إن منزلة العلماء في الإسلام عظيمة، وما ذاك إلا لأثرهم العظيم على الناس، فكم من جاهل أرشدوه! وكم من تائه دلوه! وكم من مترد من أوحال الكفر انتشلوه! فهم جدار الحماية وصمام الأمان لهذه الأمة، وإنَّ فَقْدَ الواحد منهم ثلمة لا تجبر، ومن هؤلاء العلماء الشيخ/ محمد بن صالح العثيمين، وفي هذا الدرس عرض لبعض المواقف من حياته وجنازته، ثم قصيدة رثاء لفقده، وتنبيه أهمية التأسي به والاستفادة من مؤلفاته وكتبه.
عباد الله: إن العلم قبل القول والعمل، قال تعالى:
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19] ..
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32] والوارث قائم مقام الموروث، فله حكمه فيما قام مقامه، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر.
فالعلماء أصحاب النصيب الوافر، وأصحاب الحظ العظيم الكامل، هؤلاء الذين سهل لهم طريقاً في الآخرة وطريقاً في الدنيا، بما وفقهم إليه من الأعمال الصالحة، وقد جاءت البشائر بفضلهم، وهم أهل الخشية، وليسوا أهل الترخيص والتسهيل، هم أهل الكتاب والسنة، وليسوا أهل التحجر والتعصب والتقليد الأعمى، هؤلاء هم أهل السنة ، وليسوا بأهل البدعة، فيموت من أهل البدعة رأس ويموت من أهل السنة رأس، ويشاء الله ذلك، لكن ليعلم أهل الإخلاص والدين والسنة، من هم أهل العلم حقاً.
عباد الله: إنه قد يشتهر كثير من الناس لكن الذين يخشون الله، ويعلمون الناس الدين يختلفون عن حال أولئك الذين تفخمهم وتعظمهم تلك الوسائل.
أيها المسلمون: إن الذي يريد أن يعرف العالم حقاً، فلينظر إلى مكانة دينه وقوته في أمر الله، وإنكاره للمنكر، ولينظر إلى نصحه للمسلمين، وليس إلى التساهل والترخيص المقيت.
-
حقوق العلماء على المسلمين
عباد الله: إن لهؤلاء علينا حقوقاً ولا شك؛ في أمور كثيرة:
الطاعة لهم
إن طاعة العلماء عبادة، وقد ذكر أهل التفسير أن أهل العلم من أولي الأمر الواجب طاعتهم، وهم شهداء الله في أرضه، والأمناء على وحيه، وأهل خشيته، وهم الأنوار في الظلمات، والمنائر في الشبهات، وهم ورثة الأنبياء، هم الذين أبانوا الحق للناس، وهم الذين صمدوا في الفتن، فلنذكر صبر الإمام
أحمد رحمه الله تعالى وإبانته الحق للناس، وهكذا صمد
ابن تيمية رحمه الله أمام التتر وقاد الأمة للجهاد، وهكذا جدد
محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الدين يوم كانت الدنيا تمتلئ شركاً وقبوراً، وهكذا سار أهل العلم يجددون فقه
الشافعي رحمه الله، وفقه عالم
المدينة مالك ، وهكذا من قبل ومن بعد علماء كثر.
إن مثل العالم في البلد كمثل عين عذبة يردها الناس فيستقون منها، هؤلاء أهل العلم الصحيح من الكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لا من البدع والترهات، ولا من الشرك والكفر، هؤلاء أهل الإخلاص في طلبه وتبليغه للناس، ليسوا بأهل دنيا، ولا جماعون للأموال، ولا مرتادون للفارهات، إنما هم أهل الزهد والخشية، الذين كانت سيرتهم في أنفسهم دليلاً على خشيتهم لربهم، هؤلاء الأعزة الذين علموا الناس دين الله، وكانوا كثيراً ما يستخفون من الناس، ولكن الله سبحانه وتعالى يظهر فضلهم ومواقفهم، هؤلاء أهل التواضع الذين لو كثر الناس من حولهم فلا يحملهم ذلك على الترفع والتكبر، هؤلاء أهل الحق الذين يجانبون الهوى، فلا تميل بهم الأهواء.
قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] هؤلاء الذين يتكلمون بالعلم لا بالظن، فإذا جاءوا إلى مسألة لا يعرفونها، قال الواحد منهم: لا أدري، وتوقف عن الفتيا، ومن هو في العلم؟ جبل عظيم.
تحريهم والأخذ بفتواهم
أيها المسلمون: لذلك كان حقيقاً على كل واحد منا أن يتحراهم، ويتتبع أخبارهم، ويأخذ من عملهم، ويستفتيهم، ويلجأ إليهم في مسائله وفتاواه، هؤلاء الذين لا يخفون على أهل البصيرة، أما أهل الجهل والبسطاء، فيظنون كل من لبس لباساً معيناً عالماً، ويظنون أن كل من أظهر إظهاراً معيناً فقيهاً، ولذلك فإن المسألة بحق تحتاج والله إلى فقه وبصيرة حتى من قبل العامة، فيا من يلجئون إليه للاستفتاء والسؤال! هذا دين أمانة، ولذلك ينبغي على المسلمين أن ينقبوا تنقيباً عن أهل العلم، ولو سافروا إليهم، ولو وقفوا الساعات الطويلة على هواتفهم وأبوابهم، هؤلاء الذين يعتمد طلبة العلم عليهم.
من هو العالم الذي نسأله؟ من هو العالم الذين نستفتيه؟
التأدب معهم في جميع المعاملات
العلماء الواجب نحوهم الأدب، ولذلك فإنه يتلطف في سؤالهم، ولا يضرب بأقوال بعضهم البعض، ولا يحمل الإنسان التعنت على مجادلتهم والمشقة عليهم، هؤلاء الذين ينبغي أن يتلطف معهم غاية التلطف عند توجيه الأسئلة، هؤلاء الذين ينبغي على الإنسان أن يعمل بفتواهم ويجانب الهوى، وليس أن يتتبع الرخص، ويسأل عن الأسهل.
هؤلاء -أيها الإخوة- ينبغي أن يكون لنا معهم موقف شرعي في عدم الغلو بهم، وعدم جفائهم وترك الأدب معهم، وإنما هو أدب معهم، وإنزال لهم منازلهم، حق العالم على الإنسان أعظم من حق الوالد.
ستر أخطائهم وعيوبهم
حفظ لحومهم
وكذلك تحرم غيبتهم جداً، ولحومهم مسمومة، وعادة الله في الانتقام من شانئيهم معلومة، وهكذا ينبغي علينا أن نسعى في نشر علمهم، وهذا هو المكسب يا عباد الله؛ العلم ونشره، فإن نشر العلم من الصدقات الجارية، ولو لم تكن صاحب علم، فإذا نشرت كتاباً أو وزعته أو صورت فتوى، ونحو ذلك من العلوم، كان لك من الأجر مثل أجر من انتفع بها، فاحرص يا عبد الله على نشر العلم، فإنها من الصدقات الجارية.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أهل الفقه في الدين، وأن يرزقنا اتباع طريق سيد المرسلين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، اللهم فقهنا في ديننا يا رب العالمين، واجعلنا من أهل الإخلاص لا من أهل الهوى، إنك سميع مجيب قريب، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30] قوموا فلنمت على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلك العبارات العظيمة، تلك الآية العظيمة والقاعدة الجليلة التي لأجلها وعليها استمر الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
-
الحث على الاستفادة من مؤلفات الشيخ ونشرها
أيها المسلمون: إن عزاءنا في فقده علمه الذي تركه، فهو الذي ينبغي الاستفادة منه، ونشره، مع نشر فتاوى أهل العلم، خصوصاً في هذه القضايا المعاصرة التي تكلموا فيها ولا توجد في كتب الفقه من قبل.
أيها المسلمون: إننا ولله الحمد نعتقد اعتقاداً جازماً بأن ما عند الله خيرٌ للأولياء المتقين مما في الدنيا، وهذا الذي يخفف المصاب، وإننا لنعتقد أن الله لا يضع دينه، وأن الله جاعلٌ في هذه الأمة خيراً، وأن الله سبحانه وتعالى لا بد أن يقيض لهذه الأمة من يرفع شأن الدين، ولا يزال في هذه الأمة طائفةٌ منصورة ظاهرة على الحق، لا يزال في هذه الأمة مجتهدٌ وقائمٌ لله بالحجة، وإنها لفرصة أن نذكر أعداء الدين من المنافقين أن عناية الله بالدين مستمرة، وأنهم لا يصح لهم أن يفرحوا، وإنما هو مسلسل مستمر، وأن السيد سيخلف السيد إن شاء الله، وأن الله سبحانه وتعالى ما أنزل دينه إلا ليستمر، وأنه لا يخلو الزمان من إمام قائم لله بالحجة، وإننا في الوقت الذي نقدر فيه خطورة الموقف بتوالي ذهاب العلماء، وخصوصاً الثلاثة الكبار الذين رحلوا عنا، عبد العزيز بن باز ، ومحمد ناصر الدين الألباني ، ومحمد بن الصالح العثيمين ، فإننا في الوقت نفسه نؤكد على أن العلم لا بد أن يستمر مشواره، وأنه لا بد أن تبذل الأوقات من أجله، وأنه لابد أن يحرص على طلبه.
أيها المسلمون: إننا نريد أن نوجه عواطفنا توجيهاً إيجابياً لأجل إنقاذ العلم واستمراره والحرص عليه.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من أهل العلم الحريصين عليه، وأن يجعلنا من المستفيدين من فتاوى أهله، وأن يجعلنا من الذين ينشرونه.
اللهم ارحم الشيخ محمداً ، وارفع درجته في المهديين، وأخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، واجزه عن الإسلام وأهله خير الجزاء.
اللهم انفع بعلمه وفقهه، واجزه به الجزاء الأوفى، اللهم اجعله مع الرفيق الأعلى، اللهم اجعله مع الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، اللهم إنا نسألك أن تغيث هذه الأمة غوثاً عاجلاً يا رب العالمين!
اللهم انصر أهل العلم والجهاد، واقمع أهل البدعة والفساد، اللهم من أراد إفساد ديننا، فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.