بسم الله الرحمن الرحيم.
هذه الآيات تعقب الله تعالى بها تجارته مع عباده التي سبقت في الآيات السالفة، وذلك لبيان أن هذه التجارة المربحة، التي بين الله تعالى للمؤمنين أرباحها، وثمراتها، لا يمكن أن تتم إلا بجهد جهيد، هو بذل الجهد لإعلاء كلمة الله تعالى، وإعزاز دينه، ولذلك خاطب الله تعالى عباده هذا الخطاب العظيم، وناداهم بهذا النداء الكريم.
فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا[الصف:14], فمن استحضر منهم هذا كان كليماً لله تعالى؛ لأن الله يكلمه يخاطبه بهذا الكلام على الوجه الذي سبق بيانه في مقدمة الآيات.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ[الصف:14]، بعد أن أثبت لهم وصف الإيمان القدري، أمرهم بهذا الأمر العظيم، وهو أن يجعلوا أنفسهم جنداً لله تعالى، ملتزمين بأوامره مجتنبين لنواهيه، متهيئين لخدمة دينه، وإعلاء كلمته مهما كلف ذلك من الأثمان، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا[النساء:135]، هذا الفعل هو فعل أمر من الكون المقتضي للصيرورة، يقتضي الانتقال من حال إلى حال، والتميز على الأغيار والأضداد، وأن يغير الشخص من حياته ومن كيانه، ومن واقعه؛ لأن الكيان مشتق من الكون، فالشخص الذي يستطيع تغيير ما في نفسه يغير الله تعالى حاله إلى أحسن الأحوال، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
فإذا كون الشخص نفسه وعالجها، وجاهدها، حتى وصلت إلى أن تكون من جند الله تعالى، مستعدةً للتضحية والبذل في سبيل الله استجابة لهذا الأمر الكريم من رب العالمين جل وعلا، ولا تخفى الإشارة هنا إلى أن هذا الأمر لا يتم إلا بالتكوين والممارسة والفعل؛ لأنه لم يقل: يا أيها الذين آمنوا انصروا الله، وإنما قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ [الصف:14].
وفي القراءة الأخرى ((أنصاراً لله))، والفرق بين القراءتين من ناحية التفسير: أن قراءة (أنصار الله)، تقتضي أن تكون هذه الأمة، وهذا الجيل المسلم، المؤمن، الموحد، أنصاراً لله تعالى نصرةً خالصةً دون غيرهم، وبذلك يحظونَ بهذا الوصف العظيم، الذي ميز الله به في صدر الإسلام المسلمين، من الأوس والخزرج، الذين كانوا أنصار الله تعالى، وأنصار رسوله الله صلى الله عليه وسلم.
والنصرة قسمان: نصرة خاصة، وقد فاز بها الذين تبوءوا الدار والإيمان، من بني قيلة من الأوس والخزرج، وهذه النصرة تقتضي أن يبذلوا أنفسهم، وجهدهم، ومالهم، وأوقاتهم، في نصرة دين الله تعالى، وقد فعلوا، ولذلك شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فأوصى الناس بالأنصار خيراً فقال: ( أوصيكم بالأنصار خيراً، فإنهم أدوا الذي عليهم وبقي الذي لهم).
وقال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لولا الهجرة لكنت من الأنصار، ولو سلك الناس شعباً، وسلك الأنصار شعباً، لسلكت شعب الأنصار ).
ولما قسم الغنائم يوم أوطاس، ولم يعطِ الأنصار منها شيئاً وجد الأنصار في أنفسهم حيث صبروا وقاتلوا، وجاهدوا، ولم يعطوا شيئاً من المال، وأعطيه المؤلفة قلوبهم من قريش، من أهل مكة، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، على وصفهم الحميد وهو الصراحة، فالصراحة مدعاة الثقة، الذي لا يكن في نفسه غضباً، إذا غضب على أخيه، أو على قائده، أو على مقوده، كاشفه بالأمر وصارحه، وقال: إني وجدت في نفسي عليك بسبب كذا، هذا الآن لابد أن تبنى له الثقة الكاملة بينه وبين قائده ومقوده؛ لأن الأمر واضح وليس فيه إشكال ولا كتمان، أما الذي يجد في نفسه ويكتمها ولا يطلع عليها غيره، ويبقى الشيطان يشعلها ويزيدها فهذا مدعاة للتفرق، والخلاف، ومدعاة أيضاً لعدم الثقة بين الأفراد، فالأنصار جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأرسلوا إليه رسولاً منهم، فأخبروه بأنهم وجدوا في أنفسهم عليه، والذي يخبره قد لا يكون ممن وجد هذه الجدة في قلبه، ولكنه يحدث بحديث عوامهم.
فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجتمعوا في مكانٍ وألا يحضر معهم أحد، فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، ليس معه رجل من قريش، فقال: هل فيكم أحد ليس منكم؟ فقالوا: ليس فينا إلا فلان وهو ابن أختنا، فقال: ( ابن أخت القوم منهم، يا معشر الأنصار مقالة بلغتني عنكم )، ثم عرض عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض النعم التي أنعم الله بها عليهم بسبب هجرته إليهم، فقال: ( ألم أجدكم كفاراً فهداكم الله بي، ألم أجدكم أهل قتالٍ وحربٍ، فألف الله بين قلوبكم بي، ألم أجدكم فقراء فأغناكم الله بي، ألم أجدكم أذلاء فأعزكم الله بي، فقالوا: نعم الله ورسوله أمن ).
فرجعوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ديارهم، وكان هذا حظهم من الغنيمة، هذا حظهم من الدنيا، ولذلك بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أثرة عليهم، ففي حديث عبادة بن الصامت الأنصاري رضي الله عنه قال: ( بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع، والطاعة، في المنشط، والمكرة، وعلى أثرة علينا، وعلى أن نقوم أو نقول بالحق حيث ما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم ).
وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الناس يزيدون، والأنصار ينقصون، فهؤلاء مضت لهم النصرة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( مضت الهجرة لأهلها، ومضت النصرة لأهلها، وبقي الجهاد والنية ).
(مضت النصرة لأهلها) هذه النصرة الخاصة، هي نصرة الأنصار، وقد مضت لأهلها، فاز بها السابقون من الأنصار، ولذلك ثنّى الله بهم بعد السابقين من المهاجرين في قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً [التوبة:100].
النصرة العامة: هي أن يكون الشخص في ولائه وانتمائه، وبذله، وعطائه، وفي عداوته وفي رضاه وغضبه، كل ذلك يعرف لماذا يعمل، ولمن يقدم، وأنه عبد من عباد الله، وجند من جند الله، أرسله الله تعالى وكلفه، واختاره من بين خلقه بأن أنعم عليه بنعمة الهداية للإيمان، واستغله بأن يكون من جنود الله، وهذا تشريف عظيم، وانظروا إلى ذرية آدم التي نسبة 99% منها هم بعث النار، كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن الله تعالى ينادي آدم يوم القيامة، فينادي بصوتٍ: يا آدم أخرج من ذريتك بعث النار، فيقول: من كم؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ).
فهذا الآن نسبة تسعمائة وتسعة وتسعين في الألف من ذرية آدم إلى النار، والمؤمنون إذاً نسبة واحد في الألف، فإذا امتن الله تعالى على عبدٍ من عباده بأن جعله من هذه النسبة، جعله من نسبة واحد في الألف، وهم جند الله وأنصاره المؤمنون الذين امتن الله تعالى عليهم بأن قذف في قلوبهم نوره وإيمانه، فهذا تشريف عظيم، ونعمة جلَّى، فينبغي أن يبذلوا في سبيل هذه النعمة، أن يشكروا هذه النعمة لله تعالى.
وانظروا إلى مقام الأنبياء، فهذا موسى كليم الله الذي اصطفاه، الله بكلماته ورسالاته يقول: رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ[القصص:17]، (رب بما أنعمت علي)، معناه: بسبب نعمتك، علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين، لا يمكن أبداً أن تراني في الصف المقابل، أن تراني واقفاً في وجه دينك، مناصراً لمن يحادونك ويقفون في وجه كلماتك، إذاً هذا هو الموقف الصحيح، في تقييد نعمة الله تعالى بالإيمان، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ [الصف:14] .
إذاً هذه النصرة العامة مشروطة على كل المؤمنين، كل من امتن الله تعالى عليه بنعمة الإيمان، فإن الله شرط عليه أن يكون نفسه لأن يكون ناصراً لدين الله، ناصراً للحق، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ [الصف:14].
ذكرت بالإشارة الفرق بين القراءتين من ناحية التفسير، بين قراءة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ [الصف:14]؛ معناه: اختصوا بهذا الوصف العظيم، وكونوا أنصار الله دون بقية الملل الأخرى.
والتفسير الثاني على القراءة الأخرى (يا أيها الذين أمنو كونوا أنصاراً لِله)؛ معناه: اجعلوا أنفسكم من جند لله تعالى، وجنود الله تعالى كثير، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ [المدثر:31]، فحاولوا أن تجعلوا أنفسكم من المنطوين والمنضوين تحت لواء: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
(كونوا أنصار الله)، هذا الآن أمر نظري، وكل أمر نظري يحتاج إلى مثال، أو تطبيق، لو أمرتم بأمر الآن ولم يبين لكم هذا الأمر وطريقته، وأداؤه، فإن هذا امتحان عظيم، ولذلك من نعم الله تعالى علينا أنه علمنا ما كلفنا به، مثلاً انظروا قول ابن عاشور رحمه الله تعالى: الحمد لله الذي علمنا من العلوم ما به كلفنا، لو كلفنا ولم يبين لنا ما كلفنا به فهذه بلاء عظيم، وفتنة عظيمة، هنا بيّن لنا أن الذي أمرنا به يمكن أن يبرز للعيان، وأن يخرج من النظرية إلى التطبيق؛ لأنه قد حصل فعلاً، ما هو المثال على ذلك؟ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ [الصف:14].
المطلوب منا أن نكون أنصار الله على نفس الهيئة، وأن نعيد نفس التجربة التي خاضها رُسل الله قبل رسولنا صلى الله عليه وسلم، ومن أمثلة ذلك عيسى بن مريم روح الله وكلمته التي ألقى إلى مريم، عندما جاء إلى بني إسرائيل، فأخبرهم أنه رسول من عند الله وبشرهم ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فعادوه وحاولوا التخلص منه وقتله، قال للحواريين وهم الذين اختارهم الله تعالى من بني إسرائيل لتصديق نبيه: من أنصاري إلى الله؟ هذه الاستفهام يجب أن نلاحظ الآن أنه موجه إلى كل واحد منا، وكل واحدة، كل شخص منا، قامت عليه الحجة بهذا الاستفهام، من أنصاري إلى الله؟ هل أنت من ستعد لأن تكون من أنصار الله؟ هذا الاستفهام مطروح على كل أحد، قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ [الصف:14].
والقول هنا المقصود به القول الذي يصحبه التطبيق؛ لأنه لا عبرة بالقول الكاذب، وشر الكذب، الكذب في التعامل مع الله، أن يكون الشخص يقول ما لا يفعل، ولهذا ابتدأ الله هذه السورة الكريمة بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ))[الصف:]، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:3]، في مقدمة هذه السورة نفسها، فإذاً القول هنا الذي قاله الحواريون، طابق الفعل فسعوا وعملوا، وبذلوا، حتى لقوا الله تعالى وهو عنهم راضٍ، فلذلك ضربهم الله مثلاً لخير أمة أخرجت للناس، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ [الصف:14]، الحواريون: جمع حواري، والحواري معناه: الناصر، الذي يبذل الجهد في سبيل نصرة منصوره، ولكل نبي حواري، وحواري رسول صلى الله عليه وسلم ابن عمته الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، واختص بذلك؛ لأنه كلما عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم خطةً بادر الزبير إليها أمام غيره، ولذلك قال فيه حسان بن ثابت رضي الله عنه:
وكم كربةٍ ذب الزبير بسيفه عن المصطفى والله يعطي ويجزل
فما مثله فيهم ولا كان قبله وليس يكون الدهر ما دام يذبل
ولذلك لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يبرزوا للمبارزة والجهاد في سبيل الله، خرج الزبير مستعداً لذلك، ولما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ليلة الأحزاب: من يخرج إلى المشركين فيأتي بخبرهم لم ينتدب لهذه المهمة في البداية غير الزبير بن العوام، ثم إن أمه صفية بنت عبد المطلب وهي عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله ليس لي ولد سواه، فشفعت أن لا يخرج لهذه المهمة، فانتدب لها حذيفة بن اليمان، وكان جزاؤه على ذلك مرافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ[الصف:14]، معناه: بتكليف من الله تعالى للحواريين، وهم الذين آمنو به ونصروه واتبعوه من بني اسرائيل، وقد اختلف في عددهم، فقيل: كانوا اثني عشر، كما أن موسى اختار من بني إسرائيل اثني عشر نقيباً، وقيل: كانوا أكثر من ذلك، ولا يعنينا هنا العدد، وإنما يعنينا أن هذا الذي أمرنا به أمر غير مستحيل، بل هو ممكن وقد حصل فعلاً في ما مضى من الزمان، وقام هؤلاء الأفذاذ الذين هداهم الله لهذا، فاستعدوا لنصرة دين الله تعالى، وكانوا أنصار الله: قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ [الصف:14].
حينئذٍ لا ينتهي الامتحان عند هذا الحد بل يستمر؛ لأن الله تعالى قد شاء أن يستمر الصراع بين الحق والباطل، وأن يمتحن به أقواماً، فيعز به أقواماً في الملإ الأعلى، ينادى بهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة: هؤلاء الذين صدقوا الله ما عاهدوه عليه، ويذل به آخرين، فينالون حظاً من هذه الدنيا الفانية، ثم يكونون ممن لا خلاق لهم يوم القيامة.
فلذلك أخبرنا الله تعالى عن هذا الامتحان بعد جواب الحواريين لـعيسى بقوله: فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ [الصف:14]، آمنت طائفة من بني اسرائيل، صدقت عيسى واتبعته واستجابت للحواريين، آمنت طائفة من بني اسرائيل، (وكفرت طائفة)، معناه: استمرت على كفرها، ووقفت في وجه هذه الدعوة، وسعت من أجل إفشالها وإضعافها، وحاولت قتل نبيها صلى الله عليه وسلم، والتخلص منه، وادعوا أنهم صلبوه: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهمْ[النساء:157].
فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف:14]، أيد الله تعالى هؤلاء الذين صرحوا بأنهم أنصار الله، وقالو ذلك وفعلوه، أيدهم بنصرته في الدنيا، وأيدهم بنصرته في الآخرة، فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ[الصف:14], وهذا التأييد يشمل النصرة في الدنيا، والنصرة يوم القيامة.
فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ[الصف:14]، والمقصود بعدوهم؛ ما هو شامل للأعداء كلها، والأعداء كما سبق بيانه خمسة:
- الشيطان: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً [فاطر:6].
- والنفس: إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي [يوسف:53].
- وإخوان السوء الذين: يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ[التوبة:67].
- وملذات الدنيا وشهواتها، وكذلك الحظوظ النفسية، ملذات الدنيا وشهواتها مثل: بعض الأولاد، وبعض الزوجات، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14].
- ثم الدنيا بحذافيرها وبما فيها من خير وشر، عدوة للإنسان؛ لأنها ليست دار مقام.
فهذه الأعداء الخمسة، انتصر عليها هؤلاء، فانتصروا أولاً على أنفسهم، ثم على الشيطان، ثم على إخوان السوء، ثم على شهوات الدنيا والأولاد، والأهل، ثم على حظوظ الدنيا، وبذلك نالوا النصر على أعدائهم وأعداء الله تعالى من الكفرة الفجرة، الذين يحاربون أولياء الله تعالى، ويعادون دينه.
فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف:14]، عطف هنا بالفاء التي تقتضي الترتيب والتعقيب؛ معناه بعد أن امتحنهم الله تعالى بالوقوف في وجه أعدائه، وامتحنهم الله تعالى، بالجهاد في سبيله أصبحوا ظاهرين.
فلذلك جاء بالفاء وهنا، ولم يأتِ بالواو، لو قال: (فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم وأصبحوا ظاهرين)، لكان هذا لا يقتضي ترتيباً ولا تعقيباً، بل يمكن أن يكتب لهم الظهور والغلبة في أزمنةٍ متأخرة، ويمكن أيضاً أن يحصل ذلك قبل أن يصبروا وأن يصابروا وأن يجاهدوا، فلما أتى بالفاء الدالة على الترتيب، والتعقيب، تبين لنا أن المقصود هنا أن الصبر هو الذي نالوا به الظفر والنصر.
فلذلك قال: (فأصبحوا)، والمقصود بالإصباح في الأصل الدخول في وقت الصباح، وذلك استعارة عن الزمن الجديد، والزمن دائماً في تقلب، وكل فترة منه تعتبر صباحاً جديداً، ولذلك يعبر عن الزمان كله وعما حصل فيه مما هو متجدد بالإصباح، فيقال: أصبح فلان عالماً مثلاً، وليس المقصود أنه أصبح في الصبح هذا اليوم، أو في صبح الأمس، أو في صبح يومٍ بعينه، بل المقصود أنه انتقل من حالٍ معين إلى حالٍ آخر، في فترة زمنية معينة.
وبيان ذلك من الناحية المجازية: أن الإصباح يأتي بعد الظلام، فالظلام هو الليل الذي يستر الحقائق، ثم يأتي الإصباح فتنجلي الحقائق على هيئتها، وتبصر الأمور على واجهتها، وبذلك يزول كل غبش وكل ظلام، فكأن الأمور مستورة بساتر وهو الغيب، الذي هو من أمر الله، محجوبة عن العيان، فإذا انكشف ذلك الساتر، وانكشف ذلك الحجاب، بدت الأمور على حقيقتها، فحينئذٍ قال: فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف:14]، والمقصود بالظهور هنا: الغلبة، والنصر على أعدائهم، والتمكين لهم، وهذا ما وعد الله تعالى به كل من نصره وكل من سعى لإعزاز دينه، فالله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[محمد:7]، فإذاً هذا وعد الله تعالى مشروط، وهو مترتب على البذل والسعي، ترتب الجواب على الشرط، الجواب لا يمكن أن يتخلف عن الشرط، فكذلك هنا نصرة الله تعالى وتمكينه لا يمكن أن تتخلف عن بذل الجهد في سبيل إعلاء كلمته.
وهذا التمكين ليس للأفراد كما سبق التنبيه عليه، إنما هو للهدف المنشود، وللدين الذي ينتمي له الشخص ويعتز به، فلذلك فالذين ماتوا في سبيل إعزاز دين الله تعالى وإعلاء كلمته، قد كتب لهم النصر والتمكين، ولذلك قال الله تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ[غافر:51]، يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهمْ سُوءُ الدَّارِ[غافر:52]، فالله تعالى ينصر الأنبياء وأتباعهم ولو بعد حين، حتى ولو ماتوا قبل التمكين لهم في الأرض، فإن نصرتهم تدخل عليهم في قبورهم، فيدخل عليهم السرور في قبورهم بنصرة الله تعالى لدينه، وإعزازه لأوليائه، وبذلك يكون هذا من نعيمهم في قبورهم.
ثم يوم القيامة يوم يقوم الأشهاد، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم، ينصر هؤلاء في الملإ الأعلى، وهذا هو النصر الدائم المستمر الذي لا انقطاع فيه، ولا يتخلله أي خسائر ولا أي هزائم، فلذلك قال: فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [الصف:14]، وهذا الظهور هنا لم يحدثنا الله تعالى به قصصاً فقط حال قومٍ قد مضوا وسلفوا، وإنما هو ضرب مثلٍ لكل من يقوم بنصرة الدين، ويريد إعلاء كلمه الله تعالى وإعزاز دينه، فإن الله سينصره ويظهره في الملإ الأعلى، وأيضاً ينصره في الدنيا: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ[غافر:51].
وهذه الآيات الكريمات يؤخذ منها كثير من المعاني العجيبة، منها: أن هذه التجارة التي ساق الله تعالى لنا في مقدمة هذه الآيات إنما تستدعي بذلاً، وتضحية، وصبراً، وأيضاً تستدعي مصابرة.
ثانياً: أنها تستدعي ملأً وجماعةً يقومون بها، وأنها لا يمكن أن تتم على مستوىً فردي، ولذلك لم يقم عيسى لنصرة دين الله وحده، وإنما قال: من أنصاري إلى الله، ويلاحظ من هذا أن عيسى وهو النبي المؤيد بالمعجزة، لو كان يعلم أن نصرة دين الله تعالى، يمكن أن تكون فردية، لقام بذلك ولم يستدعِ هذا تكوين جماعة ولا إنشاء تنظيم، وعيسى قال: (من أنصاري إلى الله)، فأنشأ جماعةً وكون على أساسها هذه الدولة بكاملها.
هذا النصر أيضاً يؤخذ منه: أن عمل السالفين يستمر حقبة من الزمن؛ لنصرة اللاحقين، ولذلك قال الله تعالى في عيسى: وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ[آل عمران:55]، فأتباع عيسى الذين لم يغيروا ولم يبدلوا، لابد أن يعليهم الله تعالى على الكافرين في الدنيا إلى يوم القيامة، فيبقون محترمين عند الكافرين إلى يوم القيامة، وهذا الإعلاء ليست ميزة أخروية، وإنما هو ميزة دنيوية، أما في الآخرة فلا يغني عنهم هذا من الله شيئاً؛ لأن من لم يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من أتباع الرسل السابقين لابد أن يكبه الله على وجهه في النار، كما قال الرسول صلى الله على وسلم: (والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي أحد من هذه الأمة لا يهودي، ولا نصراني، ثم لم يؤمن بي إلا كبه الله على وجهه في النار ).
وهذا أيضاً يؤخذ منه: أن النصرة في الدنيا غير منافية للعذاب في الآخرة، وأن التمكين في الدنيا لا يقتضي الغرور الأخروي، فإن بني إسرائيل لما أغدق الله عليهم النعم في الدنيا، أخذوا من هذا أن حظهم في الآخرة أعظم من حظهم في الدنيا، وقالوا: وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ[البقرة:80]، ورد الله عليهم بقوله: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[البقرة:81].
وكذلك يؤخذ من هذه الآيات من الفوائد: أن التاريخ يتكرر، وأن التجارب تعود، وأن القرآن يبقى حجة حتى على من لم يوجد، ولم يولد، في وقت نزوله، فهذه الآيات يخاطبنا الله تعالى بها اليوم، ونحن نسمعها كأننا نسمعها من ربنا جل وعلا، وكأنها كلام يوجه إلينا، ولم يوجه إلى سوانا، وهذا تشبيه عجيب هنا في أن هذا القرآن الذي نزل قبل ألف وأربعمائة سنة، مع ذلك ما زال ناطقاً بالحق علينا، يخاطبنا الله تعالى به، وكل من سمعه، وكل من بلغه إلى يوم القيامة، هو حجة عليه، يخاصمه ويخاطبه بين يدي الباري جل وعلا، ولذلك فإن كثيراً من الناس عندما يقرأه يلعنه، الذي يقرأ هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللهِ[الصف:14]، ولا يمتثلها، لا توسوس له نفسه أنه هو في نفسه ليس من أنصار الله، هذا الآن لا يعلم أن هذه الآية التي يقرأها بلسانه تلعنه، وأنه لم يمتثل لها ولم يستجب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللهِ[الصف:14]، يقرأها الشخص بلسانه، ثم لا يمتثل، فتلعنه الآية نفسها على لسانه هو، أنت لم تمتثل، ولم تستجب، ولست من أنصار الله، فكيف تقر وتقرأ هذا الكلام وهو موجه إليك ثم لا تستجيب.
كذلك من فوائد هذه الآيات: أن هذا المثل العجيب المستمر، يمكن أن نطبقه في كل اللحظات، فكل شخص منا الآن يمكن أن يقدر في نفسه لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث اليوم، وخرج من قبره، ماذا سيقول؟ لاشك أنه سيقول ما ضربه الله له مثلاً هنا، وسيقول: من أنصاري إلى الله، فإذا قالها الرسول صلى الله عليه وسلم فهل أنتم مستعدون لإجابته كما أجاب الحواريون عيسى، هذا الآن هو السؤال المطروح وهو الذي نطرحه على أنفسنا، وينبغي أن نكون حاضرين لإجابته.
الرسول صلى الله عليه وسلم قائم من قبره؛ لأنه جاء برسالة، وهذه الرسالة لم تقبر معه، هذه الرسالة ها هي بين أيدينا، لم تقبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما زالت تريد النصر، تريد من ينصرها في كل الفترات، وفي كل الأحايين، وفي كل الأزمنة، وكل من نصرها فهو من جند محمدٍ صلى الله عليه وسلم السائرين تحت لوائه، في كل العصور وفي كل الأمكنة، وكل من نكص على عقبيه وتخلف عن الركب وتأخر، فقد خان الله تعالى ورسوله ولم يفِ لله ما عاهده عليه، وذلك بحسب الطاقة، وبحسب ما يستطيع وبقدر ما يمكن أن يقدم، لذلك فنحن نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو خرج من قبره الآن لم يكن ليأتي بشرع جديد؛ لأن الشرع قد كمل، والله تعالى أنزل عليه قوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا[المائدة:3].
ولكن الذي يحتاج إليه هو تطبيق ما كمل، تطبيق ما نزل، وإخراجه للناس على العيان، وإعداد الأنفس لتحمل المسئوليات حياله.
لذلك فكل شخص منا، ينبغي أن ينظر إلى نفسه وإلى قدميه، وموقعه، أين هو من إجابة داعي الله تعالى؟ وأين هو من هذا السؤال لو قدمه الرسول صلى الله عليه وسلم: من أنصاري إلى الله؟ هذه الآية الآن تنطق علينا، وكل شخص منا ينادى على لسان نفسه وبه أذنه، عندما يسمع أي قارئ يقرأها: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ[آل عمران:52]، وكأن محمداً صلى الله عليه وسلم يقولها بين يديه، فأين الجواب؟ هذا الذي ينبغي أن نستحضره، وأن نستشعره، وأن نكون عند حسن ظن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نكون مجيبين لدعوة الله تعالى التي وجهها إلينا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللهِ[الصف:14].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر