يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أيها الإخوة: لازال حديثنا متصلاً عن (عبر في موازين الله وموازين البشر) وقد سبق الكلام عن أمور ينظر لها الناس بمنظار، وهي عند الله شيء آخر، وكانت العبرة المستخلصة، أنه ينبغي علينا أن ننظر بمنظار الشارع ، أن ننظر إلى الأمور كما هي عند الله تعالى، وأن نقيس الأمور بمقياس الشرع، ونزنها بميزانه لا بميزان الدنيا وميزان الناس، ولنضرب أمثلة أخرى، نستعيد فيها هذا التصور، ونربي أنفسنا بها على التطلع إلى الأمور وتحليلها وتقويمها بحسب ما هي عند الله لا بحسب ما هي عند الناس.
ولكن كان ذلك عند الله سبحانه وتعالى بميزان آخر، قال الله عز وجل: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:140-141].. مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179] .. وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:154] .. وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لَاتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران:166-167].
إذاً: الله سبحانه وتعالى أراد من وراء هذه الهزيمة أموراً، أراد كشف المؤمنين وتبيان حالهم، وإظهار أمرهم في الواقع ليطابق الواقع علم الله الأزلي بشأنهم، وأراد الله كشف أستار المنافقين وتعرية موقفهم، وإظهارهم للمؤمنين ليحذروهم، وأراد الله أن يميز الخبيث من الطيب، فالله سبحانه وتعالى لا يرضى بأن يكون الأمر مختلطاً، وتتلبس الأمور، يريد اللهُ أن يهلك من هلك عن بينه، وأن يحيا من حيَّ عن بينه.
يريد الله تمييز الصفوف، يريد الله كشف الحقائق وإظهار البواطن، فأظهر المؤمنين الصادقين الثابتين المطيعين، وأظهر المنافقين المنسحبين، وكذلك أراد الله بهذه المعركة أن يتخذ شهداء لم يكونوا ليصلوا إلى مرتبة الشهادة بغير هزيمة أحد ، هذا العدد الكم الكبير سبعون قتيلاً من المسلمين، شهداء عند الله، أراد الله حكماً، أراد الله أموراً مع أن الهزيمة بالنسبة للمسلمين في الظاهر شر كبير.
حادثة الإفك اعتبرها الناس شراً؛ لأن فيها إيذاءً للنبي صلى الله عليه وسلم، وبلبلة عظيمة حصلت في المجتمع المسلم، قال الله: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:11] فيها تمحيص وثبات المؤمنين، وكف ألسنتهم، وفيها انزلاق ألسنة المنافقين ومن ضعفت نفسه، وتعليمه درساً عظيماً لئلا يتابعهم فيما يُستقبل، ورفع منزلة النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عائشة وتبرئتها في القرآن، وأمور أخرى عظيمة كانت في تلك الواقعة.
انظروا إذاً -أيها الإخوة- للاختلاف بين ميزان الله وميزان البشر، الشهداء أحياء عند الله، وعندنا أموات، نحزن لفراقهم، وهم عند الله تعالى أحياء فرحون جداً بما وجدوا من كرم الله تعالى، وهم يفضلون ما عند الله على ما عندنا بالتأكيد، لكننا نحن نحزن لأجلهم، ولفراقهم.
من الموازين التي يظهر فيها الاختلاف أيضاً، ميزان العطية والمنحة، والحرمان والقلة، قال الله تعالى: فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ [الفجر:15-16] قدر عليه رزقه: أي: ضيق.
ماذا قال الله عن هذا الميزان البشري الدنيوي؟ قال: كَلَّا [الفجر:17] أي: ليس الأمر كذلك، لأنه إذا أعطى عبداً وأكرمه ونعمه فإن ذلك لا يقتضي أنه راض عن هذا العبد، بل إنه يعطي الكفار والفساق والفجرة والعصاة أعطيات عظيمة، لماذا؟ هم عند الناس: رب أكرمن، يقولون: الله أكرمهم، ولكن عند الله استدراج: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً [آل عمران:178].
لا حظ الفرق يا أخي! لاحظ الفرق لتعتبر، فالمسألة تحتاج إلى نظر وفقه، عند الناس يقولون: هذا أكرمه الله عز وجل ونعمه بهذه الملايين، وهذه النعم، لكن يقول الله تعالى: إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً [آل عمران:178] هل هذه كرامة ونعمة؟ لا. بل هذه نقمة وشر، واستدراج، إذا رأيت العبد مقيماً على معصية الله والله يعطيه، فاعلم أنما هو استدراج، وفي المقابل إذا حُرم شخص من نعمة مال ومن دنيا، فإن هذا ليس دليلاً على أن الله يريد أن يهينه، كما يظنه بعض الناس بميزانهم الدنيوي البشري، كما قال تعالى عنهم: وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا [الفجر:16-17] لأن الله إذا أحب عبداً ابتلاه، والقلة له خير من الكثرة، والكثرة يشتغل بها عن الطاعة وعن دينه فيهلك.
روى البخاري رحمه الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الناس أكرم؟) -كانت قضية القبلية والنعرات والتفاخر بالأنساب مسألة لها ثِقَلٌ كبير ووزن عظيم عند العرب، (قالوا: أي الناس أكرم؟ قال: أكرمهم عند الله أتقاهم) فأجابهم بميزان الشرع، (قالوا: ليس عن هذا نسألك) يريدون شيئاً معيناً، الأنساب والقبائل، أي: أيُّ القبائل أعظم والأنساب أعظم وأعلى؟ قال: (فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله) يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام.
(قالوا: ليس عن هذا نسألك؟ قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم، قال: فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا) إذاً الذي هو شريف في الجاهلية، إذا أسلم وتفقه -شرطان- إذا أسلم وتفقه فهم خياركم في الإسلام.
وروى أحمد رحمه الله حديثاً حول هذا المعنى، عن عمر بن عبسة السلمي ، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض يوماً خيلاً، وعنده
أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يبين لهذا الرجل الأعرابي، أن خير القبائل الذين سبقوا إلى الإسلام، هؤلاء خير القبائل في ذلك الوقت -وقت النبوة- من الذي سبق إلى الإسلام؟ مزينة وبعض جهينة، مزينة:قبائل أسلم وأهل اليمن الذين جاءوا مسرعين يريدون العلم، الذي رفضه غيرهم من كبار القبائل؛ هؤلاء أفضل، لماذا؟ في التصنيف القبلي عند بعض أهل الجزيرة هم أدنى، لكن عند الله وعند النبي صلى الله عليه وسلم بين له أنهم خير من كثير من القبائل، لأنهم أسلموا قبل غيرهم.
وكذلك من بني تميم من هو أشد هذه الأمة على الدجال كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (سيكونون في آخر الزمان خير الناس؛ لأنهم أشد الناس على الدجال) ولما تابعوا دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وغيرهم من أهل نجد كانوا خيراً من غيرهم من المشركين، وغيرهم من الذين رفضوا الدعوة في وقتهم، إذاً -أيها الإخوة- معيار القبائل والأنساب الذين سبقوا إلى الدين وآمنوا به، هذا هو المعيار.
شيء عجيب! شخص يقاتل مع المسلمين ويبلي بلاء حسناً، وهو شجاع للغاية، ولا يدع للكفار شيئاً إلا ضربه، ومع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أما إنه من أهل النار فقال رجل من القوم: أنا صاحبه) أي: واحد من المسلمين تبرع أن يلازم هذا الرجل؛ ليعرف الحقيقة ويأتيهم بخبره- فخرج معه، كلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، قال: (فجرح الرجل جرحاً شديداً، فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه بالأرض، وذبابه -أي: رأس السيف وطرفه الحاد- بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه).
ما هي النهاية؟ انتحار! فخرج الرجل هذا الملاصق المراقب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أشهد أنك رسول الله، قال: (وما ذاك؟) قال: الرجل الذي ذكرت آنفاً أنه من أهل النار، فأعظم الناس ذلك، فقلت: أنا لكم به، فخرجت في طلبه، ثم جرح جرحاً شديداً، فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل عليه فقتل نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: (إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة).
وذلك لأن الأعمال بالخواتيم، فنحن قد نحكم على شخص بأنه من أهل الجنة ونظن ذلك، وعن آخر أنه من أهل النار، وننسى قضية الخاتمة، فلننتظر إذاً.
ولذلك من القواعد عند أهل السنة والجماعة : ألا نحكم لمعين بجنة ولا بنار إلا من حكم عليه أو حكم له الشارع، وهذا الرجل الذي وردت قصته في هذا الحديث، الذي قتل نفسه وانتحر مثال على قضية الاعتبار بالخواتيم.
مسألة الدنيا عندنا -أيها الإخوة- الدنيا عندنا هي الأموال والعمارات، والقصور والبساتين، والزروع والثمار، والذهب والفضة، والمراكب، وهي تعني عندنا أشياء عظيمة ولهذا تثقل في نفوسنا، وهذا معروف ومشاهد في الواقع، ولا يحتاج إلى شرح: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران:14].
لكن الميزان عند الله في هذا قوله عليه الصلاة والسلام: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) لو كانت تساوي عند الله شيئاً، ما أعطى الكافر منها شيئاً، قال أبو عيسى : هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه.
حديث صحيح رواه الترمذي رحمه الله تعالى وغيره، يبين لنا الميزان الحقيقي عند الله تعالى لهذه الدنيا، كل هذه الدنيا بما فيها من ألوان النعيم؛ من ناطحات سحابها إلى ما تحت التراب من المعادن والثمار لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وعندنا كم تساوي؟! انظروا إلى الفرق بين الميزان الإلهي والميزان البشري.
الغنى ما الغنى؟
الغنى: كثرة المال والمراكب والبيوت، هذا هو الغنى، الغنى: المادة، روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس) رواه البخاري ومسلم ، ليس الغنى الزيادة في المادة، ولكن الغنى غنى النفس، لو جئت بأغنى أهل الأرض لو كان له واديان من ذهب فإنه يريد الثالث، ما شبع ولن يشبع أبداً.
فهو ليس مطمئن النفس، والغني حقيقة هو المستغني عن الناس والذي لا يتطلع إلى شيء، والذي نفسه راضية مطمئنة: ( ولكن الغنى غنى النفس ) الذي لا يأسف على الدنيا إذا فاتت، ولا يفرح إذا جاءت، هذا هو الغني حقيقة، المتنعم بحياته، وصاحب راحة البال والمطمئن: (ليس الغنى عن كثرة العرض ، ولكن الغنى غنى النفس).
الناس إذا رأوا ما عند الأغنياء تطلعوا ومدوا أعينهم: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص:79] ماذا قال الذين أوتوا العلم والذين يُعملون الميزان الإلهي، ولا ينخدعون بالمنظُور البشري؟ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ [القصص:80-81].
كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً أن يبين للناس أن قضية الكثرة ليست اعتباراً شرعياً، فكان يقول لهم: (الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال: هكذا وهكذا وهكذا) أي: الغني الذي ينفق ماله من اليمين والشمال في جميع الاتجاهات وجميع سبل الخير، وكلما عرضت فرصة أنفق، لا يبالي بما ينفق، وينفق بلا حساب، ولا تعلم يمينه ما تنفق شماله: (الأكثرون -أي:في الدنيا- هم الأقلون يوم القيامة).
وروى ابن مردويه كما ذكر ابن كثير رحمه الله تعالى عن أبي عثمان النهدي (عن
ترك كل الممتلكات والأموال وما بقي له شيء، خرج بثيابه فهذا يعتبر عندنا خسراناً، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ربح البيع ، ربح
لما استقرت هذه الحقيقة في نفوس الصحابة تصدقوا بأموالهم، فهل عرفتهم أحداً يذهب اليوم إلى رصيد ماله في البنك، وينظر ماذا في الرصيد، مائة ألف مثلاً يأخذ خمسين ألفاً ويتصدق بها (نصف المال)؟ لا نقول: مستحيل، لكن ليس أمراً معروفاً على الإطلاق.
الصحابة لما استقرت في نفوسهم قضية الموازين الإلهية، والنظرة الشرعية إلى الأمور؛ أبو بكر تصدق بماله كله، وعمر تصدق بنصف ماله، وأبو طلحة كان أكثر الأنصار بـالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد (موقع استراتيجي) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها، ويشرب من ماء فيها، وبها ثمار يانعة وماء طيب وموقع مهم، قال أنس : فلما أنزلت هذه الآية: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا رسول الله! إن الله تبارك وتعالى يقول: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، -أنفس مال عندي- وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله).
ذهب إلى العالم ليتصرف له بالمال، لأن العالم يعرف أكثر من الغني أي المجالات أكثر أجراً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بخ، ذاك مال رابح، ذاك مال رابح!) رجل ذهب أنفس ما عنده من المال أين الربح؟! وهذه القصة في البخاري .
وروى أحمد وهو حديث صحيح أن أبا الدحداح باع حائطه كله بنخلة، لأنه سمع أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لرجل: (أعطها إياه بنخلة في الجنة) أي: ليتيم كان ينازعه فيها.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب النخلة: (أعطه النخلة ولك نخلة في الجنة فرفض، فسمع
إذاً: لا الثمن ولا السلعة، ما بقي عنده شيء، فقال عليه الصلاة والسلام: (كم من عذق رداح لـ
إذاً الرجل والمرأة .. البيت المسلم تأسس على هذا الأساس، على أساس الأخذ بالميزان الشرعي، وبما عند الله لا بما عند الناس، فالمرأة قالت: صفقة رابحة، اعتبرتها رابحة ووافقت زوجها.
أنت إذا ذبحت شاة وتصدقت بجزء منها وبقي لك جزء ما هو معيارك في النظر إلى الشيء الباقي والشيء الذاهب؟ الشيء الذي تصدقت به ذهب، والذي بقي هو ما عندك حقيقة، لكن عند الله تعالى المسألة تختلف، روى الترمذي عن عائشة : (أنهم ذبحوا شاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ
إذاً: هو هذا المعيار الشرعي، قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: (أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار) عند الله هذا هو المفلس.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا بدينه فقهاء، وأن يجعلنا بأحكامه عالمين، وعلى سنة نبيه سائرين، وبحبله مستمسكين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
عباد الله: لازلنا نقول: إن معيار الكثرة والقلة يجب أن يضبط بميزان الشرع، يظن الناس أن الأكثرية على صواب، وبناءً على هذا قام مذهب الديمقراطية الأرضي، ولكن الله يقول: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116] .. وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103].
إذاً مبدأ الأكثرية لا يعني دائماً أن الحق معه، بل في الغالب أن الناس إذا تركوا إلى شهواتهم، فإن أكثرهم يختار الباطل، كما ذكر الله في كتابه، فليست الأكثرية دليلاً على الحق ولا على الصواب، لأن الناس في الغالب عبيد لأهوائهم وشهواتهم.
مسألة الربا في المنظار الدنيوي زيادة وكثرة، وفي المنظار الشرعي قال عليه الصلاة والسلام: (الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل) حديث صحيح. أي بما يفتح على المرابي من المغارم والمهالك، وإن كان الربا زيادة في المال عاجلاً، فإنه يئول إلى نقص ومحق آجل.
وروى هذا الحديث ابن ماجة بلفظ: (ما أحد أكثر من الربا، إلا كان عاقبة أمره إلى قلة) ينقص مال المرابي ويذهب ببركته.
عندنا في الميزان الدنيوي وفي المنظور البشري المليون (70% ) فيها زيادة سبعين ألفاً، قلت لرجل: أين فلان؟ قال: مقيم في الخارج، أينفق عليه أبوك؟ قال: لا. قلت: من ينفق عليه ؟ قال: عنده ملايين الريالات يضعها في الخارج في البنوك ، ويعيش من فوائدها، ينقلها بين المصارف أيهم يعطيه أكثر، وهو مرتاح البال، المال مضمون والفوائد تأتي، ويعيش في الخارج، يضع (7.000.000) ملايين مثلاً في البنك، يأتيه في السنة نصف مليون، ينفق في كل شهر (40.000) ألف ريال ما يحتاج أكثر من هذا.
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275] والنبي صلى الله عليه وسلم بين عذابهم في البرزخ: (رجل يسبح في نهر الدم يأتيه شخص يلقمه حجراً، فيسبح ويعود ويلتقم الأحجار واحداً وراء واحد) وفي الآخرة يحارب الله تعالى ولا قدرة له بمحاربته، والله تعالى سيحربه ويغلبه وإلى جهنم وبئس المهاد، مع أنها في الدنيا وفي المنظور البشري زيادة مضمونة، ورأس المال مضمون وكل شيء مريح.
مسألة العلم الشرعي، كلمة العلم عند الناس، إذا قلت: هذا قسم علمي، وهذه جامعة علمية، إلى أي شيء تنصرف أذهانهم؟
إلى العلم الدنيوي، أي: عالم ذرة، أو عالم فلك، أو عالم فيزياء، جامعة علمية، أي: هندسة أو طب، قسم علمي، أي: فيزياء وكيمياء ورياضيات، لكن هذه العلوم عند الله ظاهرية، قال الله: يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7].
العلم الحقيقي إذاً هو العلم بالله وبالآخرة، وهذا الذي يُصلح السلوك، لكن علم الذرة والفلك لا يصلح السلوك، ولا يجعل صاحبه يعمل لليوم الآخر.
هؤلاء المخترعون الغربيون كم منهم أسلم؟ قلة نادرة، الباقون اخترعوا وإلى جهنم وماتوا على الكفر، مع الأخذ ببقية الضوابط الشرعية من بلوغ الدعوة إلى آخره.
إذاً العلم الحقيقي، والمستوى العالي من العلم، والعلم النفيس، هو العلم بالله وآياته وسنة نبيه واليوم الآخر، هذا هو العلم ، الفقه في دين الله تعالى هو العلم، مع أنك لا ترى الناس عندهم هذا المفهوم بشكل واضح وصريح.
نعود إلى قضية الرقوب، ولفظ أحمد : (شهد رجل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فقال: تدرون ما الرقوب؟ قالوا: الذي لا ولد له، فقال: الرقوب كل الرقوب ثلاثاً، الذي له ولد فمات -الأب- ولم يقدم منهم شيئاً) هذا هو الرقوب.
وعن بريدة بن الحصيب ، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعهد الأنصار ويعودهم ويسأل عنهم، فبلغه عن امرأة من الأنصار مات ابنها وليس لها غيره، وأنها جزعت عليه جزعاً شديداً، فأتاها النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه، فلما بلغ باب المرأة، قيل للمرأة: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يدخل يعزيها، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أما إنه بلغني أنك جزعت على ابنك، فأمرها بتقوى الله وبالصبر، فقالت: يا رسول الله! ومالي لا أجزع، وإني امرأة رقوب لا ألد، ولم يكن لي غيره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرقوب الذي يبقى ولدها، ثم قال: ما من امرئ أو امرأة مسلمة يموت لها ثلاثة أولاد يحتسبهم إلا أدخله الله بهم الجنة، فقال
فإذاً النبي عليه الصلاة والسلام يريد أن ينقل مفهوم كلمة الرقوب إلى شيء آخر غير الذي في الأذهان، أن الذي قدم شيئاً من الولد واحتسبه عند الله تعالى هو الرابح، والذي لم يقدم شيئاً من الولد في حياته فيفوته ثواب الصبر والتسليم عند فقد الولد، فنحن لا نتمنى فقد الأولاد ولا ندعو الله بأخذهم أبداً، وقد نهينا عن ذلك، ولكن إذا حصل نصبر، وماذا تكون نظرتنا لمن مات أولاده؟ أنه كاسب رابح إذا صبر وسلم لقضاء الله.
أحد الإخوان حصل له حادث، وضربت سيارته من الخلف، فمات أولاده الثلاثة في المقعد الخلفي في حادث واحد مريع، حتى نزلوا يجمعون الجثث، وهذا مخ الرأس، وهذه الأشلاء والجثث، مصيبة واقعة وكارثة كبيرة جداً، كل الذكور ماتوا في حادث واحد وضربة واحدة، بالنسبة لنا كارثة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لكن عند الله يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ذراري المؤمنين عند إبراهيم وسارة يكفلانهما لآبائهما) يوم القيامة إبراهيم يرجع كل واحد مات وهو صغير لأبيه وأمه، كما جاء في الحديث الصحيح أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فكفالة إبراهيم وسارة -أو سارّة لأنها كانت تسر إبراهيم بجمالها من عظمه- أحسن من كفالتك.
إذاً: القضية الفرق بين الميزان البشري وما عند الله، فلو أننا آمنا بهذه الأشياء ستتغير سلوكياتنا وأعمالنا وأحوالنا تغيراً جذرياً، وهذا هو المهم -أيها الإخوة- وهو الذي أردنا لفت النظر إليه.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أصحاب البصيرة، اللهم اجعلنا من أصحاب البصيرة يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك الأمن والأمان لنا ولجميع المسلمين، اللهم احفظنا واحفظ أموالنا وأهلينا من كل سوء يا رب العالمين!
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر