إسلام ويب

دورة الأترجة القرآنية [3]للشيخ : مساعد الطيار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • في آخر سورة المائدة يسأل الله الرسل ماذا أجابهم أقوامهم، وكيف امتن الله على عيسى وأمه، وفيها أيضاً ذكر الحواريين ومحاورتهم لعيسى في إنزال المائدة، وحوار عيسى عليه السلام لربه، وفيها جزاء الصادقين يوم القيامة.

    1.   

    تابع تفسير سورة المائدة

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم ...)

    قال الله عز وجل: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ [المائدة:109-110] بجبريل عليه السلام، تكلم الناس في زمن الرضاعة قبل أوان الكلام، وفي حال اكتمال القوة بعد نزوله.

    وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ [المائدة:110]، تصور وتقدر، مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ [المائدة:110]، الأعمى خلقةً، وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ [المائدة:110] ]. ‏

    من نعم الله تعالى على عيسى وأمه

    (واذكروا أيها الناس! يوم القيامة يوم يجمع الله الرسل عليهم السلام فيسألهم عن جواب أممهم لهم حينما دعوهم إلى التوحيد فيجيبون: (لا علم لنا) فنحن لا نعلم ما في صدور الناس، ولا ما أحدثوا بعدنا، إنك أنت عليم بكل شيء مما خفي وظهر. إذ قال الله يوم القيامة: يا عيسى ابن مريم! اذكر نعمتي عليك إذ خلقتك من غير أب، وعلى والدتك حيث اصطفيتها على نساء العالمين، وبرأتها مما نسب إليها، ومن هذه النعم على عيسى: أنه قواه وأعانه بجبريل عليه السلام، يكلم الناس وهو رضيع، ويدعوهم إلى الله وهو كبير، بما أوحاه الله إليه من التوحيد.

    ومنها: أن الله تعالى علمه الكتابة والخط بدون معلم، ووهبه قوة الفهم والإدراك، وعلمه التوراة التي أنزلها على موسى عليه السلام، والإنجيل الذي أنزل عليه هدايةً للناس.

    ومن هذه النعم: أنه يصور من الطين كهيئة الطير، فينفخ في تلك الهيئة فتكون طيراً بإذن الله.

    ومنها: أنه يشفي الذي ولد أعمى فيبصر، ويشفي الأبرص فيعود جلده سليماً بإذن الله.

    ومنها أنه يدعو الله أن يحيي الموتى فيقومون من قبورهم أحياء، وذلك كله بإرادة الله تعالى وبإذنه، وهي معجزات باهرة تؤيد نبوة عيسى عليه السلام.

    ثم يذكره الله جل وعلا نعمته عليه إذ منع بني إسرائيل حين هموا بقتله، وقد جاءهم بالمعجزات الواضحة الدالة على نبوته، فقال الذين كفروا منهم: إن ما جاء به عيسى من البينات سحر ظاهر).

    قوله سبحانه وتعالى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ [المائدة:109]، في التفسير للشيخ حسنين مخلوف في مفردات القرآن لم يذكر في هذه الآية أي معنى من جهة الألفاظ يعتبر مشكلاً، وفي التفسير الميسر في قوله: (ماذا أجبتم)؟ قال: (اذكروا أيها الناس يوم القيامة يوم يجمع الله الرسل عليهم السلام فيسألهم عن جواب أممهم لهم حينما دعوهم إلى التوحيد) يعني ماذا أجابكم أقوامكم؟ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ [المائدة:109]؛ لأن الأنبياء ماتوا وبقيت أقوامهم بعدهم، والأنبياء لا تعلم ما حصل من أقوامهم بعدهم، أما ما داموا فيهم فهم شهداء كما سيأتي في قوله: وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ [المائدة:117]، فكأن السؤال موجه للأنبياء أنه بماذا أجابكم أقوامكم بعد موتكم؟ وهذا فيه إشعار في هذا اليوم بأنه لا علم إلا لله سبحانه وتعالى، ولا أمر إلا لله سبحانه وتعالى؛ لأن الأمر مرتبط بعلم الغيب، ولذلك قالوا: إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ [المائدة:116]؛ لأنهم لا يعرفون ماذا حصل من أقوامهم بعد موتهم، وخص الله سبحانه وتعالى من هؤلاء الرسل بهذا الخطاب عيسى عليه الصلاة والسلام، ويظهر والله أعلم أن سبب اختصاصه بهذا الخطاب أنه من أشهر الرسل الذي ادعي فيهم أنه ابن لله، أو أنه إله، بمعنى أن المقام يوم القيامة هو مقام التوحيد الأعظم، فالله سبحانه وتعالى كأنه ينكر على من عبد من دونه أي مخلوق حتى لو كان أحد رسله، فكانت هذه المحاورة بين الله سبحانه وتعالى وبين عيسى عليه الصلاة والسلام التي يحكيها لنا الله سبحانه وتعالى.

    دلالة المستقبل إذا جاء بصيغة الماضي

    وهي ستقع في المستقبل، ولهذا لما قال: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ [المائدة:116]، يقع سؤال الآن: هل هذا القول قد وقع أو سيقع؟

    الجواب: أنه سيقع، وما دام أنه سيقع فمعنى ذلك أن الحدث المستقبل جاء بصيغة الماضي، وقاعدة ذلك: أن الحدث المستقبل إذا جاء بصيغة الماضي فهو للدلالة على تحقق وقوعه مثل قوله: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1]، فإذاً نحن الآن نطلع على مشهد من المشاهد التي ستكون يوم القيامة، وهو أن الله سبحانه وتعالى يوقف هؤلاء الأنبياء، ويسألهم أمام الناس جميعاً.

    روح القدس الوارد في القرآن

    ثم خص منهم كما قلنا عيسى عليه الصلاة والسلام، إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ [المائدة:110]، (روح القدس) كما ذكر صاحب التفسير الميسر هو جبريل عليه الصلاة والسلام، وجبريل أطلق عليه روح القدس في القرآن في مواطن متعددة، وكذلك أطلق عليه الروح فقط، مثل قوله سبحانه وتعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ [الشعراء:193]، فوصفه بالأمين، ومثل يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً [النبأ:38]، على أنه في هذا الموطن في سورة النبأ قد وقع خلاف بين المفسرين من هو، لكن الأشهر والأظهر أنه جبريل عليه السلام؛ لأنه ورد في القرآن في غير ما موطن بنفس هذا الاسم الذي هو الروح.

    فائدة المعجزات وآثارها

    قال: تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً [المائدة:110]، هذه معجزة من معجزات عيسى عليه الصلاة والسلام، ومع حضور هذه المعجزة إلا أننا نجد أن اليهود قد استنكروا هذا الفعل من مريم عليها الصلاة والسلام، واتهموها بما اتهموها به، وهنا ننتبه إلى قضية مهمة جداً في طبع البشر، وهي أن المعجزات دالة على صدق الأنبياء، لكن لا يلزم منها أن يؤمن بسببها جميع الناس، فبعض المعجزات يؤمن بسببها أناس، وبعض المعجزات لا يؤمن بسببها إلا أناس قلة، فـعيسى من بداية أمره وهو في معجزات، فحديثه وهو صغير ليس شيئاً طبيعياً وإنما هو أمر معجز، ومع ذلك لم يؤمن اليهود به مع أنه برأ أمه مما يظن أنها تقع فيه، وكذلك مما اتهمت فيه بعد ذلك، (وكهلاً) إشارة إلى ما سيكون في المستقبل بعد أن يرجع إلى الدنيا، وكان فيها إشارة إلى رجوعه إلى الدنيا بعد رفعه إلى الله سبحانه وتعالى وإلى السماء.

    (الكتاب) يعنى: الخط، يعني: علمه الخط، وهذا أحد الأقوال في معنى (الكتاب)، ولعلنا نرجع لهذه الآية ونأخذها كمثال لنعرف ما هي الأقوال، وكيف يمكن أن يتغير المعنى بسبب اختيار أحد المعاني غير المعنى الذي ذكره في التفسير الميسر.

    ونلاحظ في بقية الآية أن الله سبحانه وتعالى ذكر مجموعة من المعجزات، وكل هذه المعجزات هي بإذن الله سبحانه وتعالى.

    لكن قال تعالى: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنْ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي [المائدة:110]، فكل عمل من هذه الأعمال ينبه الله سبحانه وتعالى على أنه بإذن الله سبحانه وتعالى، ولهذا من ضل من النصارى فهو بسبب زعمه أو ظنه أن هذا إنما هو فعل من عيسى مباشرةً، ثم ادعوا له -والعياذ بالله- الإلهية، وهذه الآية تنبيه على أن كل عمل عمله عيسى عليه الصلاة والسلام إنما كان بإذن الله سبحانه وتعالى ومشيئته، وليس بأمر عيسى مستقلاً.

    ثم قال تعالى: وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ [المائدة:110].

    وقوله: (كففت بني إسرائيل عنك) معنى ذلك أنهم ناصبوه العداء، ولكن الله سبحانه وتعالى عصمه من اليهود، حتى أذن الله سبحانه وتعالى برفعه فرفع إلى السماء، وألقي الشبه على الصحيح على أحد تلاميذه، فكان هو الفداء لـعيسى عليه الصلاة والسلام، فصلبوا الشبيه ظناً منهم أنهم صلبوا عيسى عليه الصلاة والسلام، وهذا التلميذ كان ممن فدى عيسى عليه الصلاة والسلام، وليس كما يقول النصارى: إنه خان عيسى عليه الصلاة والسلام، بل الصحيح أنه فداه بروحه، فألقي الشبه عليه، فظنوا أنهم قتلوا عيسى؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى قال: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً [النساء:157].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذ أوحيت إلى الحواريين)

    قال في كلمات القرآن: [ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ [المائدة:111]، أي: أنصار عيسى عليه السلام وخواصه، أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ * إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً [المائدة:111-112] أي: خواناً عليه طعام، مِنْ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنْ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً [المائدة:112-114]، أي: سروراً وفرحاً، أو يوماً نعظمه، لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ [المائدة:114-115] ].

    قال في التفسير الميسر: [ واذكر يا عيسى: نعمتي عليك إذ ألهمت وألقيت في قلوب جماعة من خلصائك أن يصدقوا بوحدانية الله تعالى ونبوتك، فقالوا: صدقنا يا ربنا! واشهد بأننا خاضعون لك، منقادون لأمرك.

    واذكر إذ قال الحواريون: يا عيسى ابن مريم! هل يستطيع ربك إن سألته أن ينزل علينا مائدة طعام من السماء؟ فكان جوابه أن أمرهم بأن يتقوا عذاب الله تعالى، إن كانوا مؤمنين حق الإيمان.

    قال الحواريون: نريد أن نأكل من المائدة، وتسكن قلوبنا لرؤيتها، ونعلم يقيناً صدقك في نبوتك، وأن نكون من الشاهدين على هذه الآية أن الله أنزلها حجةً له علينا في توحيده وقدرته على ما يشاء، وحجةً لك على صدقك في نبوتك.

    فأجاب عيسى ابن مريم طلب الحواريين، فدعا ربه جل وعلا قائلاً: ربنا! أنزل علينا مائدة طعام من السماء، نتخذ يوم نزولها عيدًا لنا، نعظمه نحن ومن بعدنا، وتكون المائدة علامةً وحجةً منك يا ألله على وحدانيتك، وعلى صدق نبوتي، وامنحنا من عطائك الجزيل، وأنت خير الرازقين.

    قال الله تعالى: إني منزل مائدة الطعام عليكم، فمن يجحد منكم وحدانيتي ونبوة عيسى عليه السلام بعد نزول المائدة فإني أعذبه عذاباً شديداً، لا أعذبه أحداً من العالمين. وقد نزلت المائدة كما وعد الله ].

    معنى الوحي في قوله تعالى: (إذ أوحيت إلى الحواريين)

    انتقل الخطاب بعد أن بين الله سبحانه وتعالى نعمته على عيسى عليه الصلاة والسلام إلى ذكر نعمته على عيسى بالأصحاب الذين هم الحواريون، قال: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ [المائدة:111]، والوحي هنا كما نبهوا وأيضاً نبه الشيخ حسنين مخلوف قال: إذ أوحيت إلى أنصار عيسى عليه الصلاة والسلام وخواصه، فهذا الوحي نوع من أنواع الإلقاء في الروع أو الإلهام، يعني: ألقى الله سبحانه وتعالى في روعهم، أو ألهمهم ما ذكره الله سبحانه وتعالى أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي [المائدة:111]، فإذا ألقي هذا في قلب العبد المؤمن وهو نوع من الوحي فلا شك أن هذا فيه من التثبيت ما فيه؛ لأنه من الله سبحانه وتعالى.

    قاعدة مشتركة في أسلوب دعوة الأنبياء

    قال: أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ [المائدة:111].

    هنا قاعدة أيضاً مهمة جداً في قضية الأديان ينتبه لها، وهي أن أي نبي يأتي يدعو الناس أولاً إلى أن يؤمنوا بالله وحده.

    والثاني: أن يصدقوا به. وهي ما نسميه نحن الآن في الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وهذا مما تتفق فيه جميع الأديان، التي هي شهادة التوحيد، والإيمان بالرسول الذي أرسل إليهم، ولكن الحال لما أرسل محمد صلى الله عليه وسلم اختلفت، فوجب على كل من سبقه من أتباع الأنبياء أن يؤمن به، ولا يقبل منه أي دين غير دين الإسلام، أما من كان قبل محمد صلى الله عليه وسلم، فمن دان بدين موسى الصحيح فهو على الحق، ومن دان بدين عيسى الصحيح فهو على الحق.. وهكذا.

    فإذاً المقصود أن ننتبه أن قاعدة أن لا إله إلا الله، وأن ذاك النبي رسول الله هي موجودة في كل شرع، وهي المبنى الأول من مباني دين الإسلام العام للرسل، ثم تأتي بعد ذلك المباني الأربعة المشهورة وهي مما اتفق عليه جميع الرسل.

    إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ [المائدة:112]، يعني: واذكر أيضاً إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ [المائدة:112]، ومعنى قولهم: (هل يستطيع ربك) يعني إن سألته (أن ينزل علينا مائدةً من السماء)، ولا شك أن الله سبحانه وتعالى قادر، وهؤلاء الأصفياء يسألون بهذا الأسلوب، وهذا بلا شك سيكون من الإعجاز أو من الآية التي تكون لهؤلاء الحواريين، وقد وقع خلاف بين العلماء: هل نزلت المائدة أو لم تنزل؟ فقال في التفسير الميسر: إنها نزلت المائدة، وهذا قول. والقول الثاني: إنها لم تنزل؛ لأنهم خافوا العذاب، وخافوا ألا يؤدوا حقها، فتركوا هذا السؤال.

    وظاهر الآيات كما ذهب إليه أصحاب التفسير الميسر أنها نزلت؛ لأنه ليس في الآيات أي إشارة إلى أنها لم تنزل، وإنما فيها نوع من التهديد والوعيد لهم إن لم يصدقوا بهذه الآية، ويؤمنوا بـعيسى عليه الصلاة والسلام.

    سؤال الآيات من الله لتقوية اليقين

    قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا [المائدة:113]، (نريد أن نأكل منها) هذا جانب من جوانب الإشباع الحياتي، (وتطمئن قلوبنا) هذا جانب الإشباع الروحي أو النفسي، وقد يقول قائل: هل هذا المطلب في اطمئنان القلب من هؤلاء الحواريين مطلب صحيح؟ والجواب: نعم. ما في إشكال بأن المطلب صحيح، مثل قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقد أراه الله سبحانه وتعالى ملكوت السموات والأرض، وقال: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ [الأنعام:75]، ومع ذلك لما جادل قومه، وحصل ما حصل منه عليه الصلاة والسلام من كسر الآلهة، وصارت المناظرة بينه وبين الملك في النجوم بعد هذه، ثم بعد كل هذه المناظرات قال الملك: (أنا أحيي وأميت) تشوقت نفس إبراهيم عليه الصلاة والسلام أن يرى كيفية الإحياء والإماتة، فقال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى [البقرة:260]، فلو كان هذا السؤال خطأً مثلما سأل نوح عليه الصلاة والسلام لوعظه الله، كما وعظ نوحاً حيث قال: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ [هود:46]، لما طلب نجاة ابنه، أما لما كان سؤال إبراهيم عليه الصلاة والسلام سؤالاً مشروعاً وليس فيه إشكال، قال الله: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ [البقرة:260]، فالله سبحانه وتعالى هو عليم بما في نفس إبراهيم يقول له: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى [البقرة:260]، إذاً لماذا طلبت؟ قال إبراهيم: وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]، فطلب طمأنينة القلب مع وجود اليقين وهذا أمر لا إشكال فيه أبداً، وهو طلب الطمأنينة التامة مع وجود اليقين، وهنا أيضاً لا يعاب على الحواريين أنهم طلبوا ما يجعل قلوبهم تطمئن، ومن يقرأ في سيرة عيسى عليه الصلاة والسلام، وما واجهه هو والحواريون، وقلة عدد هؤلاء الحواريين، له أن يتصور ذلك القلق الذي كان أن يعيشه هؤلاء، فما ذكر إلا اثنا عشر شخصاً كانوا معه عليه الصلاة والسلام، وما كان يحدثه هذا المجتمع الذي كانوا يعيشونه من مجتمع اليهود ومجتمع الرومان الكافر، فطبيعي أن يطلب هؤلاء ما يثبتهم ويطمئنهم، فكان هذا المطلب؛ مطلب نزول المائدة.

    ثم قالوا: وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنْ الشَّاهِدِينَ [المائدة:113]، يعني كل هذه المطالب مطالب معتبرة، ولا يقال: إن هؤلاء قد أساءوا الأدب، فلو كان في سؤالهم إساءة أدب لنبه الله سبحانه وتعالى عليها، أو نبه عيسى أيضاً عليه الصلاة والسلام عليه لكن ما دام أن الله سبحانه وتعالى ذكر هذه المطالب دون أن يشير إلى وقوع أي إشكال في هذه المطالب فهذا دليل على صحتها، ولهذا عيسى عليه الصلاة والسلام قال: اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنْ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ [المائدة:114]، فإذاً النبي عليه الصلاة والسلام قد طلب، وما دام طلب فالغالب أنه يتحقق، لكن وقع خلاف بين العلماء عند قول الله: قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ [المائدة:115]، قال الحواريون لما سمعوا هذا: إذاً لا نحتاج إلى هذه الآية، هذا على قول خوفاً من ألا يؤدوا حقها وهو شكرها، وقال آخرون وهو الذي مشى عليه أصحاب التفسير الميسر: إنه قد أنزل الله سبحانه وتعالى هذه المائدة، ونزولها على قول بعضهم: كان يوم الأحد، فاتخذوا يوم الأحد بالنسبة لهم يوم عيد، فأضل الله سبحانه وتعالى النصارى كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن يوم الجمعة كما أضل اليهود إلى يوم السبت عن يوم الجمعة، وبقي يوم الجمعة لخير الأمم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس ...)

    [ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ [المائدة:116]: تنزيهاً لك من أن أقول ذلك، مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا [المائدة:116-117] أخذتني إليك وافياً برفعي إلى السماء حياً كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:117-120] ].

    قال في التفسير الميسر: [ واذكر إذ قال الله تعالى يوم القيامة: يا عيسى ابن مريم! أأنت قلت للناس: اجعلوني وأمي معبودين من دون الله؟ فأجاب عيسى منزهاً الله تعالى: ما ينبغي لي أن أقول للناس غير الحق، إن كنت قلت هذا فقد علمته; لأنه لا يخفى عليك شيء، تعلم ما تضمره نفسي، ولا أعلم أنا ما في نفسك، إنك أنت عالم بكل شيء مما خفي أو ظهر.

    قال عيسى عليه السلام: يا رب! ما قلت لهم إلا ما أوحيته لي، وأمرتني بتبليغه من إفرادك بالتوحيد والعبادة، وكنت على ما يفعلونه، وأنا بين أظهرهم شاهداً عليهم وعلى أفعالهم وأقوالهم، فلما وفيتني أجلي على الأرض، ورفعتني إلى السماء حياً، كنت أنت المطلع على سرائرهم، وأنت على كل شيء شهيد، لا تخفى عليك خافية في الأرض ولا في السماء. إنك يا ألله إن تعذبهم فإنهم عبادك، وأنت أعلم بأحوالهم، تفعل بهم ما تشاء بعدلك، وإن تغفر برحمتك لمن أتى منهم بأسباب المغفرة فإنك أنت العزيز الذي لا يغالب، الحكيم في تدبيره وأمره. وهذه الآية ثناء على الله تعالى بحكمته وعدله، وكمال علمه.

    قال الله تعالى لـعيسى عليه السلام يوم القيامة: هذا يوم الجزاء الذي ينفع الموحدين توحيدهم ربهم، وانقيادهم لشرعه، وصدقهم في نياتهم وأقوالهم وأعمالهم، لهم جنات تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار، ماكثين فيها أبداً، رضي الله عنهم، فقبل حسناتهم، ورضوا عنه بما أعطاهم من جزيل ثوابه. ذلك الجزاء والرضا منه عليهم هو الفوز العظيم.

    لله وحده لا شريك له له ملك السموات والأرض وما فيهن، وهو سبحانه على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء ].

    الحكمة في ذكر ابن مريم عند ذكر عيسى

    نعم. انتقل الحديث، فأول حديث مع عيسى عليه الصلاة والسلام وخبره كان في الدنيا، (وإذ أوحيت إلى الحواريين) أيضاً في الدنيا، فبداية الحديث كان في الآخرة، وسيرجع مرة أخرى إلى الآخرة مع عيسى عليه الصلاة والسلام وقضية التوحيد التي هي أهم قضية جاءت بها الرسل، فعندما قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة:116]، فهو تبكيت في ذلك الموقف لمن ادعى ألوهية عيسى عليه الصلاة والسلام، أو ألوهية أمه، أو ادعى أن عيسى عليه الصلاة والسلام قد دعا لنفسه بالألوهية، فهذا تبكيت لمن يسمع هذا الخطاب ممن عبد عيسى عليه الصلاة والسلام، ونحن نلاحظ أنه يقول: عيسى ابن مريم، وهذه فائدة في القرآن ينتبه لها وهو أن القرآن يؤكد بشرية عيسى عليه الصلاة والسلام في كل مقام إذا نسبه إلى أمه، فكأنه مقصود أن ينبه على أن عيسى عليه الصلاة والسلام بشري، وأنه جاء بمعجزة في كونه جاء بلا أب.

    معنى سبحانك

    ثم قال: أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ [المائدة:116]، وهنا فائدة أن (سبحانك) فيها معنى التنزيه، ومعنى التعظيم معاً، ولكن السياق يقدم أحد المعنيين على الآخر، هل المقام مقام تنزيه فنقول: إنه تنزيه؟ أو المقام مقام تعظيم فنقول: إنه تعظيم؟ أو إن المقام متساوٍ فيه التنزيه والتعظيم، مثل هذا الموطن فنقول: إن (سبحانك) تعظيماً لك وتنزيهاً لك؛ لأنه في مقام التنزيه والتعظيم، وفي قوله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [الإسراء:1]، فليس في قوله: (سبحان الذي أسرى بعبده) نقيصة أو شيء فتحتاج إلى التنزيه، فإذاً هذا المقام مقام تعظيم، يعني: تعظيماً لمن أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام، والتعظيم يستلزم التنزيه، فما دام معظماً فإنه يلزم منه أن يكون منزهاً، لكن قوله تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ [البقرة:116]، فهذا مقام التنزيه، والتنزيه يتضمن التعظيم، فإن المقصود من ذلك أن مادة (سبحانك) في القرآن يتجاذبها التعظيم والتنزيه، والسياق هو الذي يقدم إحدى الدلالتين أو يساوي بينهما، فإذاً المعنى هنا الآن: تعظيماً لك وتنزيهاً؛ لأن المقام مقام توحيد.

    قاعدة في حقوق الله وحقوق الأنبياء

    أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [المائدة:116]، يعني: ليس من حقوق الأنبياء هذا التعظيم الذي يصل بهم إلى هذا الحد، وهذه قاعدة ننتبه لها ونحن نتعامل مع الأنبياء، وسيكون عندنا تجاذب بين تعظيم كلام الله سبحانه وتعالى، وتنزيله منزلته من الظاهر الذي يدل عليه، وتقديس الأنبياء من رفعهم عن مرتبتهم، فيجب أن يكون عندنا نوع من التوازن، ولا يقع عندنا تقليل من شأن كلام الله سبحانه وتعالى، وتعظيم أو تقديس لشأن الأنبياء، وأعني بذلك: أنه إذا ورد عن نبي من الأنبياء أمر قد أثبته الله سبحانه وتعالى عليه من الأخطاء فإننا نثبته كما أثبته الله سبحانه وتعالى، وأي تأول فإنه نوع من التحريف الذي يصرف المعنى عن ظاهره، فيكون فيه عدم حشمة مع كلام الله سبحانه وتعالى، واحتشام لأمر النبي، مع أن هذا من الأمور التي لا تخدش في عصمة الأنبياء، ولا تؤثر عليهم، ولكن الفهم غير الصحيح للعصمة هو الذي يؤثر في مثل هذا الانحراف في فهم بعض المعاني المتعلقة بالأنبياء، ولهذا بعض السلف كـابن قتيبة و الحسن البصري وبعض اللغويين أيضاً مثل أبي بكر بن الأنباري ، و أبي عبيد القاسم بن سلام ، ومن السلف ابن عباس و سعيد بن جبير وغيرهم كانوا يتعاملون مع هذه الآيات بظواهرها، ولا يكون عندهم أي نوع من التأويل المنحرف الذي يصرف الآية عن ظاهرها، وكأن الله سبحانه وتعالى قد خاطبنا بما لا نفهم من تلك العبارات، وهذا سيكون فيه نوع من التكلف والصعوبة، فمثلاً قول الله سبحانه وتعالى: لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ [الإسراء:74-75]، وهو يخاطب أحب الخلق إليه، فهو كلامه سبحانه وتعالى، ويبين لنا عن هذه النفسية البشرية في محمد صلى الله عليه وسلم قال: (كدت) يعني أن (تركن إليهم شيئاً قليلاً)، لو حصل منه هذا الشيء القليل فقد توعده الله فقال: (إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات)، فكيف نواجه مثل هذا الخطاب؟ لا يمكن أن نواجهه بالاستنكار أو الاستغراب، أو أن نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم عن هذا، بل نقول: إن الله سبحانه وتعالى قد عصمه عن أن يقع في الخطأ، ولكن مثل هذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لو وقع منه هذا فإن الله سبحانه وتعالى يعاقبه بهذا العقاب.

    أقصد من ذلك أن في مثل هذه الأمور يحتاج إلى نوع من التوازن، فهنا عيسى عليه الصلاة والسلام يقول: مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [المائدة:116]، فهناك حقوق خاصة بالأنبياء معروفة وواضحة في القرآن، وهناك من يدعي للأنبياء حقوقاً زائدة، فمن يدعي للأنبياء حقوقاً زائدة فإنه سيدخل في مثل هذا الخطاب الذي يقوله عيسى: مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [المائدة:116].

    قال: إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ [المائدة:116]، يعني: بأني دعوت إلى ألوهيتي، فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116]، قال بعد ذلك: إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ [المائدة:116]. مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ [المائدة:117] وهو التوحيد، وهذه المخاطبة وهذه المحاورة بينه وبين الله سبحانه وتعالى فيها معان كثيرة.

    الحكمة في قول عيسى عليه السلام: (وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم)

    ثم قال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]، النبي عليه السلام في هذا الموطن مع أنه موطن شديد جداً، والله سبحانه وتعالى جبل الأنبياء على الرحمة، وهو يطلب لهم المغفرة، ولكنه طلب فيه خفاء، والموقف موقف عظمة، وموقف غضب إلهي من أولئك الذين عبدوا غيره سبحانه وتعالى، وهذا هو أكبر الكبائر كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول هو عليه الصلاة والسلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ [المائدة:118]، فقدم العذاب لمناسبة المقام، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ [المائدة:118] وهذا مقام طلب المغفرة لهؤلاء ولكن كيف يغفر لهم؟ قال: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]، يعني: إن غفرت لهم فمغفرتك عن عزة وليست عن ضعف، عن حكمة وليست عن عجز أو جهل، فلا يتناسب في هذا الموطن أن يقول: وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم؛ لأن هذا الموطن موطن غضب الرب سبحانه وتعالى، وبيان عظمته سبحانه وتعالى، فلا يتناسب مع عظمته سبحانه وتعالى في هذا الموطن إلا أن يوصف بأوصاف الجلال التي تدل على القوة والعظمة، فطلب لهم المغفرة من هذا، وهذا يدل على رحمة الأنبياء عليهم السلام، وأن الله سبحانه وتعالى جبلهم على الرحمة، حتى في هذا الموقف الذي نوقن أنه لا يفيد هؤلاء الذين عبدوا غير الله سبحانه وتعالى.

    المقصد من قول الله تعالى: (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم ...)

    ثم قال: قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [المائدة:119]، صدق الأنبياء لا يشك فيه، يعني: ما هو لازم الخبر الذي نستفيد منه من هذه المحادثة أو هذا الأمر الذي يكون بين الله سبحانه وتعالى وأحد أشرف عباده عيسى عليه الصلاة والسلام، فلما يقول الله سبحانه وتعالى: (هذا) هو تنبيه لنا نحن بأننا نقرأ هذا الخطاب، فقال: هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة:119]، سواءً صدق الأقوال أو صدق الأفعال، وصدق الأفعال لا شك أنه هو المهم.

    فإذاً من مقاصد هذا الخبر هو التنبيه على هذا المعنى هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة:119]، فهو المطلوب منا إذاً أن نكون مع الصادقين؛ لكي يحصل لنا ما ذكر الله سبحانه وتعالى، قال: لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [المائدة:119].

    سبحانك الله وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756252559