أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].
معاشر المؤمنين: يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
وقال صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس) وذكر منها صيام هذا الشهر الكريم، فصومه ركن من أركان الدين.
أيها الأحبة: لم تبق إلا أيام قليلة، ويهل علينا بهلاله، ونسعد بإطلاله، فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن أُكرم ببلوغه والعمل فيه، والتمام له والقبول، فذلك شهر عظيم، تفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيها أبواب النيران، وتسلسل الشياطين، ذلك شهر كله مدرسة عظيمة، منذ تربت فيه الأجيال بأمر الله عز وجل بصيامه إلى يومنا الحاضر، بل وإلى أن تقوم الساعة.
ولكن الناس في هذا الزمان بين مد وجزر في استفادتهم من هذا الشهر العظيم، والأمر في استفادة الناس ليس إلى الشهر، فالشهر يبلغ بقدر الله عز وجل، ويحل بأمر الله عز وجل، ولكن الأمر إلى الناس، فمن زكى نفسه وجاهدها؛ فقد أفاد من هذا الشهر خيراً عظيماً، ومن دساها وأتبعها هواها، وتمنى على الله الأماني؛ فقد خسر خسراناً عظيماً، إذاً .. فالأمر فينا وليس في الشهر.
من كتب الله له أن يدرك هذا الشهر؛ فهو مدركه لا محالة، ولكن الذين يدركون الشهر تتباين نتائجهم في ختامه، فمنهم الرابح فيه، ومنهم الناجح، ومنهم الفائز فوزاً عظيماً، ومنهم الخاسر خسراناً مبيناً.
إنه شهر الصبر واليقين، وبذلك تُنال الإمامة في الدين، قال الله عز وجل: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] ففيه عبادة الصوم، وهي عبادة جليلة، يقول الله عز وجل فيها في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي) رواه البخاري ومسلم .
أيها الأحبة: إن إدراك هذا الشهر وصيامه سبب لتكفير الذنوب، قال صلى الله عليه وسلم: (الصوم جنة يستجن بها العبد من النار) أخرجه الإمام أحمد .
فمن كان مذنباً أو مفرطاً أو مضيعاً، فأدرك هذا الشهر، فيا هنيئاً له إذ بلغ شهراً يكون له جُنَّة ووقاية من عذاب الله، ويكون سبباً في تكفير ذنوبه، ومباعدة وجهه عن النار سبعين خريفاً، قال صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله، باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)
وهو حسنة من الحسنات، بل من أعظم الحسنات وأشرفها وأزكاها، والله عز وجل يقول: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114] أما الذين لا يتذكرون، أما الغافلون، أما اللاهون والجاهلون، أما الضائعون والسابحون في غفلاتهم ولهوهم، فليس لهم في ذلك حظ من الذكرى.
والله إنها لفرحة عظيمة، أن يهل علينا شهر يكون لنا جُنَّة من النار، وتكفر فيه ذنوبنا، وترفع فيه درجاتنا، وتفتح لنا فيه أبواب الجنة، وتغلق دوننا أبواب النيران، وتصفد وتسلسل الشياطين التي طالما تسلطت علينا وأغرتنا بالمعاصي وأغرت المعاصي بنا.
يقول صلى الله عليه وسلم: (فتنة الرجل في أهله وماله وجاره يكفرها الصلاة والصيام والصدقة) رواه البخاري ومسلم .
ويقول صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر) رواه مسلم .
فمن ودع الشهر الماضي في العام الماضي، ثم استقبل هذا الشهر في هذا العام، وقد سلم من الكبائر، فهي بشارة له وهدية وتحية، نقول له: قد كفرت ذنوبك كلها، ومحيت سيئاتك وأنت تستقبل صفحة جديدة بيضاء نقية.
إن من صام هذا الشهر إيماناً واحتساباً؛ غفر له ما تقدم من ذنبه، فالصالحون في هذه الأمة يحرصون على الخير، وكانوا أحرص الناس عليه، لذا تراهم قبل دخول الشهر يراجعون أنفسهم قبل أن يراجعوا خزائن الطعام، ويستعدون بأرواحهم قبل أن يستعدوا لأصناف المآكل والمشارب، ويزكون أفئدتهم قبل أن يقلبوا النظر فيما يأكلون ويشربون.
إن من أقبل عليه هذا الشهر فقدم عليه وهو في اشتياق ولهفة وحنين إليه، حنين إلى الصوم.. حنين إلى القيام.. حنين إلى التهجد.. حنين إلى الركوع والسجود والوقوف بين يدي الله عز وجل رجاءً ورغبة، عسى أن يغفر الله لنا ولهم كل ما سلف من الذنوب، وعسى أن نكون في عداد العتقاء من النار، فأولئك تراهم يفرحون فرحاً عظيماً لا يقارن بفرحهم سواءً كان بزوجة حسناء، أو بولد يولد، أو بمال يوهب، أو بشيء من حطام الدنيا.
إن من لم يأبه بهذا الشهر ويفرح به، وحصل في نفسه ضد ذلك، وهو الألم من انقطاعه عن الملذات والمآكل والمشارب، وألمه في أنه سوف يترك كثيراً مما تعوده من أوهامه التي ينسجها بقدوم الشهر، فهذا على خطرٍ عظيم أن يحبط عمله، وأن يرد صيامه ولو صام، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إن كثيراً من الناس اليوم مما تأسف له القلوب حزناً، وتزداد النفوس في أحوالهم ألماً وحسرة، أن ترى بعضهم إذا قدم رمضان كأنهم في ضيق وشدة، وكأن الشهر ضيف ثقيل، ينوء بكلكله عليهم، فيقطع عنهم لذاتهم، فتراهم تتحشرج أرواحهم في صدورهم .. لم كل هذا؟!
لأن رمضان في نظرهم يحجب عنهم ما تعودوه من الذهاب والإياب، والسعي الدءوب، والكدح الذي لا يعرف الملل، في أمور قد فرغت وقسمها الله عز وجل.
هذا في المباح فضلاً عما يقترفه بعضهم من الملذات الوهمية المحرمة، فترى الذين تعودوا الخمر والفساد، وتعودوا الخنا والزنا، وتعودوا المعاصي والآثام، يعدون الساعات والأيام، يعدون عداً تنازلياً متى ينقضي هذا الشهر، ويفرحون بانقضاء أيامه ولياليه، فهم على مرور أيام السنة ولياليها غارقون في الملذات والشهوات والمباحات والمحرمات، فإذا أتى رمضان في نظرهم، حرمهم من هذا ومن غيره، ورأوا أنه يقيدهم يقطعهم عما كانوا يشتهونه.
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا تقييده بأوامر ونواهي |
ورأوه أعظم قاطع للنفس عن لذاتها يا ذبحها المتناهي |
عباد الله: لأجل ذا كان من واجبنا أن نتميز عن استقبال الغافلين للشهر، وأن نتميز عن استقبال اللاهين للشهر بأن نستقبله بكل فرح، وبكل شكر ودعاء، وبكل خضوع وسعادة أن بلَّغنا الله هذا الشهر، وكم من نفس تدفن في ليلة حلوله! وكم من نفس تبلغ أوله ولا تدرك آخره! وكم من نفس أعدت الطعام والمتاع لبلوغه ولأجل صيامه وقيامه! فكان الطعام لورثتها من بعدها، وأما هي فلم تدرك منها شيئاً.
إن التفنن الذي تعيشه أمتنا في تضييع أوقاتها على الصعيد العام والخاص؛ أدى بأن يمضي العالم وأن يسبقنا إلى المستقبل، وصرنا أيتاماً للتاريخ، وصرنا أشباحاً وأوهاماً وأطلالاً للتاريخ، ذلك بتضييعنا الأوقات عامة، والأوقات في شهر رمضان خاصة.
فإن لم يتحول إلى فن في استغلال الأوقات واغتنامها، وإعمارها على الوجه الصحيح، فسنبقى أمة في دبر الزمان وفي ذيل القافلة.
أيها الأحبة في الله: كم نغبن غبناً عظيماً في ضياع الأيام والليالي والشهور والأعوام دون أن نستفيد منها، فما بالك بأشد الغبن حينما تمر مواسم التجارة وفرص الربح العظيم، ثم تولي ولم نأبه ولم نستفد منها، وصدق صلى الله عليه وسلم حين قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ).
فكم غبنا في أشهر ماضية، وكم غبنا في ليالٍ عديدة وأيام مديدة، ضاعت فيها فرص لنا فيها قدرة أن نبلغ أعلى الدرجات، وأن نسابق الأمم إلى مدارج الرقي والكمال، ولكننا ضيعنا تلك الغنائم التي أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالعناية بها إذ قال: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) رواه الحاكم وصححه.
نعم أيها الأحبة: كم ضاع من أيامنا في طوال أيام السنة ولياليها؟ وكم ضاعت منا الفرص في عشر ذي الحجة، وفي شهر رمضان، وفي الهجيع الأخير من الليل، وفي ساعات الإجابة يوم الجمع، وفي مناسبات عديدة نستطيع أن ندرك بها أجوراً وثواب أيام وليالٍ عديدة؟ ولكن لغفلتنا واشتغالنا وضياع أوقاتنا بما يضرنا فرطنا وضيعنا وأصبحنا من المغبونين: الحذر الحذر -أيها الأحبة- من أن تلهينا الدنيا عن العمل للآخرة في زمن شريف كهذا الشهر العظيم.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9-11].
ففي الآية تحريض ودعوة وترغيب إلى المسارعة في اغتنام هذه الأوقات وعدم ضياعها، أو الاشتغال بأمور قد قسمها الله ونحن أجنة في بطون أمهاتنا.
الحذر من أن تلهينا الدنيا، ثم نقبل ظالمين أنفسنا، ثم نصبح في غمرات الموت، أو نمسي نادمين على ما فرطنا من الليالي والأيام، إذ العاقل -أيها الأحبة- يتدارك أيامه وشريف الزمان قبل أن يقول: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر:37] قبل أن يقول: رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [المنافقون:10] قبل أن يقال له: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37].
أين ضاعت الأعمار؟ وأين مضت الشهور؟ وأين ولت الدهور؟ وفيم قضيت الليالي والأيام؟
يا نفس كُفِّي فطول العمر في قصر وما أرى فيك للتوبيخ من أثر |
يا نفس قضيت عمري في الذنوب وقد دنا الممات ولم أقض من الوطر |
يا نفس غرك من دنياك زخرفها ولم تكوني بهول الموت تعتبري |
يا نفس بالغت بالعصيان غاوية ولم تبالي بتحذير ومزدجر |
فكم من رجل يدرك هذا الشهر، فيصوم بفمه عن الطعام والشراب، ولا يصوم لسانه عن القيل والقال، ولا يصوم عن الغيبة والنميمة، يتسحر ويفطر ليهدي أجر صومه إن ثبت له أجر الصوم، ليهديه إلى الذين يغتابهم، وإلى الذين يتكلم في أعراضهم، وكثير من الناس بهذا يقعون وفي هذا يشتغلون.
فالعاقل يعصم لسانه وبصره، فما أكثر الذين يصومون عن المأكل والمشرب والمنكح، ولكن آذانهم لا تصوم عن سماع اللهو، ولكن أعينهم لا تصوم عن النظر إلى الحرام! وتراهم حتى في شهر الصيام يشترون لهو الحديث، ويضلون أنفسهم، ويضلون من دونهم بغير علم: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل:25].
إن كثيراً من الناس ربما تراه في نهار رمضان صائماً، ثم ينظر إلى قناة من القنوات، تلك التي يستقبلها جهاز الدش أو المستقبل، ثم يرى شيئاً يُستهزئ فيه بكلام الله، ويُستهزئ فيه بسنة رسول الله، ويسمع فيه ما يناقض العقيدة والشريعة، فتراه لا يزيد أن يقلِّب يداً على الأخرى، أو يضع رجلاً على رجل وقد نسي قول الله: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ [النساء:140].
فما أكثر المسلمين اليوم الذين يرون عبر هذه القنوات أموراً فيها استهزاءً بآيات الله أو بشريعة الله أو بسنة رسول الله، ولكنهم لا يقومون ولا يتحركون ولا يتجافون أو يبرحون هذا المكان! وإنما تراهم على منكرهم يقعدون ويمكثون، فأولئك والله على خطر عظيم، أن ينالهم نفس الوزر الذي يناله الفاعلون؛ لأن من رضي وسكت وأقر فيما يسمع ويرى من غير أن يقوم وينكر بقلبه على الأقل؛ فربما كان وشيكاً أو حقيقاً بأن يدخل في هذا الوزر العظيم.
أما كثير من المسلمين الذين لا يتورعون عن سماع اللهو والغناء، سواءً في رمضان خاصة وفي غيره عامة، فنقول لهم: يا عباد الله! أبهذا يستقبل الشهر؟ أبهذا يتقضى العمر؟ أبهذا يقضي المسلم سحابة يومه؟ يسمع الأغاني الماجنة والأغنيات الخليعة والدندنة والطنطنة التي تشغل عن ذكر الله والتي تصد عن استماع كلام الله؟
ورحم الله القائل:
فلعمر الله كم من حرة صارت بالغناء من البغايا!
وكم من حر أصبح بالغناء عبداً للصبيان والصبايا!
وكم من غيور تبدل به اسماً قبيحاً بين البرايا!
وكم من ذي غنىً وثروة أصبح بسبب اللهو على الأرض بعد المطارب والحشايا!
وكم من معافى تعرض لهذا اللهو فأمسى وقد حلت به أنواع البلايا!
وكم أهدي للمشغوف من أشجان وأحزان فلم يجد بداً من قبول تلك الهدايا!
وكم جرع من غصة! وأزال من نعمة! وجلب من نقمة! وذلك منه إحدى العطايا!
وكم خبأ لأهله من آلام منتظرة وغموم متوقعة وهموم مستقبلة!
نعم يا عباد الله! إن اللهو وسماعه، والحرام والنظر إليه، والمعصية والاشتغال بها، تورث ذلك كله، فالعاقل يصون صومه، ويصون جوارحه في صيامه: (فمن لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه).
قال بعض السلف: رجاءك لرحمة من لا تطيعه من الخذلان والحمق.
وقال بعض الناس للحسن : نراك طويل البكاء، قال: [أخاف أن يطرحني في النار ولا يبالي].
فهذا الحسن البصري من العلماء العباد والزهاد والمحدثين، هذا عظيم خوفه وجليل إشفاقه من الله عز وجل، مع أنه لم يقترف من الذنوب ما اقترفه السفهاء، ولم يقع في المعاصي كما وقع فيه الأغبياء والجهلاء، بل سيد الخلق صلى الله عليه وسلم بُشر بالجنة، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكان إذا رأى في السماء لوناً أو تغيراً؛ تغيَّر وجهه واصفر لونه صلى الله عليه وسلم، ويقول: (اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً).
وإذا كسفت الشمس أو خسف القمر؛ ظهر صلى الله عليه وسلم من حجرته يجر رداءه خوفاً ووجلاً وإخباتاً وخشوعاً وخشيةً من الله عز وجل أن يحل بالخلق ما يحل بهم، فما بالنا نحن معاشر الذين جمعنا مع الذنوب أملاً عظيماً ومع التفريط رجاءً واسعاً؟
فنعوذ بالله أن نكون من الذين يقع فيهم أو يحل فيهم أمر الله وقوله: وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47].
سأل رجل الحسن فقال: يا أبا سعيد ! كيف نصنع بمجالسة أقوام يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تنقطع؟
فقال: [والله لأن تصحب أقواماً يخوفونك حتى تدرك أمناً، خير لك من أن تصحب أقواماً يؤمنونك حتى تلحقك المخاوف].
وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه -أي: يعطي العبد ما يحب- فإنما هو استدراج، ثم تلا قول الله عز وجل: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام:44]).
فالعاقل -يا عباد الله- يحاسب نفسه وينتبه ويعد للأمر عدته، ويحذر أن تكون هذه المعاصي قد جعلت على قلبه طبقة من الران، فأصبح كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتمسكوا بشريعة الإسلام، وعضوا بالنواجذ على العروة الوثقى، واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ في الدين ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار عياذاً بالله من ذلك.
فكم من مسلم مر بزبالة فرأى فيها ألوان الطعام والشراب قد اختلطت بالنجاسات وغيرها، أفهذا من شكر نعم الله؟ أفهذا من حمد الله أن بلغنا الشهر، ونحن أعزة، وغيرنا في مذلة!
ونحن في أمن وغيرنا في مخافة!
ونحن في نعيم وغيرنا في مجاعة!
ونحن في اجتماع وشمل وغيرنا في تفرق وتمزق!
ونحن في منعة وغيرنا تتخطفهم السهام من كل جانب! أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص:57].
فيا عباد الله: الواجب علينا القصد في المعيشة كلها، لأن المقصود من الأكل عند الإنسان أن يكون الطعام والشراب بلغة إلى الآخرة ومعيناً على عبادة الله.
نعم .. إن الحيوان والبهيمة نهمته ورغبته إشباع غريزة الأكل التي خلقت فيه، ليسمن ثم ينحر ليأكله أهله وأصحابه.
أما الإنسان فما يأكل ليسمن كما تسمن البهائم، وإنما يأكل ويشرب من أجل أن يكون الطعام بلغة إلى طاعة الله عز وجل.
فينبغي أن نفهم المقاصد في كل ما شرع لنا، وفي كل ما أوتيناه من نعم الله عز وجل، والحذر الحذر من أن يكون همنا الرغبة في الدنيا بكل ما فيها.
إن طائفة من البشر لا هم لهم إلا الملذات ولا غير .. الشهوات ولا غير .. رغبات النفوس ولا غير .. شهوات النفوس ولا غير .. المهم اللذة في المأكل والمشرب والفراش والغدو والرواح .. المهم اللذة سواءً وافقت طاعة أو معصية .. وذلك من الإعراض عن رحمة الله ورجاء ما عند الله، والله عز وجل يقول: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:7-8].
فنحن أيها الأحبة: نأكل ونرجو رحمة الله، ونشرب ونرجو رحمة الله، ونغدو ونروح نرجو رحمة الله، وننام ونستيقظ نرجو رحمة الله، ينبغي ألا يفارقنا رجاء لقاء الله، ورجاء رحمة الله عز وجل.
إن في السحور بركة، هدية عظيمة وبركة عميمة، يقولها النبي صلى الله عليه وسلم، ينطق بها عن وحي يوحى، وما هو من الهوى.
وكثير من المسلمين اليوم جعلوا طعام منتصف الليل هو مائدة طويلة عريضة، ويجعلونها هي خاتمة المطاف ثم ينام الكثير نومة يدع فيها لقمة السحور، ولو أن المسلم تفطن لذلك؛ لوجد أن في اليقظة للسحور سر ومعنى وبركة، فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وليكون من الذين قال الله فيهم: وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:18].
أن تنال الشرف بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وتنفيذ نص أمره صلى الله عليه وسلم، مع ما ينالك من التسبيح والاستغفار في لحظات السحر لتكون من الذاكرين الله كثيراً، إن هذا أمر عظيم ينبغي أن ننتبه إليه.
فالله الله لا تضيعوا صلاة التراويح، فقد صلاها النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى الناس بصلاته، ثم صلاها وفعلوا مثل ذلك، ثم احتبس في بيته ولم يخرج لهم، فقالوا: يا رسول الله! هلا نفلتنا بقية شهرنا، فقال وهو الرءوف البر الرحيم بأمته: (خشيت أن تفرض عليكم) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].
الرسول صلى الله عليه وسلم شرعها لنا وصلاها وصلى الصحابة بصلاته، ثم عاد إلى بيته يصليها خشية أن تفرض على الأمة، فيكون ذلك من المشقة، وما المشقة -أيها الأحبة- على القادر المستطيع عليها؟ إنها تشريع لكي نتسابق فيه، وإنها رحمة من النبي صلى الله عليه وسلم فقد خاف أن تفرض على الأمة.
تجد أناساً يقضون العشاء ويصلون العشاء وقد فاتتهم، وقد خرجوا من أماكن بعيدة، ليدركوا صلاة التراويح في مسجد من المساجد، فيضيعون الصلاة مع الجماعة.
الصلاة الصلاة يا عباد الله، فضل تكبيرة الإحرام مع الجماعة الأولى، وفضل إدراك الجماعة يعدل التراويح كلها، فلا تضيِّع أمراً جليلاً ولا تضيع أمراً فاضلاً بأمر مفضول، فالحذر من الوقوع في هذا الأمر.
كذلك أيها الأحبة: من الجميل جداً، والطيب جداً ما نراه في أن كثيراً من المسلمين قد جعلوا جوار كل مسجد مكاناً يفطر فيه الصائمون، خاصة إخواننا وأحبابنا العمال الذين يشتغلون بالعمل، والسعي لأجل لقمة العيش وهنيئاً لهم إنهم يمسون ويبيتون بإذن الله ورحمته مغفوراً لهم: (من أمسى كالاً من عمل يده، أمسى مغفوراً له).
فحقهم علينا -وإكرام المسلمين واجب- أن نعد لهم طعاماً وشراباً وعشاءً، لكي يأووا إلى هذه الأماكن، فيجدوا الرحمة والتكافل والمحبة والمودة والمؤاخاة بين المسلمين.
وإنها سنة حسنة قد انتشرت في كثير من المساجد، فينبغي لكل مسلم إذا رأى أن مسجدهم ليس حوله من هذا الأمر الحسن شيء؛ فعليه أن يدعو جماعته أن يعدوا تفطيراً لجائع وإكراماً لمسلم: (ومن فطر صائماً؛ فله مثل أجره لا ينقص من أجر الصائم شيئاً).
إن في تفطير الصائم -أيها الأحبة- وإطعام الطعام سبب لدخول الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس! أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام).
إن بعض المسلمين هداهم الله تجده بعد أن قضى سحابة نهار طويل في النوم، وقام وقد فاتته الفريضة في الظهر والعصر، ثم يجلس أمام التلفاز ليشاهد أفلاماً ضاحكة ساخرة وسخيفة ومشاهداً ليست مما يليق بأمر شهر الصيام، ثم بعد ذلك يأوي إلى الصلاة يريد أن يبكي من آية الوعد والوعيد، يريد أن يخشع، هيهات هيهات! وأنى له الخشوع والبكاء! وهو حينما يريد أن يكبر ليدخل في الفريضة والتراويح، يعود الشريط بالذاكرة ليعرض أمام عينيه ما رآه عصر يومه، أو ظهر يومه، أو مغرب يومه، من أفلام ساخرة أو ضاحكة أو سخيفة.
إن العاقل إذا أراد أن يحتفظ ويتلذذ بالخشوع فعليه أن يغض طرفه، ويحفظ سمعه، ويحفظ لسانه.
اترك فضول الكلام؛ توفق إلى الحكمة، واترك فضول النظر؛ توفق إلى الخشوع.
فمن أراد الخشوع وكان يشكو قسوة القلب، ويرى الناس من حوله لصدورهم أزيز ونحيب وبكاء، وهو يرى قسوة لنفسه ولقلبه من بينهم، نقول: قلِّب الأمر في بصرك، وقلِّب الأمر في سمعك، فلعلك تنظر في هذه الأمور وهذه الملهيات مما يحجبك عن لذة الخشوع والإنابة والخضوع.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم أبطل كيد الزنادقة والملحدين، اللهم عليك بمن سعى في إيذاء أوليائك، اللهم عليك بمن آذى المسلمين في كل مكان.
اللهم عليك بالصرب والروس واليهود، اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، وأرنا فيهم عجائب قدرتك.
اللهم من صد عن دينك، اللهم من صد عن سنة نبيك، وصد عن صحابة نبيك، اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم مزقه كل ممزق، اللهم لا ترفع له راية، واجعله لمن خلفه آية.
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجمع شملنا وحكامنا وعلماءنا ودعاتنا، ولا تفرح علينا عدواً ولا تشمت بنا حاسداً.
اللهم سخر لنا ولهم ملائكة السماء برحمتك، وجنود الأرضين بقدرتك، اللهم اجعل كل ذلك في طاعتك يا رب العالمين.
اللهم ارحم إخواننا المستضعفين في البوسنة والشيشان وفي كل مكان، واجمع شملهم في أفغانستان ، وانصرهم في طاجكستان يا رب العالمين.
اللهم إنهم جياع فأطعمهم، وظمأى فاسقهم، وحفاة فاحملهم، ومتفرقين فاجمع شملهم، اللهم أقم على الحق والشريعة دولتهم، اللهم انتقم لهم ممن ظلمهم، اللهم عجل بطشك بمن عاداهم يا رب العالمين.
اللهم اغفر لنا ولأمهاتنا وآبائنا وأجدادنا وجداتنا، اللهم جاز الجميع بالحسنات إحساناً وبالسيئات عفواً وغفراناً.
اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان، وأعنا على قيامه وصيامه، اللهم حبب إلينا الطاعة فيه وفي كل شهر، اللهم بغِّض إلى نفوسنا المعصية فيه وفي كل شهر يا رب العالمين، واجعل حظنا منه القبول يا حي يا قيوم.
اللهم صلِّ على نبينا وحبيبنا محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر