يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: إن هذا الدين لما نزل وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم للناس، وربى عليه من ربى من الناس، أخرج لنا أفذاذاً ورجالاً عرفهم التاريخ، وتكلم عنهم الناس مسلمهم وكافرهم، خلف هذا الدين رجالاً حملوا لواءه وحكموه في العالمين، وصاروا قدوات ومنارات يهتدي بهم من بعدهم، وإن من حق هؤلاء علينا أن نعرف سيرهم، ونبلو أخبارهم، أولاً لنعرف عظمة هذا الدين الذي أخرج هؤلاء الرجال، وثانياً: لأننا نقتدي بسلفنا، ونقتدي بأئمتنا، وهؤلاء الأئمة الأعلام منارات يهتدى بها في دجى الظلمات، ونعلم -أيضاً- بأن هذه النماذج يمكن أن تتكرر بدرجات أقل ولا شك إذا ما وجدت البيئة الإسلامية والتربية التي تصقل النفوس وتهذبها، فتغرس العقيدة وتصقل النفوس وتخلقها بأخلاق النبوة.
ولا شك أن شخصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه شخصية مثالية من الشخصيات العظيمة التي مرت في تاريخنا الغني الذي غفل عنه الكثيرون، وإن استرجاع سير مثل هذه الشخصية، يذكر الغافلين منا الذين خدعهم الغرب والشرق بسير عظماء عندهم؛ لو نظر الناظر لعرف أن واحدهم لا يخلو من انتهازيةٍ أو فسقٍ أو شرب خمرٍ، أو ظلمٍ أو بغيٍ وجور، ويبقى أعلام الإسلام لا يوجد لهم مثيل.
إن عمر رضي الله عنه كان في الجاهلية يعبد الأصنام، وكان يئد ابنته، ويفعل الأفاعيل، ويظلم الناس، وظلم المسلمين حتى قال سعيد بن زيد : [لقد رأيتني وإن
فلما أسلم عمر ونطق بالشهادتين كان إسلامه فتحاً ولم يكن إسلامه سراً، بل إنه قد جاء في الحديث الحسن بطرقه أنه لما أسلم قال: [أي قريشٍ أنقل للحديث؟ قيل له: جميل بن معمر الجمحي ، قال: فغدا عليه عمر ، قال عبد الله : وغدوت أتبع أثره أنظر ما يفعل وأنا غلام، أعقل كل ما رأيت حتى جاءه، فقال: أما علمت يا جميل ! أني قد أسلمت ودخلت في دين محمدٍ صلى الله عليه وسلم؟ قال: فوالله ما راجعه حتى قام يجر رجليه فتبعه عمر وتبعت أبي، حتى إذا قام على باب المسجد - جميل المشرك الإذاعة- وقف على باب المسجد وصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش! -وهم في أنديتهم حول الكعبة- ألا إن عمر قد صبأ، قال: يقول عمر من خلفه: كذبت ولكن قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، فأعلنها صراحةً أمامهم، هذه العزة التي دخلت قلبه فأورثته هذه الصراحة وهذه الجرأة على الكفرة، إعلان المبادئ، قال: وثاروا عليه، فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم، قال: وتعب وأرهق، فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركتموها لنا، قال: فبينما هم على ذلك، إذ أقبل شيخٌ من قريش وهو العاص بن وائل ، فصرفهم عنه وإلا كانوا قتلوه].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل جعل الحق على قلب
فلما جعل الله الحق على لسان عمر وقلبه، وافق ربه في آياتٍ نزلت من القرآن على ما قال عمر، فيما ثبت في الصحيحين: [وافقت ربي في ثلاث: قلت: يا رسول الله! لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى -نصلي وراءه- فنزلت: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً [البقرة:125] وقلت: يا رسول الله! يدخل على نسائك البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة، حصل منهن كلام اشتدت وطأته على النبي صلى الله عليه وسلم، -يقول
تأملوا يا عباد الله: آية تنـزل على كلام عمر ، يلهم الله عمر أن يقول كلاماً، فتنـزل الآية بألفاظ عمر وتصبح قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، وافق عمر ربه بأمور أخرى كذلك كما ورد في أسارى بدر وهكذا.
هذا الرجل المهيب، هذا الرجل العظيم الشديد في دين الله، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام عن أصحابه: (أرأف أمتي بأمتي
ليست الهيبة -يا أيها الناس!- أن يكون الإنسان صلفاً فظاً غليظ القلب، ليست الهيبة أن يكون متعجرفاً قاسياً، وإنما الهيبة في مكانها محمودة، هذا الرجل الذي شهد التاريخ بفضله ورحمته لرعيته، هذه هي القيادة المثلى التي خلفها النبي صلى الله عليه وسلم من بعده من أصحابه.
لا ينسى لأصحاب الفضل فضلهم، هذه امرأة أبوها وأخوها من كبار المجاهدين، بسبب قتالهم غنم المسلمون وأكلوا، هذا الرجل هو الذي كان يخرج في الليل يعس على رعيته، قال أسلم : خرجنا مع عمر بن الخطاب إلى حرة واقم (وهي الحرة الشرقية من المدينة) حتى إذا كنا بصرارٍ -مرتفع من الأرض- إذا نارٌ، فقال: يا أسلم ! إني لأرى هاهنا ركباً قصر بهم الليل والبرد، انطلق بنا، فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم، فإذا بامرأة معها صبيان صغار وقدرٌ منصوبة على نار، وصبيانها يتضاغون -يصيحون ويبكون- فقال عمر : السلام عليكم يا أصحاب الضوء! -وكره أن يقول: يا أصحاب النار! هم يوقدون ناراً، وعمر ينتقي الألفاظ- قال: السلام عليكم يا أهل الضوء! فقالت: وعليك السلام، فقال: أدنو؟ فقالت: ادن بخيرٍ أو دع، فدنى، فقال: ما بالكم؟ قالت: قصر بنا الليل والبرد، قال: فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: الجوع، قال: فأي شيءٍ في هذه القدر؟ قالت: ما أسكتهم به حتى يناموا، والله بيننا وبين عمر -تقول المرأة: والله بيننا وبين عمر - فقال: أي رحمك الله، وما يدري عمر بكم؟ -المرأة تقول: الله بيننا وبين عمر ، نحن في الصحراء لوحدنا لا نجد طعاماً، وعمر يقول وهي لا تدري من هو: أي رحمكِ الله وما يدري عمر بكم وأنتم في هذه البقعة النائية؟- قالت: يتولى عمر أمرنا ثم يغفل عنا؟ قال: فأقبل عليَّ، فقال: انطلق بنا، فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق -دار اتخذها عمر خاصة لتخزين الدقيق- فأخرج عدلاً من دقيق وكبةً من شحم، فقال: احمله عليَّ، فقلت: أنا أحمله عنك، قال: أأنت تحمل عني وزري يوم القيامة؟ لا أم لك، فحملته عليه، -الخليفة يحمل على ظهره، ويمشي والطعام على ظهره من المدينة إلى الحرة الشرقية، إلى المكان النائي الذي فيه المرأة، ويهرول من أجل الأولاد- فانطلق وانطلقت معه إليها نهرول، فألقى ذلك عندها وأخرج من الدقيق شيئاً فجعل يقول لها: ذُري عليَّ وأنا أحرك لكِ، وجعل ينفخ تحت القدر -الخليفة منبطح على الأرض صدره في التراب ينفخ على الحطب حتى يشتعل- ثم أنزلها فقال: أبغيني شيئاً أسكب فيه، فأتته بصحفةٍ فأفرغها فيه، ثم جعل يقول لها: أطعميهم وأنا أطبخ لهم، فلم يزل حتى شبعوا، وترك عندها فضل ذلك -بقية الكيس- وقام وقمت معه، فجعلت تقول: جزاك الله خيراً، كنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين، فيقول: قولي خيراً إذا جئت أمير المؤمنين وحدثيني هناك إن شاء الله، ثم تنحى ناحية عنها -ابتعد ثم استقبلها ينظر إلى مكانها من بعيد- فربض مربضاً فقلنا له: إن لنا شأناً غير هذا، ولا يكلمني -يقول: لابد أن تكون الوقفة لهدف، وعمر لا يتكلم- حتى رأى الصبية يضطجعون، ثم ناموا وهدءوا، فقال: يا أسلم ! إن الجوع أسهرهم وأبكاهم، فأحببت ألا أنصرف حتى أرى ما أرى
] إسناده حسن.هذا عمر في الرعية، هذا عمر في تفقده للمساكين وعطفه، هذا عمر ورحمته وإشفاقه بالرغم مما عنده من الشدة في دين الله، والهيبة التي كان يهابه بها الأقرباء والبعداء.
اللهم ارحم عمر واغفر له، وأعل شأنه وارفع درجته في المهديين.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا ممن يحب نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وممن يقتدي بنبيك صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واغفر لنا أجمعين وتب علينا يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
لقد كانت وفاة عمر فاجعة، فُجع بها القريب والبعيد، كان عمر هو الباب الذي يدرأ عن المسلمين الفتن، فلما كسر الباب باغتيال عمر دخلت الفتن على المسلمين من كل جانب.
عن عوف بن مالك الأشجعي أنه قال: رأيت في المنام كأن الناس جُمعوا، فكأني برجلٍ قد صرعهم سوطهم بثلاثة أذرع -أطول من الجميع- قال: قلت من هذا؟ قالوا: عمر بن الخطاب ، قال: قلت لِمَ؟ قال: إنه لا تلومه في الله لومة لائم، وإنه خليفةٌ مستخلف وشهيدٌ مستشهد، قال: فأتيت أبا بكر فقصصتها عليه، قال: فأرسل إلى عمر يبشره، فقال لي: اقصص رؤياك، فلما بلغ إلى خليفةٍ قال: زجرني وانتهرني، قال: تقول هذا وأبو بكر حي، قال: فسكت، فلما ولي عمر كان بعد بـالشام مررت به وهو على المنبر فدعاني فقال لي: اقصص رؤياك، قال: فلما بلغت لا يخاف في الله لومة لائم، قال: إني لأرجو أن يجعلني الله منهم، وأما خليفةٌ مستخلف فقد والله استخلفني فأسأله أن يعينني على ما ولاني، قال: فلما بلغت وشهيداً مستشهد، وأنى الشهادة وأنا في جزيرة العرب ، ثم قال عمر مستدركاً: يأتي الله بها أنى شاء، يأتي الله بها أنى يشاء.
ورأى عمر في منامه أن ديكاً ينقره نقرات، وكان لا يُدخل الأعاجم إلى جزيرة العرب ، فدخل بعضهم متسترين بالإسلام، وكان من سياسة عمر ، ألا يدخلهم، دخلوا فأقاموا، فكان منهم الحاقد الفارسي المجوسي أبو لؤلؤة الذي قال لـعمر متوعداً: لأصنعن لك رحىً يتحدث بها الناس، فقال عمر : توعدني العبد، وبعد أيام اختبأ له وراء باب المسجد في الظلام في صلاة الفجر، فلما سجد عمر قفز عليه فطعنه في كتفه وخاصرته، فقال عمر : قتلني الكلب، ثم صمت، ثم سمع الناس قراءة ابن عوف وطار العلج في الناس -في صفوف المصلين- ينحر يميناً وشمالاً، فقتل ستة من الصحابة، وحمل عمر مطعوناً، وجعلوا يشربونه اللبن فيخرج من الجرح، فعلموا أن الأمر قد انتهى، فأوصى عمر ووعظ الناس وذكرهم بالله وانتقل إلى الرفيق الأعلى، في قصة مشهودة عظيمة جداً أخرجها الإمام البخاري في صحيحه.
كانت وفاة عمر شديدة الوطأة على القريب والبعيد، قال المسيب بن رافع : سار إلينا عبد الله بن مسعود سبعاً من المدينة ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن غلام المغيرة أبا لؤلؤة قتل أمير المؤمنين عمر ، قال: فضج الناس وصاحوا واشتد بكاؤهم، قال: ثم قال ابن مسعود : إنا اجتمعنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأمرنا علينا عثمان بن عفان ، فأخبرهم الخبر والمكيدة، قال عبد الله بن مسعود : لقد أحببت عمر حباً حتى لقد خفت الله -من شدة حب عمر خفت الله- ولو أني أعلم أن كلباً يحبه عمر لأحببته، ولوددت أني كنت خادماً لـعمر حتى أموت، ولقد وجد فقده كل شيءٍ حتى العضاة -شجرة الشوك-.
إن إسلامه كان فتحاً، وإن هجرته كانت نصراً، وإن سلطانه كان رحمة، ذلكم عمر ومناقبه كثيرة جداً وهذا شيءٌ قليل منها، والمقصود: أن لهؤلاء حقاً علينا في معرفة سيرهم، وإن هؤلاء منارات نقتدي بهم، وإن في تذكر هؤلاء سبباً لحنين المسلم إلى أيام الخلافة ورغبته في عدلٍ كعدل عمر ، وقد طبق الأرض اليوم الظلم والجور، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيد للإسلام عزه، وأن يقيم الخلافة في أرجاء الأرض.
اللهم ردنا إلى الإسلام رداً جميلاً، اللهم اجعلنا ممن أقاموا الشريعة وعملوا بها، اللهم اجعل بلدنا هذا آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين في تحكيم شرعك يا رب العالمين، اللهم ارفع الظلم عن المظلومين، اللهم انصر من نصر الدين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر