وبعد:
لقد كان في القرآن الكريم ذكرٌ كثيرٌ لهذا النبي في عددٍ من السور، وفي عددٍ من المناسبات، وكذلك في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وسنتعرض -إن شاء الله- في هذه الليلة لطائفة من أخبار هذا النبي الكريم عيسى في أحاديث محمد عليهما الصلاة والسلام.
فكانت دعوة الجدة لحفيدها ساريةً من ذلك الجيل إلى الجيل الذي بعده، وظهرت آثارها في مريم وفي ولدها عيسى، وصلاح الأجداد له علاقة بالأولاد كما قال الله: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً [الكهف:82] فلصلاح الأب حفظ الله مال ذريته، وكذلك بصلاح امرأة عمران حفظ الله بنتها وابن بنتها، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما من مولودٌ إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها) ثم يقول أبو هريرة : [واقرءوا إن شئتم وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ] لقد كانت تلك الدعوة الصالحة التي وقعت من تلك المرأة الكريمة فأثرت تأثيراً بالغاً، فما من بني آدم مولودٌ إلا يمسه الشيطان حين يولد غير مريم وابنها لم يستطع الشيطان أن يمسهما.
يعني: هذا كما يقول العامة عندنا " اسم على اسم" وكانت بنو إسرائيل يتسمون بأسماء الأنبياء تيمناً بالأنبياء، فيتسمون موسى وهارون كثيراً، ومريم أخوها هارون ليس هو هارون أخو موسى وإنما هارون آخر اسمه على اسم هارون النبي تيمناً به، فهذا هو زوال الإشكال، فمريم لما جاءت لقومها تحمل عيسى قالوا: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً [مريم:28].
أمها امرأة صالحة وهي زوجة عمران، فلما وضعت مريم ودعت لها أنجبت بعد ذلك عيسى عليه السلام، وكانت مريم بنت عمران امرأة كاملة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا
فإذاً: عيسى خلق بالكلمة: (كن) فكان، ولذلك يسمى عيسى بـ(كلمة الله).
ولماذا يسمى روح الله؟
سمي بذلك من باب إضافة التشريف وإضافة المخلوق إلى الخالق، كما نقول: (ناقة الله، بيت الله) ولأن عيسى نفس منفوسة خلقها الله عز وجل بالكلمة: (كن) فكان، ولذلك عيسى كلمة الله وروح الله.
وقد جاء في الحديث روح الله، فما معنى: وروحٌ منه؟
معناه: أن عيسى روحٌ من الله.
ومن هنا: من أين أتى عيسى؟ خلقه الله، فإذاً لما خلق الله لنا السماوات والأرض منه فهذا يعني أنها منه لا من غيره، وأنه هو الموجد، وكذلك عيسى روحٌ منه، يعني: أن الله عز وجل هو مصدر الإيجاد.
عيسى من أين خلق؟ خلقه الله عز وجل، فلذلك يسمى عيسى كلمة الله، وروح الله، وروحٌ من الله، وليست: (من) هنا للتبعيض، أي: أن عيسى جزء من الله تعالى الله عن ذلك.
والنصارى قد يدخلون هذه الشبهة ويحاجون بها، كما حصل في مجلس بعض الخلفاء: أن أحد النصارى قال له الخليفة: لماذا لا تسلم؟ قال: أنا مقتنع بالإسلام والقرآن، ولكن هناك آية التبست عليَّ، وأنا أرى أن فيها تأييداً لنا ولعقيدتنا نحن النصارى.
قالوا: ما هي؟
قال: إن عيسى عندكم في القرآن مكتوب عنه: " وروحٌ منه" فهو جزء من الله وهذا ما نحن نقوله: (ابن الله).
فالتفت الخليفة إلى من عنده من العلماء، فقال أحدهم: يا أمير المؤمنين! إن الله يعلم أن هذا الرجل سيستشهد بهذه الآية، وسيأتي بهذه الآية ليستشكل، والأمر كما قال الله تعالى في الآية الأخرى: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الجاثـية:13] فهل الأرض جزء من الله؟!
و(منه) هي سؤال عن مصدر خلقها وإيجادها، وكذلك عيسى مصدر خلقه هو الله عز وجل، وكلمته لأنه مخلوق بكلمة (كن)؛ ولأنه حجة الله على عباده، وآية من آيات الله.
فإذاً: كان عيسى نموذجاً فريداً في البشرية أن يخلق بغير أب، وليس المقصود بغير أب يعني بغير زوج أو بغير زواج شرعي أو لا يعرف من أبوه، لا. فلا يوجد هناك ذَكر في الموضوع أصلاً؛ لذا قالت مريم: وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ [آل عمران:47] لا بالحلال ولا بالحرام، فجاء جبريل فتمثل لها في هيئة البشر، وكانت قد انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً، قيل: أصابها الحيض فخرجت عن المسجد، حتى لا تقذر المسجد، والحائض لا تقرب المسجد، فانتبذت مريم مكاناً في شرقي المسجد، فأتاها جبريل على هيئة بشر، وكانت امرأة عفيفة فلما رأت أمامها رجلاً فزعت واستعاذت بالله منه: قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً [مريم:18] إن كنت تخاف الله ابتعد عني: قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً [مريم:19-20] لست بغياً ولا بذات زوج، فمن أين يأتي الولد؟!
قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً [مريم:9] فماذا فعل جبريل؟ فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا [الأنبياء:91] فالنفخة خرجت من جبريل، وأين نفخ؟ في جيب درعها -فتحة الفستان أو القميص عند الرقبة- فولجت النفخة إلى الرحم بقدرة الله فحملت، وهذا على الله يسير، فالذي خلق كل هذا الكون لا يعجزه أن يخلق إنساناً بغير أب، وهكذا خلقه من أنثى بغير ذكر، فهذا هو عيسى عليه السلام.
و لما استدعى النجاشي المسلمين الذين جاءوا إليه وسألهم ماذا تقولون في عيسى؟
قال له جعفر بن أبي طالب : نقول فيه الذي جاء به نبينا؛ هو عبد الله ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، قال: فضرب النجاشي بيده إلى الأرض -أي: أخذ منها عوداً- ثم قال: ما عدا عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود.
و هذا من إيمان النجاشي ، قال: ما وصفتم به عيسى هو الحق، وما تعديتم الحق، فتناخرت بطارقته حوله حينما قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، هذا النجاشي رحمه الله.
وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه حين يولد إلا عيسى بن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب) ما معنى هذا الحديث؟ الشيطان له أصبع كما هو ثابت في الحديث، كما أن له قرنان، والشمس تطلع بين قرني شيطان، وله لسان، والدليل: أن النبي عليه الصلاة والسلام خنقه في الصلاة حتى وجد برد لسانه على يده، وكل مولود يولد يتعرض له إبليس بالأذى، نكاية في بني آدم، فماذا يفعل الشيطان؟ يطعن في خاصرة كل مولود بأصبعه، فيصرخ الولد، لماذا؟ يقول الأطباء لا يوجد سبب للصراخ، لكن عندنا جواب في السنة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مولودٌ إلا ويمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً) فإذا انطعن بأصبع إبليس يصرخ المولود من مس الشيطان، والاستثناء حصل على مريم وولدها لأن الأم الصالحة قالت في الدعاء: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36] فأعاذ الله مريم وولدها من الشيطان الرجيم، وما طعن مريم ولا ولدها، وإنما ذهب يطعن فطعن في الحجاب، قال ابن حجر في فتح الباري : أي في المشيمة التي ولد فيها الولد، قال القرطبي رحمه الله: هذا الطعن من الشيطان هو ابتداء التسليط فحفظ الله مريم وابنها ببركة دعوة أمها حيث قالت: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ولم يكن لمريم ذرية غير عيسى.
فإذاً: استهلال الولد صارخاً هو من نخسة الشيطان، فسبب صراخ الصبي أول ما يولد هو ما يجده من الألم من مس الشيطان إياه، والاستهلال هو: الصياح، وجعل الله تعالى دون الطعنة حجاباً فأصاب إبليس الحجاب ولم يصبهما، هذه البداية.
