغنيمة) فيه إشارة إلى أنها لا تنال إلا بجهاد ومجاهدة نفس، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وغناك قبل فقرك، ودنياك قبل آخرتك).
أيها الأحبة في الله: هذا الزمن الذي هو خزينة لأعمالنا، وفي نهاية المطاف نرى الغبن والخسارة في حال من ضيعه ولم يغتنمه، ولم يملأ ساعات أيامه ولياليه بما ينفعه، يقول أحد الحكماء: "سويعاتك طريقك إلى القمة" والصواب: أن السويعات طريق إما إلى الجنة وإما إلى النار، فإن كانت الأعمال شاقة، فأنجزوا كل يوم عملاً واحداً، فبمضي الأيام تنجزون أعمالاً كثيرة.
أيها الأحبة: إن أناساً من شبابنا وأحبابنا وإخواننا لا يدركون أهمية الوقت، ولا يعرفون أهمية الزمن والعمر والحياة، لا يعرفون قيمتها، فكيف يحفظون؟! وكيف يشغلون الزمن بما ينفعهم؟! وكما قال الوزير ابن هبيرة رحمه الله:
الوقت أنفس ما عنيت بحفظـه وأراه أهون ما عليك يضيع |
ولأجل ذا لما كان التغابن عند أقوام وجدوا الفراغ فلم يشغلوه بما ينفعهم، وأنعم عليهم بالصحة فلم يسخروها فيما يعود عليهم بالكرامة في دنياهم وأخراهم، كانوا حقاً من المغبونين: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).
الأصل والحقيقة -أيها الأحبة- أن حياة المسلم كلها لله جل وعلا، لا يجد فراغاً ينفقه أو يصرفه في معصية الله: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ
[الأنعام:162-163] الإنسان مشغول لا محالة بطاعة أو بمعصية، ومن ظن أنه يقف في برزخ، أو في مرحلة بين الخير والشر، وفي مقام بين أن يحسن أو يسيء فقد وهم وظن خطأً، يقول ربنا جل وعلا:
إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ * نَذِيراً لِلْبَشَرِ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ
[المدثر:35-37] قال بعض السلف : ليس في الأمر توقف، إما تقدم في طاعة، وإما تأخر في معصية، وقال الشافعي رحمه الله: نفسك إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية، فكل نفس مشغولة إما بحق وإما بباطل، فشغل المؤمنين طاعة الله، وعمل فيما لأجله خلقوا:
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ
[الذاريات:56] وشغل الضالين سعي في بوار، وإنفاق في هلاك، وقد صدق رسولنا صلى الله عليه وسلم: (كل يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها).
لأنهم مشغولون! ومشغولون بماذا؟
مشغولون بلا مهمة.
وتجد الأسرة تجمع وتستوفد الخادمات والمربيات، ولو وزعت الأعمال بين البنات في الدار؛ لأغنت عن وجود هؤلاء الخادمات، ولعادت بالنفع على البنات؛ لكي يكن طاهيات ماهرات قادرات متحملات مسئولية المنازل، ولكن البنات مشغولات..!
مشغولات بماذا؟
إنهن مشغولات بلا مهمة.
الشباب والرجال مشغولون أو متشاغلون، بلقاءات، وجلوس، وسهر طويل على الأرصفة، وحديث لا ينقضي، ومواعيد متجددة، والقوم قد جلسوا في الطريق، ولكن البعض منهم ما جلس كما جلس الصحابة في الطريق فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والجلوس في الطرقات! فقالوا: يا رسول الله! ما لنا عنها بد هي مجالسنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن كنتم فاعلين لا محالة فأعطوا الطريق حقه، فقالوا: وما حق الطريق؟ قال: رد السلام، وكف الأذى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
إن أقواماً جلسوا على الطرقات، وربما احتجوا بهذا الحديث على جواز الجلوس على الأرصفة، ولسنا بصدد تحريم أو تحليل الجلوس على قوارع الطرق، ولكننا نقول لمن جلسوا: بماذا أنفقتم وقضيتم وأمضيتم ساعات النهار وساعات الليل؟
ربما جلس البعض إلى ساعات متأخرة من الليل، قد قام فيها العباد في محاريبهم، وقام فيها المتهجدون بين يدي ربهم، وتنزل ربنا جل وعلا في الثلث الأخير من الليل نزولاً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، فيقول: (هل من تائب فأتوب عليه؟ وهل من مستغفر فأغفر له؟ وهل من سائل فأعطيه؟ وهل من داع فأجيبه؟) إنها ساعات تجاب فيها الدعوات، وتقال فيها العثرات، وتسكب فيها العبرات، ولكن بعض أحبابنا وشبابنا في تلك الساعة جالسون في الطرقات، ينظرون في الغاديات والرائحات، وينظرون في العابثين والعابثات، جلوس على هذه الطرقات والأرصفة، وناهيك عما يدور في هذه المجالس إن لم يكن غيبة أو نميمة، أو سخرية أو استهزاء أو انشغالاً بالورق والبلوت، ولسنا بصدد تقرير الأحكام الشرعية بهذا، ولكن لقد جلس هؤلاء، ولو قلت لأحدهم: أدعوك الليلة إلى محاضرة، أدعوك إلى حلقة ذكر، أدعوك إلى روضة من رياض الجنة، أدعوك إلى مجلس تغشاه السكينة، وتتنـزل عليه الملائكة، ويذكر الله الذاكرين فيه في ملئه الأعلى، لقال: لا وألف لا، إني لمشغول في هذه الليلة، ولو تتبعته لوجدت شغله على الرصيف، على الدائري، على الطريق الأصفر أو الطريق الأحمر والأبيض.
فكل يدعي الشغل، وكل يزعم الانشغال، ولكن في ماذا؟
نحن نعلم أن رجلاً أو صغيراً أو كبيراً لا يرضى أن يقذف أو يوصم بالفراغ فيقال: فلان فارغ، فلان لا حاجة عنده، فلان لا شغل له، فلان لا غاية يرنو إليها، أو يصبو إلى تحقيقها، لا تجد أحداً يرضى، ولو قابلت رجلاً فارغاً من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه فلن يقول لك: إني فارغ، ولكن سيقول لك: إني مشغول.
مشغول بماذا؟ عجب عجاب!
تُلي الكتاب فأطرقت أسماعهم لكنه إطراق ساه لاهي |
وأتى الغناء فكالحمير تراقصوا والله ما طربوا لأجل الله |
دف ومزمار ونغمة شادن فمتى رأيت عبادة بملاهي |
ثقل الكتاب عليهم.. |
الأمر والنهي، المندوب والمكروه، الواجب، المخاطبة بالأحكام الشرعية التكليفية أصبحت ثقيلة
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا تقييده بأوامرٍ ونواهي |
لأن كلام الله: افعل .. لا تفعل، امض .. لا تمض، واذهب .. لا تذهب، أمر ونهي.
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا تقييده بأوامرٍ ونواهي |
ورأوه أعظم قاطع للنفس عن لذاتها يا ذبحها المتناهي |
بعضهم من شدة تحكم الهوى في نفسه، يقول: سلني ما بدا لك، واطلبني حاجتك، ومرني بما شئت، إلا اللهو، إلا الغناء، إلا الدف، إلا المزامير، إلا الموسيقى، فهي في دمي ونفسي وروحي، هي نبضة من فؤادي، وخلجة من خلجات نفسي، وقطعة من لحمي، يظن ويؤكد له الشيطان أنه لا يستطيع أن يعيش بدون هذا اللهو وبدون هذا الباطل.
سئل أحد الشباب عن شاب كان قد جعل على رأسه قصة شعر معينة فقيل له: ما هذه القصة؟ فكان الجواب: إنها قصة كلب ديانا زوجة الأمير تشارلز، أصبح الكلب في درجة يتأسى ويقتدى به، لم يقف التأسي والاقتداء بالفجار أو الفساق أو الكفار عند بعض الشباب، بل تجاوز التأسي إلى كلاب الفجار، وما يدريكم! "وعش رجباً ترى عجباً" أن يأتي يوم نسمع بشباب يقلدون قصة قطة تاتشر، أو قصة معينة، ومن عاش سيرى عجبا.
أم دواب تعد للسفر للدعوة إلى الله جل وعلا، وتعليم الجهلة، والتوحيد، وتحفيظ القرآن، وتعليم الناس الصلاة الصحيحة، والوضوء الصحيح، والعبادة الصحيحة؟!
لا وألف لا. إنما إعداد هذه السيارة ليتسنى الدوران عليها من بعد العصر أو قبيل المغرب حتى ساعات متأخرة من الليل.
إنك والله لتعجب أن تجد هذا الشاب مشغولاً، ولو أغلقت دونه الطريق لحظة وهو في سيارته لأزعجك بمنبه الصوت، وعلق منبه الصوت فوقك، وربما أخرج عنقه ورأسه، ورفع صوته بالسباب والشتيمة: لا تغلق الطريق، لا تشغل الناس، لا تقطع الناس عن أحوالهم، ولكن إلى أين هو ذاهب؟
أين شغله ومشغلته وحاجته وغايته ومهمته؟
مجرد أنك أغلقت الطريق دونه ساعات ربما لأمر لك فيه عذر في إغلاقه، ولكنه لم يتحمل لأنه مشغول، إنه في قرارة نفسه مشغول، ولكن تابعه إلى نهاية المرحلة تجده مشغولاً بلا مهمة.
وما هي خطة النادي في الهجوم على الأعداء أصحاب الفريق والآخر؟
وما ظنك أن يكون حظ هذا الفريق من النقاط؟ وهل يتأهل لدوري الصعود؟
وهل ينافس على الكأس؟
ولو سمعتم أو استرقتم السمع على شباب يتحاورون لربما وجدتم بعضهم يحلف بالطلاق، ويقسم بالعتاق، ويقول ألفاظاً عجيبة، وأيماناً غريبة من أجل تحليل وتحكيم وتقرير أحوال هذه المباراة، شغل شاغل، وأصوات مرتفعة، وجواب، وخطاب، وبرهان واعتراض ودليل، وكلام وحجة، والقضية كلها انشغال بلا مهمة، من أجل قطعة جلدية منفوخة تتبادلها الأقدام يمنة ويسرة، والجماهير المسكينة تهتف بأسماء اللاعبين، وتهتف بأسماء هذه الأندية، وبعضهم يشتد نَفَسُه، وتقف زفراته لحظة، خاصة إذا تعادل الفريقان، ولم يفز منهم أحد على الآخر، ثم وصل الأمر إلى درجة التنافس على تسديد الهجمات على الأبواب، رام وحارس يسدد هجمات على الباب، والآخر مثل ذلك، انظر حال الصمت والوجوم، حتى لو رمي بإبرة لسمع صوتها، في شدة هذه اللحظة التي وجمت فيها النفوس، واشرأبت فيها الأعناق، وشخصت فيها الأبصار، فالمسألة غريبة، ولو أن واحداً من هؤلاء المنشغلين بالمشهد يوم يجري اللاعب رويداً رويداً، ذو القدم الذهبية دنت إلى الكرة كقاب قوسين أو أدنى، إلى بوابة هذا المرمى، لو كلمه أحد لضربه وقال: دعنا ننظر النهاية.
مسألة خطيرة، وكأنما هي مُنصَرفة إلى جنة أو إلى نار، انشغال يبلغ حد اللب، والأخذ بالفؤاد والبصر والسمع، ولو سرق ما في جيبه، وسلب منه الشيء الكثير، والله ما علم من شدة انشغاله بهذا الحدث، ولكن ما هي النتيجة؟ انشغال بلا هوية.
ألم تتأثر؟
فيقول لك: إنه خائن، إنه غادر، أبعد هذا الحب يطلقها، أبعد هذا الحب يفارقها؟! وآخر يقول: ماذا تتوقع نهاية المسلسل الفلاني؟
هل يجدون اللص؟
هل يجدون المجرم؟
هل يعثرون على الضالة الضائعة؟
وحوار ونقاش طويل وعريض، وهم يعلمون أن المخرج لو قال للممثل: لا تضحك؛ لم يضحك، ولو قال له: ابك، لبكى، ولو قال له: ارفع رجلك أو يدك لفعل ذلك، إنما هو تمثيل وكذب وأباطيل وهراء، ومع ذلك أخذت اشتغال وانشغال عدد وشريحة من شبابنا حتى أخذت عليهم الليل والنهار.
لو قيل لأحدهم: قم اذهب بأمك إلى مستشفى، أو بأختك إلى مدرسة، أو بأخيك إلى معهد لقال: إني مشغول، وما شغله إلا هذه الأفلام والمسلسلات.
من أجل تبليغ دعوة التوحيد؟!
من أجل محاربة البدع؟!
من أجل نصرة المظلوم؟!
من أجل الشفاعة للمحتاجين؟!
لا. من أجل برج على جبل، وبحيرة تحت جبل، وسهل أخضر، وحيوانات غريبة، وحدائق عجيبة، وجسور معلقة، وعمائر شاهقة، وطرق، أحوال وأحوال لشباب لا همَّ لهم إلا السفر والترحال، الأربعاء والخميس والجمعة لا يفوتها، لابد من السفر، فإن لم يستطع السفر إلى بلاد أوروبية أو شرق آسيا كان سفره إلى بلاد خليجية.
وأما الإجازات الرسمية فلا تسل عن إهماله لأولاده، أو إخوانه ومن هم في بيته من أجل أن يقضي هذه الأيام في السفر، والعجب -أيها الأحبة- أن بعض هؤلاء الذين يسافرون يخادعون أنفسهم بدعوى السياحة، ويخادعون أنفسهم بدعوى اكتساب المعرفة وجمع المعلومات، فلا أحد منهم يقول: إني مسافر للخنا والزنا، ولا أحد منهم يقول عن نفسه: إنه مسافر إلى الفساد والفاحشة، بل إن أحد المدرسين بالأمس أخبرني عن واحد من الذين منَّ الله عليهم بالتوبة والاستقامة، وهو يعرف عن نفسه كثرة السفر لأجل الفاحشة ولا حول ولا قوة إلا بالله! يقول: ما تجرأت يوماً لأقول لنفسي في كل سفرة: إني مسافر إلى الزنا أو إلى الفاحشة، قال: وفي طريقي إلى المطار تنتابني شكوك ومخاوف أن تنقلب السيارة، أو أن أصطدم بأخرى، أو أن أصاب بحادث، وحينما تقلع الطائرة تنتابني شكوك ومخاوف أن تسقط الطائرة، فإذا نزلت إلى البلاد وإلى محط عصا الترحال بدأت بفعل ما قد عقدت الفعل عليه، ووقعت فيما حرم علي.
وطائفة قد شغلوا بالمخدرات، وغيبوا عقولهم عن واقعهم باختيارهم.
كل تلك مشاغل، والواحد منهم لو قلت له: اجلس، قال: إني مشغول، ولو دعوته لطعام قال: ألا تفهم إني مشغول.
وبعضهن مشغولات شغلاً عظيماً بحديث الهاتف الذي فيه مكاشفة للأسرار الزوجية، ماذا فعلتم؟
وماذا حصل البارحة، وما الذي لم يحصل البارحة؟
وحديث آخر: فلانة ذهبت، وفلانة فيها .. وفلانة ليس فيها، وحديث طويل، ولو أن ابنتها الصغيرة، أو ولدها المسكين جاء يبكي أو يريد طعاماً أو شراباً، لربما رمت به قليلاً، أو صرخت لخادمة كافرة أو مسلمة جاهلة لكي تعد لهذا الطفل حاجته لأنها مشغولة، ولا ينبغي لأحد أن يقطعها، ولا ينبغي لأحد أن يكدر صفو حديثها مع صديقتها، إنها مشغولة بالهاتف.
وهذه الشريحة من النساء بعضهن قد يعلمن أو لا يعلمن أن الله لعن المتشبهات من النساء بالرجال، وأن خروجهن أمر لا يجوز، والأسواق شر البقاع عند الله، (وأيما امرأة خرجت فاستعطرت لتفتن غيرها؛ فهي زانية) وأنها إن خرجت بغير إذن زوجها لعنتها الملائكة حتى ترجع، وأنها تعلم أن حديثها ونقلها القيل والقال من النميمة والغيبة سبب لحرمانها من دخول الجنة: (لا يدخل الجنة نمام أو قتات).
لا. فهناك شريحة مشغولة أيضاً بلا مهمة، شريحة الأطفال، الكثير منهم مشغول، والعتاب لوالديهم والمربين والأولياء الذين تحملوا ذممهم: (كلكم راعٍ ومسئول عن رعيته) اشتغل الأطفال برسوم متحركة، وما أصبح الذي يعرض في التلفاز والشاشات كافياً لاستيعاب انشغال الأطفال به، بل إن البعض تعدى ذلك إلى شراء الأفلام والمسلسلات من محلات الفيديو، أفلام خاصة بالأطفال حتى لا يبقى الطفل فارغاً، لابد أن يكون الطفل مشغولاً، ولكن مشغولاً بماذا؟ بهذه الرسوم المتحركة، وهذه الأفلام، واعجبوا من بعض هذه الأفلام.
وإنا ننادي كل من له علاقة بالإعلام، وننصح كل حبيب غيور على هذه الأمة، وعلى فكر ناشئتها، أن ينتبهوا ويلتفتوا إلى خطورة ما يعرض على هؤلاء الأطفال، فيما يسمى بالأفلام المدبلجة والمترجمة، يدور هذا الفيلم المدبلج حول شخصية بارعة جاذبة ذات قوة آسرة، فيتعلق الطفل (بعدنان ولينا) أو (هايدي) أو (الليث الأبيض) أو (جازورا) أو (سنان).
ويقول بعض الأطفال الصغار في برنامج يعرض اسمه: (نساء صغيرات) يقلن هؤلاء الصغيرات في بداية الحديث: "نحن الأطفال الصغار، نبض الحياة، معنى الحياة، لا ندري أين المصير، لا ندري أين المصير" فمشغولون، ولكنهم مشغولون بلا مهمة، بل مشغولون بما يعود بالضرر، وإن ناشئة الأمة وأطفالها هم عماد المستقبل بإذن الله إن اعتني بهم، والخطر كل الخطر أن يتعلق قلب الطفل بنمط حياة الكفرة، وأن يعجب بأسمائهم وتقليدهم وعاداتهم، وليس في هذه الرسوم المدبلجة إشارة إلى نمط حياة المسلمين، فلن تجد في هذا الفلم أو المسلسل المتحرك أو ما يقدم للأطفال، لن تجد في الغالب منارة مسجد، أو مكاناً للصلاة، أو دعوة إلى العبادة، أو تسمية، أو ذكر لله، أو حجاب أو ستر، فلن تجد شيئاً يقرر الحياء والبعد عن الرذيلة.
بعض المسلسلات التي شغل بها الأطفال تجد فيها طفلاً يحضن طفلة فيجهدها، وربما حصل له ما حصل، انشغال لهؤلاء الأطفال بالألعاب (الإلكترونية) وهي لعبة يظن البعض أنها درجة من التطور، نعم، إنها تطور ولكنه في اتجاه آخر، الألعاب (الإلكترونية) ما هي إلا لعبة جيدة لسحب أموال الناس، فخذوا على سبيل المثال ألواناً وأنواعاً من الأفلام والأشرطة التي توجد عبر هذه الألعاب سلبت عقول الصغار، لا يجد الطفل مساحة في عقله لكي يحفظ آيات، أو يحفظ أحاديث، ائت بشباب أشغلت مساءه في غير الإجازة بهذه الأفلام التي تسمى (الإلكترونية) هل سيبقى في قلبه ميل للقرآن أو ميل للسنة، أو ميل للأذكار والأوراد والآداب؟
وإني لأعجب عجباً بالغاً، هناك مسلسل متحرك للأطفال اسمه: (سلاحف نينجا) فهذا لم يقف عند حد الرسوم المتحركة، بل هو أيضاً موجود في الألعاب المتحركة، بل وجدت أحذية باسم: (سلاحف نينجا) وبناطيل، وقمصان، وملابس، وحقائب، ومساطر، وأدوات هندسية، وآلات كتابية، الطفل الذي لا يجد هذا يشعر بشيء من القصور، لأن أنداده وأمثاله من الأطفال يملكون هذا ولا يملكه، وربما أثقل كاهل والديه، وأحرجهم حتى يشتروه له، على حساب التزامات الأب المتعددة من غذاء وسكن وطعام ودواء وغير ذلك.
وفي الجملة فغالب من ذكرنا -أيها الأحبة- قد اشتغلوا بما حرم الله عما أوجب الله، واشتغلوا بما يجر إلى حرام، أو بما يصرف عن طاعة الله، واشتغلوا بما لا يسألون عنه عما سيسألون عنه وسيحاسبون عليه، وتقول القاعدة الفقهية: "الاشتغال بغير المقصود إعراض عن المقصود".
أهذا زمانه ورقاب المسلمين في الهند تقطع؟!
أهذا زمانه ورقاب المسلمين في مانيلا وكوسباتو والفليبين تقطع وتنحر؟!
أو يجوز لعبد أن يشتغل بهذا وللمسلمين أعراض مغتصبة، ودماء سكيبة، ومدن مهدمة مكسوفة، وجلاء جماعي، وقتل عشوائي، وتشريد وتمثيل، واغتصاب حتى للصغيرات والأطفال والعفيفات؟!
والله إن الواحد ليعجب! وأذكر ذات مرة كنا في مدينة مع بعض أحبابنا ومشايخنا الدعاة جزاهم الله خيراً، فلما انتهينا من محاضرة كنا في صددها، إذ بنا في تلك المدينة الصغيرة نجد عدداً من الشباب وقوفاً على ما يسمى (بالكاونتر) أو طاولة محل الفيديو، هذا يريد فيلماً هندياً، وهذا يريد فيلم كذا .. وكانت تلك الزيارة في بداية أحداث البوسنة والهرسك، فكدنا نتقطع ألماً! وما كأن الحدث يعني المسلمين بشيء يا عباد الله! لأن بيننا وبينهم جبال وبحار وأرض وفيافي وقفار لا يهمنا شأنهم، فدخل أحد الإخوة وقال: يا شباب الإسلام! والله لو لم نترك هذا امتثالاً لأمر الله ورسوله فلا أقل من أن نتركه حياءً أن يضحك هؤلاء العمال وربما بعضهم من الكفرة في محل الفيديو وهم يروننا نشتري أفلاماً هندية، فهذا هندي يعلم أن جماعته ينحرون المسلمين في بلاده، أما نستحي أن نشتري هذه الرقصة وهذا الغناء، وهذه الحفلات، والدماء والأعراض والبلاد والديار تهدر وتغتصب وتهدم؟!
إن لم يكن خوفاً من الله، فلا أقل من أن نستحي، إذ أن الواقع لا يأذن بهذا، بالأمس خمر وغداً أمر، بالأمس سكرة واليوم وغداً فكرة، لماذا لا تحنكنا التجارب: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ
[التوبة:126].
فيا شباب الإسلام: هلا فكرتم؟!
قل تعالوا إلى كلمة سواء، تعالوا لنتناقش: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ
[سبأ:46] هذه دعوة إلى الشباب، الذين يظن الواحد منهم أنه قد حلق في الثريا حينما يغلق زجاج سيارته على مكيف دافئ، ونغم هادئ، وصوت رخيم، وتجوال بطيء بين الشوارع، أو يجلس جلسة عزف أو لهو أو حديث أو تجوال في سوق لمعاكسة ونحوها:
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى
[سبأ:46].
تعال يا أخي! لأجلس معك جلسة الصراحة، لأجلس معك أو مع اثنين من أصحابك، وصارحني وأصارحك، قل لي بكل صراحة ما عندك، وأقول لك بكل صراحة ما عندي، إنك لتعجب من بعض الشباب، ذات يوم فيما يسمى بميد، مطعم من المطاعم أو محل من البقالات التي انتشرت، دخلت ذات يوم، فقام أحد الشباب وأشعل سيجارة، ففهمت أنه أشعلها قصداً، فتسوقت ما تسوقت من ذاك المكان وقلت له: أتسمح لي بالحديث معك؟ قال: نعم، تفضل، وكانت سيجارته في يده، فقلت له: اسمك الكريم.
قال: فلان من عائلة فلان.
جدك فلان وأبوك فلان؟
قال: نعم.
قلت: عائلة كريمة، أيليق بشفاه طاهرة تنطق بالشهادتين أن تتنجس بهذا الدخان؟!
فاستحى ثم أطفأ سيجارته؟
ثم قال: في الحقيقة يا شيخ! أنا لما رأيتك قصدت إشعال السيجارة.
فقلت: لماذا يا أخي الكريم أشعلتها متقصداً؟
قال: لأن الهيئة بالأمس أخذوني وأنا ما فعلت شيئاً، سبحان الله! تغلط عليك الهيئة وتعاقبني أنا؟!
هذا إن سلَّمنا أن الهيئة أخطأت عليك، لكني أريد أن أسألك ما هو الخطأ الذي ارتكبته الهيئة عليك؟
فإذا به يتسكع في الطريق في وقت الصلاة وهو مقيم صحيح لم يدخل المسجد، ولم يقم بالصلاة، فما الذي رده وما الذي منعه أن يدخل المسجد؟!
أولما جاءته الهيئة وقادته إلى بيت الله، أو حدثوه بمكبر الصوت جعلها سبة وعاراً لنفسه، وأراد أن ينتقم بها من كل من يرى؟!
ثم أخذنا ندور ونجول في الحديث، إلى أن قال لي: أسأل الله أن تكون توبة، ولا يلزم من ذلك أن يكون تائباً، قد يكون قالها أمامي، ولا يلزم أن نسمع هذه القصة فنقول: ما شاء الله! توبة صادقة، أو توبة صحيحة لمجرد كلمة أو كلمتين قف عند هذا.
أخي الحبيب نقول: إن هؤلاء الشباب الذين تسكعوا وجلسوا وانشغلوا بلا مهمة نريد أن نخاطبهم، وأن نكاشفهم، وأن نصارحهم، وأن نسألهم: كم جمعت من المال لزواجك؟
إن لم تكن مشغولاً بالدين وبالدعوة فلنسألك عن حجم اشتغالك بما ينفعك في دنياك، كم جمعت من المال لزواجك؟
كم أعددت، وماذا أعددت لبناء بيتك؟
ماذا فعلت لرفع قدراتك ومواهبك؟
ماذا أعددت لكي تحصل وظيفة مناسبة تنفعك في دينك ودنياك؟
ضياع في الدين والدنيا، خسار وبوار في الدنيا والآخرة بهذا الأمر الذي جعلوه ديدنهم وطبيعتهم وهجيراهم كما قال الشاعر:
وكل امرئ والله بالناس عالـم له عادة قامت عليها شمائله |
تعودها فيما مضى من شبابـه كذلك يدعو كل أمر أوائله |
إن بعض الشباب يتسكع ويدور، ويمتهن هذا الفراغ، وهذا الاشتغال في كرة وفن، ولهو وطرب، ورياضة، وجلسات وسهرات، ويقول: إذا جاوزنا الخامسة والعشرين تركناها، أو إذا جاوزنا الثلاثين تركناها، اعجبوا كل العجب من أقوام ادعوا ذلك فلم يستطيعوا أن يفعلوا شيئاً!
إن الغصون إذا عدلتها اعتدلت ولا تلين إذا كانت من الخشب |
أنت -أيها الشاب- قادر على تغيير مسار حياتك ما دامت قواك قوية دفاقة قادرة بإذن الله، وأنت عاجز إذا خارت منك القوى، واستحكمت فيك العادة، وغلبك الشيطان، وتحكمت بك الغفلات.
فإلى إخواننا الأكارم، وإلى شباب الإسلام: أليس في الدعوة إلى الله شغل؟
أليس في صلة الأرحام شغل؟
أليس في بر الوالدين شغل؟
أليس في حفظ الكتاب والسنة شغل؟
أليس في طلب العلم، والكسب الحلال، وحلق العلم، والجد والدراسة والمثابرة، والدورات التدريبية والمهنية، وما يفيدك على اكتساب صنعة نافعة، أليس في هذا شغل؟
بلى.
إذاً فما الذي أشغلك عن خير الدنيا والدين واشتغلت بما يضرك؟
أيها الأحبة: نعم. إنها دنيا تفتحت علينا، وأموال تدفقت بين أيدينا، وأمور قد كفلت لنا، فما أصبح الشاب يجد عناء إيجاد شربة من ماء؛ لأن الصنابير تتدفق بهذه المياه، وما أصبح الشاب يجد عناء البحث عن الكسوة، ولا يجد عناء البحث عن اللقمة، فتهيأت الدنيا حتى استحكمت وبلغت بنا حد الترف، وهي علامات هلاك الأمم: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً
[الإسراء:16].
أليس لها في خدمة بيتها والعناية بأولادها غنية وكفاية عن الاشتغال بالاجتماعات التي امتلأت بتبادل صور المجلات، ومجلات الأزياء؟
وربما اجتمع بعضهن على شريط رقص وأخذن يرقصن عليه، العمر أثمن وأجل من هذا، حتى إن بعض البنات والنساء أصبحت تتأفف من أعمال المنـزل، والأسرة، وأعمال الأنوثة، بل إن بعضهن اعترضت فقالت: يا ليت ربي ما خلقني أنثى، يا ليت ربي خلقني ذكراً، من شدة انشغالها في اللهو أو الحرام، وتبرمها بالواجب والمسئولية الملقاة على عواتق بعض الفتيات تتبرم بعضهن من خلقها وتكوينها وما هي عليه، وكأن هذا قدر خاطئ، أو كأنه أمر فيه ظلم لها ولا حول ولا قوة إلا بالله!
أليس لفتاة الإسلام القدرة على أن تجعل من بيتها مركزاً دعوياً نشطاً تجمع فيه جاراتها وصويحباتها يقرأن فيه، يسمعن فيه، يتناقشن فيه، يحفظن فيه؟
هل يكون الإسلام همَّ فتياتنا بدرجة أولى؟
ثم هل تكون الدعوة هي الشغل العملي لبناتنا وأخواتنا؟
إذاً فلذات الدنيا ذاتها مكدرة إذا طال العبد فيها، فما بالك بحال الدنيا والعبد مفارقها لا محالة، فالعمر قصير، واللذات مكدرة، ولكنا نعود ونقول لأولئك الشباب والفتيات: اسألوا الذين انشغلوا بالفن والطرب واللهو والكرة، اسألوا الذين قطعوا شوطاً بعيداً في كل ما سمعتم، اسأل نجماً رياضياً: هل كانت الرياضة مهمة يأنس إليها، ويركن ويطمئن ويتوكل عليها، ويرجو أن يموت عليها؟
على الرغم من اشتغال الجماهير به، المعجبين حوله، والكاميرات والفلاشات، وآلات التصوير، والصور الملونة في الصفحات الملونة في الجرائد والمجلات، كان ذلك النجم شغلاً شاغلاً للشباب في كراساتهم، وعلى طاولات دراساتهم، وكانت صور هؤلاء النجوم معلقة في حجرهم، وبعضهم تمنى أن تكون له صورة ولو بمكان قريب من ذلك النجم، سعدت تلك الأعين التي رأتك والأعين التي رأت من رآك.
بعضهم لو قيل له: إن فلاناً جالس مع اللاعب أو النجم الفلاني لكبر خمساً .. تسعاً .. نسقاً، فكأنما هي مكرمة نالها بالجلوس مع صاحبه هذا، ومن يكون فلان الذي يأتي يوم القيامة وكل نفس بما كسبت رهينة، هل تنفعه أهدافه؟ هل تنفعه جولاته؟ هل تنفعه صولاته؟
اسأل أولئك النجوم وقل: هل ترجون أهدافكم ساعة الاحتضار؟
وهل ترجون مواقفكم وصدكم لهجمات الفريق المعادي لكم، هل ترجونها يوم نزع الروح؟
لا والله. كل يتبرأ من هذا كله، فلا ينظر أيمن وأشأم منه إلا ما يرجوه من رحمة الله وعمل صالح.
لقد جلس بعضهم ودار الكأس بين يديه -كأس خمر- ورقصت الراقصات أمامه، وطالت السهرة، وبزغ الفجر شاهداً عليه أنه أمضى ليله في معصية الله، قد عصى الله ببصر ولو كان كفيفاً ما استطاع، عصى الله بيد ولو كانت شلاء ما استطاع، عصى الله برجل ولو كان معوقاً ما استطاع، عصى الله بعافية ولو كان سقيماً ما استطاع.
اسألوا التائبات والراقصات والممثلات اللائي يذكرن بكل مرارة سالف عهدهن بما فيه مما يستحى من ذكره، وما كان اشتغالهن بذلك شيئاً يرجى عند الله.
اسألوا من شرب الخمر بأصنافها وأنواعها، معتقة صرفة أو مشوبة، ماذا أغنت عنهم يوم أن دنا الموت منهم؟
ماذا أغنت عن بعضهم يوم أن طعن في سنه معاقراً لها، فغلبته نفسه حتى ضعف عن تركها والتوبة منها؟
إنه لأمر عجيب! نجوم سطعوا ولمعوا ولحقتهم الصحف، وصورت صورهم على غلافات المجلات، وجعل لهم النصيب الأوفى، بل أصبحت صدور بعض النجوم دعاية تعرض بالأموال، فالذي يعلق دعاية مشروب أو غسيل أو صابون أو منتج على صدر اللاعب الفلاني، فإنه يدفع مبلغاً وقدره كذا وكذا .. ذلك النجم الذي أشغلت به وكالات الأنباء، أو بعض المراسلين في وكالات الأنباء، وشغل به صحفيون ومجلات ولقاءات وزيارات ومراسلات، وهدايا وأرصدة مفتوحة يهدى لهم فيها اسألوهم: ما هي نهاية المطاف؟ إنهم قد عبروا المحيط إلى آخره فما وجدوا إلا ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها.
عبروا محيط الفن والرياضة والأفلام، ومحيط الإخراج السينمائي، ومحيط الشهرة والأضواء، فلما تلاطمت أمواج هذا، وسطع كل ما حولهم وجدوا أنهم إلى لا شيء، وفي غير شيء، في سراب وهراء، في رماد تذروه الرياح، في رماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، في هباء منثور، في ضياع وضلال وخبال، أليس لشباب الإسلام في هؤلاء عبرة؟
أليس لهم فيهم عبرة وذكرى؟
ثم اعجب بعد ذلك -أخي الكريم- أن تجد بعض هؤلاء النجوم قد ترك كل هذه الانشغالات، وكل هذه النجومية وذلك اللموع، وعاد إلى الله تائباً منكسراً؛ لأنه لم يجد في ذلك كله شيئاً.
خلت الديار فساد غير مسود |
فتقدم بين القوم، وأخذ يعزف ويغني، قال: وفي لحظة وأنا أنظر إلى الناس من حولي وأقول: ماذا يغني عني هؤلاء؟ ماذا ينفعني هؤلاء؟ ماذا يقدم لي هؤلاء؟
قال: فاقشعرت نفسي وتوجست خيفة، وأنكرت نفسي من نفسي وحالي من حالي، فضلاً عن إنكاري لمن حولي، قال: فعدت، ومنَّ الله جل وعلا عليه بالهداية.
فأقوام بلغوا قمة الأشواط في الفن والرياضة والنجومية واللموع في أمور شتى فعادوا؛ لأنهم وجدوها أشغالاً بلا مهمة، عادوا وتركوا ذلك كله لأنهم لم يجدوا شيئاً: إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ
[يونس:81] وجدوا هذا الفن كسراب بقيعة يحسبه الضمآن ماءً، وجدوا هذا الفن وهذه الشهرة كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، وأحد النجوم لما أصيبت قدمه، وما عادت رجلاً ذهبية كسالف عهدها في الرياضة، ومحاورة الفرق، ومباراة اللاعبين، رمي في بيته، ولم يعرفه بعد ذلك اليوم إلا من أحبه في الله بعد توبته وداوم على زيارته وصداقته.
أيها الأحبة: هؤلاء بعض الذين عرفوا حقيقة الطريق، اشتغلوا بالفن واللهو، والرياضة، والجلوس، والشرب، والسفر، وأنواع المعاصي، فعادوا مستسلمين قد نكسوا الراية، وألقوا السلاح، وانقادوا إلى الحق، وقالوا: نحن نذرٌ لكم، ونحن نقول: لن تجدوا وراء هذا شيئاً يذكر، إنما هي انشغالات بلا مهمة.
والعجب -أيها الأحبة- وقد صرح بذلك بعضهم، يقول: نحن نتعب ونعد الممثل والممثلة، ونبني لهم المسارح، ونوزع الدعاية، ونحث الجماهير، وندعو الصحفيين، ونعطي الأموال، ونأتي بالخبراء ليضللوا الجماهير، وفي نهاية الأمر نفاجأ أن الممثل يتوب ويترك المسرحية، ونفاجأ بأن الممثلة تتحجب وتترك السهرة، وبأن النجمة الفلانية تابت وتحجبت، وتركت هذا كله، نعدها لتضل الآخرين فإذا بها تهتدي، نعم، قد رأت الحق: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ
[الأنبياء:18].
أيها الأحبة في الله: إنها انشغالات مؤلمة أن نجد هؤلاء الشباب مشتغلين، ويقر بنفسه أنه مشغول بلعب كرة القدم، ولو قلت له: تفضل هذه صفارة اشتغل بها، لقال: أنا جاهل تعطيني لعبة أشتغل بها، يرضى أن يشتغل بلعبة، وفي المقابل يناقض نفسه أن يشتغل بلعبة من نوع آخر، لأنه قد غسل دماغه إلى حد ما، فرأى أن هذه لعبة جديرة بأن يُشتغل بها، لسنا بهذا نحرم الرياضة، أو أن يمارس المسلم رياضة أياً كان نوعها ما لم تكن محرمة في ذاتها، أو تفضي إلى حرام بحدودها في ضوابط وقتها وأدائها، ولكن اعلم أنها لعبة، فليست جديرة بأن تأخذ اهتمامك، وما نفعك أو ضرك إن فاز هذا على هذا، أو قتل الحارس في المرمى بضربة بين فكية، أو مات شهيداً -ولا يكون شهيداً- أو مات عند هذه البوابة، القضية بالنسبة لك لا تعني شيئاً، يظن بعض الشباب أن القضية بالنسبة له مؤلمة.
ثم إن الفنان ما خرج له الشريط، أو أنه لم يجد له شريطه، وتجد بعض المتابعين المتشددين لبعض هذه المواقف يضرب أخماساً بأسداس، وربما خبط وضرب ما حوله بيد غليظة من شدة تأثره عندما ضيعت الفرصة.
نعم. جرأة، لأنها لعبة أدمنوها وأشغلتهم، تابعوها بلا مهمة ولا غاية ولا نتيجة، قادت بعضهم إلى أن سب وشتم بعضاً، وأعاد بعضهم القول السيئ على الآخر.
فيا أحبابنا: لماذا لا نشتغل بالغاية التي من أجلها خلقنا؟ إن مقادير الأخطار التي تحيط بالأمة، وإن قصر العمر المكدر بالأمراض والأسقام والأخطار، وإن هذه الحياة الفانية التافهة، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يرويه مسلم في وصف الجنة: (والله ما الدنيا بالنسبة للآخرة إلا كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع) إن قطرة علقت بيدك يوم أن أدخلت أناملك في البحر، هذه القطرة هي الدنيا، والآخرة هي البحر المتلاطم، كم في البحر وكم في المحيط من قطرة؟!
أنضيع الآخرة بسهرة؟
أنضيع الآخرة بأغنية؟
أنضيع الآخرة بلذة فانية زائلة؟
أنضيع الآخرة بهوى وصورة مشوهة محرمة؟
أنضيع الآخرة بلهو وعبث وباطل؟
يا سلعة الرحمن سوقك كاسد فلقد عرضت بأيسر الأثمان |
الجنة معروضة، وأبوابها مشرعة، وداعي الرحمة والتوبة والهدى يصيح صباح مساء: حيَّ على الفلاح مجاناً وبلا مقابل، ومن دنا دنا الله منه، ومن أقبل أقبل الله عليه، ومن تقرب إلى الله شبراً تقرب الله إليه ذراعا، ومن أتى ربه يمشي أتاه ربه هرولة، ومع ذلك تجد إعراضاً وجفاءً من كثير من الشباب والشابات، أفلا تحبون الله؟! أفلا تحبون رسول الله؟! بلى والله، نحب ربنا ونبينا وديننا وكتاب ربنا، ولكنها محبة ناقصة، محبة ما تحكمت:
جهد الصبابة أن تكون كما أرى عين مسهدة وقلب يخفق |
المحبة الحقيقية للدين والإله والرسول أن يكون هواك للدين، همك للدين، اشتغالك بالدين، ميلك للدين، أخبار تتعلق بالدين تجعلك تفرح أو تبقى حزيناً تجاه ما يبشر أو ما يكدر.
لماذا لا نصنع هذه الشخصية بالاقتداء؟
قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
[الأحزاب:21] لماذا لا نصنع الشخصية ونشتغل بهذه الصناعة بمصاحبة الأخيار؟
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ
[الكهف:28] صناعة الشخصية بهذا الاقتداء وبهذا الإعداد للدار الآخرة، فإن لم تكن عالي الهمة، وشامخ المطالب فلا أقل من أن تشتغل في مباح، ينفعك أو ينفع أولادك، في تجارة، في رزق حلال يعود عليك، أما أن يترك العبد كل هذا الدين والدنيا الحلال، ثم يشتغل بالحرام فذلك أمر عجيب وغريب.
إن الله قد ذلل هذه الدنيا وما فيها، ذلل الأرض وما عليها: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ
[الملك:15].
إن الذين اخترعوا ما أوجدوا معدوماً وإنما اكتشفوا موجوداً، السمع والبصر والفؤاد وسائر العلم والمعرفة لم تشغل بالضياع ولم تشغل بفساد، لما أُشغلت في أمر معلوم ميسور أنتجت خيراً كثيراً، عقول الكفار التي أنتجت الطائرات والمدمرات، والبارجات والصواريخ، والآلات المختلفة إنما هي عقول فيها الدماء، وفيها العصب واللحم والعظم، وأجسام بنفس الحواس والجوارح التي نجدها، لكنها اشتغلت عقول بعضهم بأمر ميسور ذللـه الله، فأنتجت ذلك، يوم أن كانوا يشتغلون بما لا سبيل لهم إليه، كانت أوروبا في القرون الوسطى وعصور الظلام تعيش جهلاً مطبقاً، فلما دعا داعيهم ونادى مناديهم وقال: دعونا نشتغل بهذه الدنيا التي بين أيدينا، طيور تطير كيف نطير مثلها؟ أسماك تغوص كيف نبحر مثلها؟ فأعملوا عقولهم فيما ينفعهم فأنتجت.
أما عقول تضل باللهو وبالفساد، وهمم لا تتعدى الملاعب والفن، والكرة والطرب، والأهواء والشهوات، والسفر في معصية الله، ثم بعد ذلك ننتظر أمة معطاءة، أمة منافسة، نحن أمة على خطر إن لم نتمسك بهذا الدين، لئن كان نصرنا في كثرتنا فإن الأعداء أكثر منا، بل إن أوروبا قد دخلت مرحلة الولاء: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
[الأنفال:73] الولاء بين دول أوروبا قائم الآن، ويسعون إلى توحيد العملة في كافة أنحاء أوروبا، والسوق الأوروبية المشتركة نوع من الولاء الكافر.
فإن كانت بالكثرة فالكفار: أوروبا وحدها أكثر، أمريكا أكثر، البوذ أكثر، الهندوس أكثر، فلئن كانت بالصواريخ والصناعة والإنتاج والمكتشفات والطائرات، فقد تقدمونا بوناً شاسعاً، وبيننا وبينهم فرق واسع، ولئن كانت بالمعتقد فعندنا عقيدة لئن فرطنا فيها لنكونن أهون الأمم على وجه الأرض، ولنكونن أهون عند الله من الجعلان والجنادل والتراب.
الموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل |
فكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر |
فلا تشتغل بالفساد والحرام والمنكرات ظناً أنك ستعيش:
فكم من عروس زينوها لزوجها وقد نسجت أكفانها وهي لا تدري |
وكم من صغار يرتجى طول عمرهـم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر |
لا تكثر التسويف بهذا، وكم عرفتم وعرفنا، ورأيتم ورأينا أقواماً تعودوا التسويف أشهراً وأعواماً وسنوات فردوا إلى بلادهم جنائز محمولة في التوابيت، فكن معتبراً وإياك أن تكون عبرة.
وبعض الشباب أشغله بملذاته وملاهيه ضعف يقينه، كأن الجنة عالم غريب لا يطمع في الدخول والوصول إليه، وكأن النار عالم تخيلي لا يمكن أن يقع فيه أو يزل فيه في يوم من الأيام إن لم يتداركه الله برحمته، الأمر الذي جعل الصحابة يبكون، والسلف يسقطون وخشية، هو سوء الخاتمة، يخافون النار ويرجون الجنة، إنهم يرونها حق اليقين.
كنت في صالة الامتحان، أوزع أوراق الأسئلة فإذا بشاب يلتفت يمنة ويسرة فقلت: من التفت إلى زميلة أثناء توزيع الأسئلة أسحب ورقته، فلما وزعت الأسئلة إذا به يلتفت، فجئت وسحبت ورقته وحرمناه نصف ساعة، فإذ بالدموع تنحدر على خده، لماذا؟ لأن عنده يقيناً أن هذا الموقف الذي وقفه الآن له عاقبة يتيقنها وهي رسوبه في الامتحان، فمن وقع ووقف موقفاً يدرك بكل يقين عاقبته أنها إلى جنة أو نار فإنه يبكي إن فاتته إن كانت إلى الجنة، ويبكي إن وقع فيها إن كان مؤداها إلى معصية الله وسخطه وعذابه.
أصبح الكلام عن الجنة حديثاً للعجائز، وحديثاً لكبار السن، ولطائفة من الناس، أما الشباب فلهم حديث آخر، لا يا أخي الكريم، إن شغلنا وأمنيتنا هي الجنة والنجاة من النار بعد رضا الله، جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسئل: كيف تصلي أو كيف تدعو؟ قال: (أنا لا أحسن دندنتك ولا دندنة إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ
[الأنبياء:90] (رغباً) في الجنة (ورهباً) خوفاً من النار.
اليقين بالآخرة، اليقين بأنك ستموت، اليقين إذا رأيت جنازة أنك يوماً ما ستكون مثلها، اليقين إذا رأيت نعشاً أنك ستقلب والماء يرش على بدنك، فتغسل جنازة، إذا رأيت سدراً أو كفناً أو حنوطاً تتيقن أنه سيوضع في مغابنك، اليقين أنك ستوضع في هذا القبر، اليقين بأنك ستبقى وحدك، اليقين أن هذه الإضاءة ستتحول إلى ظلمة في القبر، وهذا الأنس سيتحول إلى وحشة اللحد، وهذا المراح والبراح سوف يتحول إلى لحد أضيق من ضيق، إذا عشت هذا اليقين والله لو دعيت إلى كل لذة، وهيئت لك، وغلقت الأبواب دونها لأنفت منها طمعاً فيما عند الله، وخوفاً أن يفوتك فضل الله وما عنده.
إذاً: فالعلاج أن نعجب بالصالحين وبالقادة، وبالعلماء، وبالدعاة، وأن نتأسى بسمتهم وهديهم وخطاهم، فإن النظر في سير الصالحين يدعو إلى الاشتغال بسمتهم والتأسي بهم، وإن متابعة سير الفسقة والفاسدين يدعو إلى تقليدهم، تجد بعض الشباب قد ربط على رأسه شريطاً أحمر، ولبس فنيلة معلقة قد أبدت كتفيه، ولبس سروالاً عجيباً مضحكاً، فتقول: ما الذي دعاه إلى هذا؟ ويمر بين الناس والناس يشخصون إليه بأبصارهم، فالجواب: لأن الممثل الفلاني، أو النجم الفلاني يفعل هكذا فهو يقلده.
ذات يوم رأينا شاباً عليه رباط أحمر، وقصة كأنها كلب تاتشر أو ديانا، وفانلة معلقة وشيء غريب، فقلت: ما شاء الله، من هذا؟ من كوكب بعيد؟ قال: لا. هذا يقلد رامبو، مجرد الإعجاب بهذا الكافر جعل هذا الشاب يتأسى خطاه، ويقتدي به ويقلده، فيشتغل بمعصية الله عن طاعته سبحانه وتعالى، فشاب يُعجب بفاجر يقلده، شاب يُعجب بفاسق يقلده، من أجل ذلك الحذر الحذر من أن يكون الفجار والفساق مواقع إعجابنا، بل إذا رأى أطفالنا أو أولادنا فاجراً أو فاسقاً فلنقل: إن هؤلاء في ذلة وهوان وضعف، إن هؤلاء مساكين، إن لم يتوبوا فهم على خطر وهلاك عظيم، فلنعمق في أنفسنا احتقار هؤلاء الذي يصدرون الفساد، ويعدون نجوماً وقادة فيه، هذا أمر ضروري جداً، وإلا سيدخل الإعجاب إلى القلوب ثم يؤثر على الجوارح.
إذا أعجبتك صفات امرئ فكنه يكن فيك ما يعجبك |
فليس على الجود والمكرمـات إذا جئتها حاجب يحجبك |
أيها الأحبة: من سير المشتغلين بطاعة الله الذين يرجون الآخرة ورحمة الله، كان أحد السلف لا يقرأ آيات العذاب وأهوال القيامة إلا إذا علم أن ولده ليس معه في مسجده، لما يصيب ولده من الوجل الذي يحصل له بسببه السقم، فصلى ذات يوم ولم يعلم أن ولده وراءه فقرأ آيات من الوعيد وولده معه في المسجد، فسقط الولد مغشياً عليه وعاد إلى البيت سقيماً، نحن لا نطالب الناس جميعاً أن يبكوا، فمن الناس من يعجز عن البكاء، وليس عدم بكاء الإنسان دليل على فجوره أو فسقه، لكن انظروا من اشتغلت نفوسهم بالطاعة تهتز أفئدتهم ولا يملكون دموعهم، ويهتزون خوفاً ورغبة وطمعاً ورغباً ورهباً.
فيقول: وكيف ينام من يخاف الموت يا أماه؟!
ويبكي بكاء شديداً، فتقول: والله إن من رأى بكاءك يظن بك السوء؛ هل قتلت نفساً.. أخبرنا، فإن أهل القتيل لو علموا بحالك لعفو عنك رحمة بك، وشفقة لما حل بك؟ قال: نعم يا أمي! لقد قتلت نفساً فلا تخبري أحداً، إني قتلت نفسي بالذنوب.
أقوام اشتغلت أنفسهم بالطاعة فاشتاقوا إلى الآخرة، وعلموا أن الدنيا ممر ومعبر لكي يستقروا في نعيم لا يتكدر أبداً.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه الله عنه عن ذلك الشاب المشتغل بطاعة الله ألا وهو الربيع بن خثيم: [يا
يا شباب الإسلام! لا تظنوا شاباً إذا رأى امرأة ولو اشتهى النظر إليها عف وغض بصره عنها، كشاب تابعها حتى يواريها مأواها، لا تظنوا شاباً عرض عليه فلم فرمى به وكسره يستوي مع شاب أشغل ليله سهراً في رؤيته ورؤية ما فيه من الحرام.
يا شباب! لا تظنوا شاباً قد جمع آلافاً أو مئات أو عشرات من أشرطة الغناء يستوي مع شاب لا يسمع إلا كلام الله ورسوله، لا تظنوا شاباً يذهب مع الغادين والرائحين ومن هب ودب في الأسواق والمجمعات التي فيها الغث والسمين والضار والنافع يستوي مع شاب لا يرد إلا حلق الذكر، ورياض الجنة، ومجالس العلماء، ومواقع الطاعة بإذن الله: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ
[الجاثية:21].
وأنت امرؤ فينا خلقت لغيـرنا حياتك لا نفع وموتك فاجع |
شاب لو صارت له مصيبة لانزعجنا لمصيبته، لو احتاج دماً تبرعنا له من دمائنا، لو احتاج كلية لبحثنا نشتريها أو نتبرع بها، لو حصل له فاقة لجمعنا الأموال بعد عسره، ولكن في حال طمأنينته ما نفعنا وما نفع الدعوة، وما نفع الإسلام بشيء.
فيا أخي الكريم: لا تكن من المشغولين بلا مهمة، لا تكن من الذين ذهبت أيامهم ولياليهم بلا فائدة أبداً.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وأسأل الله جل وعلا أن يكون الحديث حجة لنا ولكم، ولا يكون حجة علينا وعليكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الجواب: لعلي ذكرت هذا في آخر نقطة، نعم، إن بعض الشباب المسلم يظن أنه قد خدم الإسلام، ونصر البوسنة ، وجمع شمل المجاهدين، ورد اليهود من القدس بمجرد التزامه وكفى ووفى، وليس هذا بصحيح، إننا نريد التزاماً وعملاً وجهداً وإنتاجاً، وشاباً لا يجعل لكل سنة مهمة، ولكل شهر جزءاً من المهمة، ولكل أسبوع مرحلة من المهمة أظنه يضيع أيامه ولياليه:
ولكنها عن قسوة القلب قحطها فيا ضيعة الأعمار تمضي سبهللا |
الجواب: يا أخي! نقول لك: إنك كما يقول القائل:
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول |
والله يا أخي الكريم! إنك تملك شيئاً كثيراً، والماء العذب الزلال بين يديك، ومن يعينك على الطاعة أمامك ومن خلفك وعن يمينك وشمالك، والأهداف مرسومة، والوسائل ميسرة، ولكنا نريد خطوة إلى الأمام.
يقول لي أحد الإخوة لعلكم تعرفونه، محمود باحاذق ، من أوائل الشباب الذين ذهبوا إلى البوسنة، قال: كنت ذات يوم في المركز الإسلامي في زغرب فجاء شاب بوسني ولعله وشيك أو حديث إفاقة من خمر، ومعه مترجم، فقالوا: إن هذا الشاب يسأل يقول: هل يوجد شيخ أريد أن أسأله عن الإسلام؟
قال: فجيء به إلي، فقلت: وكيف أكلم هذا الشاب؟!
قالوا: إنه قد أفاق، فأدار المترجم الحوار بيني وبينه، قال: فكان أول حديثه أن قال: إني شاب مسلم بسناوي -مسكين ما يعرف أن الخمر حرام أبداً، انظروا يا إخوان، الجهل والتضليل البليغ العظيم بأبناء المسلمين في أوروبا الشرقية ودول البلقان اثنين وسبعين سنة تحت الشيوعية - قال: إني مسلم، ولأجل أني مسلم، هدمت دارنا، واغتصبت بناتنا، وذبح آباؤنا، وشردنا من بلادنا، مع ذلك أنا لا أعرف من الإسلام إلا شهادة أن لا إله إلا الله، وأشهد أن نبينا محمد رسول الله، وأن الخنزير لا يجوز أكله، هذا الذي يعرف من الإسلام، قال: ومع ذلك حملت السلاح وجاهدت الكفار في سبيل هذه المعلومة، فالشاب الأخ الجريح وغيره من الشباب، بل حتى بعض المساجين الآن كم يعرفون عن الإسلام، يعرفون عن الإسلام ما لو سجل من ألسنتهم لبلغ مؤلفات، يعرفون الصلاة، والوضوء، والغسل، وصلاة الكسوف، والخسوف، والجنازة، ويعرفون أشياء كثيرة جداً عن الإسلام، فماذا قدموا للإسلام.
يعني: أنت تعرف عن الإسلام معلومات عديدة ما قدمت للإسلام شيئاً، وذاك البوسنوي لا يعرف عن الإسلام إلا كلمتي الشهادة، تحمل في سبيلها الجهاد والقتل والتضحية والدماء، فالأمر عجيب يا أخي الكريم، تستطيع أن تقدم شيئاً ولكن المسألة مسألة همة:
وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام |
بعض الشباب يقول: أتوب وأرجوكم ألا تدخلوني في شيء، ولا تكلفوني شيئاً.
يقال له: هذا شريط توزعه في سبيل الله، كتيب نافع توزعه في سبيل الله، دعوة إلى محاضرة، تعين بريال أو بكفالة يتيم، أو بتجهيز غازٍ، أو أو... إلى آخره.
يريد أن يكون ظبياً جفولاً.
فنقول أخي: الزم هؤلاء الصحبة الطيبين الموجودين، وستجد خيراً واستقامة بإذن الله.
بهذا -أيها الأحبة- تنتهي الأسئلة، وأسأل الله جل وعلا أن يعيد هذا اللقاء بيننا وبينكم، وأن يكرمنا بالاجتماع في دار الكرامة، دار الرحمة في جنات النعيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر