أما بعد:
أيها الأحبة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
في مستهل هذا اللقاء أسأل الله عز وجل أن يكون اجتماعنا وإياكم مرحوماً، وتفرقنا من بعده معصوماً، وألا يجعل فينا ولا من بيننا شقياً ولا محروماً.
والحديث عن إمام الهدى، وما أدراك ما إمام الهدى! ذاك محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذي بصر الله به عيوناً عمياً، وفتح به قلوباً غلفاً، وأسمع به آذاناً صماً، إمام الهدى صلى الله عليه وسلم الذي هدانا إلى الصراط المستقيم: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52].
ذاك إمام الهدى، ولا غنى لمسلم أياً كان عن سيرته، لا غنى للملوك عن سيرته، ولا غنى للزعماء عن سيرته، ولا غنى للأغنياء والفقراء عن سيرته، ولا غنى للمتعلمين والعلماء عن سيرته، ولا غنى للرجال والنساء عن سيرته. لماذا؟
لأنه أسوة وقدوة لنا: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21] فمن كان يرجو الله فعليه بالتأسي بإمام الهدى، ومن كان يرجو اليوم الآخر فليتأس بإمام الهدى، ومن كان من الذاكرين أو يطمح أن يكون من الذاكرين فعليه أن يتأسى بإمام الهدى، وما ذاك إلا لأن كلامه صلى الله عليه وسلم وحي يوحى، ولأن سيرته ترجمة لهذا الوحي.
نحن بأمس الحاجة أن نعرف عنه صلى الله عليه وسلم كل شيء من أحواله، كل دقيق وجليل في حياته، كيف كان صلى الله عليه وسلم يأكل، وكيف كان يشرب، وكيف كان ينام، وما حاله في الرضا، وما حاله في الغضب، وما لباسه، بل كيف كان مشيه، وما علاقته بالصغير والكبير، وما تعامله مع الناس على اختلاف أجناسهم وأحوالهم.
حاجتنا أن نعرف سيرته صلى الله عليه وسلم: أليس هو قدوتنا؟
بلى. إذاً فلا بد أن نعرف عبادته، وأن نعرف أخلاقه، وأن نعرف حاله مع أزواجه، ولن يحيط القلم واللسان بحال إمام الهدى صلى الله عليه وسلم في كل أحواله، ولكن كما قال علي بن أبي طالب في ما رواه ابن ماجة والدارمي : [إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فظنوا برسول الله أهيأه وأهداه وأتقاه].
يقول الله سبحانه في شأن نبيه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] ويقول عز وجل: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم قالت: [كان خلقه القرآن].
قال عطاء بن يسار: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. فقال رضي الله عنه: (والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن، وهذا وصفه في التوراة: يا أيها النبي! إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفض ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً) رواه البخاري.
وروى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله! ادع على المشركين، فقال صلى الله عليه وسلم: (إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة) هذا من سمو خلقه، هذا من كريم شمائله، هذا من علو منزلته صلى الله عليه وسلم يقال له: ادع على المشركين، فيقول: (ما بعثت لعاناً وإنما بعثت رحمة).
وروى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا لعاناً ولا سباباً، وكان يقول عند المعاتبة: ما له تربت يمينه) يعني: أصاب يمينه التراب، هذا من كريم شمائله صلى الله عليه وسلم.
ولنقف عند هذه وقفة -أيها الأحبة في الله- إن بعض إخواننا من المسلمين تجده سليط اللسان في السباب والشتائم حتى على المشركين والكفار، وأنا لا أنافح عن كافر، ولا أدافع عن ظالم، ولا أقول ذلك خشية على عرض فاجر، ولكن نقول: فلنعود ألسنتنا ما تعودناه وما عرفناه من شمائل نبينا صلى الله عليه وسلم، خاصة إذا كان سباب الكافرين وشتمهم سيفضي إلى منكر أكبر: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108] بل وفي المقابل لو قيل لأحدنا: ادع لهؤلاء الظلمة، أو ادع لهؤلاء الكفرة، أو ادع لهؤلاء الفجرة أن يهديهم الله أو أن يسخرهم للإسلام والمسلمين، التفت ضاحكاً، وسخر ملتفتاً وقال: ما شأنك وشأن الدعاء لهم؟ ألا تلعن؟ ألا تشتم؟ ألا تسب؟ ألا تقول كذا .. وكذا .. وكأنه حرام أن يدعو للضال بالهداية، وللفاجر بالاستقامة! وهذا جهل يا عباد الله.
نعم، إن الله لعن الظالمين وأعد لهم سعيراً، نعم. إن الله لعن الكافرين، نعم. إن الله لعن طوائف في كتابه: وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً [النساء:52] ولكن -أيها الأحبة- ينبغي أن نعود أنفسنا ما تعوده نبينا، ففعله وحيٌ، وقوله وحي، وسيرته وحي، فما كان سبّاباً ولا لعاناً ولا شتاماً صلى الله عليه وسلم، لقد جاء الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! ادع على دوس، فقال: (اللهم اهد دوساً وائت بهم) وكانت دوس آنذاك مقيمة على الكفر والشرك، مقيمة على حال الجاهلية، وقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم أعز الإسلام بأحب العمرين إليك) يعني: أبا جهل أو عمر بن الخطاب، فدعا لهما وهما آنذاك من الكفار.
فنحن حينما نتعلم من شأن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يبعث لعاناً، ولم يبعث سباباً، ولم يبعث شتاماً، وإنما بعث رحمة أي: يدعو بالهدى ويدعو إلى الهداية، ويدعو بالرحمة، ويدعو إلى العفو والصفح والمغفرة، فإن ذلك يعلمنا ألا نعود ألسنتنا على السب أو الشتم أو التسلط على أعدائنا؛ فليس ذلك من الرحمة بهم، ولا اللطف بجنابهم، ولا العطف في شأنهم، ولكن حتى لا تتعود ألسنتنا السباب والشتيمة، ونظن أنه غاية خدمتنا لهذا الدين، وغاية رعايتنا لهذه الدعوة، أو نظن أن منتهى قيامنا على هذا الإسلام أن نسب الأعداء وأن نلعنهم، فإن من تعود ذلك سيكون أستاذاً في السباب، ولكن لن يكون أستاذاً في الميدان، لن يكون أستاذاً في العمل، لن يكون أستاذاً في الواقع، لن يكون أستاذاً في التطبيق، وما أحوجنا إلى ألسنة بكْم على أيد فصاح:
إنا نتوق لألسن بكم على أيد فصاح |
أين الناس من هذا الخلق وهذه الشمائل في وصف النبي صلى الله عليه وسلم في بيته ومع أهله؟ فلم يكن سباباً، ولم يكن فاحشاً ولا متفحشاً، ولا يجزي بالسيئة مثلها، إن من الناس من يتعوذ أهله من سوء لسانه وسلاطته، ومن شر لسانه وخبثه، فمن الناس من لو انكسر كأس لسب، ولو انكفأ قدر لشتم، ولو انشق ثوب للطم، ولو تغير حال لضرب، أين هو من إمامه وحبيبه وقدوته ونبيه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الذي ما كان فاحشاً؟ يعني: لا يقول فحشاً من القول، ولا يلفظ بالفاحش أو البذيء أو الرديء من الكلام.
إن من الناس من تعود هذا الفحش وهذه البذاءة والغلظة، وإن من شرار الناس من تركه الناس اتقاء فحشه.
ومن الناس من هم على طائفتين في هذا:
فبعضهم تجد لساناً أحلى من العسل، وأبيض من القطن، وألين من الماء، فإذا كان عند أهله وجدت سباً وشتماً، كريم بكل خلق، وبكل قول وكلام لين، وبكل منطق عذب مع الناس أجمعين إلا مع زوجته، إلا مع أبنائه، إلا مع أولاده، إلا مع بناته فإنه لا يطيق أن يسمعهم كلمة طيبة. ما هذا الانفصام؟! وما هذا التناقض؟!
ولماذا يعامل الناس معاملة وتعامل الزوجة والأهل معاملة أخرى؟!
والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان فاحشاً ولا متفحشاً ولا بذيء اللسان.
وطائفةٌ منهم من يفتخر أنه بذيء اللسان، فاحش في القول مع الناس ومع أهله، مع القريب والبعيد، ويعدها من الفصاحة ومن البيان، ويعدها من اللجاجة والقدرة على إسكات الخصوم، وليس هذا والله بحق، وليس هذا والله من الدين في شيء، بل الدين كل الدين فيما ورد عن رب العالمين وسنة إمام المرسلين في وصفه وشمائله: ما كان فاحشاً وما كان متفحشاً، وما كان بذيء اللسان صلى الله عليه وسلم.
تقول عائشة: [ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة له قط ولا خادماً، ولا ضرب بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله] قالت: [وما نيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فانتقم إلا أن تنتهك محارم الله فينتقم لله] قالت: [وما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمران أحدهما أيسر من الآخر إلا اختار الذي هو أيسر إلا أن يكون إثماً، فإنه كان إثماً كان أبعد الناس منه].
فانظروا في شأنه صلى الله عليه وسلم: ما ضرب بيده امرأة قط، ومن بيننا ونحن المسلمين من يجلد امرأته جلد البعير، ويؤذيها ضرباً وسحباً على وجهها، ويذيقها ألوان البلاء والأذى، أهذا من الدين في شيء؟ أعلمك الإسلام هذا أم وجدت هذا في سنة نبيك؟ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21] وإن النبي صلى الله عليه وسلم ما ضرب بيده امرأة قط مع أن ضرب النساء جائز بعد الموعظة والهجر: وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً [النساء:34] وهذا الضرب غير مبرح.
ولما نهى النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك عن ضرب النساء، جاء رجال من الصحابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! زئرن النساء على أزواجهن. أي: كأن بعضهن تطاولن على أزواجهن، فأذن لهم بضربهن ضرباً غير مبرح، ثم قال عن الذين يضربون: (وما أولئك بخياركم) يعني: أن العاقل وأن خيار الناس وكرامهم من يستطيعون أن يصلحوا الأحوال وأن يصلحوا أمورهم دون أن يلجئوا إلى ذلك، وإن لجئوا إليه فبقدر ما يحتاج البدن إلى الدواء دون تطاول.
أما نحن في هذا الزمان فإذا ابتلينا وإذا ظلمنا في أنفسنا أو في أموالنا أو في حاجاتنا أو في مصالحنا ترى البعض يلبس هذه القضية بلباس الدين، ويظن أنه ينتقم لدين الله وهو ينتقم لنفسه، ويظن أنه يذب عن دين الله وهو يذب عن نفسه، ويظن أنه ينافح عن دين الله وهو ينافح عن نفسه، وإن تجريد المقاصد وإخلاص النيات لأمر عظيم، فالناس هلكى إلا العالمون، والعالمون هلكى إلا العاملون، والعاملون هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم.
فلنتعود -أيها الأحبة- أن تكون غيرتنا وأن يكون غضبنا وأمرنا وسعينا وإقبالنا وغدونا ورواحنا خالصاً لوجه الله عز وجل، وما أعظم شأن الإخلاص في هذا الزمان! والله إن الواحد -أيها الأحبة- ليخشى أن يلقى الله عز وجل ما قبل من خطبه ولا من محاضراته ولا من أعماله ولا من سعيه ولا من كتابته ولا من كل ما يفعل شيئاً، والخطر على الجميع من متصدق أو مجاهد أو أو... إلى آخره، إذا سمع وتلا قول الله عز وجل: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً [الفرقان:23].. وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ [النور:39].
نعم -أيها الأحبة- إن العاقل يخشى أن ينقلب عمله فيكون هباءً منثوراً، إن العاقل إذا قرأ قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) أشرك شهرته، أشرك شخصيته، أشرك هواه، أشرك مصلحته، أشرك جانبه الشخصي، أشرك أموره، أشرك منفعته فإن الله غني عن هذا: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) فلنمحض الإخلاص -أيها الأحبة- قبل أن نفد على الله عز وجل فيقال لأحدنا: يا عبدي ما قبلنا صيامك! ما قبلنا صلاتك! ما قبلنا خطبك! ما قبلنا كلامك .. تأليفك .. عملك .. سعيك .. صدقتك! لأن العاقل والله يخشى -أيها الأحبة- أن يكون عمله هباءً منثوراً، وعلينا أن نجاهد وأن ندقق في هذا الأمر، وألا نخدع ذواتنا فنظن أننا نخدم الدين ونحن ربما استخدمناه، قالها رجل كبير قابلته في زغرب القريبة من البوسنة في مؤتمر لحقوق الإنسان فقال ذلك الرجل الطاعن في السن الكبير وقد التفت إلي: يا بني! ما أسهل أن نستخدم الإسلام! وما أشق وما أعظم أن نخدم الإسلام!
إن استخدام الإسلام سهل، واستخدام الإسلام يكسب أرباحاً وتجارة ومنافع وصولة وجولة وبروزاً وشهرةً وتقدماً، ما أسهل أن نستخدم الإسلام! ولكن ما أعظم وأشق أن نخدم الإسلام خدمة نتجرد فيها من كل مصالحنا!
أيها الأحبة: لقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، ونحن اليوم لا نشكو أزمةً أخلاقية في الأخلاق التجارية، وفي أخلاق المجاملات، وفي أخلاق المداهنات، وفي أخلاق المصالح، وفي أخلاق المعاملات، تلك لا نشكو من أزمة فيها وإنما نشكو تكدساً وكساداً وزخماً وتضخماً فيها، أما الأخلاق الخالصة، أما الأخلاق النقية، أما المعاملة التي باعثها ومقصدها وجه الله عز وجل، وأولها وآخرها وجه الله عز وجل فما أندرها في هذا الزمان!!
إن من حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم في عظيم تواضعه، ولين لطفه، وكريم شمائله، ما ذكر عثمان بن عفان رضي الله عنه حين قام خطيباً فقال: [إنا والله قد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر، كان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير، وإن ناساً يعلموني به عسى ألا يكون أحدهم رآه قط] وكأن عثمان رضي الله عنه يشير إلى الذين ألبوا الجموع حوله، وأشعلوا الفتنة في عهده، وجمعوا الناس ينتقدونه ويقولون في عثمان ما يقولون؛ فقام عثمان في خطبة ويقسم بالله فيقول: (صحبنا نبينا في السفر والحضر، فكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير، وإن أناساً يعلموني به) أي: أناس لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم يعلمون عثمان بالنبي صلى الله عليه وسلم! يعلمون عثمان المبشر بالجنة على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن التطاول من قديم وليس في هذا الزمن الذي رأينا وسمعنا من يتطاول فيه على إمام أهل العلم في هذا الزمان، على وجه الأرض قاطبة فيما نعلم وهو سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ، لقد أوذينا في إمامنا، وأوذينا في علامة أمتنا، وأوذينا في علامة ملتنا، وأوذينا في مفتي هذه الملة وهذه الطائفة المنصورة المباركة، لقد أوذينا في عرض شيخنا وعرض إمامنا، يتكلم فيه الأقزام، يقولون فيه ما يقولون:
إذا عير الطائي بالبخل مادر وعير قساً بالفهاهة باقل |
وطاولت السحب السماء سفاهة وفاخرت الأرض الحصى والجنادل |
وقال السهى للشمس أنت خفية وقال الدجى يا صبح لونك حائل |
فيا موت زر إن الحياة ذميمـة ويا نفس جدي إن دهرك هازل |
أصبح الصغار يتطاولون على الكبار! أصبح الجهلة يتطاولون على العلماء! أصبح البخلاء يتطاولون على الكرماء!
يا سبحان الله! متى عرفنا هذا التطاول إلا في منشور يتسلل لواذاً ويدس دسيسة، من أجل تفريقكم يا شباب الصحوة، من أجل الفجوة العظيمة التي يراد لها أن تزداد بين العلماء والعامة، وبين الولاة والعلماء، وبين العامة والولاة، نحن لا نقول: قولوا للأسود إنه أبيض، ولا نقول: سموا المنكر معروفاً، ولا قولوا للباطل حقاً، فإن الباطل باطل، والظلم ظلم، والشر شر، ولكن إن سبيل الإصلاح إذا بلغ بطريق أصبح الأمر فيه يتطاول أصحابه أو شأنه إلى الكبار وإلى العلماء، وإلى الذين شابت لحاهم في الإسلام، وبلغوا منـزلة فيما ندين لله عز وجل، بلغوا منـزلة ما أصبح يضرهم ذم ذام ولا مدح مادح؛ لما علم من صلاحهم، ونسأل الله أن يثبتهم، ولا ندعي العصمة لهم، إذا بلغ الأمر هذا فمن يعذرنا -أيها الأحبة- من أناس تطاولوا على علمائنا وأئمتنا؟ وأنتم المستهدفون، وأنتم المقصودون فافهموا ما تسمعون، وأدركوا ما تقرءون فإن وراء الأكمة ما وراءها:
أرى خلل الرماد وميض نار ويوشك أن يكون لها ضرام |
نبينا صلى الله عليه وسلم خير الخليقة:
وما حملت من ناقة فوق ظهرها أبر وأوفى ذمةً من محمد |
ورضي الله عن حسان حيث قال:
إذا ما الأشربات ذكرن يومـاً فهن لطيب الراحل فداء |
فأحسن منك لم تر قط عينـي وأجمل منك لم تلد النساء |
ما ظنك لو أن واحداً من أبنائك الذين أوجب الله عليك نفقتهم جبذك بطرف ثوبك لا بحاشية عاتقك، لا بحاشية قميصك، ثم قال: يا أبت! أعطني. والله لتصفعنه أو لتضربنه أو لتؤدبنه أو لتفعلن به فعلاً عظيماً، ناهيك أن لو فعل هذا واحد من الأباعد دون الأقارب، فهذا أعرابي فض غليظ يجر النبي صلى الله عليه وسلم بحاشية البرد حتى أثرت حاشية البرد من الجانب الآخر في صفحة رقبته صلى الله عليه وسلم، ثم يقول الأعرابي: يا محمد! مر لي من مال الله، فإنك لا تعطينا من مالك ولا من مالك أبيك، فالتفت صلى الله عليه وسلم ضاحكاً، التفت متبسماً، التفت حليماً، التفت صافحاً غافراً لهذا الأعرابي.
إن عفو النبي له شأن عجيب وله صور عجيبة، يقول أبو عبد الله الجدلي : سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: [لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا صخاباً، ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح] رواه الترمذي والطيالسي وأحمد ، وإسناده صحيح.
هكذا شأنه، هكذا أمره، كان صلى الله عليه وسلم يعفو، كان صلى الله عليه وسلم يصفح، والعفو دليل القوة،، والكرم، والعفو دليل العزة، والمنعة، لا نظن أن العفو دليل ضعف، ولا نظن أن العفو دليل جهل، ولا نظن أن العفو دليل غفلة، بل العفو دليل وعي ورحمة وحكمة، وخير الناس من تحلى واقتدى بسيرة إمام الهدى صلى الله عليه وسلم، فقد كان يعفو ويصفح.
ومن دلائل عفوه القصة المشهورة المعلومة في شأن اليهودية التي قدمت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة فأكل منها، فجيء بها فسألها إمام الهدى صلى الله عليه وسلم: (ما الذي حملك على هذا؟ فقالت: أريد قتلك. فقال الصحابة: ألا نقتلها يا رسول الله؟ قال: لا. قال: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم) الحديث رواه مسلم .
لقد كان صلى الله عليه وسلم يعفو، ليس يعفو عمن تكلم في عرضه أو يعفو عن من تكلم في خاصة أمره فحسب، بل يعفو صلى الله عليه وسلم عمن حاول اغتياله، عمن حاول الاعتداء عليه، وذلك من جميل شمائله، ومن كريم أخلاقه صلى الله عليه وسلم.
تقول عائشة رضي الله عنها في لطف معاملة الحبيب صلى الله عليه وسلم:[ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده امرأة ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله] فهذا شأنه، وهذا عطفه، وهذه مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم.
فينطلقون إلى إبراهيم، فيقول: ليس ذاكم عندي، ولكن انطلقوا إلى موسى عليه السلام فإن الله عز وجل كلمه تكليماً، فيقول موسى عليه السلام: ليس ذاكم عندي ولكن انطلقوا إلى عيسى ابن مريم فإنه يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى. فيقول عيسى: ليس ذاكم عندي، ولكن انطلقوا إلى سيد ولد آدم فإنه أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، انطلقوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيشفع لكم إلى ربكم عز وجل.
قال: فينطلق، فيأتي جبريل عليه السلام ربه فيقول الله عز وجل: ائذن له وبشره بالجنة، قال: فينطلق به جبريل فيخر ساجداً قدر جمعة -بمقدار أسبوع- ويقول الله عز وجل: ارفع رأسك يا محمد، وقل يُسمع، واشفع تُشفع. قال: فيرفع رأسه، فإذا نظر إلى ربه عز وجل خر ساجداً قدر جمعة أخرى، فيقول الله عز وجل: ارفع رأسك، وقل يُسمع، واشفع تُشفع. قال: فيذهب ليقع ساجداً فيأخذ جبريل عليه السلام بضبعيه فيفتح الله عز وجل عليه من الدعاء شيئاً لم يفتحه على بشر قط، فيقول: أي ربي! خلقتني سيد ولد آدم ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، حتى إنه ليرد على الحوض أكثر مما بين صنعاء وإيلة ، ثم يقول: ادع الصديقين فيشفعون، ثم يقال: ادع الأنبياء، قال: فيجيء النبي ومعه العصابة، والنبي ومعه الخمسة والستة، والنبي وليس معه أحد. ثم يقال: ادع الشهداء فيشفعون لمن أرادوا، وقال: فإذا فعلت الشهداء ذلك. قال: يقول الله عز وجل: أنا أرحم الراحمين، أدخلوا جنتي من كان لا يشرك بي شيئاً).
إن هذا الحديث الطويل الذي رواه الإمام أحمد في مسنده لدليل على ما للنبي من المنـزلة، وما له من العظمة، وما له من الكرامة، وما له من الرفعة العالية عند رب العالمين عز وجل، فما كان عفوه عن ضعف، هذه منزلته وذاك عفوه، هذه كرامته وذاك صفحه، هذا قدره وذاك إحسانه: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
عن ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم أنه قال: (إن الله عز وجل بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، وأنزل معه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، ثم قال: "قد كنا نقرأ أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم" ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تطروني كما أطري ابن مريم، وإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) هذا شأنه وتلك كرامته عند الله، ومع ذلك لا يرضى بالمديح ولا بالغلو فيه ولا بالإطراء وإنما يقول: إنما أنا عبد. ولقد شرفه الله بهذه العبودية: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1].. تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ [الفرقان:1].. وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ [الجـن:19] فأشرف منزلة لإمام الهدى أن يكون عبداً لله، وقد أكرمه الله عز وجل بذلك.
والله إنا لنجد من أنفسنا فضاضة وغلظة، أو نجد من أنفسنا جفاءً ورعونةً في الأخلاق يوم أن يأتي أحد فيجر أحدنا بردائه أو بثوبه أو بعباءته فيقول: لي إليك حاجة ربع ساعة أو عشر دقائق بعد الصلاة، فإذا أطال قليلاً جعل الواحد منا يضيق ويتبرم من هذا، والنبي صلى الله عليه وسلم إمام الأمة، إمام الهدى، إمام الدولة، الإمام الأعظم، أنيطت به كل المهمات العظيمة ومع ذلك تأخذه الجارية الصغيرة فتتنحى به قليلاً وتحدثه في حاجتها صلى الله عليه وسلم.
يا أحبابنا أين نحن إذا دعانا فقير أو عبد مملوك لا يُلتفت إليه؟ أين نحن إذا دعانا أشعث أغبر مدفوع بالأبواب ذي أطمار .. هل نجيبه أم لا؟
لقد كان صلى الله عليه وسلم يجيب الدعوة تواضعاً لربه، ويخفض الجناح عملاً بقول ربه عز وجل: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر:88].
علي بن أبي طالب وأي منـزلة بقربه من النبي، والنبي يحمله ويرفعه، والنبي يخضع ويتواضع بكتفه لقدم علي، من أجل ماذا؟ من أجل التوحيد، من أجل أن تكسر الأصنام، من أجل ألا يعبد إلا الله عز وجل.
وفي رواية أنه قال: صلى الله عليه وسلم: (لو دعيت إلى كراع أو ذراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع لقبلت) ويقول أحد الصحابة: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عاب طعاماً قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه) رواه البخاري .
هكذا كان شأنه صلى الله عليه وسلم حتى لا تنكسر نفوس صحابته، وحتى لا تنكسر نفوس الفقراء والمساكين، لو دعوه إلى ذراع لأجاب، ولو أهدوه كراعاً لقبل؛ فأين نحن من هذا أيها الأحبة؟
إن من الناس من يأنف من زيارة بعض الفقراء، ومن الناس من يأنف أن يأكل مع بعض العمال، ومن الناس من يأنف أن يزور بعض الناس في بيوتهم القديمة أو في مساكنهم التي ما عرفت رحبات الفلل ولا جنبات القصور، أما هو -أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم- فقد كان يجيب دعوة الداعي، وكان يقبل الكراع، ولو دعي إلى ذارع لأكل منه صلى الله عليه وسلم.
من لين عشرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قالت عائشة : [كان الحبشة يلعبون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عيد، قالت: فاطلعت من فوق عاتقه صلى الله عليه وسلم فطأطأ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم -طأطأ منكبيه- فجعلت أنظر إليهم من فوق عاتقه حتى شبعت ثم انصرفت] هذا النبي صلى الله عليه وسلم يطأطئ بعاتقه وعائشة على بني أرفدة تتفرج -على الأحباش- وهم يلعبون بالحراب، والنبي قد طأطأ كتفه لها وهي متكئة ومعتمدة على منكبه صلى الله عليه وسلم.
أين نحن من ذلك؟ لو جاءت زوجة أحدنا أو صغيرة أحدنا تريد ذلك لقال: اذهبي وابتعدي، خذي كرسياً أو أي شيء غير هذا؟
لطف ورقة ولين وعذوبة في المعاملة، هذا هدي نبينا، وهذا شأن نبينا صلى الله عليه وسلم.
ومن تواضع وعذوبة لطفه صلى الله عليه وسلم ما تقوله عائشة قالت: [كانت تلعب بالبنات -ومعنى البنات: هي الدمى التي لا صورة لها، أي: لم ينقش لها عين ولا أنف ولا فم وإنما هي دمىً تحشى بالقطن معروفة- تقول عائشة : كنت ألعب بالبنات فكان صلى الله عليه وسلم يأتي بصواحبي يلعبن معي] يخرج النبي صلى الله عليه وسلم فيجد البنيات الصغيرات أتراب عائشة رضي الله عنها فيدعوهن ويدخلهن.
ما أجمل تواضع النبي صلى الله عليه وسلم! إمام الأمة، الغبار يعفر قدميه وهو يودع قائداً من قواده، وهو راكب والنبي يمشي، النبي يمسك بزمام الراحلة ويحدث معاذاً يقول له: لعلك لا تلقاني، لعلك أن تمر بمسجدي، يقرب له مصيبة لا بد من حلولها، وقدراً لا بد من بلوغه، وأجلاً لا بد من حلوله وهو موته صلى الله عليه وسلم فيقول: (أو تمر بمسجدي، أو تمر بقبري) فيجهش معاذ بالبكاء، ثم بعد ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (إن أولى الناس بي) بنو هاشم؟ لا.
القرشيون؟ لا.
القبليون؟ .. الأحباش؟ .. العجم؟ .. الأثرياء؟ .. السادة؟ .. الملوك؟ .. الوزراء؟ .. الأمراء؟ لا (أولى الناس بي المتقون أين كانوا وحيث كانوا) فمن كان تقياً فهو من أولى الناس بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولن ينفع أبا لهب أنه قرشي من جرثومة وأرومة قريش، وما ضر بلالاً أنه عبد حبشي رضي الله عنه فقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم دف نعليه في الجنة.
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا |
فأنزلن سكينة علينا إن الألى قد بغوا علينا |
وربما قال:
إن الملأ قد بغوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا |
يرفع بها صوته
) وفي رواية عن البراء بن عازب قال: [رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وهو يحمل التراب].كان بوسعه صلى الله عليه وسلم أن يصدر الأوامر ألا تغيب الشمس إلا وقد حفر الخندق، كان بوسعه صلى الله عليه وسلم أن يدور عليهم ويأمر هذا ويزجر هذا وينهى هذا، لكنه صلى الله عليه وسلم يحفر كما يحفرون، ويحمل التراب كما يحملون، وذلك لأن هذه المشاركة تفجر طاقات الحب، والولاء، وتفجر طاقات الاستجابة، وتجعل النفوس متعلقة بإمامها وقائدها وحبيبها صلى الله عليه وسلم، يعلمهم التواضع بهذا، حتى إذا كانوا قادة في المستقبل ما تأمروا وما تجبروا وما تسلطوا، وإنما شاركوا وعملوا ورحموا وتداركوا، وما بغوا وما ظلموا ولا يظلمون.
فلما بصرنا به مقبـلاً حللنا الحبا وابتدرنا القياما |
ولما جاء سعد بن معاذ قال صلى الله عليه وسلم للأنصار: (قوموا إلى سيدكم) احملوا سيدكم، وأنزلوا سيدكم المهم أنه كان صلى الله عليه وسلم في قمة وغاية التواضع الذي نكاد أن نفقده حتى مع الفقراء والعالة، ومع السوقة والمساكين إلا من رحم الله، فضلاً عمن عنده ريال أو ريالات أو دينار أو ديناران.
الرسول، الإمام، إمام الأمة الذي ينزل عليه جبريل بالوحي، ويخير أن تسير الجبال ذهباً أو فضةً وراءه، ويخير أن تطبق الجبال على أهل مكة، ويخير بعذاب أقوام، يمر على صبيان فيقول: السلام عليكم. النبي صلى الله عليه وسلم يسلم، ويلقي هذه التحية.
إن كثيراً منا لا يسلم على الكبار فضلاً عن الصغار، وللأسف أن كثيراً من المسلمين والذين يلامون أكثر من غيرهم من الطيبين يمر الواحد منهم فلا يبتسم، ويمر فلا يسلم، يا أخي الحبيب! سلم ولو كان الذي تراه عليه شيء من آثار التقصير، سلم فلعل الله أن يحبب الخير إليه بسلامك، سلم فلعل الله أن يقذف في قلبه الحياء من المعصية، سلم لعل هذا السلام يكون سبباً في دخولك إلى حديث معه لإنكار هذه المعصية التي تراها منه.
أما ما يحصل من كثير من الشباب -هداهم الله- فينبغي للواحد إذا مر على أخ أو إذا مر على مسلم حتى ولو كان عاملاً، حتى ولو كان من سوقة، حتى ولو كان من أي فئة أن يسلم عليه ويبتسم فله بالسلام حسنات، وبالابتسامة صدقة: (وتبسمك في وجه أخيك صدقة) فهذا النبي يمر على الصبيان ويسلم عليهم.
بعض الإخوان إذا مر على الصبيان وهم يلعبون فإنه يضغط على بوق السيارة حتى يطردهم عن لهوهم يميناً ويساراً، لماذا يا أخي؟ مر، فإن كان وقت صلاة سلم عليهم، يا شباب! ما رأيكم لو نصلي وبعد الصلاة نكمل اللعب؟ يا شباب! السلام عليكم، أنا سمعت واحداً يقول لصاحبه: الله يفعل بك كذا .. يسب ويشتم، وهذا ما يجوز، والنبي صلى الله عليه وسلم ما يرضى بذلك، فلنتعلم من أخلاق النبي ولنطبقها، لا تكن هذه السيرة أوراقاً في الكتب، وحروفاً وأسطراً في المجلدات، نريد من هذه السيرة أن نتأسى بها حتى نطبقها في واقعنا.
وكان صلى الله عليه وسلم يلاعب زينب بنت أم سلمة ويقول: يا زوينب ! يا زوينب ! مراراً يداعبها ويلاعبها صلى الله عليه وسلم.
ومن تواضعه مع الصغار ولطفه بهم ما رواه أنس قال: (كان صلى الله عليه وسلم يدخل علينا، وكان لي أخ صغير، وكان له نغر -الطائر النغري المعروف- يلعب به، فمات نغره الذي كان يلعب به، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فرأى
قبّل الطفل ولو لم يك لك إنما الطفل على الأرض ملك |
عطفة منك على لعبته تخرج المكنون من كربته |
ومن تواضعه ولطفه بالصغار ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (مر علينا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نلعب فقال: السلام عليكم يا صبيان، السلام عليكم يا صبيان) هذا نبينا إمام الهدى على جلالة قدره يقف ليسلم على هؤلاء الصبيان! وكذلك يقول أنس رضي الله عنه: (كان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، أرسلني يوماً لحاجة -وكان
فالنبي يرسل أنساً، وأنس يجد أطفالاً يلعبون، فيقف يلعب معهم، ثم يأتي النبي صلى الله عليه وسلم خلفه، ثم يلتفت أنس في لحظة وينظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتوقع أنه سيعاتبه على تأخره عن الحاجة، والنبي ينظر إلى أنس ويضحك ويقول: ما فعلت بالحاجة التي أمرتك؟ فيقول أنس : (أنا ذاهب الآن يا رسول الله) فانظروا إلى لطفه صلى الله عليه وسلم.
ومن تواضعه وعذوبة لطفه ورحمته بالصغار ما رواه أبو قتادة قال: (بينما نحن جلوس في المسجد إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل
ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بهذه الأمة أنه راجع ربه في قصة الإسراء والمعراج لما فرض الله عليه خمسين صلاة فجعل يراجع ربه في كل مرة، والله عز وجل يخفف عن الأمة حتى عادت إلى خمس صلوات بأجر خمسين صلاة.
من رحمته أنه قال: (أيها الناس! إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا فقالوا: يا رسول الله! أفي كل عام؟ فقال: لو قلت: نعم. لوجبت، الحج مرة وما زاد فهو تطوع).
لقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم التراويح بالصحابة فصلى بهم اليوم الأول والثاني، ثم بعد ذلك صلاها في بيته، فقال الصحابة: (هلا نفلتنا بقية شهرنا يا رسول الله؟ فقال: خشيت أن تفرض عليكم فلا تطيقوا ذلك) كل ذلك -أيها الأحبة- من رحمته صلى الله عليه وسلم بالأمة.
بل من عظيم رحمته أنه ادخر دعوة الإجابة شفاعة لأمته صلى الله عليه وسلم.
وعن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه (بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله، فنظر الصحابة إليَّ الصحابة وهم يضربون بأيديهم على أفخاذهم فقلت: وا ثكل أمياه، ماذا فعلت؟!) أي: في المرة الأولى قال: يرحمك الله، فأخذوا ينكرون فعله هذا ويضربون بأيديهم على أفخاذهم؛ فقال: وا ثكل أمياه! ماذا فعلت حتى تفعلوا بي هذا؟! فلما انتهت الصلاة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المتكلم في الصلاة، فقال معاوية : (أنا يا رسول الله. فقال
ما أجمل هذا الأدب! ما أعذب هذا التعليم! ما ألذ هذه المعاملة! ما أطيب هذه النفس التي تجعل الحجر الأصم ينقلب إلى ألين ما يكون، وأسهل ما يكون، وأقبل ما يكون للإرشاد والتعليم!
وتقول عائشة رضي الله عنها: [إنا كنا آل محمد ليمر بنا الهلال ما نوقد ناراً، إنما هما الأسودان التمر والماء] رواه البخاري ومسلم، بل ويمر على بيته صلى الله عليه وسلم الهلال تلو الهلال تلو الهلال، أي: يمر الشهر والشهر الذي يليه ولم يوقد في بيته صلى الله عليه وسلم نار، قيل: (ما كان طعامكم يا
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوى من الجوع، ما يجد ما يملأ بطنه من الدقل) رواه مسلم أي: من رديء التمر.
الله أكبر! إمام الهدى يخير أن تسير الجبال خلفه ذهباً وفضة! إمام الأمة صلى الله عليه وسلم يتلوى من الجوع لم يجد دقلاً يشبع منه! (وكان صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاء). رواه أحمد في مسنده بسند حسن.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (ما أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رغيفاً مرققاً حتى لحق بربه، ولا شاةً سميطاً) رواه البخاري يعني: ما رأى شاة مشوية، ما رآها بعينه قط فضلاً عن أن يكون أكل هذا الرغيف المرقق أو البر الناعم أو الشاة السميط المشوية.
وهذا من دعائه صلى الله عليه وسلم فقد كان يقول: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً) رواه البخاري ومسلم.
وأجود خلق الله صدراً ونـائلاً وأبسطهم كفاً على كل طالب |
نعم. ما قال: لا، وما سأله أحد شيئاً فمنعه إياه، بل أعطاه وبذله.
ما قال لا قط إلا في تشهـده لولا التشهد كانت لاؤه نعم |
تعود بسط الكف حتى لو أنـه ثناه لقبض لم تجبه أنامله |
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله |
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله |
ما كان صلى الله عليه وسلم يرد سائلاً أبداً، وروى مسلم عن أنس رضي الله عنه (أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه غنماً بين جبلين، فقام ذلك الرجل الذي أعطي الغنم وأتى قومه يقول: يا قوم! أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر) الله أكبر! يعطي غنماً بين جبلين، ويبيت صلى الله عليه وسلم طاوياً، ما قال: أبقي من هذه الغنم من أجل أن أشبع، أو أنا أدخر لحاجتي، أو أنا لابد أن أفعل لحاجتي ما أفعل، بل يبذل صلى الله عليه وسلم ولا يخشى من ذي العرش إقلالاً أبداً.
يعطي صلى الله عليه وسلم عطاء من لا يخشى الفقر، وكان الرجل يجيء إلى رسول الله ما يريد إلا الدنيا فيعطيه النبي صلى الله عليه وسلم، فما يمسي الرجل حتى يكون دينه أحب إليه وأعز عليه من الدنيا وما فيها.
ولما فتح الله مكة على المسلمين -كما روى مسلم في صحيحه - (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه من المسلمين إلى حنين فاقتتلوا فنصر الله دينه والمسلمين، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ صفوان بن أمية مائة من النعم، ثم مائة ثم مائة فقال صفوان : والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ) هذا من كرمه صلى الله عليه وسلم. وما كان يستكثر على أحد عطاء أعطاه لو كان النبي يقيم لهذه الدنيا حساباً ووزناً وهي التي لا تعدل عند الله جناح بعوضة لما أرخص بها، ولكنه صلى الله عليه وسلم بذلها طيبة بها نفسه صلى الله عليه وسلم.
بل من المعلوم أنه في غزوة حنين عندما طلب صفوان بن أمية مئات من الإبل جاء الأقرع بن حابس التميمي وأعطاه مائة ناقة، ثم جاء عيينة بن حصن الفزاري فأعطاه مائة، ثم جاء غيره وأعطاه مائة، انتهت النوق فما بقي شيء، فجاء العباس بن مرداس السلمي وهو شاعر من الشعراء فقال: يا رسول الله! أعطني، أنا شاركت معكم، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم خمسين من الإبل فقال العباس بن مرداس :
أتجعل نهبي ونهب العبيد |
العبيد: فرس عند العباس بن مرداس اسمها العبيد، فيقول يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، يقول:
أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع |
أنا الذي ما زلت أقاتل ثم الغنائم يتقاسمها الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن الفزاري !
أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع |
فما كان بدر ولا حابس يفوقان مرداس في المجمع |
إلا قراريط أعطيتها عداد قوائمه الأربع |
فقال صلى الله عليه وسلم: يا علي ! كفوا عنا لسانه، أعطوه ما يرضيه، فأعطوه حتى رضي، رضي الله عنه.
ولو كانت الأعمار تبقى لواحد رأيت رسول الله حياً مخلدا |
روى البزار في مسنده وصححه الحاكم قال صلى الله عليه وسلم: (جاءني جبريل فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34] قال الله لنبيه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30] والنبي صلى الله عليه وسلم يعزي من ابتلي بمصيبة أن يذكر مصيبة الأمة في فراقه صلى الله عليه وسلم؛ حيث روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته فيّ فإنها أعظم المصائب) رواه الإمام مالك والدارمي والطبراني في الكبير وغيره.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس! أيما أحد من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته في عن مصيبته التي تصيبه، فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي) رواه ابن ماجة
اصبر لكل مصيبة وتجلد واعلم بأن المرء غير مخلد |
فإذا ذكرت مصيبة تسلو بها فاذكر مصابك بالنبي محمد |
صلى الله عليه وسلم.
نعم -أيها الأحبة- لا بد من الفراق، ولا بد من الوداع، هذه الصفحات المشرقة والليالي المقمرة بحياة النبي صلى الله عليه وسلم، والأيام المنيرة بشمائله صلى الله عليه وسلم، لا بد لهذا النبي من سنة الله في خلقه أن يموت وأن يفارق هذه الدنيا:
عزاء فما ينفع الجازع ودمع الأسى أبداً ضائع |
بكى الناس من قبل أحبابهم فهل منهم أحد راجع |
عرفنا المصائب قبل الوقوع فما زادنا الحادث الواقع |
وكل أبي لداع الحِمام إن يدعه سامع طائع |
يسلم مهجته سامحاً كما مد راحته البائع |
وللمرء لو كان ينجي الفرار في الأرض مضطرب واسع |
وكيف يوقى الفتى ما يخاف إذا كان حاصده الزارع؟ |
ولو أن من حدث سالماً لما خسف القمر الطالع |
لو أن الأحداث يسلم منها أحد، لو أن الموت يسلم منه أحد، لو كانت الأعمار تبقى لواحد لرأيت رسول الله حياً مخلداً، فقد كتب الله على نبيه ما كتب، فعن عائشة قالت: (كان صلى الله عليه وسلم وهو صحيح يقول: إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يخير قالت: فلما اشتكى وحضره القبض غشي عليه، فلما أفاق شخص بصره نحو سقف البيت، ثم قال: اللهم في الرفيق الأعلى، تقول
ولما نزل به صلى الله عليه وسلم الموت طفق يطرح خميصةً له على وجهه فإذا اغتم كشفها عن وجهه وهو كذلك، ثم يقول: (لعنة الله على اليهود، لعنة الله على اليهود، لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) رواه البخاري .
وقد دخل عبد الرحمن بن أبي بكر على عائشة وعندها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يد عبد الرحمن سواك وعائشة قد أسندت رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، تقول عائشة : (فرأيت رسول الله ينظر إلى السواك في يد
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (لما ثقل النبي صلى الله عليه وسلم وجعل الكرب يتغشاه قالت يا أبتاه .. أجاب رباً دعاه يا أبتاه .. إلى جنة الفردوس مأواه يا أبتاه .. إلى جبريل ننعاه
فلما دفن وعاد الصحابة بعد دفنه صلى الله عليه وسلم قالت فاطمة عليها السلام: (يا
وعن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات و
صُلي عليه صلى الله عليه وسلم، ودفن وغسل صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك ما تيقن عمر أنه قد مات صلى الله عليه وسلم من شدة حبه لنبيه إمام الهدى.
فهذا نبينا، وهذا إمام الهدى صلى الله عليه وسلم، وما أجمل قول القائل فيه:
يا من له الأخلاق ما تهوى العلا منها وما يتعشق الكبراء |
زانتك في الخلق العظيم شمائـل يغرى بهن ويولع الكرماء |
وإذا سخوت بلغت بالجود المدى وفعلت ما لا تفعل الأنواء |
وإذا عفوت فقادراً ومقدراً لا يستهين بعفوك الجهلاء |
وإذا رحمت فأنـت أم أو أب هذان في الدنيا هم الرحماء |
وإذا غضبت فإنما هي غضبـة في الحق لا ضغن ولا بغضاء |
وإذ رضيت فذاك في مرضاتـه ورضا الكثير تحلم ورياء |
وإذا خطبت فللمنابر هزة تعرو النديَّ وللقلوب بكاء |
وإذا قضيت فلا ارتياب كأنمـا جاء الخصوم من السماء قضاء |
وإذا أخذت العهد أو أعطيتـه فجميع عهدك ذمة ووفاء |
بك يا بن عبد الله قامت سمحة بالحق من ملل الهدى غراء |
بنيت على التوحيد وهي حقيقة نادى بها الحكماء والعقلاء |
الله فوق الخلق فيها وحده والناس تحت لوائها أكفاء |
والدين يسر والخلافة بيعة والأمر شورى والحقوق قضاء |
أنصفت أهل الفقر من أهل الغنى فالكل في حق الحياة سواء |
صلى عليك الله ما صحب الدجى حاد وحنت بالفلا وجناء |
أيها الأحبة: حق نبينا صلى الله عليه وسلم أن نكثر من الصلاة عليه خاصة يوم الجمعة وليلتها، وأن ننافح عن سنته، وأن ننشر دعوته، وأن نهتدي بهديه، وأن نصدق حبه باتباعنا.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك اللهم وأتوب إليك.
الجواب: أما أحبابنا وإخواننا المحتسبون القائمون على ثغر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلهم منا خالص الدعاء، وجميل الثناء، والتواصي فيما بيننا وبينهم بالحق والصبر، وإن هذا الثغر لنفع متعد، وعبادة ليست قاصرة، لأن البعض قد يقول: ماذا لو اشتغلت بخاصة نفسي، وما الذي يشغلني بالذهاب والإياب ومطاردة المجرمين والأشرار والفجار؟ نقول: يا أحبابنا! هذا ثغر عظيم، والقائمون عليه هم الذي يحمون السفينة من أن تغرق بإذن الله عز وجل، فواجبنا وحقهم علينا أن ندعو لهم.
ونصيحتنا لهم أن يتذكروا الإخلاص وأن يتذكروا الاحتساب، نحن نعلم أن الهيئة ليس فيها من المرتبات المغرية حتى يصر العاملون في البقاء فيها، ونعلم أن الهيئة ليس فيها الحوافز الجيدة، ونعلم أنهم بأمس الحاجة إلى أمور كثيرة، لكننا نعلم أن الذي أبقاهم رغم هذا كله هو الغيرة لدين الله، والغيرة لشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج:30].. وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32] فإنهم بإذن الله على خير من عند الله في الدنيا والآخرة.
كما نوصي أحبابنا بالرفق واللين وعدم العجلة، ولأن نخطئ في العفو خير من أن نخطئ في العقوبة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكراً) فالمنكر الذي ينكر هو الذي رأيناه وتحققنا منه أو رآه من بلغنا، ثم تحققنا بعد ذلك من بلاغه، فلا نعجل في اتخاذ إجراءات، لأن من الفجار من يمثلون تمثيليات من أجل الإيقاع بالهيئة في دعوى التسرع وعدم التثبت ونحو ذلك؛ ولذلك فلابد لنا من التثبت والتريث.
المسألة التي تليها: الستر على المسلمين ما أمكن إلى ذلك سبيلا؛ سواءً بستر الأمور إذا بلغت للهيئة، لأن الأمور خاصة إذا بلغت إلى رئيس المركز وهو نائب السلطان في الحسبة فلم يكن من حقه أن يعفو أو أن يستر (تعافوا الحدود في ما بينكم، فإذا بلغت السلطان فلعن الله الشافع والمشفع) أي: فلا يجوز التساهل بهذا الأمر، لكن لعل ذلك بالإمكان إذا كان في مسائل التعزير، إذا كان في مسائل التعزير ورأوا من المصلحة أن يعالج الأمر بطريقة معينة، وأن يقام الأدب بطريقة معينة من دون هتك ولا فضح، وهو المعروف المشهور المعلوم عن إخواننا في الهيئة، والذي نعلم عنهم -جزاهم الله خيراً- أن القضية إذا تعلقت بالفتيات أو بالنساء فإنهم أحرص ما يكونون على سترها حفاظاً على مستقبلها، وأملاً في زواجها حتى لا تفضح، فإذا هتك سترها فإنها لا تجد من يتزوجها، وربما كان سبباً في طلاق أخواتها المتزوجات أو في بقاء أخواتها العانسات لا يتزوجن، فهم يراعون ذلك أشد المراعاة.
ثم إني أدعوكم جميعاً أنتم -أيها الإخوة- أن تتفقدوا الهيئة بأنفسكم بمعنى: إذا كان بجواري أنا جهاز للهيئة وأنا أعرف أحد التجار والمحسنين، هذا المركز محتاج إلى جهاز حاسوب (كمبيوتر) بحاجة إلى شيء من الأثاث، بحاجة إلى التعاون في إصلاح سيارة، فلا نقول: جهاز الحسبة جهاز حكومي ونحن لا علاقة لنا به ألبتة، فكثير من الدوائر الحكومية تقبل الهبات والتبرعات والهيئة من ضمنها، فمن واجبنا أن نجتهد في إعانة القائمين على هذا الثغر وإكمال احتياجاته ومستلزماته، ولنا بذلك أجر عظيم عند الله سبحانه وتعالى.
واعلموا يا إخوان أن العلمانيين يسوؤهم يوم أن يروا سيارة هيئة أو رجل حسبة، ولكن يأبى الله ذلك والمؤمنون، لابد أن تبقى الهيئة، ولابد أن تبقى الحسبة، ولابد أن يبقى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلينا أن نتمسك بذلك وأن نفوت مصالحنا في مختلف الجهات الأخرى حينما نتمسك بالهيئة، ونعلم ما يفوتنا من التمسك بها من الحوافز الأخرى، لكن لن يضيع عند الله عز وجل، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
الجواب: كتب السيرة كثيرة جداً، ولكن الكثير منها غير مضبوط بالسند، أعني: غير محقق بالأسانيد، لكن أنا أقول: من أراد أن يبحث في شمائل وفضائل النبي صلى الله عليه وسلم بحثاً مضبوطاً بالأسانيد، ويعرف الصحيح من الحسن من الضعيف أو من الموضوع حتى يتجنبه فعليه بكتب الحديث، فإن كتب الحديث لا تخلو من فصول في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي مبعثه، وفي أخلاقه، وفي كرمه، وفي عفوه، فكتب السنة فيها خير كثير.
لكن هذا لا يجعلنا نقول: لا نلتفت ولا نعتبر ولا نستفيد من كتب السيرة بل نستفيد منها، وعلى سبيل المثال سيرة ابن هشام الشاملة الكاملة، وكذلك لها مختصرات كـمختصر السيرة للشيخ/ محمد بن عبد الوهاب، ومختصر السيرة للشيخ/ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، والرحيق المختوم في سيرة النبي المعصوم للمباركفوري وغيرها من كتب السيرة النافعة المفيدة.
الجواب: العدالة
وإذا المعلم لم يكن عدلاً سرى روح العدالة في الشباب ضئيلا |
أن يكون المعلم عدلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2].. وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [هود:88] أن يطبق على نفسه وأن يجتهد، ولكن إياه أن يترك التعليم والإرشاد؛ لأنه زل زلة أو أخطأ خطيئة أو لم يستطع أن يفعل شيئاً مما أمر به، فإن ذلك ليس من الحتم اللازم الذي لا يجوز إلا به، بمعنى أن الإنسان إذا كان لا يستطيع أن يفعل هذا الشيء فلا يأمر به! فكم من فقير يخطب وينصح ويأمر بالصدقات، وقد لا يكون قادراً على إخراج الصدقات، فربما لا يستطيع إلا أن يحقق مصاريف بيته وحده فقط.
وعلى سبيل المثال أشياء أخرى، لكن الحذر الحذر من الوقوع في المخالفات التي ينهى عنها الإنسان، فإن وقع فيها فليتب إلى الله عز وجل، وليبادر هذه الزلة بالتوبة؛ لأن من الناس من لو علم أو نصح أو أفاد قال: أنا أخطأت ذاك اليوم الخطأ الفلاني إذاً أنا منافق، إذاً .. إذاً .. إذاً. نقول: لا، اسمع قول الله عز وجل: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114] المنافق يدمن المعصية في السر ويدمن إظهار الخير في العلن، لكن المسلم يدمن الخير ويستمر على الخير ظاهراً وباطناً.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر