إسلام ويب

أنيس الروح !للشيخ : راشد الزهراني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد امتلأت الدنيا غناء وصخباً، وحديثاً عن الغناء والمغنين، ففي المنـزل تستمع الغناء، وفي السيارة تستمع الغناء، حتى أدخل إلى المسجد عبر الهواتف المحمولة. عجباً! الغناء الذي حرمه الله عز وجل في كتابه، وحرمه محمد صلى الله عليه وسلم في سنته أصبح مألوفاً! هل حقاً وجد الناس اللذة في الغناء؟! هذه رسالة إلى من تركوا أنيس الروح، الذي إن استقر في القلب أثمر، وإن تحدث به اللسان أجر، لعل قلباً غافلاً يثوب إلى رشده.

    1.   

    حال الغناء والفنانين في هذا العصر

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. الحمد لله الذي أشرقت قلوب أوليائه بطاعته، وأنست أرواح أحبابه بذكره، وأصلي وأسلم على الهادي البشير، والسراج المنير الذي أرسله الله عز وجل رحمةً للعالمين، وحجةً للسالكين، ومحجةً على العباد أجمعين، أرسله الله على حين فترة من الرسل، فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل، فبين لنا المحجة البيضاء، وتركنا عليها ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك، فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    أيها الإخوة الكرام: لقد كثر الكلام عن الفن والغناء، وكثر الكلام عن المطربين والمطربات، والفنانين والفنانات: عن الحظوة التي وصلوا إليها، وعن الشهرة التي بلغوها .. عن مآربهم وأمنياتهم .. عن مشاربهم وتطلعاتهم .. عن أصواتهم الجميلة التي وهبهم الله عز وجل إياها .. عن كلماتهم الرقيقة التي ترددها حناجرهم.

    هام الناس في غرامهم، وعشق العشاق ألحانهم، وذاب المحبون في كلماتهم.

    نعم أيها الإخوة! لقد امتلأت الدنيا غناءً وصخباً، وحديثاً عن الغناء والمغنين، في المنزل تستمع الغناء، وفي السيارة تستمع الغناء، ثم تقرأ في الشوارع الدعاية لهؤلاء المغنين، واستعراضاً لحفلات الفنانين، حتى أصبح وكأنه معروف.

    عجباً! الغناء الذي حرمه الله عز وجل في كتابه، وحرمه محمدٌ صلى الله عليه وسلم في سنته أصبح مألوفاً!

    هل حقاً -أيها الإخوة- وجد الناس اللذة في الغناء؟!

    هل حقاً -أيها الإخوة- وجد القوم الراحة في الفن؟!

    أيها الأحبة! لقد أثر الغناء في القلوب، وبات الناس يرددون كلمات المغنين في المناسبات، بل إن أجهزة الهواتف النقالة أصبحت تذكرنا حتى ونحن في صلاتنا نتعبد ربنا عز وجل بهذا الغناء.

    1.   

    القرآن .. أنيس الروح

    لقد ظن البعض أن الغناء ينقل الإنسان من حياة الهم إلى حياة الأنس والراحة، ولكن سأحدثكم في هذا اللقاء عن أنس آخر، سأتحدث عن أنيسٍ تأنس به الأرواح، وينقل العبد إلى بلاد الأفراح.

    عن أنيسٍ إن استقر في القلب أثمر، وإن تحدث به اللسان أُجر.

    عن أنيسٍ تشرق به القلوب، وتسر به الأفئدة، مسامرته حياة، واتباعه نجاة، إنه حديثٌ لا تمله الآذان، ولا تكل منه الأبدان

    إذا ذكرته النفس زال عنـاؤها     وزال عن القلب المعنّى ظلامه

    قد تقولون: أي شيءٍ هو هذا الأنيس الذي تسعد الروح بسماعه، فتزداد إشراقاً وروعة؟

    هل لأنيس الروح هذا من مواصفات؟

    وهل لأهله من صفات؟

    والله الذي لا إله إلا غيره إن الأرواح النقية، والأفئدة التقية، لا ترتاح إلا مع هذا الأنيس، لقد جالسنا أقواماً يسكبون هذا الأنيس في قلوبنا سكباً، فشربنا منه ما جعلنا نبشر به الدنيا.

    نعم أيها الإخوة! إن هذا الأنيس بشرى لكل صاحب لوعة، وهم .. بشرى لكل صاحب غمٍ ومعاناة .. حديث ترتاح له الأرواح، وتسر به الأفئدة، فلا تكل من سماعه، ولا تمل من التلذذ به .. حديثٌ عذب المورد، لا تجد فيه مثلباً ولا في كلماته عطباً.

    هذا الأنيس من عجائبه أنه يجعل المصيبة تهون، ويجعل من الكارثة فرحة، ومن الألم أملاً، ومن العذاب واحةً مزهرة، ويجعل من الفقر غنى، ويجعل الحياة بكل ما فيها ميداناً للراحة الأبدية، والسعادة الهنية.

    ومن عجائبه أنك قد تسمع هذا الحديث من إنسانٍ لا يملك قطميراً فيملأ عليك الدنيا بهجةً وسروراً.

    هذا الأنيس أحبته الملائكة، وارتاحت له الجن، وخافته الكفرة، ووالله الذي لا إله غيره لن يبلغ الغناء هذه المنـزلة.

    ألستم تريدون الآن أن تعرفوا أي حديثٍ يجعل الدنيا بهذا الجمال والروعة؟ ألا تشتاق روحك إلى سماعه؟ ألا تود أن تتلذذ به وتأنس به؟ ولكن قبل هذا اسمع.

    قصة زوجين عاشا بعيداً عن أنيس الروح

    تزوج رجلٌ من امرأة، وكلاهما يعيش حياة البعد عن الله، ما عرفا حقيقة وجودهما في هذه الحياة ولا الحكمة من ذلك؛ لأن قلبيهما ما أنسا بأنيس الروح، عاشوا حياة البعد عن الله، والإعراض عن كتابه، والغفلة عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، كانا يظنان أن الأنس تأتي به ألحان المطربين، وأشجان المغنين.

    كانا يظنان أن الحياة الكريمة يأتي بها النظر إلى الأفلام ومتابعة المسلسلات، استمرا على هذه الحياة، لكن الزمان طال بهما، سبع سنوات يعيشان تحت سقفٍ واحد .. حنت القلوب إلى ولدٍ يملأ البيت فرحاً وسروراً، ويدخل البهجة على أهله، فبذلا كل ما بوسعهما ولكن دون فائدة، سبع سنوات مل الرجل، وسئمت المرأة.

    وفي يومٍ من الأيام، ذهب الرجل إلى عمله صباحاً كعادته، ما عرف الفجر وما صلاها، وما سجد لله سبحانه وتعالى، ثم أخذ يتأمل في حياته، لهوٌ وغفلة، ثم ماذا؟

    وحشةٌ وظلمة، ما الذي يزيحها؟

    نارٌ تأكل في قلبي، ما الذي يطفئها؟

    أخذ يتأمل هذه الحياة .. هذه الأموال التي أجمعها .. هذه السيارة التي أركبها .. هذه العقارات التي أملكها لمن؟ والنهاية لا ولد ولا أمل، كان في هذه اللحظة التي غرق فيها في بحر الهموم، وظلمات الغموم، بحاجةٍ إلى أنيس الروح .. كان بحاجةٍ إلى شيءٍ يذكره بنفسه، ويعرفه بخالقه، فجاء الأنيس على غير موعد.

    وقف عند إشارة المرور، فسمع صوتاً ندياً، يأتي من السيارة المجاورة، من إذاعة القرآن الكريم، وإذا به يسمع قول الله عز وجل: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:49-50] سرت هذه الكلمات في كل ذرةٍ من ذرات حياته، إنه الله، إنه الله، هذه حكمته، وهذا قدره، وهذا عطاؤه.

    لقد طرقت كل باب ونسيت أن الأمر بيد رب الأرباب ومسبب الأسباب سبحانه وتعالى، فأكمل طريقه إلى عمله، لكن أنيس الروح وحديث الفؤاد ما زال يتردد في صدره، فاستأذن وعاد مبكراً إلى منزله ليجد المفاجأة، زوجته جالسة تبكي في الدار بكاءً يقطع نياط القلوب، ويدخل الحزن فيها، فقال: ما يبكيك يا امرأة؟ هل نابكِ شيء؟ هل آلمكِ شيء؟ فقالت: بعد ذهابك إلى عملك أحسست بألمٍ عظيم، وأحسست بالمعاناة، والحرمان، وأنا أستمع إلى صراخ الأطفال في المدرسة المجاورة، وأخذت أقول: لماذا لم أرزق أبناءً كهؤلاء؟ لماذا رزق الله غيري وحرمني الذرية؟ وفي منتهى بؤسي وفي غاية شقائي سمعت صوتاً من غرفة الحارس كأنه يخاطبني، بل هو يعاقبني، فتأملته فإذا هو كلام ربي عز وجل الذي تخلل فؤادي، وإذا بي أسمع إذاعة القرآن الكريم -في الوقت نفسه الذي سمع فيه الزوج تلك الآيات-: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:49-50] فأحسست بأن شعوراً غريباً دب في جسدي، فتذكرت الله، وتذكرت خالقي.

    نعم. لقد سكب القارئ في قلب هذه الفتاة مع كل حرفٍ دمعة، ومع كل جملةٍ لوعة، لقد سرت تلك الآيات في عروقها واستقرت في فؤادها، تقول: فتذكرت الله -وهنا يبدأ التحول- فبكت عيناي وذرفت دموعاً حارة أخرجتها من فؤادٍ اكتوى بالبعد عن الله، سبع سنوات من الضياع، والغناء، والفحش والفجور، فأعلنت الرجعة إلى الله رب العالمين.

    نعم. التقى الزوج بزوجته في صباح ذلك اليوم على أثير أنيس الروح، على كتاب الملك العلام، فإذا بهما يعيشان حياة الأنس الحقيقي، بعد أن كانا يعيشان لحظات الهوى والبعد عن الله عز وجل، وكانت النتيجة بعد الرجوع إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رزق الله عز وجل هذين الزوجين مولوداً ملأ البيت فرحاً وسروراً.

    نعم. إنه القرآن، أنيس الروح، ودواء الفؤاد، وبلسم الحياة.

    صاحب المقامات يصف أنيس الروح

    يقول صاحب المقامات وهو يصف هذا الأنيس -اسمعوا إلى تلك الصفات وتأملوا في هذه النبرات-: كل مؤَلفٍ له عنوان والقرآن كتاب الرحمن، كل مؤلفٍ إذا ألف كتاباً أو دبج خطاباً اعتذر في مقدمته إذا خالف صواباً إلا الله، فإنه تحدى العرب العرباء فقال: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة:2] تقرأ المصنفات، وتطالعوا المؤلفات، تسمع القصائد، تعجبك الفوائد، وتسجيك الشوارد، ثم تسمع القرآن فإذا هو الأكمل، وإذا هو الأجمل، وإذا هو الأنبل، قرآنٌ يخاطب النفس فتخشع، والقلب فيخضع، والروح فتقنع، والأذن فتسمع، ولو نزل على صخرٍ لتصدع.

    سمعه أحد المشركين فما تمالك نفسه إلا وهو يقول: "والله لقد استمعت لهذا الذكر، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه". لا يشبع منه العلماء، ولا يروى منه الحكماء، أفحم الخطباء، أخرس الشعراء، أسكت الفصحاء، أدهش الأذكياء، وتحدى العرب العرباء، قوة برهان، وإشراق بيان، ووضوح حجة، واستقامة محجة.

    تلاوته تذهب أحزانك، وتثير أشجانك، وترفع شانك، وتثقل ميزانك، وتُخسئ شيطانك وترفع إيمانك.

    الله أكبر إن دين محمدٍ وصراطه أقوى وأقوم قيلا

    لا تذكر الكتب السوالف قبله     طلع الصباح فأطفئ القنديلا

    رفعة القرآن لقارئه

    أنيس الروح فضائله لا تعد ولا تحصى، قراءته ترفع الدرجات وتحط الخطايا والسيئات، وتلاوته الحرف بعشر حسنات، قال صلى الله عليه وسلم: (يقال لصاحب القرآن يوم القيامة: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها).

    أنيس الروح حياةٌ للفؤاد، وسعادة للحاضر والباد، يشفع لأصحابه ويرفعهم درجات، يقول صلى الله عليه وسلم: (يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب! حله، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب! زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب! ارض عنه، فيرضى عنه سبحانه وتعالى).

    إذا كان أهل الغناء والمعازف والخمور والفجور قد أطاعوا الشيطان، فإن أتباع القرآن هم أهل الله وخاصته، فإذا كنت -أيها الأخ الحبيب والأخت الغالية- تريدون أن تحظوا بهذا الشرف وتنالوا هذه الكرامة؛ فليكن القرآن أنيسكم وجليسكم.

    أنيس الروح يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير سادة، ويضع به آخرين.

    ارتفع بلال بالقرآن وهو عبدٌ حبشي، وسما سلمان بالقرآن وهو فارسي، ونزل القرآن في الثناء على صهيب وهو رومي، وأبو لهب عم محمدٍ صلى الله عليه وسلم الذي أعرض عن أنيس الروح فهو في نارٍ تلظى لا يصلاها إلا الأشقى. أبو طالب عرف الرسالة وأيقن بها، لكن لسانه ما تلفظ بأنيس الروح، وقلبه ما شعر بهذا الإيمان، فدافع عن الهادي والهداية، وحمى الرسالة والرسول، لكنه ما آمن به فهو في نار جهنم له جمرتان تحت قدميه يغلي منهما دماغه، ولولا رسول الله صلى الله عليه وسلم لكان في الدرك الأسفل من النار.

    عبد الرحمن بن أبزى كان مولى لـنافع بن عبد الحارث فاستنابه نافع على مكة ليتلقى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في عسفان، فقال له عمر : من استخلفت على أهل مكة؟ فقال: ابن أبزى ، فقال عمر : من هو ابن أبزى؟ ما هي المؤهلات التي استحق بها هذا المنصب؟ ما هي شهاداته؟ ما هي مناصبه؟ فأبان نافع عن شهاداته، وأفصح عن مؤهلاته، فقال: إنه عالم بالفرائض قارئ لكتاب الله عز وجل.

    قارئ للقرآن هذه شهاداته .. قارئٌ لكتاب الله هذه الشهادة العالية العالمية التي تحصل عليها، فقال عمر بن الخطاب الذي عرف أنيس الروح وتلذذ بأنيس الروح: (أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قال: إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين) وابن أبزى ممن رفعه الله عز وجل بالقرآن.

    1.   

    أثر القرآن على القلوب النقية

    أيها الأخ الحبيب: إن قسا قلبك، وزادت ظلمة فؤادك؛ فاقرأ القرآن، فكم من قلبٍ عليلٍ شفته آياته، وكم من فؤادٍ مكلومٍ داوته كلماته، وكم من دمعات سكبت عند تلاوته، وكم من عبرات سالت عند سماعه.

    نبينا صلى الله عليه وسلم سالت دمعاته الطاهرة على خده يوم أن قرأ القرآن، ويوم أن استمع إلى ذكر الواحد الديَّان، دخل عليه بلال رضي الله عنه فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي بكاءً عظيماً، محمدٌ صلى الله عليه وسلم يبكي! محمدٌ عليه الصلاة والسلام الصادق المصدوق يبكي! محمدٌ الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يبكي! فحزن بلال لبكاء سيده، وذرفت عيناه لبكاء حبيبه ونبيه، فقال: (يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ -كأن بلالاً رأى أن الأجدر بتلك الدمعات والأحق بسكب تلك العبرات هو فؤادٌ مكلومٌ بالمعاصي والموبقات، لكنه صلى الله عليه وسلم يا سادة! سكب دموع المحبين لله رب العالمين، الخائفين من عذابه، الراجين رحمته وعفوه- فقال: يا بلال! لقد أنزلت عليَّ الليلة آيات ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها، ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها.. إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190-191]).

    نعم. لقد بكى صلى الله عليه وسلم لكنها عبرات المحبين، ودموع الصادقين، بكاءٌ لا يعقب هماً ولا يولد غماً، بل يجلب الراحة ويبعث على الطمأنينة، ويوم أن امتلأت قلوب الصالحين بالقرآن وأكثرت ألسنتهم من ذكر الرحيم الرحمن، تأثروا بالفرقان، وأحيت آياته الإيمان، فأشرقت آياته بالأرواح وأدخلت على الأفئدة الأفراح، فتلذذ الصالحون بخطابه، وارتاحت ضمائرهم لجمله وعباراته، فوجدوا أنفسهم في قراءته، وراحتهم في سكب العبرات عند تلاوته.

    كان أحد السلف كثير البكاء عند تلاوة القرآن، والله ما بكى لدنيا فاتته، ولا بكى لأموالٍ فقدها، ولا بكى لحبيبٍ فقده، ولكنه كان يبكي حينما يقرأ كلام الرحيم الرحمن، كان يبكي ويسكب الدمعات يوم أن كان يناجي الرحيم الرحمن سبحانه وتعالى، فقال له ابنه يوماً: يا أبتِ! كم تبكي؟ فوالله لو كانت النار خلقت لك ما زدت على هذا البكاء، فإذا به ينطق بتلك الكلمات العظيمة فيقول: ثكلتك أمك يا بني! وهل خلقت النار إلا لي ولأمثالي؟! أما تقرأ يا بني! سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ [الرحمن:31]؟! أما تقرأ يا بني! يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن:35-36]؟! أما تقرأ -يا بني!- هذه الآيات؟ أما تتدبر -يا بني!- هذه الكلمات؟ أما تتدبر -يا بني!- كلام الرحيم الرحمن؟ فأخذ يقرأ هذه الآيات، ويدور بها في منزله، ويصرخ صراخاً عظيماً حتى أغشي عليه، فقالت للفتى أمه: يا بنيِ! لما فعلت بأبيك هذا؟ هل يستحق والدك هذا؟ فقال: والله ما أردت هذا، إنما أردت أن أهون عليه، لم أرد أن أزيده حتى يقتل نفسه.

    فلله تلك القلوب ما أحسنها! ولله تلك الأفئدة ما أنقاها! ولله تلك الأرواح ما أجملها!

    الله أكبر! أي قلوبٍ هذه؟! وأي أفئدةٍ تتأثر بسماع القرآن؟! وأي دموعٍ تسكب عند تلاوة كلام الواحد الديان؟!

    إذا اشتبكت دمـوع في خدودٍ     تبين من بكى ممن تباكى

    فأما من بكى فيـذوب وجداً     لأن به من التقوى حراكا

    أيها الإخوة: لماذا لا نتأثر بالقرآن؟ لماذا لا نخشع عند تلاوة كلام الرحمن؟ لماذا نحن معرضون عن قراءته؟ لماذا أهملناه وضيعناه وهو سبب عزنا، ومصدر قوتنا، وقوت قلوبنا، اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23].

    أنيس الروح أحيا الله به قلوباً ميتة، وألان به قلوباً متحجرة، كم من إنسانٍ طار صيته بالباطل، وأجلب بخيله ورجله في الشر، فأدمن معصية الرحمن، وهام في طاعة الشيطان، فلما أدركته رحمة رب العباد، وتخلل في قلبه ذكر الرحمن والمعاد؛ تغيرت حياته، وسمت روحه، وعاد إلى فطرته.

    أثر القرآن على عمر بن الخطاب

    عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه كان غارقاً في أعظم شيءٍ عصي الله عز وجل به وهو الشرك بالله عز وجل، الذي قال عنه ربي: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً [النساء:116] شرب الخمر .. اقترف المعاصي .. صد الناس عن دين الواحد الديان .. آذى المؤمنين وعذَّبهم وأرهقهم بيديه وأتعبهم .. سخر من المؤمنين، وهمز الصالحين، ونال بسوطه إحدى الصالحات، فكان يضربها ضرباً شديداً، ويصب عليها العذاب صباً عنيفاً، فنظر إليها مرة وقد سئم منها، ومل من ضربها، فقال لهذه المسكينة، ووجه خطابه لهذه الضعيفة: اعذريني، سأتركك الآن، ولكن صدقيني ليس رحمةً بكِِ أو شفقة، ولكنني والله لقد سئمت من ضربك، ومللت من إلحاق الأذى بكِ، فتقول في ثبات المؤمنة وفي عزيمة الصادقة: "لا والله، إن الله الذي فعل بك هذا" هذا الرجل كان ميئوساً من إسلامه، ولا يطمع أحدٌ في إيمانه، بل كان يتردد بين الصالحين، وفي مجالس المؤمنين: "والله! لن يسلم حتى يسلم حمار عمر ". رضي الله عنه وأرضاه.

    فلما أراد الله هدايته وأراد سعادته؛ شرح صدره لقراءة القرآن، وأنار قلبه بهذا الذكر الحكيم والفرقان، فإذا به يقرأ آيات والله لو أنزلت على جبالٍ راسية لهدتها، ولو وقعت على أرضٍ ميتةٍ لأحيتها، قرأ آياتٍ تأنس بها الأرواح، وتطمئن بها القلوب، آيات تبعث الطمأنينة في القلب، وتبعث الإيمان، وتزيده في قلوب المسلمين، وإذا به يقرأ تلك الآيات من أوائل سورة طه: طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [طه:1-8].

    قرأ هذه الآيات فتخللت فؤاده، وتأثر بها قلبه فقال: دلوني على محمد، فقيل: هو في دار الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه، فذهب عمر رضي الله عنه ليعلن الوحدانية لله رب العالمين، وليقول للناس: رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً، فأعلن الوحدانية لله، وشهد أن محمداً رسول الله.

    ثم بعد ذلك سمع القرآن غضاً طرياً من فم محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فتغير وجهه وتبدل قلبه، ثم بعد ذلك وإذا به رضي الله عنه وأرضاه أحد قادة المسلمين بعد أن أثر في قلبه الذكر الحكيم، فمباركٌ يا عمر الهداية، ومباركٌ يا عمر المنـزلة والحظوة التي بلغتها، ووالله الذي لا إله غيره لولا أن الله هداه إلى القرآن لما ذاق عمر رضي الله عنه هذه المنـزلة.

    أسيد بن حضير .. وقراءة القرآن

    ثم تأملوا -أيها الإخوة الكرام- حين يأتي الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيطلبون منه أن يبعث إليهم من يعلمهم القرآن، ويفهمهم كلام الرحمن، من أجل أن تأنس قلوبهم بكلام الله عز وجل، وتسعد أفئدتهم بقول خالقهم، فبعث مصعب بن عمير سفيراً للإسلام ومبلغاً لكلام الرحمن، فتأثر الصحابة به، وأعجبوا به رضي الله عنه وأرضاه، وكان من بين هؤلاء المعجبين سيد قومه أسيد بن الحضير رضي الله عنه وأرضاه، فقد أولع بالقرآن منذ أن سمعه من مصعب بن عمير ولع المحب بحبيبه، وأقبل عليه إقبال الضامئ على المورد العذب في اليوم القائظ، وجعله شغله الشاغل، فكان رضي الله عنه لا يُرى إلا وهو يتلو القرآن، أو مجاهداً في سبيل الله عز وجل.

    كان رضي الله عنه رخيم الصوت، مبيَّن النطق، مشرق الأداء، تطيب له قراءة القرآن أكثر ما تطيب إذا سكن الليل، ونامت العيون، وصفت النفوس، وكان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يتحينون أوقات قراءته، ويتسابقون إلى سماع تلاوته، ففي جوف ليلةٍ من الليالي كان أسيد بن الحضير جالساً في فضاء بيته، وابنه يحيى نائمٌ إلى جنبه، وكان بجانب يحيى فرسه التي أعدها للجهاد في سبيل الله مربوطة غير بعيدٍ عنه، وكان الليل وادعاً ساجياً، وأديم السماء رائقاً صافياً، فكانت عيون النجوم ترمق الأرض الهاجعة بحنانٍ وعطف، فتاقت نفس أسيد بن الحضير رضي الله عنه لأن يعطر هذه الأجواء الندية بطيوب القرآن، أراد أن يسمع نفسه، وأن يسمع الدنيا، وأن يسمع من يسمع كلام الرحيم الرحمن سبحانه وتعالى، فإذا به يقرأ قول الله عز وجل، وينطلق بصوته الرخيم، بسم الله الرحمن الرحيم: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:1-4] فإذا به يسمع فرسه وقد جالت جولةً ودارت دورة كادت أن تقطع رباطها، فسكت ثم سكنت الفرس فعاد يقرأ: أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5] فجالت الفرس جولةً أشد من تلك وأقوى، فسكت فسكنت الفرس، فكرر ذلك مراراً، فكان إذا قرأ القرآن نفرت الفرس وهاجت، وإذا سكت سكنت الفرس وقرت، فخاف على ابنه يحيى أن تطأه الفرس، فمضى إليه ليوقظه، وهنا حان منه التفاتٌ إلى السماء فرأى غمامة كالمظلة لم تر العين أروع ولا أبهى منها قط، وقد علق بها أمثال المصابيح، فملئت الآفاق ضياءً وسناءً وهي تصعد إلى الأعلى حتى غابت عن ناظريه.

    فلما أصبح مضى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقص عليه خبر ما رأى -اسمعوا يا أهل الأرض ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (تلك الملائكة كانت تستمع لك يا أسيد! ووالله لو أنك مضيت في قراءتك لرآها الناس ولم تستر).

    الله أكبر! أهل السماء استعذبوا تلاوته، وأنسوا بسماع صوته، فهنيئاً ثم هنيئاً لمن يتاح له أن يسمع القرآن من ذلك الرجل غضاً طرياً كما أنزل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

    الله أكبر! القرآن أثر في ملائكة الرحمن، فنزلت من السماء لتستمع إلى كلام الله العظيم، أفلا يدعونا هذا -يا من رضيتم بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً!- أن نقرأ القرآن وأن نعمل به، وأن نجد المتعة التي وجدها الصالحون واللذة التي أدركها العارفون.

    1.   

    أثر القرآن على المشركين

    إن كنتم ممن أبهرتكم الأغاني، وأحببتم العود والطبل والناي والبيانو ومزامير الشيطان، فتأملوا أولئك المشركين الذين لم يدركوا من الإسلام ما أدركتم، ولم يتلذذوا من الإيمان ما تلذذتم، ومع ذلك كان سادتهم وطغاتهم يتلذذون بسماعه، هذا الثلاثي أبو جهل والأخنس بن شريق وأبو سفيان سادة المشركين، قبل أن يسلم أبو سفيان رضي الله عنه كانوا يخرجون كل ليلة يستمعون القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي في جوف الليل في بيته، ولكم أن تتخيلوا الموقف، ولكم أن تتخيلوا تلك الروعة، محمدٌ صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه القرآن يتلو القرآن، يتلوه بخشوع، وبحضور قلب، فلكم أن تتخيلوا ذلكم الأثر العظيم، الذي أحدثه هذا الأمر في قلوب هؤلاء الثلاثة، فكان كل واحدٌ منهم يأخذ مجلسه ليستمتع بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان كل واحدٍ منهم لا يعلم بمكان صاحبه، فإذا فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من قراءته وانصرفوا بعد الفجر جمعهم الطريق، فقالوا: لو رآنا الصبيان، ورآنا السفهاء لوقع في نفوسهم أن ما أتى به محمد هو الحق، ثم يتعاهدون على ألا يعودوا إليه مرةً أخرى ثم ينصرفوا، لكن سلطان القرآن، وروعة البيان، وجمال القرآن جذب قلوبهم، فأجبرت أبدانهم على المجيء لتستمع مرةً أخرى إلى القرآن، فإذا فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من تلاوته جمعهم الطريق، وألف بينهم السبيل، فيتعاهدون ثانيةً وثالثةً على عدم المجيء.

    وهنا ينظر الأخنس بن شريق إلى زعيم المشركين، وقائد العصابة المعرضين أبي جهل ، فيتأمل في هذا الرجل الذي تلذذ بالقرآن وأنس بكلام الرحمن، ومع ذلك يعادي محمداً عليه الصلاة والسلام، فقال: يا أبا الحكم ! قال: لبيك، قال: ناشدتك الله هل ما أتى به محمد هو الحق؟ وما رأيك فيما أتى به محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-؟ وهنا يظهر ما في قلبه من حسدٍ وحقدٍ وغلٍ على محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: وما رأيي؟! كنا نحن وبني عبد مناف كفرسي رهان، أطعموا فأطعمنا، وسقوا فسقينا، ثم وإذا هم يأتون إلينا الآن فيقولون: منا نبيٌ يوحى إليه، فماذا نقول نحن؟ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً [النمل:14] ثم قال: والله لا أؤمن به أبداً، فيا لله العجب! كاد أبو جهل أن يسلم لما سمع القرآن، هذا القرآن يؤثر في أبي جهل قائد المشركين، فما له لا يؤثر في قلوب بعض المسلمين؟!

    نعم أيها الإخوة! هذا هو أنيس الروح، نعم أيها الإخوة! هذا هو القرآن، أنيس الروح الذي سعدت به الأرواح وأحبته الضمائر، أتحدى أن يأتي أحدٌ بذكرٍ كالقرآن، وأتحدى أن يأتي أحدٌ بحديثٍ يؤثر في القلوب كالقرآن.

    لقد تحدى الله به العرب العرباء، تحدى أولئك الفصحاء أن يأتوا بمثل هذا القرآن فحاروا وعجزوا، تحداهم أن يأتوا بسورة فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فقال سبحانه وتعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء:88].

    ادعى مسيلمة النبوة، وأراد أن يأتي بقرآن من أجل أن يثق به الناس، فأتى بسجعاتٍ تستحي العجائز أن تتناقلها، فقيل له: ما آخر آية نزلت عليك؟ وما آخر قرآنٌ أتى إليك؟ فقال وهو يظهر الخشوع: يا ضفدع بنت الضفدعين، نقي كم تنقين، لا الماء تكدرين ولا الشارب تطردين، نصفك في الماء ونصفك في الطين. فهل هذا كلام عقلاء أم أنه قلة حياء؟!

    وتأتي سجاح فتدعي النبوة، فتريد أن تغالب مسيلمة ، فأرادت أن تأتي بقرآنٍ يؤيد كلامها، وأن تأتي بوحيٍ يؤيد مقالها، فأتت بسجعاتٍ تمجها الآذان ولا تستسيغها الأبدان، فقالت: عليكم بـاليمامة، دفوا دفيف الحمامة، فإنها غزوة صرامة، لا تلحقكم ملامة.

    فكانت النتيجة أن اختلى مسيلمة بـسجاح، اختلى مدعي النبوة بمدعية النبوة، في خيمة على أثر هذا الكلام الرخيص الذي ألفوه، فوقعوا في أمرٍ مريب، وذكرت عنهم أخبار والله إن الإنسان يستحي من ذكرها، فأي قرآنٍ يدعو أصحابه إلى مساوئ الأخلاق.

    1.   

    أهل القرآن

    أما أهل القرآن، وأتباع أنيس الروح فاسمعوا ماذا قال الله عز وجل عنهم: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:1-3].

    أنيس الروح تعرف من أنسوا به بصفاتهم، وتبصر النور في محياهم، وتعرفهم بسيماهم، نهارهم صيام، وليلهم قيام، ويقطعون أيامهم على ذكر الله الواحد الديان.

    إذا ما الليل أظلم كابدوه     فيسفر عنهم وهم ركوع

    أطار الخوف نومهم فناموا     وأهل الأمن في الدنيا هجوع

    لهم تحت الظلام وهم سجـودٌ     أنينٌ منه تنفرج الضلوع

    وخرسٌ بالنهار لطول صمـتٍ     عليهم من سكينتهم خشوع

    فأسألكم بالله! هل الغناء يقود أصحابه إلى مكارم الأخلاق؟ يا من أدمنتم سماع الغناء! يا من أحببتم الطرب والمزامير! أيها المغنون! أيها الفنانون! أيها الشعراء والأدباء! إلى من أخذ يقلب دفاتر الأدباء، ويحفظ الآلاف من دواوين الشعراء! يا من أكثرتم من الإنشاد حتى طغى على القرآن! يا من استمعتم إلى النشيد حتى أهملتم سماع القرآن! هلموا إلى مائدةٍ طيبة، وشجرةٍ مباركة قد حسن ظلها وطاب ثمرها، هلموا إلى ذكرٍ يشرح الفؤاد، وينير الصدر، ويمتع الخاطر، هلموا إلى كتاب ربكم، هلموا إلى كلام خالقكم.

    أيها المسلمون: نحن أمام هذا القرآن الذي إن عملنا به وتمتعنا به فسنرى المكانة الحقة التي شيدها لنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم، لكن القرآن لا يقبل المساومة ولا يؤثر عند المزاحمة، القرآن يصفي السرائر، وينقي القلوب يوم أن يتربع على عرش الأفئدة، عند ذلك تحدث الراحة ويحل السرور والانشراح.

    قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه الذي قتل ظلماً وعدواناً، فأريق دمه وهو يقرأ القرآن فتقاطر الدماء على قول الله سبحانه وتعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:137] فقال أحد الصادقين:

    ضحوا بأشمط عنوان السجود له     يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا

    قال رضي الله عنه وأرضاه يوم أنس بأنيس الروح: [والله لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم] نعم. حينما يطهر القلب من الغناء والكلام البذيء، عند ذلك يأتي أنيس الروح، فيحرق شبهات الظلام ويأتي بكلام الله الواحد الديان.

    فحب الكتاب وحب ألحان الغنا     في قلب عبدٍ ليس يجتمعان

    قال ابن مسعود رضي الله عنه: [من أحب القرآن أحب الله ورسوله] فمن أحب شيئاً أكثر من ذكره، ولا شيء عند المحبين أحلى من كلام محبوبهم، فهو لذة قلوبهم، وغاية مطلوبهم.

    أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه كانت لذته في قراءة القرآن، وكانت متعته يوم أن يتلو كلام الرحمن، فاستمع له رسول الله صلى الله عليه وسلم وهنيئاً له، محمدٌ صلى الله عليه وسلم يستمع لـأبي موسى الأشعري رضي الله عنه وينصت لتلاوته، فأعجب بصوته، وأعجب بخشوعه، فقال: (يا أبا موسى ! لو رأيت وأنا استمع إلى قراءتك البارحة، قال: يا رسول الله! والله لو علمت أنك تستمع إلى قراءتي لحبرت لك القرآن تحبيراً، فقال صلى الله عليه وسلم: لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود).

    تدبروا القرآن أيها الأحبة! بمعرفة معانيه وفهم مبانيه، تأدبوا بآدابه، وتخلقوا بأخلاقه، اقرءوه بتأنٍ وإياكم في الإسراع بقراءته، حسِّنوا أصواتكم بالتلاوة قدر المستطاع، تعلموا أحكام الوقف والابتداء، فإنها أحسن ما يظهر معاني القرآن، احرصوا على تلاوته بالأسحار، حتى تمحى الأوزار، وتذهب الآصار.

    1.   

    رسالة إلى المغنين والمغنيات

    أيها الإخوة: هذا هو أنيس الروح، وبهجة الفؤاد، وهذا هو سعادة الحاضر والباد، ولكن اسمحوا لي قبل أن أختم هذه المحاضرة أن أوجه رسالة لأولئك المغنين والمغنيات علَّها أن تلامس قلوبهم، وأن تلامس الإيمان النائم فيها، علَّها أن تستثير عواطفهم، وتعيدهم إلى ربهم عز وجل.

    نقول فيها: هذه رسالة إليكم من قلبٍ يحب لكم الهداية، ويسر قلبه باستقامتكم، نحن وإياكم استخلفنا الله لعبادته، وأوجدنا لطاعته، منَّ علينا بنعمٍ كبيرة وآلاءٍ عظيمة، ومن أعظمها نعمة الإسلام، وأن جعلنا من أمة محمدٍ خير الأنام، فهل استشعرت هذه النعمة؟

    تأمل في القوم من حولك، تجد اليهودي وتجد النصراني وتجد المجوسي، وتجد عباد البقر، وأنت عبدٌ من عباد الله، اصطفاك الله من بين هؤلاء، ومن عليك بأن جعلك عبده المسلم، هل تستشعر معنى الإسلام؟

    إن معناه: الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله، فهل استسلمت لأمره؟ وهل انقدت لحكمه؟

    أخي الحبيب: بلغت شهرتك الآفاق، وصفق لك المعجبون، وتاه في حبك المحبون، فهل نهنيك أو نعزيك؟

    هل نغبطك أو نقول: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاك به؟

    اسأل نفسك: أنا عبدٌ من عباد الله فهل ما أقوم به يرضي ربي أو يسخطه؟ هل يرضي رسولي أو يكرهه؟ هل ديني أباحه أو حرمه؟

    كنت في الطائرة أيها الإخوة! فجلس إلى جواري أحد مشاهير الغناء، فناصحته وحدَّثته، فقال: يا شيخ! ادع الله لي بالهداية، فقلت: يا أخي! ولكن لا بد أن يكون لديك قناعة أن تغير نفسك، صدقني إنني أشفق عليك من النار، وأخاف عليك من عذاب القهار، هل تأملت القيامة وأهوالها؟ هل تأملت الطامة ومصاعبها؟ أما سمعت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سمع الغناء صب في أذنه الآنك يوم القيامة) هل تريد الدليل على حرمة الغناء؟ استمع. قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [لقمان:6] هذه الآية فسرها حبرٌ من أحبار المسلمين وهو ابن مسعود رضي الله عنه الذي قال: [والله لا أعلم أحداً أعلم مني بتفسير القرآن، ولو أعلم أحداً أعلم مني بالقرآن وتبلغه المطي لرحلت إليه] يقول هذا الصحابي الجليل وهو بهذه المكانة العلمية: [والله الذي لا إله إلا هو إن لهو الحديث هو الغناء] بل إن النبي صلى الله عليه وسلم حذَّر ممن يستحلون الغناء، فقال: (سيكون أقوامٌ من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف) رواه البخاري . يعني: يستحلون الزنا والخمر والمعازف، فهل تترك هذه النصوص الواضحة لأقوال أقوام يبيحونه؟

    أخي! ألا تحس وحشةً في صدرك؟ ألا تحس بظلمةٍ في فؤادك؟ إنها بسبب الغناء.

    فالغناء ينبت النفاق والظلمة والوحشة في القلوب.

    أخي! أما دعاك الاشتياق لمناجاة الملك الخلاق أن تأنس بالقرآن؟ كم من قلبٍ قرأ القرآن فأنس به.

    أخي! لقد مل الناس المعاصي، وسئموا من الحرام، فهلم إلى الحلال، هلم إلى الراحة الأبدية والسعادة الحقيقية، هلم إلى كتاب الملك العلام، أقبل على كتاب الرحيم الرحمن، والحق بركب التائبين.

    إن الأضواء والشهرة والمعجبين تذهب بموت صاحبها، فماذا تنفعك أقلام الصحفيين، وإشادة المعجبين في يومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم؟ ماذا تنفعك إذا أدخلت قبرك، وأتاك الملكان؟

    أخي: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).

    أحد الشعراء طالما كتب للفنانين، وطالما سطر دواوين الشعر الغنائي، فكر يوماً من الأيام وقال في نفسه: ثم ماذا؟ ماذا بعد هذا؟ كتبت وقصدوا، وقلت فغنوا، فأنا شريكٌ لهم في الآثام والأوزار، فأقبل على ربه، وأقبل على خالقه، فقيل له: لِم؟ قال: لأنني والله ما أحسست بالراحة ولا شعرت بالسعادة إلا يوم أن قرأت القرآن، فكان أنيس روحي، ولذة فؤادي، فقيل له: ما موقف زملائك في الوسط الفني؟ فقال -واسمعوا ماذا قال- قال: والله إن أغلبهم اتصل بي فقال: أنتم السابقون ونحن اللاحقون، فكن من اللاحقين قبل أن تقول نفسٌ: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر:56].

    أخي: وهبك الله صوتاً حسناً وهو نعمةٌ عظمى من الله، فلمَ سخرته في غير مرضاته وطاعته.

    أخي: هل هناك أجمل من صوتك بالقرآن، إن قرأت القرآن سعدت القلوب واطمأنت، وإن أطلقت صوتك بالغناء شقيت القلوب وملت.

    أيها المغني: أرأيت أسيد بن الحضير ؟ رزق صوتاً حسناً كما رزقك الله، لكنه سخره في طاعة ربه، وجعله فيما يرضي خالقه؛ فنزلت الملائكة لتستمع إلى كلام ربها وخالقها، فلمَ سلكت غير طريق أسيد ؟ ولمَ اقتديت بغير طريق أبي موسى ؟

    ليتك أخي تُسخر صوتك فيما يحب الله ويرضى حتى تشكر نعمته.

    من المسئول عن الكلمات التي تطلقها، وقد تكون مخالفاتٍ لأصل دينك وعقيدتك؟ قسمٌ بالحب والمحبوبة، وولاءٌ للعشق والمعشوقة.

    من المسئول عن الأغاني التي تطلقها فتستثير بها عواطف الشباب والفتيات؟ هذه الجموع العظيمة، والأعداد الكبيرة التي تحتشد لحفلاتك، وتستمع لأشرطتك ألا تساهم في ضياعها وغفلتها.

    أخي: أقبل على الله، أقبل على الطاعة والاستقامة قبل أن يداهمك هاذم اللذات وأنت تغني، هل تعلم ما معنى هذا؟ أن تقف بين يديه وأنت كذلك، فهل يسرك أن تقابل ربك والعود في يديك، والمزمار في فمك، قال صلى الله عليه وسلم: (يبعث أحدكم على ما مات عليه) ألا تتعظ؟ هل تريد أن تكون عبرة أو معتبراً؟ إذاً اعتبر بما مضى.

    أخي: قال أحد العلماء: "رحم الله عبداً مات وماتت معه معصيته" رحم الله عبداً دفن ودفنت معه معصيته، أتريد أن تعي حقيقة هذه المقولة؟

    يعيش أقوامٌ بيننا ويعصون ربهم، وتنتهي معصيتهم بموتهم، أما أنت فتبقى أشرطة الغناء والعود والوتر تزيد من رصيد معاصيك وأنت في قبرك، حيث تلك اللحظة التي تقول فيها: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100].

    أخي: ما زلت في دار الدنيا، فتب قبل أن يعرق الجبين، وقبل أن يتلجلج اللسان، أقبل على ربك وخالقك، وقل: تباً للدف والناي، تباً للعود والوتر، تباً لمعصية الرحمن، وحيهلاً بطاعة رب العباد، أهلاً بأنيس الروح، وبهجة الفؤاد، أهلاً بسعادة الحاضر والباد، أهلاً بكلام ربي وخالقي، أهلاً بأنيس روحي.

    أسأل الله أن يشرح صدرك للهداية، وأن يمن عليك بالاستقامة.

    أسأل الله عز وجل أن يجعل القرآن أنيس أرواحنا، وبهجة قلوبنا، اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، اللهم علمنا منه ما جهلنا، وذكرنا منه ما نسينا، وارزقنا تلاوته على الوجه الذي يرضيك عنا.

    اللهم إنا نسألك الهداية، ونسألك السعادة في الدنيا والآخرة، اللهم حبب لنا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.

    اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين، اللهم أعل راية الدين، الله اجعل بلدنا هذا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.

    اللهم اهد حيارى البصائر إلى نورك، والزائغين عن المنهج إلى هداك يا ذا الجلال والإكرام.

    سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756226540