يقول الله جل وعلا في تعريف أوليائه: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63] وقد ورد حديث عظيم القدر، شريف المنزلة، قال العلماء: إنه أجل حديث في الأولياء، قالوا: إنه أشرف حديث روي في ذكر الأولياء وهو حديث رواه الإمام البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه) رواه البخاري رحمه الله تعالى. وفي رواية: (وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته).
هذا الحديث العظيم يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيه عن ربه عز وجل: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) ومعنى: (آذنته بالحرب) أي: أعلنت أني محارب له؛ لأنه يحارب أوليائي فأنا أحاربه، وأنا خصمه، وويل لمن كان الله تعالى خصمه، ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله تعالى بالمحاربة، والله يحب الأبرار الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يدعوا؛ لهوانهم على الناس، ولم يعرفوا؛ لأنهم ليسوا بأصحاب سمعة ولا شهرة، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل غبراء مظلمة أنقياء أتقياء؛ لأن قلوبهم منيرة بذكر الله تعالى، فإذا دخلوا في الفتن خرجوا منها أحسن من الذهب الأحمر.
أرأيت الخام إذا أريد استخلاص الذهب منه، فإنه يدخل في الفرن ويحمى عليه، وينفخ لتتطاير هذه الشوائب وما غطاه من الخلائف، ثم يصبح ذهباً أحمر نقياً لا شيء فيه، فكذلك أولياء الله، إذا فتنوا خرجوا من الفتنة وهم أقوياء أنقياء، فأولياء الله عز وجل تجب موالاتهم وتحرم معاداتهم، كما أنه يجب معاداة أعداء الله وتحرم موالاة أعداء الله، فكذلك تجب موالاة أولياء الله.
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1] .. وقال عز وجل: إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [المائدة:55-56] فهم الغالبون باللسان والبيان والحجة، وهم الغالبون بالسيف والسنان ولو بعد حين، والله تعالى وصف أحباءه الذين يحبهم ويحبونه، بأنهم أذلة على المؤمنين، إذا قال قائلهم أولياء الله، نقول: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]. من هم أولياء الله؟ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ [المائدة:55].
من هم أولياء الله؟ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54] هؤلاء أولياء الله تعالى، هؤلاء الذين من أهانهم أو أخافهم فقد بارز الله بالمحاربة، وبدأه بالمحاربة، وعرض نفسه لسخط الرب وانتقامه، والله أسرع شيء إلى نصرة أوليائه، أفيظن الذي يحارب الله أن يقوم له ويقاومه؟ أويظن الذي يحارب أولياء الله أن يعجز الله تعالى؟ أويظن الذي يبارز الله أن يفلته ويفوته؟!! كيف والله يثأر له في الدنيا والآخرة، ولذلك لا يكل الله نصرة أوليائه إلى غيره، بل هو الذي ينصرهم عز وجل.
وكذلك معاداة أولياء الله تعالى، قيل: إن آكل الربا يعطى يوم القيامة سيفاً أو رمحاً ويقال له: حارب ودافع، والله تعالى يحاربه، فكيف وأنّى تكون له الغلبة؟!
ولذلك قال الله في أكلة الربا: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا [البقرة:279] فإن لم تتركوا أكل الربا. فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279] حرب الله عليهم ما يصيبهم به من الآفات وأنواع الانتقام، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قل) أي: يصبح في النهاية قليلاً منزوع البركة، تذهب الأموال من حيث لا يدري صاحبها، وآكل الربا لا يبارك له في ماله، فسرعان ما يذهب ويضمحل، والحرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا بما يقام عليه من التعزير والتنكيل، ومن خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا وأهل الصلاح من الحكام الذين يحاربون أكلة الربا، فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279].
والذي يعادي الله تعالى يحاربه الله أيضاً، ولذلك فإن أشد الناس محاربة من الله هم الذين يقعون في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم رأس الأولياء، هم قمة الأولياء، فهم أشد خلق الله بعد الأنبياء ولاءً لله تعالى، والله تعالى يحبهم، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يؤذي أصحابه: (أن عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) وقال عليه الصلاة والسلام: (الله الله في أصحابي) حذرنا من الوقوع فيهم، وقال: (إذا ذكر أصحابي فأمسكوا) لا تتكلموا فيهم، لا تتخذوهم غرضاً، من يؤذيهم يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي يؤذيهم يوشك أن يأخذه الله، وقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: (من سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) ولذلك فإن من أعظم الناس جرماً الذين يقعون في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيقولون: ارتدوا، ويقولون: إنهم سفكوا الدماء بالباطل، وإنهم غصبوا علياً حقه، وإنهم كفروا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنهم ظلمة وفسقة، ونحو ذلك من الألفاظ البذيئة، والشتائم العجيبة التي يلحقونها بالصحابة، فلا شك أن الذي يسب الصحابة أول واحد ينطبق عليه هذا الحديث وهو قوله تعالى: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب).
ولذلك ترى الذين يحاربون الصحابة يحاربهم الله في الدنيا بأن يوقع بأسهم بينهم، وأن يجعل أمورهم فتنة واختلاطاً، وأن يجعل فيهم القتل والحرب، فلا يزال أمرهم في اضطراب ونظمهم في اختلال، وأمرهم إلى زوال، فلا تقوم لهم قائمة، ولذلك لا يستقر لهم حال أبداً؛ لأنهم سبوا أولياء الله تعالى، وهم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: (وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) لما ذكر الله تعالى أن معاداة أوليائه هي معاداة ومحاربة له، ذكر صفات هؤلاء الأولياء الذين تحرم معاداتهم وتجب موالاتهم، والموالاة هي النصرة والقرب، الولاية هي النصرة والقيام بالحق والدفاع والذب.
وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: [أفضل العبادة أداء الفرائض واجتناب المحارم، وذلك لأن الله عز وجل إنما افترض على عباده هذه الفرائض ليقربهم منه، ويوجب لهم رضوانه ورحمته].
ولا شك أن هذه الفرائض أنواع، فمنها بدني كالصلاة: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19]، (وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، (إن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت).
وكذلك عدل الراعي في الرعية، سواء كانت رعية عامة أو خاصة، ومنها الرعية الخاصة: عدل آحاد الناس في أهله وولده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) والعدل بين الأولاد، وكان السلف يحرصون عليه حتى في القُبَل، إذا قبل هذا الولد يقبل الآخر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين سبحانه وتعالى) فأيدي البشر تتفاوت بالقوة والعطاء، وتجد أن كثيراً من الناس يمينهم أقوى من شمالهم، وبعضهم شماله أقوى من يمينه، ويعطي بيمينه، والله تعالى كلتا يديه في القوة سواء، وهما سواء في العطاء، والخير كله في يديه، سحاء الليل والنهار؛ والسحاء هو المهطال الذي يهطل ويتواصل في النزول والانصباب، يعطي سبحانه وتعالى، يعطي والخير في يديه، ومنذ أن خلق السموات والأرض وهو ينفق على عباده، منذ أن خلق العباد ينفق عليهم، ومع ذلك لم ينفذ مما عنده شيء، لأن خزائن السموات والأرض بيديه، إنما أمره لشيء إذا أراد أن يقول له: كن، فيكون، هؤلاء المقسطون عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم بين أهليهم وما ولوا من أنواع الولايات؛ سواء كان في وظيفة، أو كان في أسرة، أو كان في تجارة، فإنه إذا تولى ولاية صار هناك أناس تحته يعدل بينهم، فاتصف بصفة من صفات أولياء الله تعالى.
ولذلك فإنه لا يمكن الوصول إلى رتبة الأولياء إلا بالإكثار من التوبة، بحيث لو أن الإنسان عمل معصية يسرع إلى التوبة منها، وهذا أمر في غاية الأهمية.
ولذلك فإن هؤلاء لا يغلظون للمؤمنين، ومن الصفات السيئة أن تجد الشخص يقع في أهل الإيمان والتوحيد، ويقع في أعراض الدعاة إلى الله، يقع في أعراض أهل العلم؛ يسب ويشتم، ويرمي بأنواع السباب والمعايب أهلَ التوحيد والدين، والذين قاموا بواجب الدعوة والأمر والنهي، فهذا لا يمكن أن يكون من أولياء الله بحال، بل سرعان ما يخبو أمره وينطفئ، ويحدث انتقام الله منه، ويرى ذلك بأم العين في الدنيا قبل الآخرة.
والمتأمل في الواقع يعرف أن هذا أمر حاصل؛ لأن سنة الله تعالى في الحياة ماضية، وقد تكفل الله بالدفاع عن أوليائه، ولذلك فإنك لا تكاد ترى من يقع في أهل الإيمان والدين ونصرة الشريعة إلا والله منتقم منه ولو بعد حين.
قال الله عز وجل في صفات الأولياء: وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54] ما داموا قد أحبوا حبيبهم وهو الله عز وجل فلا يخافون في سبيله شيئاً، فيعملون بمرضاته، رضي من رضي وسخط من سخط، ولذلك فمن الأمور المهمة أن الإنسان يحب أولياء الله، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني ربي عز وجل -في المنام- فقال لي: يا محمد! قل: اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك) هذا الحديث رواه الإمام أحمد رحمه الله والترمذي وقال: حسن صحيح. وقال: سألت محمد بن إسماعيل -يعني البخاري - عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث حسن صحيح.
إذاً إذا كان الإنسان عنده إيمان ويقين ودين، ويريد أن يتصف بصفات الولاية، فعليه أن يسأل الله محبة أوليائه، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم ارزقني حبك وحب من ينفعني حبه عندك) لأن هناك أناساً محبتهم تضر عند الله، وأناساً محبتهم تنفع عند الله، ولذلك يقول: (اللهم ارزقني حبك، وحب من ينفعني حبه عندك، اللهم ما رقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب -الإنسان يحب المال، يحب الزوجة، يحب الشهوات- اللهم ما زويت عني مما أحب -ما حرمتني من النعم- فاجعله فراغاً لي فيما تحب) وهذا الحديث رواه ابن المبارك رحمه الله في كتابه الزهد ، وسنده صحيح، وحسنه الترمذي رحمه الله تعالى.
وهذه الدرجة التي ليس لأصحابها همٌّ إلا ما يقربهم من محبوبات الله تعالى، ومن الأشخاص الذين يحبهم الله عز وجل، قال بعض السلف: العمل على المخافة قد يغيره الرجاء، والعمل على المحبة لا يدخله الفتور. وهذه عبارة بالغة بليغة، (العمل على المخافة) إذا عملت من أجل الخوف فقط، فقد يعتريك الفتور إذا حصل لك رجاء، فالإنسان الذي يعمل فقط خوفاً من العذاب، هذا إذا جاء يوم من الأيام وتأمل فحصل له شيء من الرجاء أو مر به شيء مما فيه ذكر رجاء الله تعالى وثوابه؛ حصل له شيء من الفتور؛ لأن الدافع للعمل هو الخوف، فإذا حصل شيء من الرجاء خفّ للخوف فإذا كان الدافع للعمل هو الخوف الذي قد خف خفَّ العمل أيضاً لكن إذا كان الدافع للعمل هو محبة الله، فأي شيء يخففها؟ لا شيء، ولذلك كان الدافع للعمل إذا صار فيه محبة أقوى منه إذا صار من الخوف، ولذلك المحبة هي الرأس والخوف والرجاء الجناحان، وإذا قطع الرأس لا يطير الطائر أصلاً ولا يمشي ولا يتحرك.
من الناس من يعبد الله خوفاً، ومن الناس من يعبد الله رجاءً، ومن الناس من يعبد الله محبة، والمؤمن ينبغي أن تجتمع فيه هذه الثلاثة بدون أن ينتفي شيء منها، لو انتفى شيء منها معنى ذلك أنه قد وقع في خطر عظيم، فإذا صار الدافع للعمل محبة الله، فلا تخف، فيستمر العمل، إذا كان الدافع هو الخوف، يمكن أن يخف إذا عرض عارض رجاء في الفكر أو السماع، أو قراءة شيء مما فيه سعة الرحمة والتوبة، حصل للخوف نقص، ففتر العمل.
وكذلك قال بعضهم: إذا سئم البطالون من بطالتهم فلن يسأم محبوك من مناجاتك وذكرك.
فالبطالون الذين يسعون في الدنيا بالبطالة يسأمون ولا بد، فإما أن يحصل عندهم شيء من الملل من كثرة ما يفعلونه ومن تشابه ما يفعلونه؛ لأن هذه الأشياء التي في الدنيا من الملهيات والألعاب والنعيم، لا بد فيها من آفات، فالأكل إذا أكثر منه مرض، والشهوة إذا أكثر الوقوع فيها مرض واضمحلت قوته، وهذه الألعاب الموجودة لو أكثر منها لأصابه الملل، ولكن مناجاة الله تعالى وذكره لا يحصل فيها ذلك إذا كانت موافقةً للسنة، ومن ذلك قال: (فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى).
ومن أحب الله لم يكن عنده شيء آثر من هواه، ومن أحب الدنيا لم يكن عنده شيء آثر من هوى نفسه، والمحب لله تعالى أمير مؤمر على الأمراء، زمرته أول الزمر يوم القيامة، ومجلسه أقرب المجالس فيما هنالك، والمحبة منتهى القربة والاجتهاد، ولم يسأم المحبون من طول اجتهادهم لله عز وجل؛ يحبونه ويحبون ذكره ويحببونه إلى خلقه، وهذه الصفة مهمة جداً؛ أعني تحبيب الله إلى الخلق.
منها: شرح أسمائه وصفاته وربط ذلك بالواقع.
ومنها: تعداد نعم الله تعالى وذكر آلائه، فإن الناس قد جبلوا على محبة من أحسن إليهم، وذلك إذا توالت النعم وتفطن الإنسان لها.
إن النعم متوالية لكن التفطن للنعم هو الذي يغيب عن البال، فإذا تفطن الإنسان أن نعم الله عليه متوالية فإنه يحبه، أرأيت لو أن شخصاً أعطاك اليوم مائة، وأعطاك غداً ألفاً، وأعطاك بعده عشرة آلاف، وأعطاك بعده مائة ألف، وأعطاك بعده سيارة، وأعطاك بعده بيتاً، وأعطاك وظيفة، أي شعور يكون له في قلبك وقد ازداد إحسانه معروفه إليك، ولا تزال أياديه متوالية في مصلحتك؟ لا شك أن محبته تعظم، إن الناس إذا أحسن إليهم ولو بشربة ماء أحبوا من أحسن إليهم، فكيف إذا تفطن العبد لنعم الله المتوالية؟ الصحة نعمة متوالية حتى يمرض، المال نعمة متوالية حتى يفتقر، الشباب نعمة متوالية حتى يشيخ ويهرم، وهكذا نعمه متوالية، وحتى لو حرم من نعمة فإنها تأتي بدلها نعمة أخرى، فلو حرم من نعمة الصحة فإن نعمة الابتلاء في تكفير السيئات ورفع الدرجات حاصلة، ولذلك فالعبد لا يزال يتقلب في أطباق نعمة الرب عليه ولكن قليل هم المتفطنون لذلك.
المحب لا يجد مع حب الله عز وجل للدنيا لذة، ولا يغفل عن ذكر الله طرفة عين؛ لأن غاية مناه أن يجد لذة العبادة، غاية ما يرجو أن يحس بحلاوة الاتصال، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (أرحنا بالصلاة يا
وقال بعض السلف: لا يكاد يمل القرب إلى الله تعالى محب لله عز وجل، ولا يكاد يسأم من ذلك.
وقال بعضهم: المحب لله طائر القلب كثير الذكر متسبب إلى رضوانه بكل سبيل يقدر عليها من الوسائل والنوافل، دوماً دوما وشوقاً شوقاً.
أي: الذي يريد الله تعالى لا يحفظ كلامه فبم يترنم؟ فبم يناجي ربه عز وجل؟ وإذا واطأ اللسان القلب كان ذلك أفضل الأعمال؛ لأن موافقة اللسان للقلب هي حقيقة التدبر والتفكر، قال الله تعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً [المزمل:6] قيل: أشد مواطأة من القلب للسان.
وإذا ذكر العبد الله تعالى ولو بغير القرآن، فإنه أيضاً مما يوصله ذلك إلى الولاية، لذلك يقول الله عز وجل: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه) وقال الله عز وجل أيضاً: (أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه) رواه الإمام أحمد ، وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي ، هذا معنى قوله الله عز وجل: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152].
ولا شك أيضاً أن من أعظم ما تؤدي إليه الولاية: أن يستجيب الله دعاء الولي، وهذا ما سوف نخصص له الدرس القادم إن شاء الله تعالى، وهو: إجابة دعوة الأولياء وكرامات الأولياء عند رب العالمين.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يسلك بنا سبيل الولاية وأن ينعم علينا بهذه الرتبة الشريفة، وأن يجعلنا ممن دافع عنهم وناصرهم، وأن يجعلنا من المتحابين فيه، والذين يلتقون ويجتمعون على نصرة شريعته.
جانب يتعلق بالعبد: وهو القيام بالأوامر واجتناب النواهي، ثم التدرج في مراتب العبودية بالنوافل.
وجانب يتعلق بالرب سبحانه وتعالى: وهو محبة هذا العبد ونصرته وتثبيته على الاستقامة.
وأما ما يظهر على يدي هذا العبد من عجائب الأمور، فهذا شيء إضافي وليس من شروط الولاية، ولذلك يسأل بعض الناس فيقول: هل يشترط أن يظهر على يدي الولي كرامات؟
فالجواب: أنه لا يشترط، فقد يكون ولياً من أولياء الله تعالى ومع ذلك لا يظهر على يديه شيء من الكرامات، ولذلك فإن القرآن قد اشتمل على تعريف الولي في قول الله عز وجل: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62] هذا من جهة الله: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:63-64] هذا من جانب الرب، فالعبد الذي آمن بالله عز وجل وصدق به وبما جاء من عنده، والتزم بالشرع باطناً وظاهراً، وداوم على ذلك هو ولي الله عز وجل الذي يحبه وينصره ويبشره برضوانه، وعند فراقه للدنيا، يرتفع عنه الخوف والحزن، والعبد عليه أن يحفظ الله عز وجل بحفظ حقوقه والقيام بأوامره، واجتناب نواهيه، والرب سبحانه وتعالى يحبه على ذلك وينصره ويؤيده ويرعاه، والله سبحانه وتعالى يتولى من تولاه، ولا يتخلى عز وجل عمن نصره ووالاه.
أولاً البشرى في الحياة الدنيا تكون بأشياء:
منها أولاً: إعلام الولي بأن الله معه في نصره وتأييده كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128]، وقال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51].
ثانياً: إعلام الولي بما أعده الله عز وجل له في الآخرة من النعيم والرضوان، كما قال تعالى: وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [البقرة:25].
ثالثاً: رعاية الله عز وجل لوليه بتوفيقه وحفظ جوارحه عن المعاصي كما جاء في الحديث: (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ....) الحديث.
رابعاً: تبشير الملائكة له عند النزع الأخير وخروج الروح، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30].
خامساً من البشارات للولي في الدنيا: ما يراه المؤمن في النوم، أو يرى له من الخير، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لم يبق بعدي من النبوة إلا المبشرات، قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة) رواه البخاري رحمه الله. وقال عليه الصلاة والسلام في تفسير البشرى: (الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له) هذا تفسير البشرى، رواه الترمذي وهو حديث حسن.
سادساً مما أعد الله للولي في الدنيا: استجابة الدعوة، وهذا الذي تضمنه الحديث الذي سبق شرحه: (ولئن سألني لأعطينه).
سابعاً: ما يجريه الله عز وجل على يدي الولي من العجائب مما هو فوق قدرة البشر، كما وقع لمريم عليها السلام، وأصحاب الكهف، والغلام مع الساحر، والصبي الذي خاطب أمه في قصة الأخدود ... إلى غير ذلك، وكما قلنا هذا الأخير لا يشترط للولي بمعنى: ولياً إلا إذا وقع له ذلك، فقد يقع وقد لا يقع.
والبشرى للولي في الدنيا بتبشير الملائكة له عند خروج نفسه برحمة الله تعالى قد وردت به آيات، فهذا من معنى قول الله تعالى: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس:64].
والكرامة يعرفها أهل السنة : بأنها أمر خارق للعادة، يظهره الله عز وجل على أيدي أوليائه، ليست مقرونة بدعوى النبوة، وهي ولا شك خارقة للعادة، وقد ذهب فيها الناس إلى ثلاثة مذاهب:
فمنهم من أجاز وقوعها بدون حد، حتى قال قائلهم: كل ما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة لولي. وهذا مذهب الأشاعرة وغيرهم، وهذا مذهب باطل، إذ كيف تستوي معجزات الأنبياء مع كرامات الأولياء، ومعلوم أن الأنبياء أفضل وأعلى وأزكى وأرفع عند الله تعالى، ثم إن النبي يحتاج للمعجزة لأجل إظهار الحق وإثباته للكفرة والمعاندين.
ومن الناس من ذهب إلى إنكار الكرامات بالكلية. وهذا مذهب المعتزلة وآخرين وافقوهم، ولا شك أن هؤلاء الذين احتكموا إلى عقولهم وأنكروا الكرامات، لا شك أنهم من المصادمين لمذهب أهل السنة وهو القول الثالث الوسط، وهو إثبات وقوع الكرامات للصالحين وجواز وقوعها، لكنها لا تصل إلى درجة معجزة الأنبياء. قال ابن تيمية رحمه الله: ومع هذا فالأولياء دون الأنبياء والمرسلين، فلا تبلغ كرامات أحد قط إلى مثل معجزات المرسلين، كما أنهم لا يبلغون في الفضيلة والثواب إلى درجاتهم. وقال رحمه الله: فإن آيات الأنبياء التي دلت على نبوتهم أعلى مما يشتركون فيه هم وأتباعهم، مثل: الإتيان بالقرآن، ومثل: إخراج الناقة من الأرض، ومثل: قلب العصا حية، وشق البحر ....، إلى آخر ما قال رحمه الله تعالى.
فالخلاصة: إثبات كرامات الأولياء وجواز وقوعها، ولكنها لا تصل إلى درجة معجزات الأنبياء.
ولا يعني إثبات الكرامات المبالغة في قبولها والأخذ بها من كل طريق أتت، أو إثباتها للفسقة والمجرمين، ولذلك فلا بد أن نعرف من هم الأشخاص الذين تظهر على أيديهم الخوارق، ومتى تسمى كرامات ومتى لا تسمى، فلا بد من ملاحظة عدة أمور بالنسبة لكرامات الأولياء؛ لأنه ليس كل من ظهر على يده فعل عجيب يدل على أنه ولي.
فإذاً الأولياء الذين قد يجري الله على أيديهم بعض الكرامات؛ هم أناس صالحون ملتزمون بالشريعة ظاهراً وباطناً، آمنوا بالله عز وجل وبما أمرهم أن يؤمنوا به، ولا يدعون لأنفسهم مكانة زائدة على أفراد الأمة، ولا يزكون أنفسهم، فلا يقولون: نحن أفضل الناس، ونحو ذلك، وهؤلاء يخفون الكرامات ولا يظهرونها ولا يقولون للناس: حصلت على أيدينا كذا، وحصل على أيدينا كذا، ولا يتفاخرون بها.
ومن الناس من يظهر على أيديهم أشياء من العجائب، لكنهم قوم فسقة استخدموا الشياطين واستخدمتهم الشياطين، إما عن طريق السحر أو غير ذلك، ولذلك فإن الله عز وجل عندما وصف المؤمنين بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63] لا شك أن هؤلاء لا يدخل فيهم السحرة، ولا الكهنة، ولا الكفرة، ولا المشعوذون ولا المشركون، لا يدخلون في المؤمنين ولا في الولاية، ولذلك فإن أهل العلم بينوا أنه ليس كل من طار في الهواء أو مشى على الماء يكون ولياً من أولياء الله تعالى، وبعض الصوفية -كما تقدم- ادعوا الكرامات، وألصقوا بأنفسهم أشياء كثيرة من هذا المقام، وكان بعضهم يقول: إن طائراً يحملني في كل ليلة ويدخلني الجنة، ومنهم من كان يدعي علم الغيب، ومنهم من يدعي أنه يذهب ويطوف بالكعبة ويرجع في ليلته، ومنهم من يدعي أنه سقطت عنه التكاليف، ومنهم من يأتي المزابل والنجاسات ويتمرغ بها، ويدعي أشياء من الأحكام الخاصة لنفسه، وقد زعموا للخضر أشياء كثيرة في مقابلاتهم له، وفي عصرنا بالغ بعض الناس الذين لا يحسنون معرفة الأسانيد ولا نقل الأخبار الصحيحة في إثبات قصص في بعض ميادين الجهاد للشهداء ليست بصحيحة بسبب اندفاعهم العاطفي، وعدم معرفتهم لمبدأ التثبت ونقل الأخبار، والتصديق بالشائعات والزيادة عليها، ولا ينكر أن لبعض الشهداء كرامات عند الله ولا شك، وأن بعض الشهداء من أولياء الله تعالى، ولكن فرق بين إمكان حصول شيء وبين وقوعه فعلاً.
وكذلك فإنه لا بد أن يعاد القول في ضوابط الكرامات
وثانياً: ألا يدعي صاحبها الولاية، لا يقول: أنا ولي.
وكذلك أن يكون عالماً بالدين وبأحكام الشريعة، عارفاً بالله تعالى وليس جاهلاً، وأن يلازمه الخوف على نفسه، وألا يترك واجبات، ولا يفعل محرمات، وألا تكون الكرامة مخالفة لأمر من أمور الدين، فلو رأى في المنام شخصاً في صورة نبي أو ملك يقول له: قد أبحت لك الخمر، أو أسقطت عنك التكاليف ونحو ذلك فليعلم أنه شيطان.
وكذلك فإن منهم من يقول: إنني رأيت النبي عليه الصلاة والسلام في الحقيقة، وصافحته وأخرج يده لي من القبر، ونحو ذلك، فلا شك أن مثل هذا مخرف من المخرفين.
لقد وقعت حكايات لبعض السلف والعلماء تدل على وعيهم وفقههم، وعدم انطلاء حيلة الشيطان عليهم، فحكى عياض عن الفقيه أبي ميسرة المالكي أنه كان ليلة في محرابه يصلي ويدعو ويتضرع، وقد وجد رقة فإذا المحراب قد انشق وخرج منه نور عظيم، ثم بدا له وجه كالقمر يقول له: تملأ من وجهي -يا أبا ميسرة - فأنا ربك الأعلى، فبصق فيه وقال: اذهب يا لعين، عليك لعنة الله؛ لأنه يعلم أن الله لا يرى في الدنيا، وأن هذا لا بد أن يكون شيطاناً من الشياطين.
وكذلك ما يحكى عن عبد القادر الجيلاني رحمه الله أنه عطش عطشاً شديداً، فإذا سحابة قد أقبلت وأمطرت ونودي: يا فلان! أنا ربك أحللت لك المحرمات، فقال: اذهب يا لعين، فاضمحلت السحابة، فقيل له: بم عرفت أنه إبليس؟ قال: بقوله: قد أحللت لك المحرمات، فبذلك يعلم أن الكرامة التي تدعى وتكون مصادمة للشريعة ليست بكرامة.
الجواب: نعم. فمن ذلك ما أخبر الله تعالى عنه في القرآن الكريم، في سارة زوجة إبراهيم الخليل، قال الله عز وجل: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [هود:71-73].
فهذه المرأة سارة لا شك أنها من أولياء الله قد أكرمها الله بكرامة، وهي أنها حاضت وهي عجوز وولدت، مع أن بعلها شيخ كبير.
وكذلك الذي عنده علم من الكتاب في قصة سليمان عليه السلام وكان رجلاً مسلماً عالماً من الصالحين: قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي [النمل:40] قيل: إنه كاتب لسليمان كان عابداً عالماً من أولياء الله تعالى، وقيل: إنه كان يعلم اسم الله الأعظم، سأل الله به، فبصلاحه وبسؤاله أعطاه الله مطلوبه، ونقل ذلك العرش من اليمن إلى الشام بطرفة عين.
وكذلك من الكرمات التي وقعت: ما جاء عن مريم عليها السلام كما قال قتادة في قوله تعالى: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً [آل عمران:37] قال: [حدثنا أنه كان تؤتى بفاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، فعجب من ذلك زكريا] وعلى أية حال كان عندها رزق في المحراب، وجود الرزق في المحراب: أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:37] هذه كرامة بحد ذاتها ولا شك.
كذلك ما حصل للثلاثة (أصحاب الغار) لما دعوا الله تعالى بأعمالهم، فخرجت الصخرة من موضعها التي انطبقت عليهم فهي كذلك من كراماتهم.
وقصة الرجل الذي سمع صوتاً في سحابة، يقول: اسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب، فأفرغ ماءه في حرة، فالرجل تتبع السحاب ونظر أين نزل المطر في بستان، فجاء إلى صاحب البستان وسأله عن اسمه؟ فأخبره باسمه، فتطابق عنده الاسم الذي سمعه منه مع الاسم الذي سمعه من السحاب، فسأله عن قصته، فأخبره بأن هذه الأرض يأخذ ثلث ما يخرج منها فيتصدق به، ويأكل هو وعياله الثلث، ويرد الثلث زرعاً وإصلاحاً وبذراً ونحو ذلك.
كذلك من الكرامات الثابتة في السنة: الكرامة لـجريج العابد الزاهد الذي كان يعبد الله في صومعة، فتسلطت عليه زانية فلما أبى أن يستجيب لها أتت راعياً فأمكنته من نفسها، فلما حملت ووضعت اتهمت جريجاً أنه الذي فجر بها، فجاء بنو إسرائيل في عهده فكسروا صومعته بالفئوس والمساحي، ثم لما رأى ذلك مسح رأس الصبي وقال: من أبوك؟ فقال: أبي راعي الضأن، فبهتوا عند ذلك وأرادوا أن يبنوها له ذهباً أو فضة، فقال: أعيدوها طيناً كما كانت.
وكذلك سارة حصل لها موقف آخر -زوجة إبراهيم الخليل- لما أخذها الجبار، وأرد أن يؤذيها ويأخذها بالحرام، فأصابه الله بالشلل، فقال: سلِ الله أن يطلق يدي ولا أضرك، ففعلت، فانطلقت يده، فعاد فقبضت يده، ثلاث مرات، حتى قال لمن معه: إنما أتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان، وأعطاها هاجر خادمة لها، وخلَّى سبيلها.
وكذلك ما حصل من الرجل صاحب الخشبة الذي أعيته الأمور في الرجوع إلى صاحبه لرد الدين في الوقت المحدد، فأخذ خشبة ونقرها فجعل فيها المال، وألقاها في الماء، ثم جاء إلى صاحبه بعد ذلك، فقال له صاحبه: إن الله قد أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة، فانصرف بمالك راشداً. هذا بعض ما حصل لمن قبلنا.
جاء عن أنس (أن
وفي رواية عن أنس: (أن رجلين خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة، فإذا نور بين أيديهما حتى تفرقا، فتفرق النور معهما).
فهذه الأحاديث الصحيحة في كرامة بعض صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وأسيد بن حضير نفسه هو صاحب كرامة نزول الملائكة: (لما كان يقرأ سورة البقرة وفرس له مربوطة في زاوية البيت، و
وكذلك خبيب بن عدي لما أسروه بـمكة ، رأت امرأة من المشركين بين يديه قطفاً من عنب وما بـمكة ثمرة، وإنه لموثق في الحديد. وهذا الحديث أخرجه البخاري رحمه الله، فمن كرامات خبيب بن عدي أن الله عز وجل رزقه بهذا الرزق وهو موثق اليدين سجين في مكة ولا يوجد في مكة ثمرة من هذا العنب.
وكذلك قصة أويس القرني وما كان من كرامته في إجابة دعوته.
وكذلك كان لبعض السلف رحمهم الله تعالى كرامات من جهة إجابات دعوتهم.
وكان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه له كرامات في فراسته وصدق ظنه، ومن الكرامات المشهورة لـعمر رضي الله عنه، أن عمرو بن العاص لما فتح مصر أتى أهلها إلى عمرو بن العاص حين دخل، شهر الأشهر العجم، قالوا: أيها الأمير! إن لنيلنا هذا سُنَّة لا يجري إلا بها، قال: وما ذاك؟ قالوا: إذا كان اثنتي عشر خلون من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر من أبويها، فأرضينا أبويها أي: أعطيناهم المال وأرضيناهم وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون ثم ألقيناها في هذا النيل، هذا لكي يفيض النيل، وإلا لا يفيض، فقال لهم عمرو : إن هذا مما لا يكون في الإسلام، إن الإسلام يهدم ما قبله، فأقاموا (بؤنة وأبين ومسرى) وهي أشهر كانت عندهم، والنيل لا يجري قليلاً ولا كثيراً، حتى هموا بالجلاء والذهاب من هذه الأرض، فلما رأى ذلك عمرو كتب إلى عمر بن الخطاب ، فكتب عمر جواباً إلى عمرو بن العاص يقول فيه: إنك قد أصبت بالذي فعلت، وإن الإسلام يهدم ما قبله، وإني قد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي هذا، فألقها في النيل، فلما قدم كتاب عمر إلى عمرو أخذ البطاقة ففتحها، فإذا فيها من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر أما بعد: فإن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك، قال: فألقى البطاقة، فلما ألقى البطاقة أصبحوا يوم السبت وقد أجراه الله ستة عشر ذراعاً في ليلة واحدة، وقطع الله تعالى تلك السنّة عن أهل مصر إلى اليوم، فلم يعودوا أبداً لإلقاء جارية في النيل، وهذه القصة سندها رجاله ثقات، وقد ذكرها الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة.
ومن كرامات عثمان رضي الله عنه الخليفة المقتول ظلماً أن جهجاه الغفاري أخذ عصا عثمان التي يتخصر بها فكسرها على ركبته، فوقعت في ركبته الآكلة؛ الآكلة مثل الدود، أكلت ركبته محل الموضع الذي كسر عصا عثمان عليه. وهذا سنده رجاله ثقات أيضاً.
وكذلك سعد رضي الله عنه، فإنه كان مجاب الدعوة، ولذلك لما اتهمه رجل قال: أنه لا يعدل في الرعية، ولا يقسم بالسوية، ولا يغزو في السرية -أي: لا يخرج للجهاد- قال سعد : [اللهم إن كان كاذباً فأعم بصره، وعجل فقره، وأطل عمره، وعرضه للفتن]، قال الراوي: فما مات حتى عمي، قال: فكان يلتمس الجدران، وافتقر حتى سأل الناس، وأدرك فتنة المختار الكذاب فقتل فيها. والقصة وردت في الصحيح، كيف أنه كان يغمز الجواري في الطرقات، ويتعرض للنساء في الشوارع، ويقول: مفتون أصابتني دعوة سعد.
وكذلك لما ظلمته امرأة في ادعاء أرض دعا عليها أن الله يعمي بصرها ويقتلها في أرضها، فأعمى الله بصرها ووقعت في بئر في أرضها فماتت.
وأما خالد بن الوليد رضي الله عنه، فإن من كراماته أنه لما كان في الحيرة ، أتي له بسم فقال: ما هذا؟ فقالوا: سم ساعة، تأخذه من هنا وتموت، قال: باسم الله ثم ازدرده. وسنده حسن. وهذه القصة قيل: إنها وردت في تحدٍ حصل بين خالد وأحد المشركين، أو أحد الكفار النصارى، وأن خالداً قد شربه توكلاً على الله تعالى لإظهار اليقين لهم، ولم يضره ذلك.
و عمران بن حصين جاء في الأحاديث الصحيحة: (أن الملائكة كانت تسلم عليه) ثبت ذلك في صحيح مسلم ، أن الملائكة كانت تسلم على عمران بن حصين .
وأما حجر بن عدي فإنه عبر مع جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نهر دجلة بلا سفينة بعد فتح القادسية حتى أن الفرس لما رأوهم يعبرون النهر من غير سفينة قالوا: دبوان، دبوان، أي: شياطين، شياطين، وهربوا، قال: فدخلنا عسكرهم، فوجدنا من الصفراء والبيضاء -يعني: من الذهب والفضة- وأصبنا أمثال الجبال من الكافور، وأصبنا بقراً فذبحناها فجعلناها في القدور، وأخذنا من ذلك الكافور ونحن نحسبه أنه ملح وطرحناه في اللحم، فلما أكلنا وجدناه مراً، فقلنا: ما أمر ملح الأعاجم. فلم يدروا أنه كان كافوراً، لما رأوا هذه الكمية الكبيرة الهائلة، لم يتوقعوا ذلك.
ومن كرامات أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الثابتة قصة سفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم، لما ركب في البحر -سمي سفينة لأنه كان يحمل الأمتعة في الأسفار- فركب مرة في البحر فانكسرت، فركب لوحاً منها فطرحه في أجمة فيها أسد -ألقاه في غابة فيها أسد- فقال سفينة رضي الله عنه: يا أبا الحارث -وهي كنية الأسد عند العرب- يا أبا الحارث! أنا سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فطأطأ رأسه وجعل يدفعني بجنبه أو بكتفه حتى وضعني على الطريق، فلما وضعني على الطريق، همهم فظننت أنه يودعني. رجاله ثقات. وممن أثبته الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى في سير أعلام النبلاء .
وكذلك فإن زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها لما جيء لها بمال، أمرت أن يصب ويطرح عليه ثوب، ثم قالت للجارية: أدخلي يديك فاقبضي منه قبضة فادفعي بها إلى فلان، وإلى فلان، من أبنائها وذوي رحمها، فقسمته حتى بقيت منه بقية، فقالت لها برزة : غفر الله لكِ، والله لقد كان لنا في هذا حظ، أي: لو تركت لنا شيئاً، قالت: ولكم ما تحت الثوب، قالت: فرفعنا الثوب فوجدنا تحته خمسة وثمانين درهماً، وهذا مع أن المال كان أقل مما أنفقت لما طرح في البداية.
وذكر كذلك من كرامات بعض جيوش المسلمين التي غزت القسطنطينية ، كسرت بعض مراكبهم وألقاهم الموج على خشبة في البحر وكانوا خمسة أو ستة، قال: فأنبت الله لنا بعددنا ورقة لكل رجل منها، فكنا نمصها فتشبعنا وتروينا، فإذا أفنينا أنبت الله لنا مكانها أخرى حتى مر بنا مركب فحملنا.
ولا شك أن هذه الكرامات تدل على أن هناك من أولياء الله تعالى من يكرمه الله عز وجل بأن يخرق العادة له، ويكون في هذا كرامة له في الدنيا قبل الآخرة، وإلا فما عند الله لا شك أنه أبقى وأعلى، وقد ساق ابن رجب رحمه الله جزءاً من أخبار الكرامات التي حصلت لبعض السلف مما يدل على أن الكرامات ثابتة.
ومنها: أن أبا مسلم الخولاني رحمه الله مر به صبيان يطاردون ظبياً، فقالوا: ادعُ الله لنا أن يحبس لنا هذا الظبي، فيدعو الله حتى يمسكوه بأيديهم.
ودعا على امرأة أفسدت عشرة امرأة بذهاب بصرها فذهب بصرها في الحال، فجاءته فجعلت تناشده الله وتطلب إليه، فرحمها ودعا الله فرد عليها بصرها.
وكذلك وقع رجل في أبي هريرة رضي الله عنه، فنزلت حية من السقف -وهذه القصة التي قالها الحافظ الذهبي رحمه الله إسنادها كالشمس- تطرد وراءه كرامة لـأبي هريرة بعد وفاته رضي الله عنه لما وقع فيه هذا الرجل بالسوء.
وهذه القصص الكثيرة والكثيرة جداً يؤخذ منها أيها الإخوة: أن الله تعالى يبشر أولياءه في الدنيا قبل الآخرة، والمهم أن الإنسان يسلك سبيل الولاية والصراط المستقيم، ومن الكتب المهمة في هذا الموضوع كتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ، الذي كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو الموجود في المجلد الحادي عشر من مجموع الفتاوى ، وأيضاً هو مطبوع مستقلاً.
ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل طاعته، وأن يرزقنا التمسك بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً. والله تعالى أعلم.
الجواب: طبعاً هؤلاء الصوفية درجات، أما نسبتهم فقيل إلى نسبة الصوف ؛ لأنه كان شعار المتزهدين في ذلك الوقت، وقيل: إنه نسبة إلى الصحراء كما قال ذلك الشاعر:
فتى تصافى فصوفي حتى سمي الصوف |
وقيل غير ذلك، ومهما كان الأمر فإن هذه الطريقة طريقة بدعية، فلم يكن صلى الله عليه وسلم صوفياً ولا أبو بكر ولا عمر ولا الخلفاء الأربعة ولا الصحابة وما كانوا متصوفة ولا صوفية ، ولا كان عند الصحابة طريقة قادرية ، ولا جيلانية ، ولا طريقة عيدروسية ، ولا طريقة بدوية ولا رافعية ولا شاذلية ، فكل هذه الطرق التي ابتدعها هؤلاء المبتدعة، وأما الصوفية طبعاً درجات في الانحراف، فمنهم: الذين يكون بدعتهم في الأذكار، كأن يقيدوا أذكاراً بعدد معين ما ورد في السنة، أو بمكان معين أو بكيفية معينة ما وردت في الشريعة، فبدعتهم تقف عند حدود الأذكار، مثل: بعض الصلوات، يقولون: هذه الصلاة النارية، ويبتدعون في الصلوات أذكاراً معينة، أو في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يبتدعون في كيفيات معينة في الأذكار، ويتبعون أذكاراً معينة ويواصلون عليها وهذه الصمدية، ونحو ذلك مما يسمونه، أو مثلاً يذكرون الله بالاسم المفرد كأن يقولون: (الله، الله) (حي، حي، حي) أو (هو، هو، هو) ....... فهؤلاء قوم لا يعقلون، ولذلك فإن الذكر بالاسم المفرد بدعة من البدع، لا يوجد شيء اسمه ذكر باسم مفرد، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال (الله، الله، الله) يذكر الله هكذا، كما يقول بعضهم حتى المسجد يقول: الله، والجدار يقول: الله، وكل شيء يقول: الله، والأشجار تقول: الله، ويقول: ما ترى بعينك، يقول: الأشجار تقول: الله، والسماء والأرض تقولان: الله، ويسمع كل شيء، وربما يكون الشيطان فعلاً يسمعهم من هذا حتى يصدق فعلاً أن هذه طريقة ..، وربما يكون إحياءً نفسياً، وبعضهم يقول: جرب هذا الذكر، ويكتبوا: يا لطيف أربعة آلاف وأربعمائة وأربعة وأربعين مرة، ويقول: اذكر هذا ويقول: هذه وصفة وهذا ....
وكان بعض أهل الدعوة والعلم في عصرنا وهو الشيخ محمد المصري رحمه الله قد سمع بأن أحد الصوفية يزعم أنه يوصل من يريد إلى الله عز وجل مباشرة، يجعله يتصل بالله، فذهب إليه، فقال: أنا سمعت أنك توصل من يريد بالله عز وجل؟ قال: طبعاً هذا أكيد، قال: وما هو المطلوب؟ قال: لا بد أن تجلس عندي أربعين يوماً، قال: أنا مستعجل وعلى سفر ولا يمكن، أنا أكثر شيء أستطيع أن أجلس عندك ثلاثة أيام، فالمهم في الأخير حتى لا يكون هذا ما عنده علاج، وافق له على ثلاثة أيام ثم أعطاه أشياء معينة، أذكاراً معينة، كتب له كتابة فيها البدعي وغير البدعي، وقال: هذه في ثلاثة أيام تواظب عليها في الأوقات الفلانية، وفي الظلمة وفي كذا، وتحت السنة لازم تحت السنة، قال: اكتب لي توقيعك عليها حتى لا يعارضني أحد في أن هذه الأذكار هي من عندك أنت شخصياً، فكتب له توقيعاً عليها، ثم جاءه بعد ثلاثة أيام فقال: ما حصل لي شيء، ما وصلت ولا أحد كلمني ولا .. فقال: أنت يمكن عندك قسوة قلب، أو أنك ما طبقت الوصفة كما ينبغي ونحو ذلك.
فقال: أشهد لله العظيم أنك كذاب، ومثل هؤلاء المقصود كان إثبات عجز هذا الرجل وغيره الذين يقولون أنه يوصل إلى الله تعالى مباشرة، أي: تكلم الله مباشرة، نعطيك أوصافاً وأوراداً .. وبعضهم كان يدعي الكرامات، واحد منهم كان يلقب بـالحاروني كان يزعم أنه يتصل بالله، بذكر ... يرفع السماعة ويكلم فيه، وبعضهم يقول: أن الشيخ الفلاني ضرب الشيخ الفلاني من دمشق إلى بغداد بالحذاء، بينهم ثأر فضربه من هناك.
وبعضهم طبعاً يزعم أنه من أهل الخطوة، وأنه ينتقل من بلد إلى بلد، المسافات الشاسعة، لكن فعلاً قد ثبت لدى شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره أن بعض هؤلاء فعلاً يذهبون إلى مكة بالاستعانة بالجن، يذهبون في ليلة من بلد بعيد ويرجعون، وربما حكوا قالوا: رأينا كذا ورأينا كذا، وقال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن منكراتهم: أنهم يمرون بالميقات ولا يحرمون منه، الجني لا ينـزل في الميقات يحرم، فيأخذه مباشرة.
فهؤلاء كما قلنا بدعهم في الأذكار، وبعضهم بدعهم تصل إلى الشرك وادعاء الكرامات والكفر، ووحدة الوجود، وكان بعضهم يقول: كل ما ترى بعينك فهو الله، ليس في الجبة إلا الله، فرعون كان محقاً لما قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعـات:24] لكن موسى ما فطن لها؛ لأن كل شيء في هذه الدنيا جزء من الله، تعالى الله عن قولهم.
المهم هؤلاء الذين يعملون الأضرحة، هؤلاء طبعاً يؤلهون أصحاب الأضرحة، أي: يثبتون لهم أشياء من التوحيد التي لا تجوز إلا لله، مثل: طلب شفاء المريض، مثل: طلب الزرق، طلب نزول المطر، إذا قحطوا قالوا: عليكم بقبر البدوي ، قبر أبي العباس المرسي يعني: مجرب ونافع، وقبر فلان لكذا، وهذه المرأة التي لا تحمل تحمل إذا جاءت عنده، وبعض هؤلاء المشركين كان لهم بدعاً قبيحة، وبعض هؤلاء الذين في الأضرحة على ثلاثة أقسام:
إما أناس من أهل التوحيد الذين لا يرضون هذا المنكر أبداً كما عبدت النصارى المسيح والمسيح منهم براء، ومن هؤلاء الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى، وهذا من أئمة أهل السنة.
وذكر فضله شيخ الإسلام رحمه الله وأثنى عليه، فـعبد القادر من أئمة أهل السنة لكن الناس غلوا فيه حتى جعلوه إلهاً بعد موته يطلبون منه شفاء المرض، ويطلبون منه المغفرة، ويطلبون منه الشفاعة عند الله، وغير ذلك.
وكما فعل الغلاة بـالحسين ، وكما فعلوا بـزينب ، وكما فعلوا بكذا، وحتى ما يفعله كثير من المشركين عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن المقبورين: من يكون من المشركين الكفار، ولكنهم ألهوهم وجعلوهم أولياء، مثل البدوي الذي كان تاركاً للصلاة، متعاطياً للخمور متعاطياً للمحرمات، وكان أيضاً والغاً في النجاسات؛ لأن بعض هؤلاء الرءوس كانوا لا يتنـزهون من النجاسات، وربما لا يغتسلون، طبعاً اتصال برهبنة في النصارى، مسألة الصوفية اتصال بين النصارى والصوفية وموجودة، وصلة بين التصوف المنتشر كذلك قائمة وحقيقية، فبعض هؤلاء كانوا لا يصلون كـالبدوي وربما فعل الأشياء السخيفة كما حدث أنه مرة وقف على جدار فبال على الناس وهم يمشون في الطريق، فهموا به وأخذوه، قال: أنا مالكي، ونحن المالكية نقول: بول كل ما أكل لحمه فهو طاهر، قال: الناس يغتابوني، أي: يأكلون لحمي، إذاً بولي طاهر.
ولذلك فإن مثل هذا الرجل الذي يطاف عند قبره بالملايين في السنة، وربما يذبحون، يطوفون بالقبر ويحلقون الشعر ويذبحون الذبيحة، ويأتون من القرية ببقرة يذبحونها عنده، فهؤلاء الذين ذكرهم يبنون المساجد على هذه الأضرحة ويجعلون لها سدنة.
النوع الثالث من الذين في القبور: من الدواب، حمار أو كلب أو تيس، يدفنونه مثلما يفعل بعضهم في فتح باب رزق بالنسبة له، كما حصل لأحدهم أنه دفن حماراً ثم هب إلى القرية يقول: الولي فلان مات وأوصاني بقبره، وقد دفنته، وجاءوا إلى القبر وجعلوه هو المسئول عن هذا القبر وما يأتي إليه من أموال.
إذاً هؤلاء الناس ماذا يفعل الإنسان بهم؟ إن كان له سلطة أنكر المنكر بيده، وإن لم يكن له سلطة فليس إلا المناصحة وإقامة الحجة والبيان، فإن لم يستطع أنكر بقلبه، وشكى أمره إلى الله تعالى، وحاول أنه يدعو من الناس من يرجى فيهم التقبل؛ لأن بعضهم إذا دعاهم كادوه وضيقوا عليه، يدعو من يرجو فيهم التقبل، حتى إذا زادوا كان هناك تياراً يحارب هذه الشركيات.
الجواب: هذا لا يجوز، وليس بصحيح أنه يدفعه؛ لأنه لم يدفعه إلى أحد من الأصناف الثمانية، فإن الله قال: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ [التوبة:60] أسلوب حصر: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60] فإذا جعلت للمكوس فلا يكون قد أدى الزكاة إلى أهلها، وكذلك لا يجوز أن يستفيد من الربا لدفع المكوس أو الضريبة؛ لأن الربا لا يجوز الاستفادة منه ولو في دفع الشر عن نفسه.
الجواب: لا يجوز إسقاط الدين للزكاة، واحتساب الزكاة من الدين المعدوم؛ لأن هذا مال لا يرجى عودته، فيفتدي نفسه وماله بالزكاة ويقول: أسقطه عنك مقابل الزكاة، لا يجوز فإنه مال رديء، قال الله: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة:267] لا تأخذ تمراً رديئاً، تمراً فيه سوس إلا على كراهية وعلى إغماض منك إذا أخذته، فكيف تجعل هذا المال الرديء الشبه معدوم زكاة؟
ثم أنت لما أعطيته المال، أعطيته بأي نية؟ أعطيته بنية قرض، فكيف الآن تجعلها زكاة؟! ولا بد للزكاة من نية عند الإعطاء، ثم إن الله قال: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103] فهي صدقة تأخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر