إسلام ويب

ليث المشاهدللشيخ : بندر العتيبي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن للذل ضريبة كما أن للكرامة ضريبة، ولكن ضريبة الذل أفدح في كثير من الأحايين، وإن كانت بعض النفوس الضعيفة يخيل إليها أن للكرامة ضريبة باهظة لا تطاق، فتختار الذل والمهانة هرباً من هذه التكاليف الثقال. مع هذا الذل الذي سامنا إياه إخوان القردة والخنازير، نقف وقفة مع رجل بألف رجل، لا بل والله أمة في رجل، إنه سيف الله تعالى المسلول!

    1.   

    قصيدة تصف حال المسلمين في الماضي

    يا أمتي كنا شعاع هدايةٍ     للناس بالدنيا لها أنوار

    كنا نسير فحيث سرنا أمة     تحكي بها الآمال والأعمار

    كنا على الأيام صـوت مؤذنٍ     فرحت به الأنصار والأسحار

    كنا هطيل الغيث ما سُقيت بنا     أرضٌ فماتت بعدنا الأزهار

    كنا حماة العـدل فاسأل ضدنا     يخبرك أنا أمةٌ أبرار

    سل كل أرضٍ قد وطئنا أرضها     ستجيبك الأمجاد والآثار

    سل سيف خالد عن مآثرنا التي     غنى بها سعد كذا عمار

    سل عن معاركنا التي ما صاغها     كذبٌ وما حملت بها أفكار

    سل عن حنين وسل عن اليرموك ما     دوى بها نذل ولا خوار

    لكن عار العار مزق صمتنا     فإلى متى يقضي علينا العار

    ما عدت أجزم أننا من أمةٍ     تاهت بها الأمجاد والأقمار

    الذل خيم فانهضي يا أمتي     إن الأسود تغير حيث تثار

    يا أمتي طال السبـات فأيقظي     معنى الرجولة إننا أحرار

    يا مسلمون وضج في قلبي الأسى     وتقاتلت في داخلي الأمرار

    يا مسلمون وفي فؤادي حسرةٌ     لا يحتويها داخلي إضمار

    يا مسلمون ودمعـتي قد فتقَّت     صبري وجرحي نازفٌ موار

    يا مسلمون ومـا عساي أقول في     عصرٍ يسيرنا بنا به التيار

    يا مسلمون وألف بيتٍ في دمي     ما صغته ستصوغه الأشعار

    لو كان فينا مؤمنٌ متوثقٌ     ما ساد فينا الشر والأشرار

    لو كان فينا من بقايا خالد     بعض الأسود لهابنا الكفار

    يا ليل حدث عن بقايا أمةٍ     مملوكة يغتالها استعمار

    تجري بها الأيام حبلى بالمنى          في عالمٍ أحلامه تنهار

    يا ليل سوف تزول هذا وعدنا     من ربنا وستورق الأشجار

    يا رب إنا قد أتينا نشتكي     ظلماً وأنت الواحد القهار

    1.   

    حقيقة العزة والهلاك

    أيها المسلمون: عن طارق بن شهاب قال: خرج عمر بن الخطاب إلى الشام ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فأتوا على مخاضةٍ وعمر على ناقةٍ له، فنزل عنها وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض بها المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين! أنت تفعل هذا، تخلع خفيك وتضعهما على عاتقك وتأخذ بزمام ناقتك، وتخوض بها المخاضة، ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك، فقال عمر: [أوه! لو يقول ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالاً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، إنا كنا أذل قومٍ فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العزة بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله].

    عن أسلمة أبي عمران التجيبي قال: كنا بـمدينة الروم، فأخرجوا إلينا صفاً عظيماً من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس، وقالوا: سبحان الله! يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب فقال: يا أيها الناس! إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعضٍ سراً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم يرد علينا ما قلنا: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195] فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو، فما زال أبو أيوب شاخصاً في سبيل الله حتى دفن في أرض الروم.

    الله أكبر! إن الجهاد في سبيل الله والعزة قرينان لا ينفصمان: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8] قال صلى الله عليه وسلم: (إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، وتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله أدخل الله تعالى عليهم ذلاً لا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم) وفي رواية: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم).

    1.   

    ضريبة الذل

    أيها الناس: إن للذل ضريبةً كما أن للكرامة ضريبةً، وإن ضريبة الذل لأفدح في كثيرٍ من الأحايين، وإن بعض النفوس الضعيفة ليخيل إليها أن للكرامة ضريبةً باهظةً لا تطاق، فتختار الذل والمهانة هرباً من هذه التكاليف الثقال، فتعيش عيشةً تافهةً رخيصةً مفزعةً قلقةً، تخاف من ظلها، وتفرق من صداها، تؤدي ضريبة الذل كاملةً، تؤديها من نفسها، من سمعتها، تؤديها من قدرها، تؤديها من اطمئنانها، وكثيراً ما تؤديها من دمها وأموالها وهي لا تشعر، وأشرب الناس الذل، ولا مزيد على ما نشاهده من الذل اليوم في عصرنا هذا.

    نشر في الجرائد صورة وزير يهودي في الحكومة اليهودية يدخل إلى الجامع الأزهر كسائح، ويبلغ به الصلف والكبر ألا ينحني ليفك رباط حذائه، ويركع تحت قدميه شيخٌ معمم ممن يعملون بالمسجد ليفك له الرباط، وهذا غيضٌ من فيض، ناهيك عمن باعوا فلسطين ممن ساموا أهل فلسطين سوء العذاب، فالذل يصبحهم ويمسيهم، وقد ألفوه قاتلهم الله! والجزاء من جنس العمل، فهذا جزاء من يوالي أعداء الله من اليهود والنصارى، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].

    اليوم عادت علوج الروم فاتحةً     وموطن العرب المسلوب والسلب

    ماذا فعلنا غضبنا كالرجال ولم     نصدق وقد صدق التنجيم والكتب

    فأطفأت شهب الميراج أنجمنـا     وشمسنا وتحدت نارها الخطب

    وقاتلت دوننا الأبواق صامـدةً     أما الرجال فماتوا ثم أو هربوا

    تنسى الرءوس العوالي نار نخوتها     إذا امتطاها إلى أسياده الذنب

    وما تزال بقلبي ألف مبكيةٍ     من رهبة البوح تستحي وتضطرب

    يكفيك أن عدانا أهدروا دمنا     ونحن من دمنا نحسو ونحتلب

    1.   

    وقفة مع أبي سليمان خالد بن الوليد

    أيها الناس: ومع هذا الذل الذي يصبحنا ويمسينا به إخوان القردة والخنازير، أقف وقفةً مع رجلٍ عن ألف رجلٍ، لا. بل والله أمةٌ في رجل، إنه سيف الله تعالى، وليث المشاهد، السيد الإمام الكبير، قائد المجاهدين، أبو سليمان خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه.

    إن الكلام عن هذا البطل يحتاج إلى ساعاتٍ وساعات، لكنني هنا أقف على مشاهد سريعةٍ لعلها أن تثير فينا جوانب العزة والشموخ والاستعلاء، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

    موقفه في مؤتة

    في مؤتة وكانت أول معركةٍ يشترك فيها خالد بعد إسلامه، بعد قتل قادة الجيش الثلاثة، وانكشاف صف المسلمين، دفع ثابت بن أقرمة اللواء إلى أبي سليمان خالد قائلاً: خذ اللواء يا أبا سليمان ! فأنت أدرى بالقتال مني، والله ما أخذته إلا لك.

    وقد كانت خطة انسحاب خالد بالجيش رائعةً، فقد قام بتبديلٍ كلي في الميمنة والميسرة وفي القلب من جيشه، كل ذلك في ظلام الليل، ثم أبقى ساقةً تحمي الانسحاب، نشر هذه الساقة ليحتل فرسانها مساحةً شاسعة من الأرض، وأمرهم أن يحدثوا أصواتاً مرتفعة، وإثارة الغبار بالخيل تدور بسرعةٍ، كل هذا ليدخل في نفوس قادة الروم ويوهمهم أن جيشاً كبيراً، ومدداً كبيراً قد جاء لجيش المسلمين.

    ودب الرعب والفزع في نفوس الروم، وسادهم الهرج والمرج، ولسان حالهم يقول: إذا كان ثلاثة آلاف قد فعلوا بالرومان هذه الأفاعيل طيلة الأيام الستة، فما عساهم فاعلين بعد مجيء هذا المدد؟ وأدرك خالد بحس القائد المحنك ما أصاب الرومان وحلفاؤهم من خوفٍ ورعبٍ نتيجة خدعته الحربية البارعة المحكمة، فاغتنمها فرصةً، فأمر في الحال بالهجوم على خطوط الرومان، وبأسلوبٍ عامٍ صاعقٍ كاسحٍ، فتم له ما أراد، وتضعضعت خطوط الروم الأمامية، وركبهم المسلمون وأحدثوا فيهم مقتلةً عظيمة، حتى قال البطل: [لقد انقطعت في يدي يوم مؤتة تسعة أسيافٍ فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية] لله درك يا خالد! تسعة أسيافٍ تتكسر في يدك، ومن أولى منك بهذا.

    أناضل عن دينٍ عظيـمٍ وهبته     عطاء مقلٍ مهجتي وحياتيا

    وممتثلٌ لله أسلم وجهه     يقول أنا وحدي سأحمي دينيا

    وخالدٌ سيف الله أسـلم وجهه     يقول أنا وحدي سأحمي دينيا

    بظهري ببطني بالـذراع بمقلتي     بجنبي بعظم الصدر حتى التراقيا

    فلم أر يوماً كالتقدم لذةً     ولم أر عيشاً كالتقدم هانيا

    على ذروة التوحيد تخفق رايتي     وتحت روابيها تصب دمائيا

    وأنسحب الجيش الإسلامي بكل هدوءٍ وضبطٍ وانتظام، وذهل الروم أمام هذه المفاجأة والخدعة الحربية البارعة، وما استطاعوا أن يتعقبوا المسلمين أثناء انسحابهم مسافة ستمائة ميل، حتى وصل الجيش سالماً إلى المدينة.

    ثم علم المسلمون بعد قدر تضحية خالد وبذله، وأن انسحاباً كهذا كان من الاستحالة بمكان، ولكن لا مستحيل على القلب الشجاع، ومن أشجع من خالد قلباً، وأروع عبقريةً، وأنفذ بصيرة وصدق صلى الله عليه وسلم -وهو الصادق المصدوق- في حديثه عن مؤتة : (ثم أخذها سيفٌ من سيوف الله، ففتحها الله تعالى على يديه).

    لقد كان خالد موضع ثقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت له قابليات نادرةٌ في القيادة العسكرية خاصةً لا يجود بها الزمان إلا نادراً، فلا عجب أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه: (نعم عبد الله وأخو العشيرة، وسيفٌ من سيوف الله سله الله على الكفار والمنافقين).

    هذا البطل أرسله الصديق لحرب المرتدين، فشفى واشتفى، ولم يقم مقامه أحدٌ في منازلة أهل الردة والقضاء عليهم.

    من مواقفه في قتال الفرس

    أيها الناس: كلماتٌ من خالد للحياة: العزة العزة يا أهل الإسلام! كاظمة ميدان المعركة الأولى مع الفرس، وفيها كان قائد قوات الفرس هرمز ، أرسل إليه خالد رسالة خالدةً قبل المعركة، وفيها: [أما بعد: فأسلم تسلم، أو اعتقد لنفسك أو لقومك الذمة، وأقر بالجزية، وإلا فلا تلومن إلا نفسك، فقد جئتك بقومٍ يحبون الموت كما تحبون شرب الخمر].

    وفي هذه المعركة دعا هرمز للبراز، وسرعان ما أجابه خالد فتمكن منه في الحال وذبحه ذبح النعاج، وركن الفرس إلى الفرار بعد قتل قائدهم، فركب المسلمون أكتافهم يقتلون ويأسرون إلى الليل، ونفل أبو بكر خالداً قلنسوة هرمز، وكانت قيمتها مائة ألفٍ.

    نعم. إنه الإسلام الذي رفع من شأن أولئك الرجال، فصنع بهم أمجاداً وتاريخاً وبطولاتٍ، وقد كانوا من قبله حفاةً عراةً رعاةً لا شأن لهم في الأرض، ولا ذكر لهم في السماء.

    معركة أو نهر الدم: الجولة الرابعة بين خالد والفرس، صبر الفرس في هذه المعركة صبراً شديداً، وقد تحالف معهم نصارى العرب، ولقي المسلمون مقاومةً عنيفة حتى شق عليهم الأمر، ونذر خالد لله أن يجري نهراً من دمائهم إن منحه الله النصر عليهم، فقال: [اللهم إن لك عليَّ إن منحتنا أكتافهم ألا أستبقي منهم أحداً قدرنا عليه حتى أجري نهرهم بدمائهم] وانتاب الفرس والنصارى الذعر والخوف عندما رأوا ثبات المسلمين وشدة ضرباتهم وركنوا إلى الفرار، ونادى منادي خالد حتى يفي بنذره: الأسر الأسر، لا تقتلوا إلا من امتنع، فأقبلت خيول المسلمين بهم أفواجاً مستأسرين، يساقون سوق الأنعام، فجمعهم خالد فضربت أعناقهم على النهر، فجرى النهر بدمائهم فسمي لذلك نهر الدم، وعرف بذلك إلى قرونٍ طويلة، وزف خبر النصر إلى الصديق فتوج خالداً بشهادةٍ من أرقى الشهادات، وحسبك بها من شهادةٍ، فهو لا يرى لـخالد نظيراً في عبقريته وشجاعته، ولا نظير له في عسكريته، قال الصديق في خالد وهو يخطب في الناس بعد هذا النصر: [يا معشر قريشٍ! عدا أسدكم على الأسد فغلبه على خراديله، أعجزت النساء أن ينشئن مثل خالد ؟!] رضي الله عن خالد، فقد هابه الفرس هيبةً شديدةً، وكان خالد إذا نزل نزل عذاباً من الله عليهم وليثاً من الليوث.

    من مواقفه في قتال الروم

    خالداً لها [والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بـخالد بن الوليد] كلماتٍ عطرة قالها الصديق عن خالد حين اشتد الكرب على المسلمين، وذلك لكثرة حشود الروم وحلفائهم الهائلة التي بلغت ربع مليون مقاتل، بينما جيوش الإسلام كلها لا تزيد عن اثنين وثلاثين ألفاً.

    أمره الصديق بترك العراق والتوجه إلى الشام مدداً للمسلمين هناك، فمر خالد في طريقه بـتدمر فتحصنوا منه فأحاط بهم من كل جانب، وأخذهم بكل مأخذٍ فلم يقدر عليهم، فماذا قال لهم البطل؟ قال لهم: [والله لو كنتم في السحاب لاستنـزلناكم ولظهرنا عليكم، وما جئنا إلا ونحن نعلم أنكم ستفتحونها لنا، وإن أنتم لم تصارحوني هذه المرة لأرجعن إليكم وقد انصرفت من وجهي هذا، ثم لا أرتحل عنكم حتى أقتل مقاتلتكم وأسبي ذراريكم] ثم ارتحل عنهم فمضى، فبعثوا في إثر خالد فرجع إليهم ففتحوا له مدينتهم وصالحوه.

    فأي عزٍ عزك يا خالد؟! ترحل ماضياً عنهم فيرسلون إليك حتى ترجع ويصالحوك خوفاً منك ومن تهديدك، لله درك يا خالد! لا أحد أيمن منك، ولا يرى قومٌ وجه خالد قلوا أو كثروا إلا انهزموا أمامه، هذا قول ملك دومة الجندل: أكيدر:

    والفضل ما شهدت به الأعداء

    أيها الناس: قبيل بدء القتال في معركة اليرموك الفاصلة، طلب قائد الروم أن يبرز إليه خالد ليقول له بضع كلماتٍ، وبرز إليه خالد حيث تواجه جواديهما في الفراغ الفاصل بين الجيشين، وقال ماهان قائد الروم، يخاطب خالداً: قد علمنا أنه لم يخرجكم من بلادكم إلا الجهد والجوع، فإن شئتم أعطيت كل واحدٍ منكم عشرة دنانير، وكسوةً، وطعاماً، وترجعون إلى بلادكم وفي العام القادم أبعث إليكم بمثلها، فقال خالد: [إنه لم يخرجنا من بلادنا ما ذكرت، غير أنَّا قومٌ نشرب الدماء، وإنه بلغنا أنه لا دم أطيب من دم الروم فجئنا لذلك].

    الله الله يا خالد ! عز الإسلام يتكلم، لله درك كم خلدت هذه الكلمة: [إنا قومٌ نشرب الدماء، وإنه بلغنا أنه لا دم أطيب من دم الروم فجئنا لذلك].

    وهل سيقدر أحدٌ أن يقولها اليوم، إنهم يسلبون منهم كل شيء، ويتنادون بالجلوس على طاولة المفاوضات، بل ويهرولون إلى التطبيع مع اليهود، ألا شاهت تلك الوجوه وما تدعو إليه.

    أيها المسلمون: لما جاءت جموع الروم كالسيل والليل، وعندما اشتد هجوم الروم نادى خالد بثقةٍ: [يا أهل الإسلام! لم يبق عند القوم من الجلد والقتال والقوة إلا ما قد رأيتم؛ فالشدة الشدة، فوالذي نفسي بيده! ليعطينكم الله الظفر عليهم الساعة، إني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم].

    الله أكبر! ما أروع حسن الظن بالله القوي العزيز، وهكذا يربي الجهاد في سبيل الله الرجال.

    نعم. يربيهم على الصدق والإخلاص، على البذل والتضحية والتجرد، يربيهم على العزة والأنفة، يربيهم على صدق التوكل على الله الكبير المتعال، وصدق البطل في ظنه، وفض الله جموعهم، فقتلهم المسلمون في كل وادٍ وشعبٍ، ثم مضى البطل يتعقبهم في مطاردةٍ عميقة، وأشاعوا النكاية فيهم، وانتهت قصة الروم في أرض الشام: لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ [الروم:4].. وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21].

    إن معالم العزة في حياة هذا البطل كثيرة، بل حياته كلها عزةٌ.

    ففي أجنادين يومٌ من أيام خالد مع الروم، وقد انهزم الروم هزيمةً شديدةً، فلما رأى القبقلال قائد الروم ما صنع خالد وجيشه قال للروم: لفوا رأسي بثوبٍ، قالوا: لِمَ؟ قال: يوم بؤس لا أحب أن أراه، ما رأيت بالدنيا يوماً أشد من هذا. فاحتز المسلمون رأسه، وإنه لملففٌ، وانتهى خبر هذه الهزيمة إلى هرقل فنخب قلبه وأسقط في يده وملئ رعباً.

    من أقواله رضي الله عنه

    استمع يا رعاك الله! إلى أقوال هذا البطل، وما أشد شوق البلاد والعباد إلى مثل هؤلاء الأبطال، يقول: [ما من ليلةٍ يهدى إليَّ فيها عروسٌ أنا لها محبٌ، أو أُبشر فيها بغلامٍ أحب إليَّ من ليلةٍ شديدة الجليد، في سرية من المهاجرين، أُصبح بها العدو، فعليكم بالجهاد].

    أنت خيرٌ من ألف ألفٍ من القوم     إذا ما كبت وجوه الرجال

    أشجاعٌ! فأنت أشجع من ليثٍ     غضنفرٍ يذود عن أشبال

    أجوادٌ! فأنت أجود من سيـلٍ     غامرٍ يسيل بين الجبال

    أتدري -أيها المسلم- على ماذا يتحسر هذا البطل، وما هي المأساة في رأيه رضي الله عنه؟

    اسمع ماذا يقول وقد حضرته الوفاة، ودموعه تنهال من عينه، وهو متحسرٌ بموته على فراشه، يقول: [لقد شهدت كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي موضعٌ إلا وفيه ضربة سيفٍ أو طعنة رمحٍ أو رمية سهمٍ، ثم هأنذا أموت على فراش حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء] وقال: [لقد طلبت القتل مظانه فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي، وما من عملي شيءٌ أرجى بعد التوحيد من ليلةٍ بتها وأنا متترسٌ، والسماء تهلني، ننتظر الصبح حتى نغير على الكفار] ثم قال: [إذا متُ فانظروا إلى سلاحي وفرسي، فاجعلوه عدة في سبيل الله].

    الله أكبر! الله أكبر! إنه الجهاد في سبيل الله الذي يربي الرجال، كلماتٌ لا يجيد النطق بها في مثل هذا الموطن إلا مثل هذا الرجل، إن روح أبي سليمان وريحانه ليوجدان دائماً وأبداً حيث تصهل الخيل، وتلتمع الأسنة، وتخفق رايات التوحيد فوق الجيوش المسلمة.

    لكأني بفرسك جاءت لها صهيلٌ يصدح يقودها عبيرك وأريجك، هذه التي أوقفتها في سبيل الله، لكأني بها تسفح من مآقيها دموعاً غزاراً وكباراً، هل سيقدر فارسٌ أن يمتطي صهوتها بعد خالد ؟ وهل ستذلل ظهرها لأحدٍ سواه؟ إيه يا بطل كل نصرٍ، ويا فجر كل ليل، لقد كنت تعلو بروح جيشك على أهوال الزحف بقولك لجندك: [عند الصباح يحمد القوم السرى] حتى ذهبت عنك مثلاً، وهاأنت قد أتممت مسراك، فرضي الله عنك وأرضاك.

    حصانك في اليرموك يشرب دمعه     ويا لعذاب الخيل إذ تتذكر

    رفاقك في الأنبار شدوا سروجهم     لفقء عيون الفرس فالكل أعور

    وقولٌ بـقنسرين يشتاق ماجداً     إلى السحب مرقانا وللشرك ندحر

    سلوا قبقلال الروم لم لف وجهه     وحز له الأحناف رأساً يندر

    نقا لك للرومان عزٌ ورفعةٌ     وكم صير العملاق ماهان أحقر

    وإنا لشرب الدم نشتـاق دائماً     وطعم دماء الروم أشهى وأعطر

    ترددها الأجيال دوماً لـخالد     لآلئ عزٍ تبقى تبقى وتزهر

    إخواني: من تربى على هذه السير الخالدة، فسيذوق طعم العزة.

    لا تهيئ كفني يا عاذلي     فأنا لي مع الفجر مواثيق وعهد

    نعم. لنا الفجر الآتي مثلما كان لنا الماضي الزاهر، فهل تعقل الصليبية؟

    مهما دجا الليل فالتاريخ أنبأني     أن النهار بأحشاء الدجى يثب

    مستمسكٌ بكتاب الله معتصمٌ     والريح حولي والأوثان والنصب

    إني لأسمع وقع الخيل في أذنـي     وأبصر الزمن الموعود يقترب

    وفتية في رياض الذكر مرتعهم     لله ما جمعوا لله ما وهبوا

    إذا نظرت إليهم خلت أنهمُ     جاءوا من الخلد أو للخلد قد ركبوا

    هم الذين على سيمائهم ركضت     أغلى النجوم وشع الموسم الخصب

    تأبى الأعنة إلا في أكفهمُ     والخيل إلا إذا ما فوقها ركبوا

    جاءوا على قدرٍ والله يحرسهم     وشرعة الله نعم الغاي والنسب

    اللهم سخرنا لنصرة دينك، واجعل ختام أعمالنا شهادةً في سبيلك.

    اللهم يا دليل الحيارى دلنا على طريق الصادقين، واسلك بنا سبيل المخلصين.

    سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

    اللهم صلِّ على محمدٍ ما ذكره الذاكرون الأبرار، وصلِّ على محمدٍ ما تعاقب الليل والنهار، وصلِّ على محمدٍ وعلى المهاجرين والأنصار، وسلم تسليماً كثيراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767150715