ولد عيسى عليه السلام مبرأ محفوظاً من الشيطان، ولم يستطع أن يتسلط عليه كما يتسلط على أطفال بني آدم، وحدثت المعجزة في ولادته من غير أب، ثم حدثت المعجزة التالية عندما تكلم عيسى عليه السلام في المهد، وكان رضيعاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة وذكر منهم: عيسى بن مريم) فجاءت به تحمله، واستنكر قومها عليها ذلك، من أين جاءت بولدٍ وليست بذات زوج وأسرتها أسرة طيبة .. كيف خرجت هذه المرأة هكذا؟!!
فأشارت إليه فاستغربوا، فتكلم عيسى وقال: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ [مريم:30-31].
وكذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيت عيسى وموسى وإبراهيم، فأما عيسى فأحمر جعدٌ عريض الصدر).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أراني الليلة عند الكعبة في المنام فإذا رجلٌ آدم كأحسن ما يرى من آدم الرجال، تضرب لمته بين منكبيه، رَجِلُ الشعر، يقطر رأسه ماءً، واضعاً يديه على منكبي رجلين يطوف بالبيت، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هذا المسيح بن مريم).
وفي رواية: (بينما أنا أطوف في الكعبة فإذا رجلٍ آدم سبط الشعر، يهادى بين رجلين ينطف رأسه ماء، أو يهراق رأسه ماء، فقلت: من هذا؟ قالوا: ابن مريم) هذا وصف عيسى عليه السلام، فما معنى هذه الأوصاف؟
أما بالنسبة لقوله عليه الصلاة والسلام عن عيسى: (إنه رجلٌ آدم) فإن المعنى أنه أبيض مشرب بحمرة.
وكذلك لما قال صلى الله عليه وسلم: (ربعة) يعني: مربوع؛ ليس بطويلٍ جداً ولا بقصير جداً.
وقوله: (كأنه خرج ديماس) الديماس يعني: الحمام الذي يغتسل فيه، والمراد بذلك وصف عيسى بصفاء اللون، فهو كمن يخرج من الحمام صافياً نقياً نظيفاً، وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بنقاء اللون، ونضارة الجسم، وكثرة ماء الوجه حتى كأنه كان في حمام فخرج منه ينطف رأسه ماء، وهذا يزيد في نضارة الوجه.
وكذلك فإن قوله عليه الصلاة والسلام في وصف عيسى: (إنه رجلٌ سبط) نعتٌ لشعر رأسه يعني: ليس بجعد الشعر، والرواية الأخرى فيها أن عيسى جعد، والجعود عكس السبوطة، فكيف يكون الجمع؟
قالوا: هذه الجعودة في الجسم وليست في الشعر ، الشعر سبط ولكن الجعودة في جسمه، يعني: جسمه مجتمع مكتنز.
ومعنى: (لمته بين منكبيه) اللمة شعر الرأس، وقد جاوزت المنكبين وألمت به.
(رجل الشعر) قد سرحه ودهنه، وله (لمة تقطر ماءً) هذه صفة عيسى عليه الصلاة والسلام عندما رآه النبي عليه الصلاة والسلام يطوف بالكعبة.
قال عليه الصلاة والسلام: (أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة على موسى في ست خلون من رمضان، وأنزل الزبور على داود في اثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، وأنزل الإنجيل على عيسى في ثماني عشرة ليلة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربعٍ وعشرين خلت من رمضان).
وكان عيسى عليه السلام حريصاً على تبليغ الدعوة، ولذلك جاء في الحديث الصحيح (أن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن، وأن عيسى ابن مريم قال له: إن الله أمرك بخمس كلمات أن تعمل بهن وأن تأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم، قال: إنك إن تسبقني بهن خشيت أعذب أو يخسف بي).
فإذاً عيسى كان حريصاً على التبليغ، ومعنى ذلك أنه معاصر ليحيى بن زكريا، قال ليحيى إذا كنت لا تريد أن تبلغ، فأنا سأبلغ، إما أن تأمرهم، وإما أن آمرهم، فيحيى بن زكريا قال: أخشى أن أعذب، فجمع بني إسرائيل ووعظهم حتى امتلأ المسجد والشرفات إلى آخر القصة وهي قصة صحيحة.
عيسى عليه السلام رفع إلى السماء، ما مات ولم تقبض روحه بعد، رفع بجسده وروحه من الأرض إلى السماء، أين مكانه؟ قال صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء والمعراج: (فأتينا السماء الثانية، فقيل: من هذا؟ قيل: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمدٌ صلى الله عليه وسلم، قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به ولنعم المجيء جاء ، فأتيت على عيسى ويحيى فقالا: مرحباً بك من أخٍ ونبي) فإذاً عيسى في السماء الثانية.
وأما فضل عيسى عليه السلام، فإن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (
أما موقف عيسى عليه السلام من قومه يوم القيامة، فإنه سيتبرأ من المشركين والكفار، ويقول: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [المائدة:117].
وأما بالنسبة لعلم عيسى بأمر الساعة فإنه لا يعلم عن قيام الساعة، لأن علم الساعة من الغيب الذي اختص الله به، ولكن عيسى عليه السلام سيكون في آخر الساعة وشرطاً من أشراطها، وإنه لعَلَمٌ للساعة، وفي القراءة المعروفة: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ [الزخرف:61] عيسى عليه السلام عِلْمٌ أو عَلَمٌ للساعة، فلذلك كان نزول عيسى ابن مريم شرطاً من أشراط الساعة الكبرى.
عيسى عليه السلام بشر بنبينا صلى الله عليه وسلم: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6] وقال عليه الصلاة والسلام: (وسأنبئكم بأول ذلك؛ دعوة إبراهيم وبشارة عيسى بي).
ونزول عيسى بن مريم سيكون في آخر الزمان، ونحن في آخر الزمان، والعهد قريب بيننا وبين عيسى، ولم يبق شيءٌ كثير.
قال ياقوت الحموي في معجم البلدان : الأعماق المراد به العمق، وهي ناحية كورة قرب دابق بين حلب وأنطاكية ، أنطاكية في تركيا وحلب في سوريا ودابق: مكان معروف الآن، وهي قرية قرب حلب من أعمال عزاز بينها وبين حلب أربعة فراسخ.
الروم سينزلون في ذلك المكان قرب مدينة حلب في سوريا الآن، فإذا تصافوا قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، ناس كانوا مع الروم فالتحقوا بالمسلمين، أو أخذوا من الروم وأسلموا عند المسلمين، فالروم يقولون للمسلمين: أعطونا الذين أخذوا منا نقاتلهم نصفي بني جلدتنا أولاً، فيقول المسلمون: لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا.
نعم هؤلاء أصلهم من الروم، لكن أسلموا وصاروا إخواننا، كيف نتركهم إليكم ونسلمهم إليكم ؟ والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (المسلم أخو المسلم لا يسلمه) لا يتخلى عنه ويتركه للأعداء.
قال: فيقول المسلمون: لا والله ما نخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم، فينهزم- يعني من المسلمين- ثلثٌ لا يتوب الله عليهم أبداً، ويقتل ثلثٌ هم أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث لا يفتنون أبداً.
ثلث جيش المسلمين الباقي لا يفتنون أبداً إذا صارت الموقعة عند مرج دابق بين حلب وأنطاكية ، وسيتوجه المسلمون بعد كسر جيش النصارى إلى القسطنطينية فيفتحونها.
فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون -معنى ذلك أنه سيكون القتال بالسيوف- إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم، والمسيح المقصود به هنا المسيح الدجال، فيخرجون، وذلك باطل فإنه لم يخرج الدجال بعد، ولكن الشيطان لا يريد أن يدع المسلمين يفرحون بالنصر، يريد أن ينغص عليهم، فيقوم المسلمون ويأخذون السلاح ويستنفرون بسرعة للقاء الدجال وحربه.
قال: فإذا جاءوا الشام يخرج الدجال حقيقةً وصدقاً، فبينما هم يعدون للقتال ويسوون الصفوف استعداداً للمعركة الفاصلة مع الدجال -لأنه قد تم القضاء على النصارى عسكرياً، وبقي الآن القضاء على اليهود وقائدهم الدجال- فينزل عيسى ابن مريم فإذا رآه عدو الله هرب، فإذا أدركه ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لذاب حتى يهلك، ولكن يقتله بيده، فيريهم دمه في حربته، فيكون إذاً قتل المسيح الدجال على يد المسيح ابن مريم، وينهي مسيح الهداية مسيح الضلالة ويقضي عليه.
فالدجال يعلم بأن عيسى سينزل، ولذلك لما تقابل مع تميم الداري في الجزيرة التي في البحر، أخبرهم عن أشياء يعلمها وكيف سيخرج في الأرض.
فإذا خرج الدجال ومعه الفتن، انبعث له عيسى ابن مريم والمؤمنون، وهذا الانبعاث قد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر خروج الدجال، قالت أم شريك يا رسول: فأين العرب يومئذٍ؟ قال: (العرب يومئذٍ قليل).
فإذاً: العرب سيقلون في آخر الزمان (ولا تقوم الساعة حتى يكون الروم أكثر الناس) والعرب قليل إمامهم رجلٌ صالح وهو المهدي عليه السلام من نسل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح) هذه الصلاة المفسرة لما أجمل، فالمسلمون في حالة استنفار وتجميع وتسوية صفوف مع المهدي، وهو أمير الجيش وقائده، يستعدون لقتال الدجال، وحين يجتمعون لصلاة الصبح ينزل عيسى ابن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق ، فيرجع ذلك الإمام يمشي القهقرى حين يرى نزول عيسى، لكي يكون عيسى هو الإمام (فيضع عيسى عليه السلام يده بين كتفيه، ثم يقول له: تقَدِّم فصلِّ، فإنها لك أقيمت، فيصلي بهم إمامهم) وهذا كرامة من الله لهذه الأمة، أن واحداً من نسل النبي عليه الصلاة والسلام يصلي إماماً وعيسى وراءه، وعيسى نبي وهذا ليس بنبي، إكراماً من الله لهذه الأمة، قال: (فإذا انصرف قال عيسى عليه السلام: افتحوا الباب) فيفتحون على البلد الذي فيه الدجال واليهود معه: (فيفتح ووراءه الدجال ومعه سبعون ألف يهودي كلهم ذو سيف محلى وساج، فإذا نظر إليه الدجال، ذاب كما يذوب الملح في الماء) هذا الدجال الذي معه جنة ونار وبستان، ونهر خبز، ونهر لحم، وأنه يبعث في الأرض الحياة، ويأمر السماء تمطر فتمطر، ويأمر كنوز الأرض أن تتبعه فتتبعه، هذا هيّن على الله، ولذلك أول ما يرى عيسى يذوب، كل هذا الكلام يذهب وينطلق هارباً، فيدركه عند باب اللد الشرقي فيقتله، فمكان قتل الدجال معين عند الباب الشرقي لمدينة اللد في أرض فلسطين المعروفة الآن، فيهزم الله اليهود ولا يبقى شيءٌ مما خلق الله يتوارى به يهودي إلا أنطق الله ذلك الشيء.
هذه هي نهاية الدجال، وهذا هو عيسى عليه السلام وهو يقتل الدجال.
نزوله علمٌ للساعة قبل يوم القيامة عند المنارة البيضاء في دمشق ، قال عليه الصلاة والسلام مشتاقاً للقيا عيسى وموصياً أمته من بعده ونحن منهم: (إني لأرجو إن طال عمرٌ أن ألقى عيسى ابن مريم، فإن عجل بي موتٌ فمن لقيه منكم، فليقرئه مني السلام) أي: من منا يدرك زمن عيسى فليبلغ عيسى السلام من النبي عليه الصلاة والسلام. رواه الإمام أحمد .
هذا عيسى ابن مريم ينزل ويعيش في الأرض بعد قتل الدجال.
أولاً: كسر الصليب، واستئصال عبادة النصرانية ، والقضاء على دين النصارى قضاءً مبرماً، وليس فقط هزيمة عسكرية، بل حتى الدين نفسه يزول.
ثانياً: يقتل الخنزير، فيستأصل الخنازير.
ثالثاً: يقاتل الدجال وأعوانه من اليهود.
رابعاً: يقتل من بقي من اليهود حتى لا يجد أحدٌ منهم ملاذاً يتجه إليه، فيتم القضاء على اليهود.
خامساً: لا يقبل إلا دين الإسلام، وتكون الكلمة واحدة، ولا يعبد إلا الله وما يبقى دين كافر في الأرض إطلاقاً، فقط الإسلام هو الذي يبقى.
سادساً: مواجهة يأجوج ومأجوج بعد ذلك، وانتهاء حكم الجهاد في عصره، لأنه لا يوجد كفر ولا كفار في عصر عيسى، وبعد أن تنتهي العمليات الجهادية وتضع الحرب أوزارها والإسلام في الأرض لا يوجد جهاد.
سابعا: يؤم المسلمين بعد أن يصلي وراء إمام المسلمين، ويحج من فج الروحاء متجهاً إلى مكة ، وسيدعو إلى القرآن والسنة، فينتهي الحقد في عهده، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد.
وتكون البركة في الثمار، وتزول العداوة حتى بين الإنسان والحيوان، وينتشر السلم في الأرض، فالسلام الذين يسمونه السلام العالمي لن يحقق إلا في عهد عيسى عليه السلام.
ولن يوجد فقيرٌ واحد، وستترك الزكاة، لأنه لا يوجد أحد يأخذ الزكاة أصلاً، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى ينزل عيسى حكماً مقسطاً وإماماً عدلاً) وقال: (والذي نفسي بيده ليهلن ابن مريم من فج الروحاء حاجاً أو معتمراً أو ليثنينهما) فقوله صلى الله عليه وسلم: (ليهلن) يعني: ليرفعن صوته بالتلبية قائلاً: لبيك اللهم لبيك محرماً بحجٍ أو عمرة (أو ليجمعن بين الحج والعمرة معاً) وفج الروحاء مكان في الطريق بين المدينة إلى بدر على بعد ستة أميال منها، وكذلك يصبح هو إمام الصلاة مع قيامه بأعباء الإمامة العظمى للمسلمين، ويموت المهدي عليه السلام بعد أن يمكث سبع سنوات، ويصلي عليه عيسى والمسلمون، ثم يكون عيسى في هذه الأمة هو الإمام، وهو الذي يقودها.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال الكذاب) وقال صلى الله عليه وسلم: (أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبي وإنه نازلٌ، فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجلٌ مربوع إلى الحمرة والبياض، سبطٌ كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل بين مخصرتين).
فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ويعطل الملل حتى تهلك في زمانه كلها غير الإسلام، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال، ويعم الأمان الأرض حتى ترتع الإبل مع الأسد جميعاً، والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان والغلمان بالحيات لا يضر بعضهم بعضاً، فيمكث ما شاء الله أن يمكث، ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه.
فإذاً ستكون النهاية بوفاة عيسى عليه السلام ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه، كم سنة يمكث؟
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سيمكث في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون).
وحين ينزل عيسى فإن أي كافر على مرمى بصر عيسى يستنشق نفسه ويموت في مكانه، قال: (فلا يحل لكافرٍ يجد نفسه إلا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، ثم يأتي عيسى قوماً قد عصمهم الله من الدجال، فيمسح من وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة) وهذا من علم الغيب، والله يوحي لعيسى بخبر فلان وفلان وفلان من المسلمين الذين هربوا من فتنة الدجال، فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة.
انتهت قضية الدجال، ثم قال: (فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى عليه السلام أني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحدٍ بقتالهم) لا قدرة ولا استطاعة ولا قوة لأحد من البشر بقتال هؤلاء، وهم يأجوج ومأجوج، ما هي الأوامر الإلهية لعيسى؟ الاتجاه إلى أين؟ قال: (فاحرز عبادي إلى الطور ) خذ المسلمين إلى جبل الطور وتحصنوا هناك. (ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية ، فيشربون ما فيها ويمر آخرهم فيقولون: لقد كان بهذه مرةً ماءٌ، ويحصر نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه) لأنه من كثرة يأجوج ومأجوج ولا قدرة على قتالهم سيبقى عيسى مع المسلمين محاصرين في جبل الطور (حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينارٍ لأحدكم اليوم -ويصبح في شدة وجوع- فيرغب نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه إلى الله تعالى فيرسل الله عليهم- يعني : على يأجوج ومأجوج- النغف- مثل الدود التي تكون في أنوف الغنم- في رقابهم فيصبحون فرسى (هلكى) كموت نفسٍ واحدة) موت شامل جماعي في وقت واحد كموت نفس واحدة. (ثم إن المسلمين يقولون: من يعرف لنا الخبر؟) لأنهم محاصرون في الطور لا يعرفون ما الخبر، فيوطن أحد من المسلمين نفسه على أنه ميت، فيقول المسلمون: ألا رجلٌ يشري لنا نفسه، فينظر لنا ما فعل العدو، يعني: يضحي بنفسه: (فيتجرد رجلٌ منهم لذلك محتسباً لنفسه على أنه مقتول، فيخرج ليتحرى الخبر فيجدهم موتى- بعضهم على بعض، فينادي: يا معشر المسلمين! ألا أبشروا، فإن الله قد كفاكم عدوكم، فيخرجون عن مدائنهم وحصونهم).
فيكون هناك حصون أو مستعمرات أو مدائن فيها المسلمون مع عيسى متحصنين في جبل الطور ، فيخرجون عن مدائنهم وحصونهم، ويسرحون مواشيهم، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم يهبط نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبرٍ إلا ملأه زهمهم ونتنهم -من رائحة يأجوج ومأجوج وجثثهم المتعفنة- فيرغب نبي الله عيسى عليه السلام إلى الله بالدعاء لتخليصهم من الكرب الموجود- فيرسل الله طيراً كأعناق البخت فتأخذهم فتطرحهم حيث شاء الله) طيور عظيمة يرسلها الله فتأخذ جثث يأجوج ومأجوج وترميها في البحر.
ثم يبقى في الأرض أوساخ، قال: (ثم يرسل الله مطراً لا يُكِنُّ منه بيت مدر ولا وبر) مطر يخترق جميع السقوف، لا توجد عوازل مائية تصمد أمامه (فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة- مثل: المرآة- ثم يقال للأرض أنبتي ثمرك وردي بركتك).
وعندما يكون عيسى في الأرض أربعين سنة عند ذلك لا يعبد إلا الله، والعصابة التي تكون معه من المسلمين يحرزها الله من النار، أي: يحرمون على النار، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (عصابتان من أمتي أحرزهما الله تعالى من النار، عصابة تغزو الهند ، وعصابة تكون مع عيسى ابن مريم عليه السلام) أخرجه النسائي والحديث إسناده صحيح، ويكون العيش في غاية الطيب، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (طوبى لعيشٍ بعد المسيح، يؤذن للسماء في القطر، ويؤذن للأرض في النبات، حتى لو بذرت حبك على الصفا لنبت) لو رميت الحب على الصخور الصماء أنبتت (وحتى يمر الرجل على الأسد فلا يضره، ويطأ على الحية فلا تضره، ولا تشاح، ولا تحاسد، ولا تباغض).
هذه ستكون النهاية بالنسبة لقصة عيسى عليه السلام، ثم يموت حقيقة ويصلي عليه المسلمون، وبعد ذلك يرسل الله ريحاً تقبض أرواح المؤمنين، وتخرج أجيال بعد ذلك لا تعرف معروفاً ولا تنكر منكراً، ويعم الكفر الأرض، وتقوم الساعة على شرار الناس.
وقد يرد هذا السؤال: قال الله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55] فكيف يقال: إنه لم يمت؟
للإجابة على هذا عدة مسالك منها:
المسلك الأول: أن في الكلام تقديمٌ وتأخير والتقدير: إني رافعك إلي ومطهرك، ثم تنزل، ثم إني متوفيك.
المسلك الثاني: وهو قويٌ: أن (متوفيك) معناها قابضك وحائزك، فإن العرب تقول: توفيت ديني من فلان، يعني: قبضته وأخذته، فمتوفيك ليس معناها: أنزع روحك من جسدك، وإنما متوفيك أي: حائزك إليّ ورافعك وقابضك، وسآخذك إليَّ بروحك وجسدك، لأن توفى معناها أخذ، واستوفى الدين يعني: أخذ الدين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر