إسلام ويب

دورة الأترجة القرآنية [5]للشيخ : مساعد الطيار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في سورة الأنعام إثبات التوحيد ونبذ الشرك وأهله، وفيها إثبات الألوهية لله عن طريق الربوبية، وفيها كذلك ذكر عدد من صفات الباري سبحانه وتعالى وقهره وقوته وعلمه للأمور الظاهرة والباطنة، وفيها شيء من المواساة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتصبيره على ما يلقاه من أعدائه، وفيها إثبات أن القرآن هو المعجزة الخالدة للرسول صلى الله عليه وسلم، وفيها أيضاً ذكر مصير الكافرين يوم القيامة ومحاورتهم لربهم سبحانه وتعالى.

    1.   

    تابع تفسير سورة الأنعام

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل لمن ما في السموات والأرض قل لله ...)

    قال صاحب كلمات القرآن في تفسير الآية الثانية عشرة: [ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ [الأنعام:12]، قضى وأوجب تفضلاً وإحساناً، عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [الأنعام:12]، الذين أهلكوها وغبنوها بالكفر، فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:12]، وله ما استقر وحل في الليل والنهار، وهو السميع العليم، قل: أغير الله اتخذ رباً معبوداً وناصراً معيناً، مبدع ومخترع السموات والأرض، ويرزق عباده ولا يطعم، قل: إني أمرت أن أكون أول من خضع لله بالعبودية وانقاد، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ[الأنعام:14]، قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ[الأنعام:15] مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ [الأنعام:16]].

    قال في التفسير الميسر: [ قل أيها الرسول! لهؤلاء المشركين: لمن ملك السموات والأرض وما فيهن؟ قل: هو لله كما تقرون بذلك وتعلمونه، فاعبدوه وحده، كتب الله على نفسه الرحمة، فلا يعجل على عباده بالعقوبة. ليجمعنكم إلى يوم القيامة الذي لا شك فيه للحساب والجزاء، الذين أشركوا بالله أهلكوا أنفسهم، فهم لا يوحدون الله، ولا يصدقون بوعده ووعيده، ولا يقرون بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

    ولله ملك كل شيء في السموات والأرض، سكن أو تحرك، خفي أو ظهر، الجميع عبيده وخلقه، وتحت قهره وتصرفه وتدبيره، وهو السميع لأقوال عباده، العليم بحركاتهم وسرائرهم.

    قل أيها الرسول! لهؤلاء المشركين مع الله تعالى غيره: أغير الله تعالى أتخذ ولياً ونصيراً، وهو خالق السموات والأرض وما فيهن، وهو الذي يرزق خلقه ولا يرزقه أحد؟

    قل أيها الرسول: إني أمرت أن أكون أول من خضع وانقاد له بالعبودية من هذه الأمة، ونهيت أن أكون من المشركين معه غيره.

    قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين مع الله غيره: إني أخاف إن عصيت ربي؛ فخالفت أمره، وأشركت معه غيره في عبادته أن ينزل بي عذاب عظيم يوم القيامة.

    من يصرف الله عنه ذلك العذاب الشديد فقد رحمه، وذلك الصرف هو الظفر البين بالنجاة من العذاب العظيم ].

    تلازم الربوبية والألوهية

    في قوله سبحانه وتعالى: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:12]، يقول في التفسير الميسر.

    قل أيها الرسول، وبعض المفسرين يقولون: (قل) لمن يصلح له الخطاب، لهؤلاء المشركين، لمن ملك السموات والأرض وما فيهن، قل: هو لله كما تقرون بذلك وتعلمون، وهذه قاعدة في الاحتجاج في ذكر ما يسلم به الخصم، والانتقال مما يسلم به إلى تقرير القضية المختلف فيها.

    فالله سبحانه وتعالى هنا يقول: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:12]، يعني: قل لهؤلاء الكفار لمن ما في السموات والأرض، وجوابهم أنهم سيقولون لله؛ لأنهم يوافقون على هذه الحقيقة.

    يقول بعد ذلك: فاعبدوه وحده، يعني إذا كنتم تقرون بأن له ما في السموات والأرض، فإذاً هو المستحق للعبادة، وهذا الأسلوب تكرر في القرآن في مواضع من الآيات، وهو الاستدلال بالربوبية على الألوهية، وليس المراد من ذكر الربوبية مجرد الربوبية فقط، بل المراد ما يستلزم ذلك وهو عبادة الله سبحانه وتعالى وحده، ولذا أخطأت بعض الطوائف في التوحيد لما وقفت على توحيد الربوبية؛ لأن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الألوهية.

    فالتركيز على توحيد الربوبية على أنه مطلب هذا فيه تفصيل، ولهذا بعض المعاصرين لما كتب في توحيد الخالق ركز على جانب توحيد الربوبية، وكأنه يناقش ملاحدة، ويريد منهم أن يثبتوا وجود الله سبحانه وتعالى، وهذا المطلب مطلب قد انتهى منه القرآن وقرره، وليس هو المطلب الذي يوقف عنده، بل لا بد من الاعتناء بتوحيد الألوهية.

    ولهذا مع الأسف تجد أن بعض من يقرر التوحيد على هذا الأسلوب تقع عنده أخطاء في توحيد العبادة، أو أحياناً قد يقع عنده تهوين لبعض الأفعال التي تخالف توحيد العبادة، ولا شك أن هذا تقصير في جانب إدراك التوحيد من خلال القرآن، وليس من خلال قضية أن نقول: هذا توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفاء لا، بل من خلال القرآن نفسه، فلم يأتِ في القرآن توحيد الربوبية والمراد منه فقط توحيد الربوبية، بل أتى للدلالة على ما يستلزمه من توحيد الألوهية.

    ثم يقول الله: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12]، هنا يأتي الخطاب والذي ألزم نفسه هو الله سبحانه وتعالى، يعني كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:12]، أي: ألزم نفسه سبحانه وتعالى الرحمة، فهذا أمرٌ من الأمور المتعلقة بالله سبحانه وتعالى، ولا يجوز لكائن من كان أن يحرف أو يصرف هذا الخبر، ويقول: من الذي يلزم الله؟ لأنه سبحانه وتعالى هو ألزم نفسه بهذا الكتاب، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إن الله كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي ).

    فإذاً المقصود من ذلك أنه كما جاء في الخطاب كتب هو سبحانه وتعالى على نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:12]، والذين خسروا أنفسهم هم المشركون، الذين لم يوحدوا الله سبحانه وتعالى ولم يعبدوه، ولم يصدقوا بنبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فكأنه خطاب لهؤلاء الكفار الذين كانوا بين ظهراني النبي صلى الله عليه وسلم.

    أسلوب اللف والنشر في القرآن

    (وله) أي: ولله مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:13]، مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:13]، وهو السميع لأقوال عبادة، العليم بحركاتهم وسكناتهم، هنا ذكر عندنا الليل والنهار ورتب عليه السميع والعليم فهو من باب اللف والنشر المرتب، ومعنى اللف والنشر المرتب أن تذكر أشياء، ثم تذكر بعدها أشياء متعلقة بها على نفس الترتيب، فإذا أرجعنا السميع إلى الليل، والعليم إلى النهار، يكون هذا لفاً ونشراً مرتباً، إذا كان هذا على ما جاء في النشر واللف المرتب؛ لأن الليل الحاسة التي تعمل فيه أكثر هي السمع، والنهار يقع معه العليم، ولكن لا يعني عدم العكس، لا يعني أن العليم لا تصلح لليل، والسميع لا تصلح للنهار، لا، ولكن قلنا: إنه من باب اللف والنشر المرتب من باب البلاغة في اختيار الأنسب فقط، وإلا فهو سبحانه وتعالى له ما سكن في الليل وهو سميع عليم، بما يحصل في الليل، وله ما سكن في النهار وهو سميع عليم بما يحصل في النهار، لكن المقصود هو الإشارة إلى ما يتعلق باللف والنشر المرتب، حيث إن الآية جاءت على هذا الأسلوب البلاغي.

    المخاطب بقوله تعالى: (قل أغير الله أتخذ ولياً ...) وذكر لازمه

    قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الأنعام:14]، قوله: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الأنعام:14]، هذه الآية كقوله تعالى: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات:57]، فهذا إشارة إلى معنى قوله: وَلا يُطْعَمُ [الأنعام:14]؛ لأنه سبحانه وتعالى الغني الكامل، فهو يطعم، ولا يطعم، يعني: ليس فقيراً محتاجاً، بل المحتاج هو من يطعم وهم العباد، فالعباد هم الفقراء، والله سبحانه تعالى له الغنى المطلق، قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ [الأنعام:14]، ونحن نعلم أن الخطاب في قوله: أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ [الأنعام:14]، المراد بهذا الموجود في الخطاب، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:14]، أي: قل يا محمد! إني أمرت أن أكون أول من خضع وانقاد له بالعبودية ونهيت أن أكون من المشركين معه غيره.

    وهذه الآيات وما سيأتي بعدها مركزة على جانب التوحيد، وسننظر ونحن نناقش قضية موضوعات السورة، ما هو الموضوع الكلي الذي تدور حوله السورة، وهل هناك موضوع كلي يمكن أن يستنبط، ثم هذه الموضوعات التفصيلية ما علاقتها بهذا الموضوع الكلي.

    فهذه الآن مرتبطة بقضية التوحيد، ولهذا في قوله سبحانه وتعالى قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:14]، يعني: لا يمكن أن أتخذ من دون الله سبحانه وتعالى ولياً؛ لأنه فاطر السموات والأرض، أي: منشئهما ومبدعهما سبحانه وتعالى.

    ثم قال: وَهُوَ يُطْعِمُ [الأنعام:14]، أي: يوصل الطعام إلى خلقه، يعني يرزقهم، وَلا يُطْعَمُ [الأنعام:14]، لا يحتاج إلى أن يرزق سبحانه وتعالى كما في آية الذاريات: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ ...[الذاريات:57].

    ثم قال سبحانه: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:14]، الخطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم، ونحن نعلم يقيناً أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقع منه الشرك، فإذا كان يوجه إلى من علمنا أنه لم يقع منه شرك، فكأن لازم الخبر وأنتم أيضاً لا تكونوا أيها المتبعون له من المشركين وأيضاً إبراهيم عليه الصلاة والسلام يقول: اجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35]، فأدخل نفسه وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35]، وكل هذا من كمال معرفة الأنبياء بربهم، وأنهم يخافون على أنفسهم حتى وهم أنبياء، فما بالك بغيرهم! لأن بعض الناس ينزعج من مسألة التوحيد، وإذا قلت له: التوحيد أولاً انزعج، فهذا يخالف مذهب الأنبياء، ولهذا مثل هؤلاء الأحسن بهم أن يُدعوا إلى قراءة كتاب الله، وأنه يقرأ مثل هذا الدعاء، لماذا يقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35]، فهو عليه الصلاة والسلام يتخوف على نفسه، فمن باب أولى غيرهم من البشر.

    ثم قال سبحانه: قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ [الأنعام:15-16]، الذي يتكلم في هذه الآيات هو الرسول صلى الله عليه وسلم؛ يقول هذا لمن يسمع الخطاب، إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15]، مع أنه لا يتصور منه أن يقف موقف العاصي لربه سبحانه وتعالى، مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ )) أي: هذا عذاب، وهو عذاب هذا اليوم العظيم فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ [الأنعام:16].

    وعندنا أيضاً لازم الخبر في قوله تعالى: قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15]، وحاشاه صلى الله عليه وسلم أن يقع منه هذا العصيان المتعمد، ومع ذلك توجه له الخطاب بهذا، وهو المقصود كما قلت، ولازمه إذا كان هذا في جنابه صلى الله عليه وسلم فما بالك بمن الأصل فيه أنه يقع في الخطأ وهم غيره من البشر.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ...)

    ثم قال في كلمات القرآن: [وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[الأنعام:17]، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ * قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ[الأنعام:18-19] ].

    وقال في التفسير الميسر: [وإن يصبك الله تعالى أيها الإنسان بشيء يضرك كالفقر والمرض، فلا كاشف له إلا هو، وإن يصبك بخير كالغنى والصحة فلا راد لفضله ولا مانع لقضائه، فهو جل وعلا القادر على كل شيء.

    والله سبحانه هو الغالب القاهر فوق عباده، خضعت له الرقاب وذلت له الجبابرة، وهو الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها وفق حكمته، الخبير الذي لا يخفى عليه شيء.

    ومن اتصف بهذه الصفات يجب ألا يشرك به، وفي هذه الآية إثبات الفوقية لله تعالى على جميع خلقه، فوقية مطلقة تليق بجلاله سبحانه.

    قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين: أي شيء أعظم شهادة في إثبات صدقي فيما أخبرتكم به أني رسول الله؟ قل: الله شهيد بيني وبينكم أي: هو العالم بما جئتكم به وما أنتم قائلونه لي، وأوحى الله إلي هذا القرآن من أجل أن أنذركم به عذابه أن يحل بكم، وأنذر به من وصل إليه من الأمم، إنكم لتقرون أن مع الله معبودات أخرى تشركونها به.

    قل لهم أيها الرسول: إني لا أشهد على ما أقررتم به، إنما الله إله واحد لا شريك له، وإنني بريء من كل شريك تعبدونه معه].

    عود الضمير: الكاف في قوله تعالى: (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له ...)

    قوله سبحانه وتعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17]، أيضاً هذا الخطاب موجه للرسول صلى الله عليه وسلم، ففي تفسير الميسر قال: وإن يصبك الله أيها الإنسان بشيء يضرك كالفقر، هذا يدل على أنه هناك مشكلة عندنا في قضية فهم المعنى.

    لكن لو رجعنا إلى الآيات ولاحظنا الضمائر، وقضية الضمائر قضية مهمة جداً، ويجب الالتفات لها والانتباه لها.

    قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ[الأنعام:14]، يعني قل يا محمد: أغير الله، وبعدها، قل أيها الرسول إني أمرت أن أكون أول من خضع وانقاد، والخطاب كله الآن مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعدها قال: قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي [الأنعام:15]، الضمير هنا يرجع أيضاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعدها قال: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ [الأنعام:16]، ثم قال: وَإِنْ يَمْسَسْكَ [الأنعام:17]، جعلوها في التفسير الميسر للإنسان، والصواب أنها للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ [الأنعام:17]، هذا المعنى صحيح وليس فيه إشكال.

    وإن يمسسك أيضاً بخير فهو على كل شيء قدير، فإذاً كل الخطاب من قوله: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ [الأنعام:14]، إلى قَدِيرٌ [الأنعام:17]، هو خطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم.

    ولا يعني كون الخطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يشمل غيره؛ لأن هذه ليست من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، يعني وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17]، ومعنى ذلك أن الخطاب وجه إليه أولاً وهو يصلح أيضاً لغيره صلى الله عليه وسلم.

    فإذاً نحن أخذنا من السياق والأحوال قضية العلاقة بين الخطاب والمخاطب.

    الفرق بين الإرادة والمس

    وما أعرف الفرق بين إن يمسسك وإن يردك، لكن المس غير الإرادة، فالمس الذي هو الإصابة، والإرادة التي هي بداية الفعل، فهذا الفرق، ولكن هل هناك فرق آخر؟ الله أعلم.

    السبب في بناء قوله تعالى: (من يصرف عنه ..) للمفعول، والسبب في تقديم الضر في قوله: (وإن يمسسك)

    وفي قوله تعالى: قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ [الأنعام:15-16]، مبنية للمجهول، أو مبنية للمفعول؛ لأن المقصود هو الصرف، وليس المقصود من سيصرف عنه، ليس المقصود الشخص، المقصود ذات الصرف، فإذا كان المقصود ذات الصرف فإنه يجيء على المبني للمجهول، لكن لو كان المقصود الشخص نفسه لجاء الفعل مبنياً للمعلوم وذكر فاعله.

    ونلاحظ هنا تقديم الضر على الخير في قوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17]، وهذا محل سؤال، وهو ما سبب تقديم الضر على الخير، مع أن الخطاب في سياقه مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ فهل المجال مجال تهديد لغيره صلى الله عليه وسلم؟ لأنه إذا كان يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، فما بالك بغيره، فيكون فيه نوع من التهديد. يحتاج هذا إلى مزيد بحث ونظر.

    المراد بالقهر والفوقية في قوله تعالى: (وهو القاهر فوق عباده)

    وقوله: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18]، القهر بمعنى: الغلبة، وفسرت في التفسير الميسر فقال: الغالب القاهر فوق عباده، فقد يكون قهر المكانة أو القهر المرتبط بالمكان، فهنا الآن قهر المكانة، أو القهر المرتبط بالمكان، قال: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18]، الفوقية هنا عند من لا يرى العلو سيجعلها فوقية مكانة، وليست فوقية مكان، والصحيح أنها فوقية المكان؛ لأنه أخبر عن نفسه فقال: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن أعلى المخلوقات العرش، فإذا كان أعلى المخلوقات العرش والله سبحانه وتعالى يقول عن نفسه: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، فإذاً هو فوق هذا المكان، فهذا ثابت بالقرآن من جهة، وبالسنة من جهة أخرى، والنصوص فيه كثيرة.

    الاستدلال بتوارد الأدلة على إثبات صفات الله حقيقة

    ولهذا القرطبي رحمه الله تعالى مع أن أصوله أشعرية لما جاء عند هذه الآية لتكاثر النصوص ذهب إلى الإثبات في هذا، وهذه قضية مهمة جداً ننتبه لها، وهي أن كثرة النصوص في قضية ما تدل على أنها حقيقة، وليست من باب المجاز، ولهذا النصوص المرتبطة بالصفات الفعلية لله سبحانه وتعالى الاختيارية كثيرة جداً، فتكاثر هذه النصوص الفعلية التي تُثِبت لله سبحانه وتعالى هذه الصفات لا يمكن أن تكون كلها مجازات، فتكاثرها دلالة على أنها حقيقة، ولهذا لو ذهبت تبحث فقط في الصفات الفعلية في القرآن المنسوبة لله سبحانه وتعالى، التي وصف الله سبحانه وتعالى بها نفسه، ستجدك أمام كم هائل من الآيات، فلا يمكن أن يكون هذا الكم من الآيات في النهاية يسلط عليه التأويل بدعوى التنزيه، فهذا من الأدلة التي ينتبه لها حال المناقشة في هذه القضايا.

    فكونه يوجد بعض العلماء من أهل السنة من يقع عندهم تأويل في آية أو آيتين، مثلما وقع مثلاً من البغوي في الرحمة والغضب، فأولهما أو ذكر لازم الصفة، فهذا لا يعني أن البغوي مؤول على الإطلاق، بل له نصوص واضحة في الإثبات، وأنه يجب إثبات ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له نبيه صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تأويل ولا تعطيل، فمعنى ذلك أن القاعدة العامة عنده هي هذه، لكن يبحث عن سبب غفلته رحمه الله تعالى في هذا الموطن عن القاعدة العامة التي ساقها في غير ما منوط من تفسيره أو من شرح السنة له.

    فالمقصود: إن تكاثر النصوص في قضية ما يرفعها عن أن تكون مجازاً، مثلما يتعلق بصفات الله سبحانه وتعالى.

    بيان حكمة الله في تقدير الكفر وهو لا يرضا

    ثم قال تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18]، الحكيم يعني ذو الحكمة، والخبير أيضاً ذو الخبرة، ولكن وأنت تنظر في سياق الآيات ما سبب اختيار الحكمة والخبرة؟

    ففي الآية قال: وهو الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها وفق حكمته، الخبير الذي لا يخفى عليه شيء، قال: ومن اتصف بالصفات يجب ألا يشرك به، يعني كأنها إشارة إلى آيات الإشراك التي قبلها.

    فإذاً لو نحن أردنا أن نربط فنقول: إن من حكمة الله وجود الكفر؛ لأنه مرتبط بالحكمة، وهي حكمة الله سبحانه وتعالى في الابتلاء والامتحان وهي واضحة جداً.

    فقد يقول قائل: لماذا يخلق الله سبحانه وتعالى الكفر وهو لا يرضاه؟ وييسر سبله للعباد، وحفت النار بالشهوات، فنقول: هذا كله مرتبط بحكمة الله سبحانه وتعالى، وهذا سرٌ لا يمكن أن يدرك؛ لأنه من الأمور المرتبطة بالقدر، ولو ذهبت تفكر ستصل في النهاية إلى طريقٍ مسدود، ولهذا من لم يمسك عن القدر في الغالب يقع في ضلال في فهم كلام الله سبحانه وتعالى.

    معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم الخالدة

    ثم قال تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً [الأنعام:19]، هذا سؤال، أي شيء أكبر شهادة؟ قُلِ اللَّهُ [الأنعام:19]، يعني: الله سبحانه وتعالى هو أكبر شيء شهادة، شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [الأنعام:19]، فمن اتخذ الله شهيداً فقد اتخذ عظيماً في هذا الأمر، فلا يستشهد بالله سبحانه وتعالى إلا فيما كان حقاً وصدقاً.

    ثم قال: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19]، يعني: ومن بلغه أيضاً القرآن، وبهذا يكون فتح لنا المجال؛ لأن القرآن يبقى آية النبي صلى الله عليه وسلم حتى بعد موته، ولذلك قال: لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19]، أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:19]، وهذا كله في صلب التوحيد، وهذه الآية لها ارتباط بالآية السابقة التي في الصفحة التي قبلها، فيما يتعلق بقضية التوحيد، وكل الخطاب لا يزال مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قال: قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:19]، وفي الآية السابقة قال: قل إني أمرت أن أكون أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:14]، وكلها دائرة حول قضية التوحيد.

    نقف عند قوله: لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19]، القرآن كما نعلم أنه آية النبي صلى الله عليه وسلم على مر الأزمان، وهو كافٍ لأن يكون النذارة والبشارة للنبي صلى الله عليه وسلم اليوم وبعد اليوم.

    وقد يقول قائل: كيف يكون نذيراً لقومٍ لا يعرفون قراءة القرآن؟ مثل هذا يجب قبل أن نسأل هذا السؤال أن نعلم أن هذا من حكمة الله في جعل القرآن بهذه المثابة، وأن الدعوة بالقرآن ستثمر هذه النتيجة؛ لأنه قال: لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19].

    ولكن من لم يبلغه القرآن من خلال الشواهد التي أمامنا وهذا مجال للبحث. وكثير من الكفار آمن وأسلم من الغرب أو من الشرق ممن قرأوا شيئاً عن القرآن أو قرأوا القرآن نفسه، وقرأوا ترجمانه، فإنهم يؤمنون بسبب هذه الترجمات، بل إن بعضها قد تكون ترجمات محرفة، ومع ذلك شاء الله سبحانه وتعالى لبعضهم أن يهتدي حتى بهذه الترجمات المحرفة.

    فإذاً بين يدينا كنز عظيم في قضية الدعوة إلى الله وهو القرآن، بل إن القرآن يكفي حتى لو كان المستمع له غير مسلم، ويكفي فيه أن تتلوه فتجد أن الكفار يذعنون له، ويستمعون له وينصتون؛ لأنه نمط آخر لا تعرفه البشرية، وليس من عمل البشر إطلاقاً، ولذا نذكر الشيخ محمد العريفي رفعه الله بالعافية ذكر قصة له مع بعض النصارى أو غيرهم، أنه مرة تكلم معهم بكلام عام، ثم قال: سأذكر لكم كلاماً آخر، فبدأ يقرأ عليهم القرآن، ثم رجع يتكلم كلاماً عادياً، فقال لهم: هل هناك فرق بين هذا الكلام والكلام الذي قبله؟ قالوا: نعم، مع أنهم لا يدركون اللغة، وهذا صحيح، فلو جربته ستجده، وكثير ممن جرب هذا يجد أن الكفار يحسون بوجود فرق بين القرآن إذا تلي، وبين الكلام العادي، وهذا داخل ضمن بلاغة القرآن، وأن تأثيره مع الذين لا يعرفون لغته، فإنه يحصل لهم نوع من التأثر به، وهذا لا يكاد يوجد لكتاب غير القرآن.

    قال في كلمات القرآن في تفسير قوله تعالى: [الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * ثُمَّ لَمْ تَكُنْ[الأنعام:20-23] معذرتهم أو عاقبة شركهم إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ[الأنعام:23-24] وغاب وزال عنهم مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ[الأنعام:24]، أي: يكذبون الأصنام وشفاعتهم، ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أغطية كثيرة أن يفقهوه، وفي أذانهم صمماً وثقلاً في السمع، وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها، حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا: إن هذا إلا أكاذيبهم المسطرة في كتبهم].

    وقال في التفسير الميسر: [ الذين آتيناهم التوراة والإنجيل يعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم بصفاته المكتوبة عندهم كمعرفتهم أبناءهم، فكما أن أبناءهم لا يشتبهون أمامهم بغيرهم، فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم لا يشتبه بغيره لدقة وصفه في كتبهم، ولكنهم اتبعوا أهواءهم، فخسروا أنفسهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به].

    عود الضمير في قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه ...)

    يقول تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ [الأنعام:20]، الضمير في يعرفونه عائد إلى محمد صلى الله عليه وسلم مع أنه لم يسبق له ذكر، وهذا الأسلوب معروف ومتداول عند العرب.

    فإذا صار الضمير لا ينصرف إلا لواحد فعدم ذكره جائز، لكن بعض المتأخرين من المفسرين قال: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ [الأنعام:20]، أي: يعرفون القرآن، بناءً على قوله: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19]، لكن الصواب الذي عليه جمهور مفسري السلف أن المراد به محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون المعنى الذين أتيناهم الكتاب يعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، ثم عاد إلى الكفار فقال: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:20]، وهذه الجملة بدل من قوله: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [الأنعام:20]، يعني: كأن المعنى الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ [الأنعام:20]، هم الذين خسروا أنفسهم؛ بسبب عدم إيمانهم بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم.

    تفسير قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً ...)

    ثم قال التفسير الميسر: [ لا أحد أشد ظلماً ممن تقول الكذب على الله تعالى، فزعم أن له شركاء في العبادة، أو ادعى أن له ولداً أو صاحبة، أو كذب ببراهينه وأدلته التي أيد بها رسله عليهم السلام.

    إنه لا يفلح الظالمون الذين افتروا الكذب على الله، ولا يظفرون بمطالبهم في الدنيا ولا في الآخرة.

    وليحذر هؤلاء المشركون المكذبون بآيات الله تعالى يوم نحشرهم، ثم نقول لهم: أين آلهتكم التي كنتم تدعون أنهم شركاء مع الله تعالى ليشفعوا لكم؟

    ثم لم تكن إجابتهم حين فتنوا واختبروا بالسؤال عن شركائهم إلا أنهم تبرؤوا منهم، وأقسموا بالله ربهم أنهم لم يكونوا مشركين مع الله غيره.

    تأمل أيها الرسول كيف كذب هؤلاء المشركون على أنفسهم، وهم في الآخرة قد تبرءوا من الشرك؟ وذهبوا وغاب عنهم ما كانوا يظنونه من شفاعة آلهتهم.

    ومن هؤلاء المشركين من يستمع إليك القرآن أيها الرسول، فلا يصل إلى قلوبهم; لأنهم بسبب اتباعهم أهواءهم جعلنا على قلوبهم أغطية; لئلا يفقهوا القرآن، وجعلنا في آذانهم ثقلاً وصمماً فلا تسمع ولا تعي شيئاً، وإن يروا الآيات الكثيرة الدالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم لا يصدقوا بها، حتى إذا جاؤوك أيها الرسول بعد معاينة الآيات الدالة على صدقك يخاصمونك: يقول الذين جحدوا آيات الله: ما هذا الذي نسمع إلا ما تناقله الأولون من حكايات لا حقيقة لها].

    معنى قوله تعالى: (ومن أظلم) وذكر الاحتمالين فيها

    وفي قوله سبحانه وتعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:21]، هذا أسلوب أيضاً من أساليب القرآن؛ لأن قوله: (من أظلم) وردت في غير ما آية، فيحتمل ذلك احتمالين: إما أنهما في درجة واحدة في الظلم يعني لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذباً، ولا أحد أظلم ممن منع مساجد الله، يعني: كأنهم صاروا في رتبة واحدة في الظلم.

    أو أن المراد وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ [الأنعام:21]، يعني: أنه أظلم الكاذبين، يعني في سياقه، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [البقرة:114]، أي: أنه أظلم من يمنع الناس من عباده هو من يمنع مساجد الله، وأظلم الكاذبين هو من افترى على الله كذباً أو كذب بآياته، فيكون أظلم من جنس ما ذكره الله سبحانه وتعالى في الآية، فهما احتمالان.

    ثم قال الله سبحانه وتعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ [الأنعام:22]، ثم قال: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ [الأنعام:23]، يعني معذرتهم، فجعل المعذرة بمعنى الفتنة، قال: إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23]، يعني: يقسمون أنهم ما كانوا أهل إشراك؛ رجاء أن يكون هذا الكلام عذراً لهم ومنقذاً لهم من عذاب الله سبحانه وتعالى، ولكن الله سبحانه وتعالى قال: انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [الأنعام:24]؛ لأنهم يقولون: والله ما كنا مشركين بألسنتهم، يعني: يحلفون له كما يحلفون لكم، فنفس الطبع الأول فيهم موجود، حتى في يوم القيامة يظنون أن هذا سينفعهم، فيكذبون على الله سبحانه وتعالى يقولون: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23]، وهم إنما يكذبون على أنفسهم.

    ثم قال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [الأنعام:25]، والوقر: هو الصمم، يعني: الشيء الذي يثقل الأذن بحيث لا تسمع، والأكنة: الأغطية، والكنان بمعنى: الغطاء والغشاء.

    فإذاً هم أصيبوا في قلوبهم بهذا الكنان الذي يغطي قلوبهم، فلا يصل إليها شيء ولا تفقه، وفي الأذان وقر.

    ثم قال تعالى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا [الأنعام:25]، يعني: من كان حاله هكذا فمهما يرى من الآيات فإنه لا يؤمن بها.

    السبب في قول الكافرين للقرآن أنه أساطير الأولين

    حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [الأنعام:25]، مثلما ذكر عن بعض كفار قريش، أنهم بمجادلتهم للنبي صلى الله عليه وسلم يخرجون منه، ويقولون: ما سمعنا منه إنما هو أساطير الأولين، وهم لا شك في هذا يعلمون أنهم أول الكاذبين، ويعلمون أن غيرهم يعرف أنهم يكذبون، ولكن هذه طبيعة فيمن يجادل في الحق وهو يعلم أنه حق، فهو أول من يعلم أنه على باطل، بل إنه يعلم أن غيره يعلم أنه أيضاً على باطل، وهم في النهاية لما عجزوا عن أن يأتوا بمثل هذا الكتاب ولم يؤمنوا به قالوا: أساطير الأولين، فجعلوه أنه من الأشياء التي سطرها الأولون، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم أخذها.

    ومن باب الفائدة: من الطريف أن أغلب ما يذكره المستشرقون من نقدٍ للقرآن أو لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نجد أن أصوله موجودة في القرآن، فبعض المستشرقين يزعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو صاحب هذا القرآن، وهو الذي ابتدعه وابتكره، ولا علاقة لله سبحانه وتعالى به، هكذا يدعون، ومنهم من يدعي أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد أخذ هذا الكتاب من أناس سبقوه، وأنه اطلع على تراث اليهود وتراث النصارى وتراث وتراث.. وجمع منها ووضعها، وهي كقوله سبحانه وتعالى عن الكفار السابقين:

    إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [الأنعام:25]، وهم كرروها ولكن بأسلوب آخر وإلا فالنتيجة واحدة.

    إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ[النحل:103]، فالكفار السابقون ادعوا أنه تعلم من بحيرة، وادعوا أنه تعلم من ورقه بن نوفل ، وادعوا أنه تعلم من أمية بن أبي الصلت ، وهي دعاوى كثيرة جداً، وهي نفس الدعوى التي يكررها المستشرقون وينشرونها مرة أخرى.

    تفسير قوله تعالى: (وهم ينهون عنه وينأون عنه ...)

    قال في كلمات القرآن: [ وهم ينهون عنه، ويتباعدون عن القرآن بأنفسهم، وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون، ولو ترى إذا عرفوها أو حبسوا على متنها، فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ[الأنعام:27-29]، ولو ترى إذ حبسوا على حكمه تعالى للسؤال، قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ * قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ[الأنعام:30-31]، فجأة من غير شعور قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا قصرنا وضيعنا في الدنيا، وَهُمْ يَحْمِلُونَ ذنوبهم وخطاياهم، عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ[الأنعام:31] ].

    قال في التفسير الميسر: [وهؤلاء المشركون ينهون الناس عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم والاستماع إليه، ويبتعدون بأنفسهم عنه، وما يهلكون بصدهم عن سبيل الله إلا أنفسهم، وما يحسون أنهم يعملون لهلاكها.

    ولو ترى أيها الرسول هؤلاء المشركين يوم القيامة لرأيت أمراً عظيماً، وذلك حين يحبسون على النار، ويشاهدون ما فيها من السلاسل والأغلال، ورأوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال، فعند ذلك قالوا: يا ليتنا نعاد إلى الحياة الدنيا فنصدق بآيات الله ونعمل بها، ونكون من المؤمنين.

    ليس الأمر كذلك، بل ظهر لهم يوم القيامة ما كانوا يعلمونه من أنفسهم، من صدق ما جاءت به الرسل في الدنيا، وإن كانوا يظهرون لأتباعهم خلافه، ولو فرض أن أعيدوا إلى الدنيا فأمهلوا لرجعوا إلى العناد بالكفر والتكذيب, وإنهم لكاذبون في قولهم: لو رددنا إلى الدنيا لم نكذب بآيات ربنا، وكنا من المؤمنين ].

    العلة في حذف جواب (لو) عند الخطاب

    يقول تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [الأنعام:27]، هذا من الخطابات التي فيها نوع من التهويل في عدم ذكر جواب (لو)، قالوا: لتذهب فيه النفس أيما مذهب، ولذا قال: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [الأنعام:27]، قال: لرأيت شيئاً عظيماً، وتركك أنت تتخيل وتتصور هذا المشهد الكبير جداً، إذا وقف الكفار والعياذ بالله على النار.

    فقالوا: لما عاينوا النار: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ [الأنعام:27]، تمنوا، وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27]، وهذا استطراد في الخطاب من باب الاستعطاف.

    يقول الله سبحانه وتعالى: بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28].

    قول بعض المستشرقين إن المتحدث بالقرآن واثق كل الثقة

    هنا فائدة: وهي أن بعض المستشرقين الذين اطلعوا على القرآن وقرأوه، كأنهم نظروا إلى هذا الملحظ، وهو أن المتحدث بهذا القرآن واثق تمام الثقة مما يقول وغير متردد وهذا عندنا معلوم؛ لأنه يقين، ولأنه كلام الله سبحانه وتعالى، ولكن ذلك الغربي الذي لا يؤمن بأنه كتاب الله سبحانه وتعالى تستوقفه مثل هذه اللفتة، فيقول: هذا الخطاب الذي في القرآن خطاب إنسان واثق من خبره.

    ليست المسألة عندنا هنا فحسب، بل إنه سبحانه وتعالى يعلم بالشيء كيف سيكون لو كان، وهذا مثال لها؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28]، يعني ما هذه النفس التي يتكلم عنها الله سبحانه وتعالى، وقد عاينت العذاب أمامها، والله سبحانه وتعالى يقول: لا فائدة من هذا التمني الذي تمنوه بقولهم: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27]، فكأنه يقول: لا فائدة من هذا التمني؛ لأن هذه النفوس الخبيثة، يعني: نفوس الكفار هؤلاء، لو عادت إلى الدنيا بعد أن عاينت العذاب سترجع إلى ما كانت عليه، ولهذا قال: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28]، فحكم عليهم بالكذب، فإذاً هذا مجرد تمني.

    أعجب ما في النفس

    وأنا أقول: قد يقع أحياناً من المسلم شيء شبيه بهذا، إذا كان صاحب ذنوب فإذا أصيب بمرض أو أصيب بآفة أو شيء من ذلك تجد أنه يلح على الله سبحانه وتعالى بالدعاء في أنه إن شفاه الله سبحانه وتعالى لا يعود أبداً إلى تلك المعاصي، فإذا شفاه الله سبحانه وتعالى، فأول أمره وهو على أحسن ما يكون بعد الشفاء، ثم يبدأ يضعف شيئاً فشيئاً حتى يعود لما كان عليه سابقاً، وهذه الحقيقة تدعو إلى التأمل؛ وهي أن الله سبحانه وتعالى خلق هذه النفس البشرية، وجعل فيها طبيعة عجيبة جداً، يعني: هذه الطبيعة التي تجرك إلى المعاصي جراً طبيعة غريبة جداً، ونحن مع يقينا بما في كتاب الله، ومع ذلك نعصي الله مرة بعد مرة .. مرة بعد مرة، ونحن نقرأ كتاب الله ونعلم ماذا أمامنا؟ فهذه النفس نفس في الفعل عجيبة وغريبة، ولكن الإنسان يسأل الله سبحانه وتعالى العصمة والخاتمة الحسنة والمغفرة.

    قال: وَقَالُوا [الأنعام:29]، أي: هؤلاء القوم الذين تكلم عنهم: إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام:29]، أي: قالوا: في الدنيا، وخطابهم السابق كان في الآخرة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولو ترى إذ وقفوا على ربهم ...)

    ثم قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ [الأنعام:30]، هناك وقفوا على النار، وهنا وقفوا على ربهم قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا [الأنعام:30]، والآن خطاب المقابل، فالله سبحانه وتعالى يقول: أليس هذا بالحق؟ وهم ما اكتفوا وقالوا: بلى، بل أقسموا: قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنعام:30].

    قال في التفسير الميسر: [ وقال هؤلاء المشركون المنكرون للبعث: ما الحياة إلا هذه الحياة التي نحن فيها، وما نحن بمبعوثين بعد موتنا.

    ولو ترى أيها الرسول منكري البعث؛ إذ حبسوا بين يدي الله تعالى لقضائه فيهم يوم القيامة، لرأيت أسوأ حال، إذ يقول الله جل وعلا: أليس هذا بالحق، أي: أليس هذا البعث الذي كنتم تنكرونه في الدنيا حقاً؟ قالوا: بلى وربنا إنه لحق، قال الله تعالى: فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ [الأنعام:30]، أي: العذاب الذي كنتم تكذبون به في الدنيا؛ بسبب جحودكم بالله تعالى ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

    قد خسر الكفار الذين أنكروا البعث بعد الموت، حتى إذا قامت القيامة، وفوجئوا بسوء المصير، نادوا على أنفسهم بالحسرة على ما ضيعوه في حياتهم الدنيا، وهم يحملون آثامهم على ظهورهم، فما أسوأ الأحمال الثقيلة السيئة التي يحملونها!!]. الخطاب كله موجه إلى الكفار، وهذه مرتبطة بقضية من قضايا اليوم الآخر، وما يحصل من الكفار في هذا اليوم، يقول الله سبحانه وتعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [الأنعام:31]، وهذا وإن كان خطاباً للكفار إلا أنه ما يخرج من هذه الدنيا أحد إلا وقد أصابته الحسرة، فالمؤمن لو كان أحسن، والمحسن لو كان قد زاد، والكافر أيضاً لو كان قد خرج من كفره إلى الإيمان، ويعني صار فيه تأويل قوله سبحانه وتعالى: كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ [عبس:23].

    يقول الله سبحانه وتعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنعام:32]، هذا المقطع لو جعلته في كل صباح أمام عينيك، انظر كم من اللهو واللعب الذي يحصل عندنا، حتى قد يحصل عند بعض الفضلاء، وهذا كله من الغفلة.

    وقدم اللعب على اللهو، فقال: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ [الأنعام:32] وذلك على حسب السياق، وفي سورة الجمعة وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا [الجمعة:11]، قدم التجارة في الأول؛ لأنها كانت هي السبب، وأخر اللهو.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ...)

    قال في الكلمات: [قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ[الأنعام:33-34] لآيات وعده بنصر رسله، وقد جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ المُرْسَلِينَ[الأنعام:34]، وإن كان شق وعظم عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي سرباً فيها ينفذ إلى ما تحتها، أو سلماً في السماء فتأتيهم بآية، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين].

    قال في التفسير الميسر: [ وما الحياة الدنيا في غالب أحوالها إلا غرور وباطل، والعمل الصالح في الدار الآخرة خير للذين يخشون الله، فيتقون عذابه بطاعته واجتناب معاصيه، أفلا تعقلون أيها المشركون المغترون بزينة الحياة الدنيا، فتقدموا ما يبقى على ما يفنى!

    إنا نعلم إنه ليدخل الحزن إلى قلبك؛ بسبب تكذيب قومك لك في الظاهر، فاصبر واطمئن; فإنهم لا يكذبونك في قرارة أنفسهم، بل يعتقدون صدقك، ولكنهم لظلمهم وعدوانهم يجحدون البراهين الواضحة على صدقك، فيكذبونك فيما جئت به.

    ولقد كذب الكفار رسلاً من قبلك أرسلهم الله تعالى إلى أممهم وأوذوا في سبيله، فصبروا على ذلك ومضوا في دعوتهم وجهادهم حتى أتاهم نصر الله، ولا مبدل لكلمات الله، وهي ما أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من وعده إياه بالنصر على من عاداه.

    ولقد جاءك أيها الرسول من خبر من كان قبلك من الرسل، وما تحقق لهم من نصر الله، وما جرى على مكذبيهم من نقمة الله منهم وغضبه عليهم، فلك فيمن تقدم من الرسل أسوة وقدوة، وفي هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم.

    وإن كان عظم عليك أيها الرسول صدود هؤلاء المشركين، وانصرافهم عن الاستجابة لدعوتك، فإن استطعت أن تتخذ نفقاً في الأرض، أو مصعداً تصعد فيه إلى السماء، فتأتيهم بعلامة وبرهان على صحة قولك غير الذي جئناهم به فافعل، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى الذي أنتم عليه ووفقهم للإيمان، ولكن لم يشأ ذلك لحكمةٍ يعلمها سبحانه، فلا تكونن أيها الرسول من الجاهلين الذين اشتد حزنهم، وتحسروا حتى أوصلهم ذلك إلى الجزع الشديد].

    علم الله لما في النفوس وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم

    ثم يقول سبحانه: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33]، هذه المسألة مرتبطة بقضايا النفوس، أي: نفس محمد صلى الله عليه وسلم، ومن الذي يستطيع أن يدرك ما في النفوس؟

    أولاً: نفس محمد صلى الله عليه وسلم، والحزن الذي يصيبه صلى الله عليه وسلم من عدم إيمان قومه، وهو يحمل الهدى والنور، وهؤلاء يردونه ويصدونه، ولا يقبلون ما جاء به، وهذا عزيز جداً جداً على النفس، وأنت لو جربت هذا حينما ترشد واحداً إلى الطريق الصحيح، وتجده يسلك الطريق الخطأ تجد أن في نفسك عليه حسرة، فأنت ترشده إلى الطريق الصواب ولا يسمعك، فإذاً كان النبي صلى الله عليه وسلم يعيش هذه الحالة العجيبة في أنه يرى قومه يذهبون إلى النار ولا يستطيع أن ينقذهم، فكان يحزن، وهذا من كرم نفسه صلى الله عليه وسلم، وإلا كان يمكن أن يقول: إن عليك إلا البلاغ وينتهي.

    في بالمقابل نجد أن الله سبحانه وتعالى يتكلم عن الكفار، فقال: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ [الأنعام:33]، يعني هم يؤمنون بما جئت به، وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33]، إذاً عندهم كفر الجحود، يعني: هم موقنون بأنك نبي، وموقنون بما جئت به، ولكنهم عاندوك وجحدوك، فمن الذي يستطيع أن يعرف أن هذا الكفر هو كفر جحود، وأنهم وإن كانوا في الظاهر يكذبونه، إلا أنه في الباطن يوقنون بما جاء به؟ إن الذي يعرف هذا كله هو الله سبحانه وتعالى، وهذا مبحث مهم جداً أن ننتبه له في الحديث عن خفايا النفوس في القرآن، سنجد شيئاً عجباً، مثلما في سورة آل عمران، الله سبحانه وتعالى يقول: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا [آل عمران:122]، همت طائفتان منكم أن تفشلا، (هم) أي: وقع في النفس، فمن الذي استطاع أن يصل إلى هذه النفوس ويخبر عنها إلا هو سبحانه وتعالى، والرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم لا يعرف عن هذا الأمر حتى يأتيه الوحي فيخبره بها.

    فإذاً هذا المبحث مبحث مهم جداً، وهو يدل على سعة علم الله سبحانه وتعالى، وأيضاً خبرته سبحانه وتعالى في معرفة الخفايا في هذه النفوس؛ لأنه هو خالقها وهو بارئها فهو أدرى بها.

    الحكمة في ذكر قصص الأولين للرسول صلى الله عليه وسلم

    وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ [الأنعام:34]، هذا الخطاب دائماً إذا جاء فإنه يكون فيه تسلية، وأنا أذكر أحد الإخوة يقول: دخلت على إنسان أصيب بالسرطان، يقول: والرجل كبير في السن، وكان الهم والحزن ظاهراً عليه مما هو فيه، يقول: فقصصت عليه قصة أيوب عليه الصلاة والسلام على حسب ما جاء في الروايات، يقول: ما خرجت منه إلا ووجهه يتهلل، يقول: وفيما بعد، أرسل لي مع أحد أبنائه، أن تلك القصة أثرت عليه تأثيراً كبيراً جداً ودفعته للصبر، واحتمال الأذى.

    وهذه القاعدة وهي: أنه حينما يذكر ما أصيب به من كان قبلنا، كما أن محمداً صلى الله عليه وسلم ينبه على أنه ما أصبت به من تكذيب قومك قد حصل لمن هم قبلك، فهذا يكون فيه نوع من التسلية والتطمين له صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال: فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا [الأنعام:34]، معنى ذلك أن هناك همّاً مشتركاً، وهناك طريقاً واحداً مشتركاً، وهو أن من سلك طريق هؤلاء الأنبياء، وخاتمهم صلى الله عليه وسلم فإنه يحصل له الأذى والتكذيب، فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ [الأنعام:34]، ومعنى ذلك أن القاعدة: أن أتباع الأنبياء إذا صبروا على ما أوذوا واحتملوا هذا الأذى، ودعوا إلى الله سبحانه وتعالى فإن النهاية لهم؛ لأنه لا مبدل لكلمات الله.

    فإذاً الآن الخلل الواقع هو في التطبيق، وإلا لو حصل ما ذكره الله سبحانه وتعالى، فإنه سيكون ما ذكره الله سبحانه وتعالى من نصر أتباع الأنبياء.

    وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [الأنعام:34]، أي: ما ذكرناه لك من نصرهم على أقوامهم.

    وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ [الأنعام:35]، يعني: إن كان كبير على نفسك إعراض قومك وأنت تحمل لهم الهدى، وأنت على يقين مما معك فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ [الأنعام:35]، تجعلهم يذعنون لما معك فافعل، وهل يستطيع الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك؟ لا، فالآيات إنما هي من الله سبحانه وتعالى.

    مطلب مخالف لسنن الله في خلقه

    وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ [الأنعام:35]، يعني: لو شاء الله سبحانه وتعالى لجمع هؤلاء الكفار كلهم على الهدى، يعني: هو قادر سبحانه وتعالى على أن يجعل جميع أهل الكرة الأرضية على الإسلام، ولكن هذا المطلب وهو جعل كل أهل الكرة الأرضية على الإسلام من الجهل، كما قال سبحانه وتعالى: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ [الأنعام:35]؛ لأن من حكمة الله سبحانه وتعالى أن قسم الناس إلى مؤمن وإلى كافر، وخالف بين طبائع الناس، فلا يمكن أن تتفق طبائع الناس بعضها مع بعض، ولهذا أي مطلب من المطالب التي ستكون بهذه المثابة، كأن يطلب أن يكون الناس كلهم على شكلٍ واحد، وعلى هيئةٍ واحدة، وعلى خلق واحد، فإن هذا مطلب يعتبر من مطالب الجاهلين، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى لنبيه: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ [الأنعام:35]، لماذا لا تكونن من الجاهلين؟ لأن هذا الطلب في أن يكونوا جميعاً على الهدى مخالف لسنة الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن يكون.

    ولو أخذنا هذه الآيات المرتبطة بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ [الأنعام:33]، واجتهدنا في تطبيقها على حال النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته، فإننا سنجد أمثلة كثيرة جداً جداً من أحواله صلى الله عليه وسلم وغمه؛ بسبب قومه، وعدم إيمان قومه، وبسبب إيذائهم له صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنما يستجيب الذين يسمعون ...)

    قال بعدها سبحانه وتعالى: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [الأنعام:36]، في هذه الآية بعض الفوائد:

    قال الله سبحانه وتعالى إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ [الأنعام:36]، تعقيب على الماضي من ذكر الكفار الذين لم يستجيبوا للرسول صلى الله عليه وسلم، فأخبر الله سبحانه وتعالى أن الاستجابة إنما تقع من الذين يسمعون، يعني: من أهل السماع الحقيقي، وليس فقط الاستماع العابر.

    ثم قال: وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ [الأنعام:36]، يعني: الموتى بالكفر يبعثهم الله سبحانه وتعالى ثم إليه يرجعون، أو الموتى الذين يموتون على الكفر يبعثهم الله ثم إليه يرجعون.

    سبب لزوم الوقف على قوله تعالى: (إنما يستجيب الذين يسمعون)

    وفي هذه الآية وقف لازم، وهذه مسألة لا بأس أن نعرج عليها. وهي السبب في جعل الوقف اللازم هنا؛ مثال: ولو توقفنا اختلت الجملة، لأنه لو وقفنا على: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى [الأنعام:36]، وقع الإشكال، وهذا مما يستدرك على الوقف اللازم، فهذا ليس محلاً للوقف اللازم على الصحيح وأول من وضع هذا الوقف هو السجاوندي في كتابه الوقف والابتداء، فليس دقيقاً على أن يوضع الوقف اللازم على (يسمعون)؛ لأنه يمكن أن يسمى وقفاً بيانياً، ولا يسمى وقفاً لازماً؛ لأن الوقف يبين المعنى.

    الخلل يقع فيما لو وقفنا على الموتى، وقلنا: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى [الأنعام:36]؛ لأنا جعلنا الموتى يسمعون، أما إذا قرأناها كاملة، كل جملة منفصلة، إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ [الأنعام:36]، فهي جملة مستقلة لا يقع فيها لبس، وعلى طريقة السجاوندي المفترض أن يضع على الموتى (لا)، بحيث أنه لو وقف على الموتى وقع الإشكال فلا تقف، أما بهذه الطريقة فيمكن أن يسمى وقف بيان، وهذه فرصة في أن ننبه على بعض الوقوف، ومعلوم أن الوقوف اجتهادية، وبناءً عن كونها اجتهادية فلا يقع إشكال في كون الواحد يستدرك على بعض الوقوف الموجودة في المصحف؛ لأن الوقوف الموجودة في المصحف بنسبة ستين بالمائة منها أصولها يرجع إلى كتاب السجاوندي : الوقف والابتداء، يعني: أنها اجتهاد رجل واحد، ثم تتابعت عليه أعمال العلماء، خصوصاً في المصاحف الهندية بالذات، وبعض المصاحف تعتمد في تركيا على وقوف السجاوندي.

    الأسلوب البلاغي في قوله تعالى: (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية)

    السؤال: [هل قوله تعالى: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً ... [البقرة:274] من اللف والنشر المرتب؟]

    الجواب: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً [البقرة:274]، يمكن أن تكون من باب اللف والنشر المرتب، فيكون سراً عائداً على الليل، وعلانية عائداً على النهار.

    سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756355470