إسلام ويب

الثبات حتى المماتللشيخ : محمد حسان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إنما الأعمال بالخواتيم، فمن ختم له بخير فقد أفلح ونجح، ومن ختم له بشر فقد خاب وخسر والعياذ بالله، فعلى كل مسلم أن يخاف من سوء الخاتمة، وأن يسأل الله عز وجل الثبات على الدين حتى الممات، وعليه أن يحرص على العمل بأسباب الثبات؛ عسى الله أن يوفقه لذلك.

    1.   

    لا يشترط في الواعظ عدم الخطأ

    بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه واستن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين. أما بعد: فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله جل وعلا الذي جمعنا وإياكم في هذا البيت المبارك على طاعته أن يجمعنا وإياكم في الآخرة مع سيد الدعاة المصطفى في جنته؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله! (الثبات حتى الممات) هذا هو عنوان محاضرتنا هذه, ونظراً لطول هذا الموضوع فسوف أركز الحديث تحت هذا العنوان في العناصر التالية: أولاً: مقدمة موجزة. ثانياً: أهمية الموضوع. ثالثاً: مواطن الثبات. رابعاً: الناس صنفان. وأخيراً: وسائل الثبات. فأعرني قلبك وسمعك، وأسأل الله جل وعلا أن يثبتنا على الحق حتى نلقاه؛ إنه ولي ذلك ومولاه. أولاً: مقدمة موجزة: أيها الأحبة! كان من المفترض ألا يتكلم عن الثبات حتى الممات إلا من توافرت لديه الأهلية علماً وعملاً، ولست -والله- منهم، ولكنني أقول دوماً: قد ينطلق المرء للحديث لا من منطلق شعوره بالأهلية وإنما من منطلق شعوره بالمسئولية، وهذا ما تؤصله وتقرره القاعدة الأصولية: (من عدم الماء تيمم بالتراب) ويكاد يرن في أذني وأنا أتحدث عن موضوع الثبات قول القائل: وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس والطبيب عليل فالله أسأل أن يجعل سرنا أحسن من علانيتنا، وأن يسترنا في الدنيا والآخرة، وأضرع إلى الله عز وجل مع القائل: إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني فكم من زلة لي في البرايا وأنت علي ذو فضل ومنِّ يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني

    1.   

    أسباب طرح موضوع الثبات

    ثانياً: أهمية موضوع الثبات: إن موضوع الثبات حتى الممات من الموضوعات الهامة التي يجب أن تطرح لا في المناسبات وإنما في كل الأوقات، فإنه الغاية والهدف أن تلقى الله على طاعة، أن تلقى الله على التوحيد الخالص، وعلى العبودية الكاملة، وتزداد أهمية طرح الموضوع من وجهة نظري لسببين: السبب الأول: كثرة الفتن في هذا الزمان، فلو أسميت هذا الزمان الآن بزمان الفتنة أو بزمان الفتن ما بالغت وما تجاوزت الحد؛ فلقد كثرت الفتن، روى مسلم رحمه الله من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً) سل نفسك: لماذا؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يبيع دينه بعرض من الدنيا) يبيع الدين بعرض من الدنيا؛ والدنيا زائلة، يبيع الغالي بالرخيص، فلقد كثرت الفتن في هذا الزمان بصورة مدمرة مزلزلة، وحتى لا أطيل ولأعرج على بقية عناصر الموضوع -إن شاء الله جل وعلا- أقول: بالجملة فإن الفتنة تنقسم إلى قسمين: فتنة الشهوات، وفتنة الشبهات، أما فتنة الشهوات فلقد عصفت الآن بكثير من القلوب، وعبد كثير من الناس هذه الدنيا، وأصبحت الدنيا الغاية التي من أجلها يبذلون، ومن أجلها يعملون، ومن أجلها يخططون، ومن أجلها يفكرون، بل ومن أجلها يوالون ويعادون، فالأكثر لا هم له إلا الدنيا، ولا يبذل الوقت والجهد والعرق إلا من أجل هذه الدنيا. ووالله -يا إخوة- ما خشي النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة من الفقر أبداً، بل خاف النبي على هذه الأمة من الدنيا، كما روى البخاري ومسلم من حديث عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (والله! ما الفقر أخشى عليكم) وتدبروا هذا الحديث! فرسول الله لا يخشى على أمته من الفقر، (والله ما الفقر أخشى عليكم) إذاً: ما الذي تخشاه على الأمة؟ يقول المصطفى: (ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم) فكم من الناس الآن من لا يعيش إلا من أجل شهواته!! وفتنة الشبهات التي مزقت الأمة الواحدة إلى جماعات شتىً، وإلى فرق، وإلى أهواء، ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة -وفي لفظ: على ثلاث وسبعين ملة- كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟! قال: ما أنا عليه وأصحابي) فالفتن كثيرة، فهناك فتنة الأموال، وهناك فتنة الإعلام، وهناك فتنة هوان الأمة وذلها، وهناك فتنة الابتلاءات التي تصب على رءوس الموحدين هنا وهنالك في كل مكان، فالفتن كثيرة، وهي تعصف بقلوب الموحدين في هذه الأيام، حتى شعر المسلم الحقيقي بالغربة في هذا الزمان، كما في الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء) وفي غير رواية مسلم : (قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟! قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس) وفي لفظ قال: (الذين يصلحون ما أفسده الناس) وفي لفظ قال: (الذين يحيون سنتي، ويعلمونها الناس)، وفي لفظ قال: (الذين يفرون بدينهم من الفتن)، فالغريب الآن هو: الذي يفر بدينه من الفتن، بل إن الذي يصبر على الدين، ويعيش الآن للدين، ويتحرك بهمِّ هذا الدين، ويفكر في أمر هذه الدعوة؛ كالقابض على الجمر بيديه، جاء في سنن الترمذي -والحديث حسن بشواهده- من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي زمان على الناس الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر) إن الذي يريد الآن أن يتمسك بدين الله، ويريد أن يصبر على هذه الفتن والأهواء التي تعصف بقلبه؛ كأنه يقبض على الجمر بيديه، ولكثرة هذه الفتن وجب أن يُطرق موضوع الثبات، وأن يدندن العلماء والدعاة حوله، وأن يبينوا للأمة وسائل الثبات وسط هذا البحر الخضم من الفتن والأهواء، نسأل الله أن يحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن. السبب الثاني من أسباب أهمية موضوع الثبات: أن موضوع وأمر الثبات على الدين أمر متعلق بالقلب، وما سمي القلب قلباً إلا لكثرة تقلبه، نسأل الله أن يثبت قلوبنا على التوحيد، فانتبه لدعاء من فطره الله على التوحيد، وانتبه لدعاء من لينت مفاصله وجوارحه على طاعة العزيز الحميد، ألا وهو المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد كان يكثر في دعائه من قوله: (يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك، فقالت أم سلمة : يا رسول الله! أو إن القلوب لتتقلب؟! فقال المصطفى: يا أم سلمة ! ما من قلب من قلوب بني آدم إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن جل وعلا، إن شاء الله أقامه، وإن شاء الله أزاغه)والحديث رواه أحمد في مسنده، وهو حديث صحيح، وله شاهد في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، إن شاء الله أقامه، وإن شاء الله أزاغه، ثم قال: اللهم يا مصرف القلوب والأبصار! صرف قلوبنا على طاعتك). أيها الأحبة! لقد صور النبي صلى الله عليه وسلم عرض الفتن على القلوب بصورة بليغة دقيقة، فقد روى مسلم من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً) وكيفية صناعة الحصير في الماضي هي: أنه كان يجلس الصانع فيضع العود بعد العود بعد العود، فيصنع بذلك الحصيرة الكبيرة المعروفة، (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض) فتعرض فتنة صغيرة فيتشرب القلب الأسود هذه الفتنة، فتنكت هذه الفتنة في القلب نكتة سوداء، ثم تعرض عليه فتنة أخرى فيتقبلها ويتشرف لها؛ فتتوسع بقعة السواد في القلب، وهكذا حتى يعلو الران القلوب، ولا حول ولا قوة إلا بالله، كما قال عز وجل: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:14-15] . فأمر الثبات أمر خطير؛ لأنه متعلق بالقلب، وما سمي القلب قلباً إلا لكثرة تقلبه، فأنت الآن قلبك على حال، وأنت إذا كنت في بيئة الطاعة فقلبك يزداد فيه الإيمان، ومحال أن يكون جلوسك في بيئة الطاعة كجلوسك أمام فيلم من الأفلام الداعرة أو مسلسل من المسلسلات الفاجرة؛ والإيمان يزيد وينقص، وهذا أصل من أصول أهل السنة والجماعة، يزيد الإيمان بالطاعات، وينقص الإيمان بالمعاصي والزلات، فعرض قلبك لبيئة الطاعة ليقوى الإيمان في قلبك، واصرف قلبك وعينك وجوارحك عن بيئة المعصية حتى لا يعلو الران قلبك وأنت لا تدري، أسأل الله أن يطهر قلوبنا بالإيمان.

    1.   

    ذكر بعض المواضع التي يجب الثبات فيها

    ثالثاً: مواطن الثبات. في عجالة سريعة أقول: إن المواطن التي يحتاج فيها المسلم إلى الثبات كثيرة، وأهمها الثبات على الدين وعلى المنهج، والثبات في الفتن، والثبات في الجهاد، والثبات عند الممات. أما الثبات على المنهج فواجب على كل مسلم أن يثبت على منهج الله، ومن فضل الله ورحمته بنا أن الله جعل منهجه ميسراً لكل مسلم، فما عليك إلا أن تخطو على طريق الله، وما عليك إلا أن تفتح باب المسجد، وأن تدخل إلى بيت الله، وأن تتضرع إلى الله، وأن تطرح قلبك بين يدي الله، واترك بعد ذلك التسديد والمدد والتوفيق لمن بيده القلوب جل وعلا، فالمنهج ميسر، وتدبر معي قول الله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286] الله أكبر! وقوله عز وجل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7] .. فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] ، وكما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه؛ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم) الشاهد من الحديث قوله: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) فمنهج الله ميسر، ما عليك إلا أن تخطو على الطريق، وستجد المدد والتوفيق والتسديد من الله جل وعلا. فيجب عليك أن تثبت عند هذه الفتن الكثيرة التي ذكرت، وهذا بتعرفك على وسائل الثبات التي سأذكرها، وحرصك على أن تحولها في حياتك إلى واقع. ويجب عليك أن تثبت في الجهاد، والجهاد مراحل ودرجات، أسأل الله أن يرفع علم الجهاد، وأن يقمع أهل الزيغ وأهل الفساد، ووالله ما ذلت الأمة إلا يوم أن تركت ذروة سنام الإسلام، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود وأحمد وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تبايعتم بالعينة -والعينة نوع من أنواع البيوع الربوية- ورضيتم بالزرع، وتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)، لقد تثاقلت البطون والقلوب إلى الأرض وإلى الوحل والطين، ونسيت الأمة هذه الرسالة المباركة التي أرسل الله بها أمثال الإمام المجاهد العلم عبد الله بن المبارك لأخيه التقي النقي عابد الحرمين الفضيل بن عياض، أرسل له بهذه الرسالة من ميدان البطولة والشرف من ساحة الوغى، من الميدان التي تصمت فيه الألسنة الطويلة، وتخطب فيه السيوف والرماح على منابر الرقاب، يقول عبد الله بن المبارك لأخيه الفضيل بن عياض : يا عابد الحرمين! لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب من كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الكريهة تتعب ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب لا يستوي غبار خيل الله في أنف امرئ ودخان نار تلهب هذا كتاب الله ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب فلا بد أن يعد الإنسان نفسه ليثبت إن منَّ الله عز وجل برفع علم الجهاد؛ والجهاد ماضٍ وباقٍ إلى يوم القيامة، ومن كذّب ذلك وأنكره فقد كذب الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. ومن أعظم مواطن الثبات: الثبات عند الممات، اللهم ثبتنا عند الموت، فالثبات عند الممات هو الغاية، بل أنت مأمور به كما قال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] فأنت مأمور أن تموت على الإسلام، فمن الذي يثبته الله على فراش الموت؟ ومن الذي يضله الله عن التوحيد على فراش الموت؟ سؤال ينبغي أن نفكر فيه بقلوب واعية، والجواب لك على هذين السؤالين من الله: يقول جل وعلا: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27]. إذاً: الذي يثبته الله على فراش الموت هو المؤمن، ويضل الله على فراش الموت الظالمين، فيخون الظالم لسانه، ويعجز اللسان أن يردد (لا إله إلا الله) في وقت يكون الإنسان في أمس الحاجة إلى أن يعي قلبه حقيقة التوحيد، وأن يترجم لسانه حقيقة الإيمان، وهنا ينقسم الناس إلى صنفين وهذا هو عنصرنا الرابع بإيجاز شديد.

    1.   

    أصناف الناس عند الموت

    الناس صنفان: صنف إذا نام على فراش الموت تهلل وجهه، وتهللت أساريره، وترى الابتسامة العريضة تعلو وجهه وشفتيه، وترى لسانه وكلامه يردد: (لا إله إلا الله)؛ لأنه عاش على لا إله إلا الله، وبذل وقته للتوحيد، وحول التوحيد في حياته إلى واقع، فحق على الله -حق أخذه الله على ذاته؛ إذ ليس لأحد حق على الله- لمن اتقاه أن يحسن الله بدايته، وأن يحسن الله نهايته، وأن يتولى الله رعايته، واسمع إلى الحافظ ابن كثير إذ يقول: (لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه) الله أكبر! إن عشت على الطاعة مت على الطاعة، وإن عشت على المعصية -أعاذني الله وإياك- مت على المعصية، وبعثت على المعصية، روى مسلم من حديث جابر بن عبد الله أنه صلى الله عليه وسلم قال: (يبعث كل عبد على ما مات عليه) فإن مت على الطاعة بعثت على الطاعة، وإن عشت على التوحيد مت على التوحيد، وبعثت تحت راية إمام الموحدين وسيد المحققين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.

    مواقف في ثبات بعض السلف الصالحين عند الموت

    تدبروا هذا الصنف المبارك الذي عاش في الدنيا لدين الله، ولتوحيد الله؛ فمات على التوحيد، فهذا صديق الأمة الأكبر رضوان الله عليه أبو بكر ، فقد جاء أنه لما نام على فراش الموت، وحشرجت روحه؛ دخلت عليه الصديقة بنت الصديق عائشة رضوان الله عليها، وأنشدت بيتاً من الشعر فقالت: لعمرك ما يغني الثراء عن الفتـى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر فكشف الصديق الغطاء عن وجهه، وهو على فراش الموت بثبات عجيب، ونظر لـ عائشة وقال: يا ابنتي! لا تقولي هذا، وإنما قولي: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19]. ولما نام فاروق الأمة عمر على فراش الموت دخل عليه الصحب الكرام، ومن بينهم ابن عباس ، فقال له: أبشر ببشرى الله لك يا أمير المؤمنين! لقد مصّر الله بك الأمصار، ونشر الله بك العدل، وصحبت رسول الله، فأحسنت صحبته، ثم توفي رسول الله وهو عنك راضٍ، وصحبت أبا بكر ، فأحسنت صحبته، ثم توفي أبو بكر وهو عنك راضٍ, وصحبت أصحاب رسول الله فأحسنت صحبتهم، ولئن مت اليوم فإنهم عنك راضون، ثم شهادة في سبيل الله، فأبشر ببشرى الله لك يا أمير المؤمنين! فبكى عمر وقال: والله! يا ابن عباس ! لوددت أن أخرج من الدنيا كفافاً لا لي ولا علي، والله! لو أن لي ملء الأرض ذهباً لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه! عمر فاروق الأمة يقول: لو أن لي ملء الأرض لافتديت به اليوم من عذاب الله قبل أن أراه. انظروا إلى هذا الثبات العجيب أيها الخيار الكرام! ومن بين هؤلاء الناس يخرج شاب يلبس ثوباً طويلاً- والحديث في صحيح البخاري - فينظر عمر ، ودماؤه تنزف، والأمة تصرخ وتبكي على فراق فاروقها الملهم، وينظر عمر وهو على فراش الموت إلى هذا الشاب وهو يلبس ثوباً يجره على الأرض، فيقول الفاروق الأمير: ردوا علي هذا، ويرجع إليه الشاب، فيقول له عمر : يا ابن أخي! ارفع ثوبك؛ فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك وفي لفظ البخاري : (فإنه أبقى لثوبك، وأتقى لربك. الله أكبر! على فراش الموت يأمر بالمعروف، على فراش الموت ينهى عن المنكر! ما قال: هذه قشرة من قشور الدين، لا، والله! وما قال: هذه جزئية من جزئيات الدين، لا، والله! لأن الدين لا ينقسم إلى قشور ولباب، وإنما الذي جاء بالكل هو الذي جاء بالجزء، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا أتفق معك -أيها الحبيب المبارك يا من تنادي بفقه الأولويات في الدعوة إلى الله- أنا معك على طول الخط، فلابد من فقه الأولويات، لكن شتان شتان بين فقه الأولويات، والسخرية والتحقير للفرعيات والجزئيات، فلا تحقر فرعاً، ولا تحاول أن تزيحه، نعم؛ ابدأ بالأهم فالمهم، لكن لا تحقر جزئية، ولا تقل: هذه من قشور الدين؛ فإن الدين كل لا يتجزأ، ولا ينقسم إلى قشور ولباب. والشاهد هو: ثبات عمر رضوان الله عليه. وهذا عثمان رضوان الله عليه؛ روى الطبري بسند صحيح أن عثمان بن عفان لما حوصر من الأوغاد المجرمين، ومنعوا عنه الماء، ووالله! لو صبروا عليه قليلاً لمات عثمان عطشاً، وهو الذي لا زال ماء بئره الذي اشتراه بخالص ماله يفيض على المسلمين في كل أنحاء مدينة رسول الله. عثمان رضوان الله عليه في هذه الليلة التي قتل فيها ينام بعدما صلى ما شاء الله له أن يصلي، وقرأ من القرآن ما شاء الله له أن يقرأ؛ فيأتيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه ويقول له الحبيب: أفطر عندنا غداً يا عثمان! فيصبح عثمان ويفتح باب داره، ويفتح القرآن بين يديه؛ لأنه علم أن الأجل قد انتهى، وأنه مقتول، ودخل عليه المجرمون الثوار؛ فدخل عليه الغافقي المجرم فضربه بحديدة في يده، وضرب المصحف برجله! فاستدار المصحف دورة كاملة، واستقر مرة أخرى في حجر عثمان ؛ لتسيل عليه دماء عثمان ، فتخالط دماء عثمان آيات القرآن كما خالطت آيات القرآن دماء عثمان رضي الله عنه، ويقتل عثمان وهو يقرأ القران، يا لهذه الخاتمة! وهذا علي يطعن هو الآخر ويعود إلى فراشه ويقول: أدخلوا عليّ أبنائي، فأدخلوا عليه أبناءه، فبذل لهم وصية طويلة -كلما قرأتها تعجبت!- وقال: انصرفوا عني، وظل يقول: (لا إله إلا الله، لا إله إلا الله) حتى فاضت روحه وهو يرددها، رضي الله عنه وأرضاه. وهذا عمر بن عبد العزيز رضوان الله عليه ينام على فراش الموت ويدخل عليه ابن عمه ويقول له: يا أمير المؤمنين! لقد تركت أولادك فقراء، ألا توصي لأبنائك بشيء؟! فيقول عمر بن عبد العزيز: (وهل أملك شيئاً من المال لأوصي لأبنائي به أم تريد أن أوصي لهم بأموال المسلمين؟! والله! ما أنا بفاعل، أدخلوا أبنائي عليّ، فأدخلوهم عليه، وهو على فراش الموت، فنظر إليهم وبكى، وقال: أي بنيّ! إن أباكم قد خير بين أمرين: بين أن يترككم فقراء ويدخل الجنة أوأن يترككم أغنياء من أموال المسلمين ويدخل النار، ولقد اختار أبوكم الجنة إن شاء الله، وأنتم عندي أحد رجلين: إما أن تكونوا صالحين فالله يتولى الصالحين، وإما أن تكونوا غير ذلك فلا أدع لكم ما تستعينون به على معصية الله؛ وأسأل عنه أنا بين يدي الله، اخرجوا عني، فخرجوا عنه، وهو يردد قول الله: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]، وفاضت روحه إلى رب العالمين، وهو يردد هذه الآية من كلام أحكم الحاكمين.

    مواقف في ثبات بعض الصالحين المتأخرين عند الموت

    أيها الأحبة! قد يقول قائل من آبائنا وأحبابنا: هؤلاء هم أصحاب النبي، وهؤلاء هم السلف، فأين نحن من هؤلاء؟! فنقول: يا إخوة! ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء؛ والله ذو الفضل العظيم، كما قال تعالى: ثلة من الأولين * وثلة من الآخرين [الواقعة:39-40] وقال: ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين [الواقعة:13-14]. هذا شاب أمريكي يختم له وهو ساجد يصلي لله عز وجل. وأخبرني بعض الإخوة عن داعية من إخواننا في الإسكندرية، وقف يتكلم عن مؤتمر السكان الذي عقد في القاهرة، وهو يتلمض ويتغيظ قلبه، ويكاد قلبه أن يتمزق وأن يتقطع، فيصاب بانفجار في المخ؛ فيموت وهو على منبر رسول الله! انظروا إلى الخواتيم؛ فالخواتيم ميراث السوابق. وهذه أخت فاضلة ترجع مع زوجها بعد العمرة، وتركب الباخرة التي سمعتم عن حكايتها، وأوشكت الباخرة على الغرق، فقال هذا الزوج لزوجته: هيا اخرجي لنصعد فوق السطح؛ لأن المركب يغرق، فقالت: انتظر حتى ألبس ثيابي ونقابي فقال: هذا وقت نقاب؟! أهذا وقت ثياب؟! اخرجي فالناس أوشكوا على الغرق، فقالت: والله! لن أخرج إلا بكامل ثيابي، حتى إن قدر الله عليّ الموت ألقى الله وأنا على طاعة، ولبست ثيابها والمركب يغرق، وصعدت إلى السطح، فلما علمت أنها إلى الهلاك سائرة تعلقت بزوجها وقالت: أستحلفك بالله، هل أنت راضٍ عني؟ فبكى، فقالت: أريد أن أسمعها منك، قال: والله! ما رأيت منك إلا الخير، قالت: أريد أن أسمعها منك، فنظر إليها وبكى، وقال: أشهد الله أني راضٍ عنك، فتعلقت به وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، يقول: والله! ما رأيتها بعد هذه الكلمات، وأسأل الله أن يجمعني بها في جنة رب الأرض والسماوات. إنها الخواتيم! وهذا مؤذن يؤذن عشرين سنة ابتغاء مرضات الله عز وجل، وقبل الموت مرض مرضاً شديداً أعجزه أن يخرج للصلاة، وأعجزة أن يخرج إلى بيت الله جل وعلا، وفي اليوم الموعود بكى، ورفع أكف الضراعة إلى الله وقال: يا رب! أؤذن عشرين عاماً، وأحرم من الأذان في آخر عمري! فنادى على أولاده وقال: وضئوني، فوضئوه، فقال: هل حان وقت صلاة الظهر؟ قالوا: نعم، فقام على سريره في بيته واتجه إلى القبلة ورفع الأذان كاملاً إلى أن وصل إلى قوله: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، ثم خر على سريره، وقد فاضت روحه إلى الله، ولسانه يردد: لا إله إلا الله! لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه.

    مواقف وأحوال بعض العصاة عند الموت

    هذا صنف خبيث آخر -نسأل الله الستر والسلامة والعافية- إذا نام على فراش الموت خانه لسانه، وخانه قلبه، ويضله الله عن قولة التوحيد، وعن قولة الإيمان، يذكر الإمام ابن القيم في أحد كتبه: أن رجلاً مرت عليه امرأة فقالت له: أين الطريق إلى حمام منجاب؟ فنظر هذا الرجل إلى المرأة وإلى جمالها، فوقعت في قلبه، فأشار إلى باب داره، وقال: هذا هو حمام منجاب، فدخلت المرأة الدار، ولما علمت أنها وقعت في فخ المعصية، أرادت أن تزين المعصية له حتى تهرب، ثم انصرفت إلى حال سبيلها بعدما قالت: ائتني بكذا وكذا، فخرج الرجل ليأتيها بالطعام والشراب، ولما عاد كانت المرأة قد خرجت وهربت، فلم يجدها، فخرج ليبحث عنها في الشوارع والطرقات وهو يقول: يا رب قائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب؟ ولما نام على فراش الموت ذهبوا ليلقنوه. (لا إله إلا الله) فكان يرد عليهم قوله: يا رب قائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجاب؟ وختم له بهذه الكلمات. والعياذ بالله! وهذا رجل في المنصورة يخبرني عنه أخ ثقة: أنه كان جاراً له؛ يقول: ما من مرة دخلت البيت إلا وأسمع الغناء الفاحش في دار هذا الرجل، فذكرته مراراً وتكراراً فأبى، فكبر سنه وهو لم يصل لله جل وعلا. يقول: فسمعت أنه يحتضر، فصعدت إليه؛ لأنه كان يسكن في البيت الذي يعلوني، فرأيت الرجل في فراش الموت يحتضر، ولا زال شريط الغناء يغني! فقلت لأبنائه: اتقوا الله؛ أبوكم يحتضر، وملك الموت بيننا، والملائكة الكرام حولنا، وأنتم تضعون الغناء، ضعوا القرآن الكريم لعل الله أن ييسر عليه، وأن يهون عليه السكرات والكربات، يقسم بالله العظيم إن أبناءه سكتوا، واقترب من جهاز الكاست ليخرج شريط الغناء، يقول: أقسم بالله لقد كشف الرجل الغطاء عن وجهه وقال لي: دع الغناء؛ فإنه ينعش قلبي!!! لقد أجرى الله الكريم عادته بكرمه أن من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه.

    1.   

    وسائل الثبات على دين الله عز وجل

    أيها الأحبة! ما هي الوسائل التي تعينك على الثبات على دين الله، حتى تلقى الله عز وجل على دينه وطاعته، أسأل الله أن يوفقني وإياكم لذلك، فإنما الأعمال بالخواتيم، أسأل الله أن يحسن خاتمتنا:

    من وسائل الثبات الاستعانة بالله عز وجل

    أول وسيلة من وسائل الثبات حتى الممات: أن تستعين برب الأرض والسماوات؛ فمن أعانه الله فهو المعان، ومن خذله الله فهو المخذول، فاستعن بالملك أن يثبت قلبك، وأن يسدد رميتك، وأن يثبت قدمك على الطريق، ذكر الإمام ابن الجوزي أن شيخاً من الشيوخ قال لطالب علم عنده: يا بني! ماذا أنت صانع لو مررت على غنم فنبحك كلبها؟ فقال التلميذ: ادفع الكلب ما استطعت، قال: فماذا تصنع إن نبحك الثانية؟ قال: أدفع الكلب ما استطعت، قال: فإن نبحك الثالثة؟ قال: أدفع الكلب ما استطعت، فقال الشيخ لتلميذه: يا بني! ذاك أمر يطول، ولكن استعن بصاحب الغنم يكف عنك كلبها، وكذا استعن بالله يكف عنك كيد الشيطان. فمن توكل عليه كفاه، ومن اعتصم به نجاه، ومن استعان به هداه، فأول سبيل أن تطرح قلبك بمنتهى الذل والفقر لله عز وجل، واعترف له بضعفك وبعجزك، واعترف له بفقرك، وقم في الليل، ففي الليل أنس المحبين، وروضة المشتاقين، وإن لله عباداً يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي غنمه، ويحنون إلى غروب الشمس كما تحن الطير إلى أوكارها، حتى إذا ما جنّ عليهم الليل، واختلط الظلام، وبسطت الفرش، وخلا كل حبيب لحبيبه، نصبوا إلى الله أقدامهم، وافترشوا إلى الله جباههم، وناجوا ربهم بقرآنه، وطلبوا إحسانه وإنعامه؛ فإن أول ما يمنح الله عز وجل هؤلاء أن يقذف من نوره جل وعلا في قلوبهم، فقم في الليل، وإذا خلا الأحباب بالأحبة فقم أنت وتضرع إلى الله ليثبتك ويسددك، واطلب العون والمدد منه جل وعلا.

    من وسائل الثبات قراءة القرآن والعمل به

    ثانياً: من أعظم وسائل الثبات قراءة القرآن الكريم والعمل به، قال تعالى: وَقَاْلوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا [الفرقان:32] فالترتيل للقرآن من أعظم وسائل الثبات. أيها الحبيب المبارك! إن عجزت عن أن تقرأ أنت بنفسك فاسمع القرآن، وإن عجزت عن ذلك كله فاجلس إلى رجل واطلب منه أن يقرأ عليك القرآن، فكما يفكر الواحد منا في أن يدخل لبيته كل وسائل الترفيه، وكل وسائل السعادة؛ فليفكر في أن يمنح لرجل من أهل القرآن راتباً نظير حبسه لوقته، لا نظير تعليم القرآن، وليقل له: تعال علمني القرآن، وعلمني قصار السور، وأسمعني القرآن، قال تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا [النساء:66] فاقرأ القرآن، وتدبره واجتهد على قدر استطاعتك أن تعمل به.

    من وسائل الثبات مداومة ذكر الله عز وجل

    ثالثاً: ذكر الله، فلا يفتر لسانك عن ذكر الملك، ولقد ضرب النبي لنا مثل الذاكر ومثل الغافل في حديث عجيب رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري قال: قال صلى الله عليه وسلم: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت) فالذاكر حي، والغافل عن الذكر ميت ولو كان يعيش بين الأحياء، فأكثر من ذكر الله، يقول الله جل وعلا في الحديث القدسي الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة عن رسول الله عن رب العزة عز وجل: (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني) فهل تريد شيئاً أعظم من أن يكون الله معك؟! وإذا كان الله معك فمن يكيدك؟ ومن ضدك؟ (أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة).

    من وسائل الثبات المحافظة على الصلاة في جماعة

    رابعاً: المحافظة على الصلوات في جماعة، فاحرص على أن تهرول إلى بيوت الله، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، وإخوانك هم الذين يأخذون بيديك إلى الطاعة، ويذكرونك بالله، والنظر في وجوه الصالحين ورؤيتهم تذكرك بطاعة رب العالمين، كما قال سيد المرسلين: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إن لم تشتر منه ستشم الطيب منه، ونافخ الكير إن لم يحرق كيره ثيابك ستشم منه رائحة خبيثة) وصلاة الجماعة من أعظم وسائل الثبات على الدين، فقد روى أحمد وبعض أصحاب السنن وحسنه الألباني في (صحيح الترغيب والترهيب) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تحترقون تحترقون، حتى إذا صليتم الصبح غسلتها)الله أكبر! كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)، قال في الحديث السابق: (تحترقون تحترقون حتى إذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون-أي: بالذنوب والمعاصي- فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم شيء حتى تستيقظوا) فاحرص على الخير وعلى الطاعة، وقل: آمنت بالله ثم استقم، واستقم على طريق الخير، وعلى طريق الطاعة، وعليك بالمحافظة على الصلوات.

    من وسائل الثبات مجالسة الصالحين

    خامساً: مجالسة الصالحين وصحبتهم كما ذكرت، فاحرص على صحبة الصالحين في الدنيا، وبعد موتهم بقراءة شعرهم، والاطلاع على أخبارهم، يقول الإمام ابن القيم : كنا إذا ضاقت صدورنا ذهبنا إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، فإذا رأيناه وسمعنا كلامه؛ انطلقنا وقد شرح الله صدورنا. وفي سنن ابن ماجة بسند حسن من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من الناس ناساً مفاتيح للخير، مغاليق للشر) فاحرص على هذه المفاتيح التي تفتح قلبك وأذنك وسمعك وبصرك على الخير.

    من وسائل الثبات ذكر الجنة والنار

    وأخيراً: ذكر الجنة والنار، فأكثر من ذكر الجنة، وأكثر من التدبر في أحوال النار وأهل النار؛ فإن كثرة التذكر والتدبر للجنة والنار يدفعك للطاعة، ويعينك على أن تثبت على الطاعة، فهذه الدنيا قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة، ومهما طالت فهي قصيرة، فكم ستعيش؟! ستعيش أياماً قليلة جداً، فبالمقارنة إلى الزمن ستعيش أياماً قليلة، فتذكر دار القرار، وتذكر النار، واعلم أنك هنا في مزرعة، وفي بوتقة ابتلاء واختبار، فاغرس هنا ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم، وتذكر الجنة، وذكر نفسك وقل لها: يا نفس قد أزف الرحيل وأضلك الخطب الجليل فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطويل فلتنزلن بمنزل ينسى الخليل به الخليل وليركبن عليك فيه من الثرى ثقل ثقيل قرن الفناء بنا جميعاً فما يبقى العزيز ولا الذليل وذكرها بقول الآخر: أيا عبد كم يراك الله عاصياً حريصاً على الدنيا وللموت ناسيا أنسيت لقاء الله واللحد والثرى ويوماً عبوساً تشيب فيه النواصيا لو أن المرء لم يلبس ثياباً من التقى تجرد عرياناً ولو كان كاسيا ولو أن الدنيا تدوم لأهلها لكان رسول الله حياً وباقيا ولكنها تفنى ويفنى نعيمها وتبقى الذنوب والمعاصي كما هيا أسأل الله جل وعلا أن يثبتنا على الحق، اللهم ثبتنا على الإيمان، اللهم ثبتنا على الإيمان، اللهم إن أردت بالناس فتنة فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين، ولا مفرطين ولا مضيعين، ولا مغيرين ولا مبدلين، برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها! اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا. اللهم برحمتك لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين! اللهم اجعل جمعنا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا سبباً لمن اهتدى! اللهم اجعل هذه البلاد سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، واجعل هذه البلاد أمناً وأماناً وسائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين! أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء, وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756197783