أما بعد:
قصة من أجمل القصص ليس التي يقرؤها المسلم فقط، بل يمكن أن تكون من أجمل القصص التي يمكن أن يطلع عليها أي واحد من البشر، وهذه القصة -أيها الإخوة- هي قصة: الغلام المؤمن وأصحاب الأخدود، وسوف نسرد القصة إن شاء الله، ثم نتدارسها معكم مقطعاً مقطعاً.
روى الإمام مسلم رحمه الله تعالى بإسناده إلى صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كان ملكٌ فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر- أي: الساحر- قال للملك: إني قد كبرت، فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر، فبعث إليه غلاماً يعلمه، وكان في طريقه إذا سلك راهب- كان في طريق الغلام إذا سلك إلى الساحر راهب- فقعد إليه وسمع كلامه، فكان إذا أتى الساحر مرَّ بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه- لأنه يتأخر عن موعد الدرس، درس السحر- فشكا ذلك إلى الراهب- شكا الغلام إلى الراهب- فقال- أي: الراهب-: إذا خشيت الساحر فقل: حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر، فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس، فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل، فأخذ حجراً فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر، فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، فرماها، فقتلها ومضى الناس، فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني، وقد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي، وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء، فسمع جليسٌ للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة- جاء إلى الغلام بهدايا كثيرة- فقال: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني، قال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت بالله دعوتُ الله فشفاك، فآمن به- الأعمى آمن بالله- فشفاه الله فأتى الملك- الأعمى جليس الملك، جاء إلى الملك- فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي، قال: ولك ربٌ غيري -هؤلاء الناس كفرة مجتمع كافر كانوا يعبدون ملكهم- قال: ربي وربك الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فجيء بالغلام، فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل؟ فقال: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله فأخذه، فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى فدعا بالمنشار، فوضع المنشار على مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جيء بجليس الملك، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه، ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه -من حاشيته وجنده- فقال: اذهبوا به إلى جبل كذ وكذا -سمى لهم جبلاً- فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه- من فوق الجبل- فذهبوا به فصعدوا به الجبل، فقال- أي: الغلام-: اللهم اكفنيهم بما شئت، اللهم اكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل، فسقطوا إلا هو، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه آخرين، قال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور- والقرقور هو: السفينة- وتوسطوا به البحر- في منتصف البحر- فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة -انقلبت- فغرقوا كلهم، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله، فقال للملك- هذا الغلام-: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: ما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيدٍ واحد وتصلبني على جذعٍ، ثم خذ سهماً من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: بسم الله رب الغلام، ثم ارم، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، فجمع الناس في صعيدٍ واحد وصلبه على جذعٍ، وأخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صدغه- الصدغ من العين إلى شحمة الأذن- فوضع يده على صدغه في موضع السهم فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، فأتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر، قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس، فأمر بالأخدود بأفواه السكك، فخدت- حفرت في الطرق- وأضرم فيها النيران، وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، أو قيل له: اقتحم، ففعلوا حتى جاءت امرأةٌ ومعها صبيٌ لها، فتقاعست أن تقع فيها رحمة بالولد، فقال لها الغلام: يا أمه! اصبري فإنك على الحق) رواه مسلم .
قال الحافظ في الفتح : صرح برفع القصة بطولها حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب ومن طريقه أخرجها مسلم والنسائي وأحمد ، إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ووقفها معمر عن ثابت ، على صهيب ، ومن طريقه أخرجها الترمذي ، فهذا السياق -سياق الإمام مسلم - الذي ذكرناه سنعتمد عليه في شرح القصة، وسنأخذ من سياق الترمذي ما يكون فيه زيادة تفاصيل بحيث لا تكون تتعارض مع نفس القصة، لأن القصة التي نشرحها الآن رواية مسلم هي المرفوعة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وهي المعتمدة.
أيها الإخوة! لو أنا أوكلنا كتابة مثل هذه القصة إلى أعظم روائي في العالم فهل يا ترى سيكتب لنا قصة مثل هذه في جمالها ودقتها، وعظم الفوائد المحتوية عليها، ومدى تأثيرها في النفس؟ لا يستطيع أحد مطلقاً، لا يمكن أن يأتي بشر بأجمل مما رواه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه القصص -أيها الإخوة- ليست قصص حكايات، ليست روايات تسلية، هذه قصة مجتمع بأسره، مجتمع حي كان في فترة من الزمان موجوداً على ظهر الأرض.
يا إخواني! ابتلينا في هذه الأيام بروايات سخيفة وقصص ماجنة، يُقبل عليها الكبار والصغار، يقرءون قصصاً، وفيها فسادٌ عظيم، وفي بعضها خرافات وشعوذات تفسد واقعية الأطفال، لذلك كان مما يُنصح به لكل أب لديه طفل، لكل أخ أو أخت لديه أخ أصغر منه أن يقرأ عليه هذه القصة حتى قبل أن ينام، حتى لو قبل النوم يقرؤها عليه، أو أن يجزئها له.
ونبدأ معكم باستعراض هذه القصة جزءاً جزءاً مقطعاً مقطعاً كلمةًَ كلمة.
كذلك فيها تنوع الأساليب من الفردية إلى الجماعية، وغير ذلك، فيحتاج أصحاب الدعوات لدراسة هذه القصص جيداً، هذه القصص التي تمثل واقعاً متكاملاً، هذه التجارب، فالدين الإسلامي من عظمته أنه لا يبدأ بك أيها المسلم من الصفر، يقول لك: ابدأ، لا، بل يعطيك خلاصات تجارب الأمم السابقة، يقول لك: هذه التجارب استفيد منها، عندنا أرصدة في الإسلام من ضمن الأرصدة رصيد التجربة، تجارب الأمم السابقة مجموعة في القرآن والسنة.
نبدأ من البداية عن صهيب رضي الله عنه، من هو صهيب أيها الإخوة؟
صهيب الرومي ، نلاحظ في بعض الأحاديث عن بعض الصحابة أنهم يتخصصون في رواية أنواع معينة من الأحاديث، هذا التخصص نابع من الواقع الذي عاشوه، فلو عرفنا واقع صهيب الرومي ، كيف كان واقعه؟ صهيب الرومي كان مسلماً مضطهداً في قريش، يعذب ويُطارد ويُشرد ويُستولى على ماله، وقصة هجرته إلى المدينة معروفة، فإذا عرفنا واقع صهيب لا نستغرب لماذا بالذات صهيب الرومي الذي روى هذا الحديث الذي فيه ابتلاء وفتن ومحن، هذه العلاقة بين الراوي والمروي، بين الصحابي والحديث الذي رواه هذا الصحابي، وإذاً علمنا أيضاً أن خباب بن الأرت رضي الله عنه روى جزءاً في هذا الحديث في صحيح البخاري لما قال: (جئنا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو متوسد ببردة في ظل الكعبة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟) -فـخباب كان يعذب، وكان من تعذيبه أن سيدته الكافرة كانت تطرحه على أسياخ الحديد المحماة بالنار، فلا يطفئ النار في أسياخ الحديد إلا شحم ظهر خباب الذي كان يسيل عليه، لما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب منه- (ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، ويوضع المنشار في مفرق رأسه فيشق حتى يقع نصفين لا يرده ذلك عن دينه) فروى خباب رضي الله عنه مقطعاً من هذا الحديث.
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( كان ملكٌ فيمن كان قبلكم ) هذه القصة هل ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم التاريخ الذي حدثت فيه القصة بالضبط؟ في اليوم الفلاني، في الشهر الفلاني، في السنة الفلانية؟ هل ذكر فيها المكان في البلد الفلانية؟ لا، نلاحظ هنا أن القصة تجردت عن أي تفاصيل إضافية تشتت ذهن القارئ أو السامع، واقتصرت على أهم التفاصيل المتعلقة بالموضوع، حتى لا يتشتت ذهن القارئ، لا توجد تفاصيل، مجردة عن الزمان والمكان، الزمان الوحيد الموجود (قبلكم)، قبل الصحابة، والراجح من كلمة (راهب) أنها وقعت بعد عهد عيسى لما تفرق الناس، وحصل الضلال في شريعة عيسى، وبقي رهبان قلة على دين عيسى على دين التوحيد، وقبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
والسحر -أيها الإخوة- دائماً في كل مكانٍ وزمان ضد الدين والعقل؛ لأن السحر قائم على الخرافة والشعوذة، والدين قائم على الوضوح، الدين واضح جداً فهو عقيدة صافية، فالسحر ضد الدين على طول الخط، وهو كذلك ضد العقل الصحيح، العقول الصحيحة ترفض السحر، والشعوذة، والخزعبلات، والخرافات، هكذا العقول الصحيحة المستنيرة بنور الله عز وجل.
فانظروا -أيها الإخوة- كيف تفسد أجواء الكفر الفطر السليمة؟! الأطفال الآن عندما يخرجون إلى الدنيا يخرجون صفحات بيضاء ما فيها شيء، فطرة سليمة، فمن الذي يخرب فطر الأطفال؟ إنها هذه الجاهليات الممتلئة بالكفر والسحر والزندقة والضلال والبدع والخرافات والإلحاد والشهوات والأهواء، هذه التي تفسد عقول الأطفال الصغار، ينشئون على الكفر، إفسادٌ لفطرته، الله فطر الناس على التوحيد فطرة الناس فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا
[الروم:30] فإذاً رصيد الفطرة مهم للدعاة إلى الله عز وجل لعرض الحق، فمن رحمة الله أنه جعل لك -يا أخي الداعية- عندما تعرض الكلام على ناس ما تأثروا بشيء مطلقاً صفحات بيضاء يقبلون الحق مباشرة، لأن الله فطرهم على هذا، لذلك الطفل ما يعارضك لو قلت له: الله أمرك بكذا، وأن تفعل كذا، تصادف موقعاً في نفسه ويقتنع، لأنه موافق الفطرة، لكن انظر إلى الطفل الذي يعيش في أجواء الشرك والكفر، كيف ينشأ؟ الآن أطفال المسلمين في أقطار كثيرة من الأرض يتعرضون للأخطار، فكما سمعنا أن أطفال المسلمين في أفغانستان يرسلون إلى روسيا ليتعلموا الإلحاد والشيوعية ، وهناك مؤسسات تنصيرية في العالم قائمة على تجميع أطفال المسلمين الأيتام، وضحايا الحرب، والذين ليس لهم مُعين ينفق عليهم، مثل أطفال المسلمين في لبنان -مثلاً- يُؤخذون إلى الخارج إلى سويسرا وغيرها من البلاد لكي يُدخَلوا في مدارس تنصيرية، فتتلف فطر هؤلاء الأطفال، وإذا رجع، يرجع شيوعياً أو نصرانياً كافراً ملحداً لا عقيدة له، هذا بسبب هذه الكلمة: (فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر) نستنتج خطورة تعريض الأطفال لأجواء الكفر والشرك والبدع، الذين يأخذون أطفالهم إلى الخارج عليهم أن يتقوا الله عز وجل، والذين يأخذون الأطفال إلى الخارج ويدخلونهم المتاحف، وما يرى في المتاحف؟ الأصنام، ويذهبون بهم إلى المعابد على أنها آثار، ويدخلونهم المعبد الفلاني، ويشاهدون الآلهة الفلانية، والطفل هذا صفحة بيضاء، تتسطر فيه الآن سطور الشرك في نفسه، فإذاً -أيها الإخوة- مسئولية أمام الله عز وجل الاهتمام بأطفالنا، وأطفال المسلمين الذين يحتاجون إلى إعانة حتى لا يتسلط عليهم الكفرة فيأخذونهم.
ملاحظة أخرى في هذا المقطع: (فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت، فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر) يعني: هناك شيء غريب وهو: أن هذا الساحر الآن إذا مات ماذا سيستفيد من تعليم الغلام بعد موته؟ هذا الساحر سيموت، يقول: أنا كبرت في السن وسأموت، أعطني غلاماً أعلمه السحر، ماذا يستفيد؟ لا يستفيد شيئاً، ولن يأخذ زيادة لأنه سوف يموت، إذاً لماذا يعلم الغلام السحر؟
لأنه -أيها الإخوة- لو طبعت النفس على الباطل فإن أهل الباطل يتبرعون مجاناً لتعليم باطلهم، لو صار الواحد منطبعاً ومنغمساً في الباطل بكامله كله باطل في باطل، هذا يصل إلى مرحلة -والعياذ بالله- أنه يتبرع تبرعاً بدون مقابل ليضل الناس، لأن الكفر انطبع في قلبه، فصار شيئاً طبيعياً أن يعلم الناس الكفر حتى بدون مقابل، وبدون أجر.
أنه كان يوجد راهب في الطريق، يعني: لو كان الساحر في مكان ثانٍ، فلو أن الغلام ذهب من طريق آخر، ربما كان ما مر على هذا الراهب، وما عرف أصلاً أن هناك توحيداً وما عرف الله، فانظر كيف جرى قدر الله، يسر الله الأسباب أن جعل مكان الراهب في الطريق حتى يمر عليه الغلام ويتربى منه على هذا التوحيد.
فالآن ننظر -أيها الإخوة- في الجاذبية التي تعرض بها العقيدة الصحيحة، العقيدة الموافقة للفطرة إذا عرضت بطريقة صحيحة، تدخل القلب وتستقر فيه، هناك فرقٌ جذري مهم بين عرض المتكلمين -أصحاب علم الكلام من الأشاعرة وغيرهم- للعقيدة وبين عرض السلف للعقيدة، السلف يعرضون العقيدة بنصوص القرآن والسنة، مع شرح الأشياء التي ينبغي شرحها. أما أهل الكلام فإنهم يعرضون العقيدة بقواعد كلامية، يسمونها: قواطع كلامية، أو براهين عقلية، ما فيها شيء من القرآن والسنة، واجب الوجود، وجائز الوجود، والعدم، والجوهر، والعرض، مصطلحات ما أنزل الله بها من سلطان، هكذا يعرضون العقيدة على الناس، هؤلاء أهل علم الكلام هكذا يقولون: الناس عرض والله جوهر، والجوهر كذا تعريفه، والعرض كذا تعريفه، وضاع الناس، لا يمكن لهذه العقيدة التي تعرض بهذه الطريقة أن تنجح في دخول القلب، ولذلك يصبح إيمان هؤلاء الناس الذين تُعرض عليهم العقيدة بطريقة الفلسفة وعلم الكلام عقيدة باردة معقدة لا تؤدي إلى تحريك الإنسان للعمل ولا إلى خوف الله عز وجل، وهل هي إلا قواعد وكلام وفلسفة؟ فالآن هذا الراهب كيف عرض العقيدة؟ ببساطة شديدة جداً، بالبساطة التي يعرفها هو، والفطر السليمة دائماً عندها ما يدفعها لتقبل الحق.
يدلنا على أن الله عز وجل شاء لهذا الغلام أن يتربى على الابتلاء منذ صغره، الساحر يضرب الغلام؛ لأنه يسمع الحق، هذا ابتلاء يتربى هذا الغلام على الابتلاء منذ البداية، والشخصية المتكاملة هي التي يؤثر فيها الابتلاء تأثيرً إيجابياً، هذا الغلام تعرض للابتلاء في لحظات التكوين، وزمن التربية، وفترة النمو، يعني: منذ صغره تعرض للابتلاء، فصبر على هذا الابتلاء، فكانت النتيجة شخصية قوية ومؤثرة وفاعلة في الواقع، والابتلاء -أيها الإخوة- يناسب طبيعة الدين، الإسلام دين ابتلاءات؛ لأن الناس يفكرون الآن يقولون: نحن نريد إسلاماً سهلاً ما نتعرض فيه للإيذاء، ما نريد واحداً يسخر منا إذا طبقنا الإسلام، نريد ديناً إذا طبقناه لا نتعرض لمصائب ومشاكل، ومن قال: إن الإسلام دين الراحة؟ يقول الله عز وجل: ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ
[العنكبوت:2-3] ما هي فائدة الابتلاء والفتن؟
إنها تمحيص: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ
[العنكبوت:3] لو كان الدين مسألة سهلة بدون متاعب ولا مصائب ولا إيذاء ولا سخرية، ولا همز ولا غمز ولا سجن ولا ضرب ولا شيء، لدخل كل الناس في الدين، ما كان هناك أهل النار، وشطبت هذه النار، لكن لما صار هذا الدين فيه تمحيص وابتلاء وشدة، وفيه ضغط وواقع يضغط عليك، وفيه شهوات وأهواء تحاربك من كل جانب وأنت تصبر على هذه الابتلاءات، هنا تتميز الشخصيات، وهنا يرى الصادق من الكاذب.
فإذاً أيها الإخوة! الإيذاء الذي يحصل للإنسان من جراء التمسك بالدين، إذا صبر عليه الإنسان هذا، يعني أنه مسلم حقيقي، وإذا ما صبر، يعني أنه مسلم مزيف، هنا ماذا يقول الحديث؟ (فقال الراهب: إذا خشيت الساحر، فقل: حسبي أهلي، وإذا خشيت أهلك، فقل حبسبي الساحر) لأن هذا الغلام الآن يُضرب من جهتين، إذا ذهب إلى الساحر وجلس عند الراهب تأخر عن الساحر وضربه الساحر، وإذا رجع من عند الساحر إلى أهله في البيت تأخر عليهم، فيضربه أهله، فما هو الحل الذي أوجده له الراهب؟ قال له: إذا قال لك الساحر: لماذا تأخرت؟ قل له: أهلي أخروني، وإذا قال لك أهلك: لماذا تأخرت؟ قل لهم: اليوم كانت المعلومات زيادة، هنا قد يسأل سائل فيقول: أليس هذا بكذب؟ كيف يكذب الغلام؟ وكيف أن الراهب يعلم الغلام الكذب والكذب نعرف أنه محرم؟
فنقول: أيها الإخوة: من رحمة الله عز وجل أنه حرم الكذب، لكن الله أباحه في مواضع، فأباح الكذب مثلاً للإصلاح بين الناس، وأباح الكذب في الحرب؛ حادثة نعيم بن مسعود الثقفي معروفة، لما أسلم في معركة الأحزاب وذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (ادفع عنا ما استطعت إنما أنت رجل) أنت واحد افعل الذي تقدر أن تفعله، واليهود محيطون بالمسلمين من الوراء، والأحزاب من كفار قريش وغطفان وغيرهم من الأمام والمسلمون بين فكي الكماشة، هذا رجل واحد ماذا فعل في الحرب؟ كذب كذبة أنهت الحرب كلها- ومن شاء التفاصيل فليرجع إلى كتب السيرة- فإذاً الكذب في الحرب على الكفرة ليس على المسلمين جائز لمصلحة الدين ولمصلحة المسلمين، ولو أن أحداً -مثلاً- سب إنساناً في مجلس، وهذا السب بلغ الشخص الذي وقع عليه السب، وجاءك أنت أحد الذين كانوا في المجلس، وقال: صحيح فلان شتمني؟ فأنت لو أتيت من باب الإصلاح بينهما وقلت له: لا. ما شتمك ما تكلم عليك تكلم على واحد آخر، أنت ماذا قصدت بهذه الكذبة؟ الإصلاح حتى لا يحدث بينهما شقاق، هل يوجد أحد تضرر من هذه الكذبة؟ لا، هل يوجد منها مصلحة؟ نعم، منها مصلحة عظيمة، فإذاً في هذه الحالة أباح الإسلام الكذب في حالات ضيقة جداً، وليس حالات مفتوحة كل واحد يكذب متى أراد، في حالات ضيقة جداً أُبيح الكذب، فالآن مصلحة الدين عند الراهب وعند الغلام تقتضي أن الغلام يكذب، ولو ما كذب هل يمكن أن يتعلم؟ لا، ولو قال الحقيقة: أنا أمر على راهب يعلمني، كانوا أخذوا هذا الراهب منذ زمن، لكنه من أجل مصلحة الدين، والسلامة من الشر وتعلم العلم، صار الكذب في هذه الحالة جائزاً.
نلاحظ -أيضاً- هنا أن الراهب اهتم بإيجاد الحل للغلام الذي اشتكى إليه، وهذا يفيدنا نحن الآن لو أن أحداً من الناس اشتكى إلينا في ضائقة يجدها بسبب تمسكه بدينه، فإن من واجبنا نحن أن نسعى في إيجاد حل لمشكلة هذا الرجل، من باب الأخوة الإسلامية لا بد من إيجاد الحلول لمشاكل المسلمين، ليس أن تعرض المشكلة فقط ثم يكون مصيرها في سلة المهملات، يجب أن نوجد الحلول للمشاكل.
كذلك مما نستفيد منه في هذا المقطع: أننا إذا وجدنا رخصة شرعية تيسر أمور الناس ولا تخالف الشريعة، ليست أمراً محرماً، وفي نفس الوقت تيسر على الناس ضائقة يعيشونها، فإننا في هذه الحالة نقدم الرخصة لهم، إذا كانت رخصة شرعية، نقدم رخصة لهم، ولا نجعلهم يستمرون في معيشتهم في الحرج، لا، لا نجبرهم على أخذ العزيمة، فلو أن أحداً في الصحراء لم يجد ماء إلا ما يكفيه للشرب كيف يتوضأ؟ لا نقول: والله يا أخي اعطش حتى لو هلكت في سبيل الله عليك أن تتوضأ، بل نقول له: هناك رخصة شرعية وهي التيمم، وآخر يشق عليه أن ينزع الجوارب دائماً وهو في العمل حال البرد، ما نقول: لا. يجب عليك تحمل البرد، وتتحمل هذه العزيمة، نقول: هناك رخصة إذا كانت الرخصة شرعية، فنيسر على الناس في حدود الشرع وليس أن نسلك مسلك الجهلة، فنيسر على الناس بالحق والباطل، بعض الناس يقول: يا شيخ! يسر ولا تعسر والدين يسر، وبالتيسير هذا نبيح للناس شراء الأسهم الربوية، والتعامل بالحرام، وسماع المنكرات، وحضور مجالس اللغو والباطل باسم التيسير، يجب أن يكون التيسير شرعياً موافق للشريعة.
النقطة الأولى: أن القلق والاضطراب نتيجة التلقي من أكثر من مصدر متضادة هو علامة صحيحة تبين صحة التلقي، يعني: لو أن الغلام هذا يأخذ الدين والسحر، وليس عنده إشكال، الدين لأهل الدين، والسحر لأهل السحر، فهل هذا شيء واقع صحيح؟ لا. لا بد أن يحدث التناقض ما دام أن مصدر التلقي فيه تضاد واختلاف، فإذاً نفكر الآن نحن في واقعنا، أجيال المسلمين -أيها الإخوة- اليوم تتلقى الإسلام بطريقة لا تشعرهم بمخالفة الواقع لهذا الدين، الآن بعض المسلمين يتلقون الدين بطريقة عجيبة لا تشعرهم مطلقاً أن واقعهم أصبح واقع منكرات وواقعاً جاهلياً يخالف ما يتلقونه، فلذلك ليس عندهم مشكلة، ليست عندهم قلق، ولا اضطراب ولا تحير ولا شيء، الدين لأهل الدين، والباطل يوجد له مجال، ولا يوجد إشكال، هذا التلقي عندهم تلقٍّ مرضي، غير صحيح، إذ يجب أن يثور القلق والاضطراب في النفس إذا كان الواحد يتلقى شيئين متضادين، فلا بد أن يتحرك أهل الدين لتحديد موقفهم من الواقع، إذا كانت طريقة تلقيهم للدين صحيحة، أما إذا كان لا يوجد تميز ولا يوجد تحديد موقف فعند ذلك نقول: هذا الدين الذي تتلقونه فيه أخطاء، وإلا كنتم أحسستم بالتناقض، لو أن أحداً مثلاً يتعلم أحكام الإسلام، لا يجوز الاختلاط ويذكر الأدلة والأحاديث وهو واقعه في البيت اختلاط، الرجال والنساء يجلسون مع بعض، والأمور تسير عنده ولا يوجد إشكال، ولا يشعر بأي نوع من القلق والاضطراب، هل هذا الأمر صحيح؟ لا. نقول له: إما أن طريقة تلقيك خطأ، فعندك مبدأ في أنه يمكن التعايش بين الحق والباطل، أو أن الشيء الذي أنت تتلقاه خطأ، كأن تكون فاهماً أن الاختلاط مكروه، يعني: خلاف الأولى والأحسن عدم الاختلاط، لكن في حقيقة الأمر الاختلاط حرام في الشرع.
فإذاً: شعور الغلام بالتناقض الذي يجعله يترقب بشدة اليوم الذي يأتي ليتبين فيه الحق، فجاء اليوم الذي طالما ترقبه هذا الغلام بلهفة وطول انتظار.
نقول: واقع هؤلاء وواقع هؤلاء هو الدليل، فإن رأيت الرجل الذي حصلت على يديه خارقة من خوارق العادة رجلاً مؤمنً تقياً صالحاً عابداً مستقيماً ليس بصاحب بدعة ولا صاحب هوى الذي صارت له الخارقة فتعرف أنه من أولياء الرحمن، لكن هناك رجل دجال ومشعوذ، ويأكل أموال الناس، ويستخدم الخرافات، ويتعامل مع الشياطين، وعنده الطلاسم وهذه الحجابات، فهنا تعرف أنه من أولياء الشيطان.
يخاف، يقول: هذا بعد أيام سيأخذ محلي، فيدب الحسد والبغضاء،ويبدأ يحجب عن هذا الموظف كل المعلومات التي تفيده، بل قد يشغله بأشياء تافهة جداً، افعل كذا وابحث هذا؛ أشياء لا تصلح للعمل ولا تنفع العمل بشيء، فيبعد هذا الموظف النشيط عن حيز المسئولية، حتى لا يأخذ مكانه، وقس على ذلك من الأمثلة الكثيرة التي تحدث في حياتنا اليومية، وواقع الحياة اليوم بين الناس من جراء الحسد عندما يتفوق إنسان على إنسان، فلله در هذا الراهب ما أطيب قلبه! وما أشد تجرده لله! عندما اعترف لهذا الغلام، وقال له: (أنت اليوم أفضل مني، وقد بلغ من أمرك ما أرى) ما أرى من الصدق والاعتقاد الحسن، والكرامة التي أجراها الله على يديك، الآن لما قال له: ( أنت اليوم أفضل مني ) هذه الكلمات ماذا تنتج في نفس الغلام؟
قد تنتج نوعاً من الزهو، ليس الغرور، قد تنتج أشياء من هذا، فلكي يحدث هذا الراهب المربي التوازن في نفس الغلام، ماذا قال له بعدها مباشرة؟ حتى لا يصيبه الغرور، هو الآن حقيقة أفضل من الراهب، هذا قدر الله عز وجل وهذه حكمة الله، لكن ماذا قال الراهب بعدها لكي يحدث التوازن ويزيل السلبيات الناشئة عن الإخبار بالحقيقة الأولى التي لا بد من الإخبار بها؟ لكن فيها سلبية، فكيف تزال؟ قال له: (وإنك ستبتلى) فكلمة إنك ستبتلى ماذا تحدث؟ لأن هذا التشريف الذي حصل الآن ليس بلا مقابل، وإنما سيعقبه تكليف وابتلاء، فهذه الأفضلية لها ثمن، وإنك ستبتلى، فعندما يشعر الغلام بأنه سيبتلى، يذهب عنه الغرور والزهو وغير ذلك.
هو ولي من أولياء الله، ولماذا يؤتى بذكره هنا في وقت التحير والواحد لا يعرف ماذا يختار؟ هل سيدي محمد البغدادي هو الذي يرشد الناس إلى الخير وإلى الأحسن؟! وهل هو شخصية وهمية أم حقيقة؟ هذا أكيد أنه مات وأن هذا كلام قديم، وعلى فرض أنه موجود، أليس هذا استعانة بالموتى في الاختيار، فنحن الآن نعلم الأطفال ونسكت عندهم على أشياء مخالفة للعقيدة ومخالفات صريحة.
وفي إهمال الغلام لأمر الهدايا درسٌ عظيم في أن منهج الرسل في عرض الدعوة: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ
[ص:86] الواحد يعرض الدين على الناس لا ليسألهم أجراً ويأخذ منهم مالاً، لا يعظهم لكي يأخذ منهم أجراً، فأجره على الله عز وجل، فهنا الغلام كان من الممكن أن يأخذ، ولأجل أنها رقية قد يقال: ما فيها حرج، لأنه يجوز أخذ المال على الرقية، فهذا قرأ عليه أو دعا له شفي، لكن الغلام هنا هدفه عظيم أعظم من ذلك، بل إنه إذا أخذ المال سقطت هيبته وتقل عظمة الشيء الذي يدعو إليه، لذلك ترى الناس الآن عندما يموت لهم شخص فمن البدع أنهم يستأجرون قارئ قرآن ليقرأ في العزاء، فيجلس الناس الآن وبعض الناس يخشع مع الآيات، فإذا انتهى القارئ، طلب الحساب، وأعطاه وحاسبه، فماذا يكون موقف الناس الآن؟ تذهب كل التأثرات بمجرد ما رأوا القارئ يأخذ الفلوس فيذهب كل شيء، لأن القضية مادية بحتة، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (أكثر منافقي أمتي قراؤها) حديثٌ صحيح. (إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله عز وجل، فإن آمنت بالله دعوت الله فشفاك، فآمن به فشفاه الله عز وجل) قد يقول أحد: كيف أن الغلام يدخل من مدخل دنيوي؟ يقول: أنت إذا آمنت أدعو لك أن تشفى، ولم يقل له: عليك أن تؤمن بالله، فقط، فإذا آمن يقول له: تعال مادام أنك آمنت، لكنه قال: (إن آمنت بالله دعوت الله فشفاك) فهذا أسلوبٌ لا بأس فيه ولا حرج إن شاء الله، بل إن باباً من أبواب الزكاة: المؤلفة قلوبهم، فيُعطى بعض الناس من أموال الزكاة لكف شرهم أو استجلابهم إلى الإسلام، يعني: إذا كان الولد لا يصلي فإذا أعطيته فلوساً صلى، قد يقول أحد: لا تعطه فلوساً حتى لا يتعود فيصلي لأجل الفلوس، نقول له: لا. أعطه الفلوس، وإذا صلى كافئه مكافأة مادية، لماذا؟ لأنه الآن صحيح أنه يندفع من أجل شيء مادي، لكنه غداً في المستقبل عندما يدخل في الصلاة أكثر وأكثر، ويستشعر فائدة الصلاة، ويستشعر عظمة الله عز وجل وهو يصلي ستزول القضية المادية ويصبح يصلي حتى لو لم تعطه شيئاً، فالخلاصة: لا بأس أن يكون المدخل على الناس لكي يدخلوا في الإسلام أو استجلابهم إلى الدين أو تقريبهم إليه أن يكون في البداية شيئاً مادياً، لكن يستمر الإنسان الصافي النقي بحيث أن الناس في الأخير لا يعتمدون على المادة فقط، لكنه بابٌ على أية حال من أبواب الإسلام وهو: المؤلفة قلوبهم.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يدركون هذا الشهر، فيصومونه ويقومونه، ونسأله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من المقبولين، وأن يجعلنا وإياكم من التائبين، وأن يكثر ثوابنا ويعلي درجاتنا في الجنة.
كنا قد بدأنا -أيها الإخوة- في المرة الماضية بحديث أصحاب الأخدود وقصة ذلك الغلام المؤمن الذي سخره الله عز وجل فجعله سبباً لهداية الناس، ونحن نتابع -أيها الإخوة- معكم في هذه الليلة إن شاء الله هذه القصة وما نستطيع أن نعرج عليه من فوائد وعظات وحكم تؤخذ من هذه القصة العظيمة، وهذه السيرة الفذة لتلكم الأمة التي أراد الله عز وجل لها أن تهتدي إلى دين الله تعالى.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فأتى الملك ) وهذا الذي أتى هو الأعمى، وقد سبق أن ذكرنا مختصر القصة أن ملكاً كان في بلد، وكان له ساحر، فأراد الساحر غلاماً يعلمه السحر، فانتقى له غلاماً ذكياً فصار يعلمه، وكان راهب على طريق الغلام، فتعلم منه الإسلام ثم إن الله أجرى على يد الغلام معجزات منها: قتل الدابة وشفاء المرضى بإذن الله عز وجل حتى سمع به جليسٌ للملك كان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة، فعرض الغلام عليه الإسلام فأسلم هذا الرجل الجليس، ثم إن الله رد عليه بصره (فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟) استغرب الملك من هذا الأعمى الذي كان بالأمس لا يبصر واليوم يأتي ويجلس في المجلس يفتح ويرى: (فقال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربي) يقول الجليس: ربي، وانظروا -أيها الإخوة- إلى هذا الوضوح في هذه الكلمة، قال: ربي، الوضوح هنا في الإجابة هو نتيجة طبيعية للوضوح في التلقي، لما كان تلقي هذا الجليس واضحاً بأن الله عز وجل هو الذي يشفي وهو الخالق، فكانت إجابته واضحة في سؤال الملك الذي قال له: (من رد عليك بصرك؟! قال: ربي) فإذاً أيها الإخوة ينبغي أن يكون تلقينا للإسلام فيه وضوح يجب أن تكون الفكرة واضحة، يجب أن يكون المنهج الذي يتربى عليه المسلمون واضحاً حتى تكون الإجابات على الشبهات والتساؤلات التي تطرح إجابات واضحة، أما إذا كان هناك غبش في الإسلام الذي يدرس طبعاً في طريقة عرض الإسلام، فإنه لن تكون هناك إجابات واضحة عن الشبهات والتساؤلات التي تطرح من قبل أعداء الإسلام (قال: ربي، قال: ولك ربٌ غيري؟!) هذا الملك الكافر الطاغية كان مستبداً، كان مدعياً الألوهية، فيقول بكل تبجح ووقاحة يقول: (ولك ربٌ غيري؟! قال الجليس: ربي وربك الله) وهذه النفسية -أيها الإخوة- التي تصل إلى حد ادعاء الألوهية من دون الله عز وجل ينبغي أن يتوقف عندها أهل الحق ليروا طبيعة هذه النفسية المماثلة لنفسية فرعون لعنه الله الذي قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي
[القصص:38] نفس المنطق، وهذا هنا يقول: ( ولك ربٌ غيري؟! ) نفس المنطق ادعاء الألوهية وفي رواية الإمام أحمد بسياق مشابه، لكن في تفصيل أكثر لهذه النفسية يقول: (من رد عليك بصرك؟! قال: ربي، قال: أنا؟! قال: لا، قال: ولك ربٌ غيري؟! قال: نعم) انظر كيف يقول هذا: أنا؟! فيقول له: لا. ربي وربك الله، فإذاً قد يصل الكفر في مرحلة من مراحله لدرجة أن يدعي أناسٌ الألوهية من دون الله، وقد يكون هذا الادعاء قولاً ولفظاً مثلما قال هذا، وقد يكون حكماً وواقعاً، فإذا كان هناك أناس يشرعون للناس من دون الله عز وجل، فهذا ادعاءٌ للألوهية من دون الله تعالى بالفعل، قد لا يكون واضحاً بالقول، ولكنه على أية حال منازعة لله عز وجل في حقٍ عظيمٍ من حقوق الألوهية، وهو التشريع. (فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام) أُخذ هذا الجليس، فصُب عليه العذاب حتى دل على الغلام (فجيء بالغلام) وهنا هذا الطاغية لم يقتل الجليس مباشرةً، هو ينوي قتله كما سنرى، لكن ما قتله مباشرة؛ لأنه أراد أن يعرف من وراءه، ومن أين أتى بهذا الكلام استقصاء لكل من يحمل العقيدة الصحيحة.
فإذاً هنا هذا الطاغية ينسب إبراء الأكمة والأبرص إلى السحر لماذا؟ لأنه يريد أن يُعمي الحقائق ويُضيع هذه المبادئ التي استقرت في نفس الغلام، يريد أن يحرف الطريق ويقول للغلام: إن هذا الإبراء الذي أنت تفعله ليس من عند الله، وإنما هو بسبب السحر، يقول: بلغ من سحرك أنك تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل، إلى هذه الدرجة وصل بك السحر، أي: كأنه من باب الإعجاب، ولكن أهل الباطل دائماً يريدون أن يفسروا الحق بأي شيء باطل دون الحق.
ولذلك بماذا فسر أنصار قريش القرآن؟ القرآن المعجز الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، بماذا فسروه؟ قالوا: ساحر، كاهن، شاعر، مجنون، أي سبب، المهم إلا أن يكون القرآن من عند الله، فهم دائماً يريدون أن يفسروا الحق ويعزوا الحق إلى أي شيء آخر، إلا المصدر الصحيح للحق.
وكأن هذا الرجل يريد أن يقول لهذا الغلام: إن عندك قدرة ذاتية تشفي بها المرض، يريد أن يثير في نفس الغلام نوعاً من التكبر والغطرسة، ويصرف هذا الغلام عن السبب الحقيقي في الشفاء، لكن أنى له ذلك، وقد استقر في نفس الغلام أن الشفاء من عند الله، قال: فقال: ( إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله ).
هنا يأتي الرد من الغلام على هذه الشبهة والفرية، فالغلام ما سكت، بل قال: إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله، فرد الشفاء إلى الشافي وهو الله عز وجل، لذلك يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث: (اللهم رب الناس أذهب البأس، اشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت) وفي رواية: (لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر بلاءً ولا سقماً) هذا الدعاء الذي يدعى به للمريض، يدعى به لمن كان به مرض.
فإذاً: الشافي هو الله عز وجل: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ
[الشعراء:80] ولقد كان هذا الغلام -أيها الإخوة!- له أفعال كثيرة، وجهود كبيرة حتى إن هذا الملك سمع بها، فقال: تفعل وتفعل، أي: تفعل هذه الأشياء، فقد كان يسمع عن أخبار هذا الغلام، (إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب).
هذا الغلام صغير ماذا يستطيع أن يقف أمام هذه القوة الباطشة والتعذيب الكبير، وإلى أي درجة يستطيع أن يتحمل؟ لا يستطيع أن يتحمل كثيراً، لأنه بشر، صحيح أن الراهب كان قد أوصاه، قال له: فإن ابتليت فلا تدل عليَّ، هذا صحيح، والغلام يودّ ألا يخبر عن الراهب، لأنه يعلم بأنه إذا أخبر عنه فإن الراهب سيقتل.
لكن أمام هذا التعذيب، ما استطاع أن يصمد، وليست خيانة، فما أخبر به على سبيل أن يُوصل إلى ذلك الرجل فيقتل، لا، لكن ما استطاع أن يتحمل أكثر من ذلك، لأنه بشر!!
إذاً: الناس -أيها الإخوة!- يعذرون إذا سلط عليهم شيءٌ أكثر من طاقتهم فلابد أن نعذرهم فيما يتعرضون له، وهذا الاعتراف الذي أدلى به الغلام لا يحط من قدره، لا يأتي أحد يقول: إن هذا الغلام انتهى وسقط الآن، ما دام أنه اعترف على الراهب، إذاً صار ليس له قيمة، لا تبقى له قيمته، بل تبقى له شخصيته، وتبقى له جهوده الكبيرة جداً، والتي لم تنتهِ بعد، فما سيأتي أعظم مما مضى، وما سيأتي بعد الاعتراف أعظم مما قبله.
(فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى) فعلم بأن هذا هو مصدر العقيدة الصحيحة، (فدعا بالمنشار فوضع المنشار على مفرق رأسه فشقه بالمنشار حتى وقع شقاه) وهو صامد لم يتزحزح ولم يتراجع، ولم يتخل عن هذه العقيدة التي اعتقدها واستقرت في قلبه، (ثم جيء بجليس الملك فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه، فشقه به حتى وقع شقاه).
هذا الجليس كم له منذ أن أسلم؟ هنا العجب أيها الإخوة! شخص كافر يعرض عليه الإسلام غلامٌ فلما تبين له الحق اعتنقه، وجاء في اليوم الثاني وجلس وهو مسلم، ثم عذب حتى دل على الغلام، وأتي بالغلام حتى دل على الراهب، وأتي بالراهب فشق نصفان، أمام هذا الجليس، أي: أن مدة إسلام الجليس قليلة وقتل صابراً محتسباً.
فالشاهد من الكلام أن العقيدة الصحيحة إذا استقرت في النفوس، فإنها لا تحتاج إلى فترة طويلة جداً حتى تتصف بصفة الثبوت، بل إنها قد تتصف بصفة الثبات إذا توفرت فيها الشروط، فاستقر الإيمان في سويداء القلب، ولذلك ورد في السيرة النبوية أن رجلاً كافراً أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فأسلم والرسول صلى الله عليه وسلم في معركة، أسلم ودخل الإسلام فكان أول واجب أن يقاتل، لأنه في وقت جهاد، فدخل المعركة فقاتل وقتل وهو ما سجد لله سجدة واحدة، يدخل في الإسلام ثم يقتل في لحظات! يقتل على هذا الدين، صابراً على هذا الدين، لأن الإسلام -أيها الإخوة!- لما دخلت العقيدة في هذه القلوب ما كان دخولاً بارداً.
وإنما كان دخولاً حاراً بأدلة وإثباتات وبراهين نابعة من الفطرة، فإذاً كثيرٌ من المسلمين اليوم لا يثبتون مع أنهم صاروا مسلمين أربعين سنة، أو ثلاثين سنة، أو عشرين سنة، لا يثبتون، يزل أمام الشهوات والأهواء، وربما يعتقد عقائد فاسدة، مع أنه صارت له ثلاثون أو عشرون سنة مسلماً، وهذا الآن رجل أمامنا ما صار له إلا أيام حين اعتنق الإسلام يرى أمامه رجل يشق نصفين، ويعلم أنه سيلاقي نفس المصير، ومع ذلك يثبت.
إفهناك كلمات في اللغة العربية مفرد ليس لها جمع، أو جمع ليس له مفرد، هذه منها (فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه)، هذا الملك دفع الغلام إلى نفرٍ -مجموعة من الجنود- من أصحابه، فقال: (اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا) سمى لهم جبلاً معيناً مرتفعاً (فاصعدوا به الجبل فإذا بلغتم ذروته، فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه) خذوه الآن إلى الجبل واصعدوا الجبل، في قمة الجبل اعرضوا عليه الرجوع فإن رجع عن دينه وإلا فألقوه من فوق الجبل.
إذاً: لماذا لم يُقتل الغلام بنفس الطريقة التي قتل بها من قبله؟ لماذا لم يُنشر الغلام بالمنشار وإنما أعطي إلى هؤلاء الجنود ليذهبوا به إلى الجبل ويطرحوه من فوق الجبل؟
الذي يفكر في هذه النقطة يجد أن هناك أسباباً:
منها: أن هذا الغلام الآن بعدما صار يداوي الناس من الأمراض، صارت له شعبية كبيرة بين الناس، فإذاً ليس من مصلحة هذا الطاغية في هذه الحالة أن يُقتل الغلام هذه القتلة وإنما يكون هنا من المصلحة إن صحت تسميتها بهذا الاسم أن يُذهب به إلى مكان بعيد ويقتل قتلة يظن الناس أنها طبيعية، فقد ذهب يتمشى وانزلق من فوق الجبل ومات.
كذلك أن الطاغية أراد من هذا الغلام أن يكسبه إلى صفه، يريد أن يبقيه حتى آخر لحظة لعله يرجع؛ لأن الغلام عنده قدرات متميزة، ومن مصلحة هذا الطاغية أن يكسب هذا الرجل صاحب القدرات إلى صفه، فهو يريد أن يعطيه فرصة أكبر، اذهبوا به إلى جبل كذا ثم صعدوا به الجبل وهذا يأخذ وقتاً، ثم من فوق الجبل هددوه، لعله في طريق الذهاب وصعود الجبل في هذه الفترة قد يراجع نفسه، وقد يعود إلى ما يريده ذلك الكافر.
كذلك إذا نُشر الغلام بالمنشار فإن هذه قتلة سيستبشعها الناس لماذا؟ لأنه غلام صغير وينشر بالمنشار؟! هذه بشعة تثير الناس لذلك لا بد من إحضار وسيلة غير مستبشعة، تردى من جبل، سقط من جبل، كأنها تبدو بغير فعل فاعل، (ثم جيء بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى).
فالمهم أن هؤلاء الجنود أخذوه فذهبوا به وصعدوا به الجبل، فوقفوا الآن على قمة الجبل وهذا الغلام يُساوم على عقيدته قالوا له: ارجع عن دينك فما رجع عن دينه، فالآن سيطرحوه بالتأكيد أنهم سيلقوه، ماذا يملك هذا الغلام الأعزل؟ لا قوة جسدية فهو واحد أمام هذا الجمع من الناس لا يملك شيئاً، عندما يقف المؤمن أعزل أمام عدد من الكفرة الطغاة ماذا يملك؟ لا يملك إلا اللجوء إلى الله عز وجل.
أيها الإخوة! وهنا درسٌ عظيم، أن الناس إذا عجزوا عن الوسائل فلا ييأسوا من رحمة الله، لأن الإنسان قد تنحل المشكلة الكبيرة عنده بدعاء.
لذلك تسمع كثيراً من القصص واحد يقول انتهينا، كل الأطباء عجزوا وما بقي أمل مطلقاً، الرجل على فراش الموت وقال الأطباء: ودعوا صاحبكم انتهت المسألة، ثم بعد ذلك بقدرة الله عز وجل يشفى هذا الرجل ويقوم من فراشه وسط ذهول الأطباء، كيف حدث هذا؟! إنها قدرة الله عز وجل، ورحمة الله تعالى المحيطة بكل شيء، والله لا يعجزه شيء، لا يقف أمامه أحد، هذه الجزئية من جزئيات العقيدة كم هي ضعيفة اليوم في نفوس كثيرٍ من المسلمين، وإلا لو أن الناس آمنوا بأن الله على كل شيءٍ قدير لما أذلهم ولما استضعفهم أحد.
وجاء يمشي إلى الملك فلماذا لم يهرب؟ ويقول: هذه فرصة ما دام أني نجوت أنفذ بجلدي، لماذا جاء يمشي إلى الملك؟ لأن الغلام لديه مهمة، عنده رسالة لم تنته بعد، لا بد من عرض الإيمان على الناس ولا بد من إيضاح الحق، فقد يتراجع هذا الطاغية عندما يرى قدرة الله ويسمع بها، فقد يؤمن، (وجاء يمشي إلى الملك).
لو أن واحداً فينا مكان هذا كان قال: فرصة أني الآن أنجو (وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله) علماً أن هذا الطاغية لا يريد أن ينسب الهزيمة إلى نفسه؛ لأنه واضح أنه صار فيه هزيمة، فما قال: ما فعل أصحابي أو ما فعل جنودي، ولكن قال: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله فقط، هنا ما أبرز الغلام عضلات وقال: أنا فعلت طريقة وعملت حيلة فالمهم أني تخلصت منهم وجئت وأنا الآن أتحداك، لا، لم يكن هذا، إن تواضع المؤمن لا يزال ملازماً له حتى في لحظات الانتصار، وهو متواضع لا يفتخر بقوته وليس له من الأمر شيء، قال: (كفانيهم الله) الله عز وجل هو الذي يكفي، الله عز وجل هو الذي كفاني هؤلاء (فدفعه إلى نفرٍ من أصحابه فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور -سفينة- وتوسطوا به البحر -اذهبوا إلى الوسط حتى لا يصير أي احتمال للنجاة- فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه حتى يغرق ويموت) فأخذوه ونفذوا الأمر فذهبوا به في وسط البحر، كل ما حوله ماء، وعرضوا عليه أن يرجع عن دينه فأبى فأرادوا أن يقذفوه مرة أخرى.
ما حيلة الغلام؟ لا شيء، ماذا يستطيع أن يفعل؟ لا شيء، هل هناك وسيلة للنجاة؟ لا، فالبحر من جميع الجهات (فقال: اللهم اكفنيهم بما شئت) نفس الدعاء: (اللهم اكفنيهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك)، وهنا قدرة الله عز وجل تتراءى مرة أخرى، وتظهر عياناً، تنقلب السفينة ويغرقوا كلهم ويأتي هذا الغلام يمشي مرة أخرى إلى الملك، وهذه هي معجزة طبعاً الذي هو المشي على الماء، لأنه لا بد أن يأتي من وسط البحر على الماء وهذا الغلام صارت له أكثر من خارقة من الخوارق، وهذه من أعظمها، وجاء يمشي إلى الملك، مرة أخرى ما انتهت الرسالة، لم تنته المهمة، لا بد من إكمال الطريق، وهنا أيها الإخوة! يلفت نظرنا شيء، كيف أن الغلام الآن يريد أن ينجو ويقول: اللهم اكفنيهم بما شئت، فلما ينجو يرجع مرة أخرى ويأتي إلى مصدر الشر الذي يريد أن يهلكه، أي: كيف يأتي موقف يدعو فيه بالخلاص وبعد ذلك يأتي مرة أخرى إلى مصدر الخطر؟ هنا نتعلم درساً مهماً في متى يُلقي الإنسان بنفسه في المهالك، ومتى يحاول أن يتخلص من المهالك.
فعندما كان فوق الجبل وفي وسط البحر، إذا قتل الآن هل حصلت الفائدة الكبرى؟ لا. فإذاً هو يريد أن ينجو لأن الرسالة ما انتهت بعد، فلذلك دعا الله بالخلاص، ولكن عاد للمهلكة مرة أخرى وجاء يمشي إلى الملك وهذه فيها مهلكة؛ لأن الغلام يعلم أنه سيعيد الكرة وقد ينجح الملك ويقتله، لكنه جاء وأوصل نفسه إلى مصدر الخطر مرة أخرى، لأي شيء؟ هنا في هذه الحالة المسألة تستاهل أنه يرجع إلى الملك؛ لأن القضية ما انتهت، ما زال يعرض الدعوة، فهناك خطٌ بين الشجاعة والتهور، فهناك حالة من الحالات يكون إلقاؤك بنفسك في هذا المكان تهوراً ولا تستفيد منه أي شيء.
وهناك حالة أخرى يكون إتيانك إلى الخطر شجاعة، فالثبات على الحق في أوقات المحنة شجاعة، والثبات أمام الطغيان شجاعة، فقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أعظم الشهداء
فكل العبارات تدور حول القضية الأساسية في الدعوة وهي عرض حقيقة الألوهية، فلذلك كل عبارات الغلام تدور حول هذه المسألة، عرض حقيقة الألوهية التي ضاعت في وسط هؤلاء الناس، إذاً انتقاء العبارات في التركيز على القضية التي يحتاج إليها الناس مهمة، فيجعلها الإنسان هي المحور الذي يدور حوله، يجعل الداعية المسألة الأساسية التي يريد أن يدعو الناس إليها هي المحور الذي يدور حوله، فتؤثر هذه القضية في عباراته، وتنتقى الكلمات المناسبة لخدمة هذا الغرض.
انظروا فالقضية ليست سهلة، غلام يقول لهذا الطاغية وهو الكبير: حتى تفعل ما آمرك به، حتى تفعل ما أمليه عليك، هنا إظهار عزة الإسلام وعزة المسلم أمام الطغيان من القضايا المهمة.
ولذلك يفرض الحل فرضاً على هيئة أمر، وربما يكون هذا هو الأمر الوحيد الذي تلقاه الملك طيلة حياته، فلا يتصور أن يأتي أحد يأمر هذا الطاغية، لكن هنا يحصل! إنه إظهار عزة المسلم وإثبات عجز ذلك الطاغية وأنه يتقلى الأوامر من واحد مسلم: (قال: ما هو) فالآن هذا يريد أن يتخلص بأي طريقة: (قال: تجمع الناس في صعيدٍ واحد -الصعيد: هي الأرض الخالية الفضاء البارزة- وتصلبني على جذعٍ -الصلب: هو ربط الإنسان الذي يراد قتله، ربطه على شيء، يسمى صلباً، وتصلبني يعني: تشد صلبي أي: ظهري على جذع فرع من فروع النخلة- ثم خذ سهماً من كنانتي -والكنانة: هي التي تجمع فيها السهام- ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام).
إذاً تجمع الناس في صعيدٍ واحد فما هو الهدف؟ إن الطغاة قد يغيرون الحقائق، ولو تمت هذه المعركة، أو هذا المشهد، في وسط منغلق لم يره أحد من الناس فإنه بمقدور هذا الطاغية أن يقلب الحقائق، ويصور المسألة بأي عبارة يريدها بعد ذلك وقد يصدقه الغافلون.
لكنه أراد هذا الغلام أن تعرض القضية أمام الناس كلهم، أن تعرض هذه المسألة أمام جميع الناس على صعيدٍ واحد يجمع الناس كلهم حتى لا يكون هناك مجال لقلب الحقائق بعد ذلك (وتصلبني على جذع) وهو منظر مثير لشفقة الناس غلام مصلوب على جذع (ثم خذ سهماً من كنانتي) انظر لهذا الغلام الذي يريد أن يكون للملك ولا (1%) من الأسباب أي: ليس عنده ولا شيء من الوسائل التي تقتل، فالسهم سهم الغلام، ومن كنانة الغلام، ثم إن هذا الغلام يعلمه فيقول له: (ثم ضع السهم في كبد القوس) علماً بأن السهم أصلاً إذا أريد أن يطلق أين يوضع؟ في كبد القوس، وهو شيء طبيعي أن يوضع في كبد القوس، لكن هذا الغلام يريد أن يقول لذلك الرجل: ليس لك أي شيء بالموضوع أبداً، فالسهم من عندي وكنانتي، وتفعل الشيء الذي أقوله لك، وتضع السهم في كبد القوس وأنا الآن أرشدك على كل شيء حتى الأشياء المعروفة أنا أعلمك إياها (وتضع السهم في كبد القوس، ثم قل: بسم الله رب الغلام، ثم ارمِ) طبيعي أن يرمي لكن الغلام..، سبحان الله!! ومع ذلك يقول: (ثم ارم) أي: حتى التصرف الطبيعي المتوقع حدوثه، أو ليس هناك غيره فلا بد أن يرمي، ثم يقول له: (ثم ارمِ فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني).
فجمع الناس في صعيدٍ واحد، فما كان أمام هذا الطاغية إلا هذا الحل؛ لأنه لو ترك الغلام يدعو بعد فترة المجتمع كله سينقلب إلى مجتمع مسلم، لو أنه استمر في عملية اختراع طرق القتل من عنده سيفشل مثلما فشلت الطرق التي سبقت وسيزداد الناس إعجاباً بالغلام وانجذاباً إليه، وتأثراً به.
وأنها كلها حصلت بإرادة الله عز وجل، (فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات الغلام)، مات الغلام فما هي النتيجة، وما هو الأثر على هؤلاء الناس المتجمعين كلهم الذين عرفوا بأن الغلام ما استطاع هذا الطاغية أن يقتله أبداً، وما قتل إلا بعدما نُفذ كلامه حرفياً ومن ضمن هذه الخطوات قول الملك وهو يرمي السهم: بسم الله رب الغلام، فماذا عرف الناس؟ عرفوا أن هناك فعلاً رباً للغلام هو الذي لما شاء أن الغلام لا يقتل فما قُتل، ولما شاء أن يقتل الغلام قتل فإذاً هناك محيي، وهناك مميت، وهو الله عز وجل فصارت القضية واضحة جداً الآن وليس فيها خفاء، وأثر موت الغلام على الحق، دفع الغلام نفسه ثمناً لأي شيء؟ لكي يؤمن الناس، ثمناً للدعوة إلى الله.
إن التضحية بالنفس أمام الناس مؤثرة جداً، لأن الناس سيقولون ما قتل هذا نفسه ولا أتى بنفسه إلى موضع الهلكة إلا وهو على الحق، ولما تبينوا بأنفسهم أن هناك رباً يُميت ويدفع الضر آمنوا (فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام ثلاث مرات).
دلالة وتأكيداً على أصالة وعمق الإيمان في نفوسهم، أعلنوها واضحةً أمام الجميع، آمنا برب الغلام، (فأُتِيَ الملك -أتاه أعوان السوء- فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس) وفي رواية الترمذي التي سبق أن تكلمنا عليها: (قالوا له: أجزعت أن خالفك ثلاثة فهذا العالم كلهم قد خالفوك).
وهنا ما هو الحل؟ فالناس آمنوا أي: الشيء الذي كان محذوراً قد وقع، والذي كان خائفاً منه قد حصل، فما هو الحل؟ لم يبق إلا الحل البشع أو الحل الجنوني والحل الانتقامي وهو القتل الجماعي، الإبادة الجماعية: (فأمر بأخدود بأفواه السكك -الطرقات- فخدت) والأخدود: هو الشق في الأرض. (وأضرم فيها النيران وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، أو قيل له: اقتحم ففعلوا) ففعلوا حتى جعل الناس يتدافعون في الخنادق المضرمة فيها النيران، لأن الإيمان صار إيماناً قوياً جداً، ما أثَّر لهيب النار.. ألقوا أنفسهم بالنار لكي يحصلوا على مرضاة الله عز وجل، في سبيل الله الذي آمنوا به: (حتى جاءت امرأة ومعها صبيٌ لها فتقاعست أن تقع فيها) معها صبي وفي رواية الإمام أحمد (فجاءت امرأة بابنٍ لها ترضعه) أي: هذا الصبي رضيع صغير، والطفل الذي يرضع هل من عادته أن يتكلم بالكلام الواضح؟ لا! (حتى جاءت امرأة ومعها صبيٌ لها فتقاعست أن تقع فيها) لأن الله عز وجل خلق في المرأة عاطفة الأمومة التي ترحم بها ولدها الصغير، ولولا هذه الأمومة لما أرضعت امرأة ولداً، ولما عطفت عليه ولما ضمته إلى صدرها.
فالله خلق في هذه الأم العاطفة نحو الولد، والمرأة الآن مؤمنة ومحتسبة وصابرة، وليس عندها إشكال أن ترمي نفسها في النار، وتموت من أجل العقيدة؛ لكن جذبها شيء ومانع في نفسها، وهو هذا الغلام الصبي الصغير الذي معها، كيف تفعل به؟ أي: رحمته وأشفقت عليه أن يحترق بالنار، فتقاعست أي: ترددت أن تقع فيها من أجل الغلام لا من أجلها هي (فقال لها الغلام: يا أمه! اصبري فإنك على الحق) أنطق الله هذا الصبي الرضيع (فقال: يا أمه! اصبري فإنك على الحق فرمت نفسها).
هذا المقطع فيه فائدة كبيرة وهي أن الناس إذا اعتنقوا العقيدة الصحيحة فإن الله يثبتهم بأشياء لا تخطر ببالهم، أي: أن الناس إذا تجردوا لله وعرفوا الحق وأرادوا أن يثبتوا عليه فإن الله يثبتهم بأشياء من عنده ليست من عندهم، يمدهم الله بطاقات جديدة، هذه المرأة ما كانت تتوقع أن ينطق الغلام بهذه العبارة المثبتة ( يا أمه! اصبري فإنك على الحق ) من الذي أنطقه؟ إنه الله عز وجل فإذاً: جاءت وسائل التثبيت من عند الله.
فإذاً أعداء الإسلام يخططون ويريدون، ولكن إذا أراد الله شيئاً آخر لا تنفع خططهم أبداً، بل إن الله قد يحاربهم بنفس السلاح الذي يحاربونه به، وإذا أراد الله أن يرد سهام هؤلاء ردها في نحورهم، إذا سلطوها على عباد الله المؤمنين، فإن الله قادرٌ على أن يرجعها إلى نحورهم.
ويتلذذون بصرخات المؤمنين وهم يحترقون، عندما يكون الضلال أو الكفرة إذا وصلوا إلى مراحل أي: يصبح تعذيب الناس فيه لذة لهم، ولكن صحيح أن في حساب الدنيا هذه النتيجة مؤسفة وأليمة، وقد يعتبرها بعض الناس هزيمة، أي: قُتل الناس وما استفدنا شيئاً، لكن عند الله عز وجل في حساب الآخرة النتيجة أكبر من ذلك بكثير، النتيجة عظيمة جداً كيف؟
الآن ما هو الهدف من خلق الناس؟ إنه عبادة الله، وما هو الهدف من الدعوة إلى الله؟ أن يدخل الناس في دين الله، فهل الغرض من الدعوة والعبادة الانتصار؟ لا. إن الانتصار هو -لا شك- هدف يسعى إليه كل مسلم، ولكن هل هو الهدف الرئيسي الذي إذا لم يتحقق فشلنا وانتهت المسألة هكذا بدون ثمن؟ لا. إن النتيجة قد تحققت، فما هو الهدف من خلق الناس؟ إنه عبادة الله، وما هو الهدف من الدعوة إلى الله؟ إنه دخول الناس في الدين، أليسوا قد دخلوا في دين الله، أليسوا قد عبدوا الله عز وجل؟ أليسوا قد صبروا على دين الله، أليسوا قد قدموا أنفسهم في سبيل الله عز وجل؟ نعم.
إذاً هذا هو الانتصار الحقيقي، الانتصار الحقيقي: أن يدخل الناس في الدين فهذا هو الهدف، لا نريد أكثر من هذا، ليس هناك أعظم من أن يدخل الناس في دين الله، وبعد ذلك انتصر المسلمون أو لم ينتصروا هذه قضية أخرى، صحيح أنها هدف جميل، وصحيح أنها مطمح طيب أن يطمع إليه المسلمون، لكن لو لم يحصل هل يعتبر أننا فشلنا وانتهينا وصارت جهودنا هباءً منثوراً؟! لا. الانتصار الحقيقي: هو انتصار الإيمان على الفتنة والطغيان، وليس كل الانتصار هو قضية الغلبة في الدنيا، لا، الانتصار الحقيقي: هو الفرق بين قول الله عز وجل: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
[آل عمران:169] وبين:
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ
[آل عمران:196-197].
هذه المسألة تحتاج إلى تفسير من أهل الإيمان: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
[آل عمران:169] لا تحسبن أن القضية انتهت وهؤلاء ماتوا وفشلوا وراحت جهودهم هباءً منثوراً، والغلام والراهب والجليس والناس:
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ
[آل عمران:169] هؤلاء الذين في الظاهر عندما انتصروا وأحرقوا كل المسلمين وأبادوهم إبادة جماعية ما هي حقيقة أمرهم؟
فإذاً رغم كل ما حدث فإن الدعوات التي سبقتنا انتهت نهايات كثيرة، وقد عرض القرآن نماذج لنهايات كثيرة انتهت فيها الدعوات، فقد عرض الله مثلاً مصارع الطغاة، وانتصار المؤمنين في قوم نوح وهود وصالح، وموسى لما غرق فرعون، فانتهى الطغاة وانتصر المؤمنون، والرسول صلى الله عليه وسلم هذا نموذج، نتيجة الجهود المباركة انتصر المؤمنون وهزم الكفرة، لكن كان لا بد من عرض صورة أخرى قد لا ينتصر فيها المؤمنون ولا يغلبون الكفرة، وتكون نهاية الغلبة للكفرة، فجاءت مثل هذه القصة؛ لتعرض هذا الأنموذج الذي يمكن أن يقع.
حتى لا يستغرب المؤمنون أبداً إذا ما حصل شيء من هذا القبيل، ويعرف الناس بأن الانتصار الحقيقي هو انتصار الإيمان، وهو أن يموت الناس على طاعة الله وعلى التوحيد.
فإذاً نوع التربية وهدف التربية التي يتلقاها الإنسان المسلم، هو الذي يحدد ماذا سيكون موقفه في حال الهزيمة وفي حال الانتصار، فالغرض أيها الإخوة! إذاً: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ
[التوبة:105] المهم أن نعمل، لو حصلت النتيجة الحمد لله، لو ما حصلت الحمد لله على كل حال، يموت الإنسان وهو مستريح أنه قد عمل للإسلام.
أي: ما فعلوا هذا الكلام ولا هذا الإحراق ولا هذا التعذيب ولا هذا الاضطهاد! لماذا؟ ما هو السبب؟ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ
[البروج:8] فقط، لماذا أحرقوهم؟
إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ
[البروج:8].
إذاً المعركة معركة عقيدة، وأعداء الإسلام يصورون أن المعركة ليست معركة عقيدة بل معركة مطامع دنيوية واقتصادية وسيطرة.. لكن الحقيقة أنها معركة عقيدة، إنهم لا يحاربوننا من أجل أشياء مادية فقط! بل يحاربوننا من أجل عقيدتنا، والذي يعرف هدف المعركة، يعرف كيف تسير الأمور.
أما الذي يُضَلَّلَ بالأشياء الكاذبة ويُذَرُّ الرماد في عينه، فإنه لا يعرف كيف يسير ولا يعرف النهاية الحقيقية للمعركة، إذاً لا بد أن نعمل لكي تنتصر العقيدة، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم أيها الإخوة! من جنده وأتباع نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلنا من أهل الحق السائرين على طريق الله تعالى، وأن يجعلنا من المجاهدين في سبيل الله، وأن يختم بالصالحات أعمالنا، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجعل لنا بلاغاً إلى خير، وأن يصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأن يجعل عقيدتنا عقيدة سليمة، نحارب من أجلها، ونثبت عليها إلى يوم نلقاه عز وجل، والحمد لله أولاً وآخراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر