إسلام ويب

كتاب التوحيد - العبادةللشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • حقيقة العبادة وغايتها هي امتثال طاعة الله بفعل المأمور وترك المحظور، وهذه هي الحكمة الشرعية من خلق الجن والإنس، وما أرسل الرسل ولا أنزلت الكتب إلا من أجل تحقيق هذه الغاية.

    1.   

    تعريف العبادة وبيان غايتها

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

    قال المؤلف رحمه الله: [قال شيخ الإسلام : العبادة: هي طاعة الله بامتثال ما أمر الله به على ألسنة الرسل.

    وقال أيضاً: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.

    قال ابن القيم: ومدارها على خمس عشرة قاعدة، من كملها كمل مراتب العبودية.

    وبيان ذلك: أن العبادة منقسمة على القلب واللسان والجوارح، والأحكام التي للعبودية خمسة: واجب ومستحب وحرام ومكروه ومباح، وهن لكل واحد من القلب واللسان والجوارح.

    وقال القرطبي: أصل العبادة التذلل والخضوع، وسميت وظائف الشرع على المكلفين عبادات؛ لأنهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين متذللين لله تعالى.

    ومعنى الآية: أن الله تعالى أخبر أنه ما خلق الجن والإنس إلا لعبادته، فهذا هو الحكمة في خلقهم].

    قول الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، الاستثناء هنا استثناء مفرغ، يعني: ما خلقت الجن والإنس لشيء إلا للعبادة.

    واللام في (ليعبدون) غائية، وهي للتعليل، وليست موجبة، لأن المعنى: إلا لغاية أن يعبدوني.

    والتعليل بالغائية معناه أنه يمكن أن يقع الأمر ويمكن ألا يقع، فإنه من المشاهد أن الله سبحانه وتعالى ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه، ولكن منهم من يعبده، ومنهم من لا يعبده، وهذا يدل أنها للغائية وليست موجبة، لأنك لو قلت: إنها موجبة، للزم أن يعبده كل الخلق، كما تقول: انكسر الزجاج لأجل سقوطه، فاللام في قولك: (لأجل) موجبة؛ لأنه من المعلوم أنه لا يسقط الزجاج إلا وينكسر، فلذلك قال أهل العلم: إن اللام في الآية غائية وليست موجبة، ولو كانت موجبة لكانت كونية؛ لأن الكونية لا بد أن تقع، والغائية لا توجب الوقوع، ولكن لها أثر في الإرادة والمحبة.

    قال المؤلف رحمه الله: [قلت: وهي الحكمة الشرعية الدينية].

    إذاً: الحكمة الشرعية الدينية يحبها الله، وقد تقع وقد لا تقع، فإيمان أبي لهب يحبه الله، فهو يحب من أبي لهب أن يؤمن، لكنه لم يقع، أما إيمانه صلى الله عليه وسلم وإيمان أبي بكر فإنه يحبه الله ولكنه قد وقع، إذاً إيمان أبي بكر إرادة شرعية كونية، وإيمان أبي لهب شرعية لا كونية والله أعلم.

    قال المؤلف رحمه الله: [قال العماد ابن كثير: وعبادته هي طاعته بفعل المأمور وترك المحظور، وذلك هو حقيقة دين الإسلام؛ لأن معنى الإسلام: الاستسلام لله تعالى، المتضمن غاية الانقياد والذل والخضوع. انتهى].

    قوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، يعني إلا لآمرهم أو أنهاهم، وهذا هو غاية العبادة، ولهذا قال سعيد بن المسيب: حينما حدثه رجل عن قوم يعبدون ويركعون ويسجدون من الظهر إلى العصر، وكان عبد الملك بن مروان ممن يصنع ذلك، كانوا إذا صلوا الظهر يبدءون فيصلون من الظهر إلى العصر، فقال: هذه العبادة! لو كنت أطيق ذلك، ألا تصنع ذلك يا أبا محمد؟ قال: ليس ذلك بالعبادة، قلت: ما العبادة؟ قال: العبادة التفكر في أمر الله وفعل المأمور، واجتناب المحظور، والورع عما حرم الله.

    هذه هي العبادة الحقيقية، ولهذا نجد أحياناً بعض النساك يوصفون بالعبادة، لكنهم ربما يصنعون بعض المنكرات، كما يفعل بعض أهل التصوف، فتراهم يعبدون الله وترى أثر السجود في وجوههم، لكنهم يتأثرون بالصور المحرمة والمردان والله المستعان.

    فهؤلاء كما وصفهم ابن الجوزي في كتاب (تلبيس إبليس)، ليسوا من النساك، إنما النساك الذين يعملون بما أمر الله ويجتنبون ما نهاهم عنه، ولهذا يخطئ البعض حينما يقول: أنا أتمنى أن أكون عابداً مثل فلان، مع أنه يصلي في المساجد، ويجتنب الحرام، وهذه الأعمال من العبادة، بل هي أعظم عبادة، أما العبادة الثانية وهي التنفل فإنها شيء آخر زائد عن الواجب، ففي الحديث: (وما تقرب العباد إلي بشيء أحب مما افترضته عليهم)، وما افترضه الله عليهم هو أن يأمرهم فيطيعوه وأن ينهاهم فيجتنبوا نهيه.

    قال المؤلف رحمه الله: [وقال أيضاً في تفسير هذه الآية: ومعنى الآية أن الله تعالى خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء، ومن عصاه عذبه أشد العذاب، وأخبر أنه غير محتاج إليهم، بل هم الفقراء في جميع أحوالهم وهو خالقهم ورازقهم.

    وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الآية: إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي?. وقال مجاهد: إلا لآمرهم وأنهاهم اختاره الزجاج وشيخ الإسلام.

    قال: ويدل على هذا قوله: أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36].

    قال الشافعي : لا يؤمر ولا ينهى.

    وقال في القرآن في غير موضع: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة:21]، اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1]].

    ويخطئ بعض المفكرين وبعض الدعاة إذا قال: يا أخي! العبادة في القلب، نعم العبادة في القلب لكن لا بد أن يكون لها أثر في الجوارح.

    ولهذا يقول الشاطبي رحمه الله في (الموافقات): غاية العبادة امتثال المأمور، وهذا أعظم مقصود، ولهذا تجد بعض العلماء يترك الدليل بحجة أن المقصد الشرعي -وهو التخفيف- هو الأصل، وهذا خطأ؛ لأن المقصد الشرعي قطعي في كلياته ظني في جزئياته، فالتيسير قطعي في الكليات، لكن من حيث المسألة نفسها فإنه ظني، فإذا وجد دليل يقول لك: حرام، فلا يسوغ لك أن تبطل الدليل بدعوى وجود مقصد شرعي؛ لأن المقصد الأعظم هو امتثال المأمور، والله أعلم.

    ولهذا لا يمكن تحكيم غير الشريعة بدعوى أنه سوف يتولى الإسلاميون؛ فإن أعظم شيء هو تحكيم الشرع، وأن يكون الشرع هو السائد وله السيادة المطلقة، وليس الأمة أو الشعب أو غير ذلك، ولا يجوز التساهل في هذا الأمر، نعم، تطبيق الشريعة على حسب التكليف، أما التهاون واستساغة الحكم بغير شرع الله، فهذا لا يجوز، والله أعلم.

    قال المؤلف: [فقد أمرهم بما خلقوا له وأرسل الرسل بذلك.

    وهذا المعنى هو الذي قصد بالآية قطعاً، وهو الذي يفهمه جماهير المسلمين ويحتجون بالآية عليه.

    قال: وهذه الآية تشبه قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ [النساء:64].

    ثم قد يطاع وقد يعصى، وكذلك ما خلقهم إلا لعبادته، ثم قد يعبدون وقد لا يعبدون].

    وهذه اللام هي اللام الغائية وقد تقع وقد لا تقع، وليست هي اللام الموجبة التي لا بد من وقوعها، والله أعلم.

    1.   

    إرادة الله من الخلق أن يعبدوه والتفريق بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية

    قال المؤلف رحمه الله: [وهو سبحانه لم يقل: إنه فعل الأول: وهو خلقهم ليفعل بهم كلهم.

    الثاني: وهو عبادته، ولكن ذكر أنه فعل الأول ليفعلوا هم الثاني، فيكونوا هم الفاعلين له، فيحصل لهم بفعله سعادتهم، ويحصل ما يحبه ويرضاه منه ولهم. انتهى].

    ولما لم يحسن أهل الاعتزال ولا الأشاعرة فهم الفرق بين الإرادة الكونية القدرية والإرادة الشرعية الدينية وقع الأشاعرة في الجبر ووقع المعتزلة في القدر، فلما رأى المعتزلة أن ما لا يحبه الله قد يقع، قالوا: إن العباد يخلقون أعمالهم وأفعالهم، ولما رأى الأشاعرة أن الله هو الخالق لأفعال العباد، قالوا: إن الله يحب الكفر من أبي لهب، والعياذ بالله، فلم يجمعوا الإرادة الكونية مع الشرعية، فأخطأ وضل المعتزلة والأشاعرة، وهدى الله أهل السنة والجماعة؛ لأنهم فرقوا بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية، فالإرادة الكونية تقع لا محالة، ومنها ما يحبه الله، ومنها ما لا يحبه الله.

    أما الإرادة الشرعية: فقد تقع وقد لا تقع، لكنها كلها يحبها الله، فمن فرق بين هذين الأمرين فقد وافق الحق ووافق أهل السنة، والله أعلم.

    قال المؤلف رحمه الله: [ويشهد لهذا المعنى: ما تواترت به الأحاديث.

    فمنها: ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ( يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذاباً: لو كانت لك الدنيا وما فيها ومثلها معها أكنت مفتدياً بها؟ فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب آدم، ألا تشرك -أحسبه قال:-ولا أدخلك النار، فأبيت إلا الشرك )].

    هذا الحديث حديث عظيم، لكن يخطئ بعض الناس في فهمه، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما بين أن الله قال: ( قد أردت منك أهون من ذلك وأنت في صلب أبيك )، فالله سبحانه وتعالى قد أقر ذرية آدم حينما أخرجهم من صلبه وقال: ( هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي، وهؤلاء إلا النار ولا أبالي )، فقد أقروا بتوحيد الربوبية، لكن توحيد الألوهية لم يقروا به إلا بعد النشء وبعد التمكين، وهذا هو الأصل، فقوله: ( قد أردت منك أهون من ذلك وأنت في صلب أبيك )، يعني عندما لم تؤمن وأنت في صلب أبيك فلن تؤمن بعد إخراجك، وليس معناه أن من مات ولم يسمع بالتوحيد أنه يدخل النار قطعاً؛ لأنه لم يؤمن، لا؛ لأن من مات ولم يسمع بالتوحيد فإن الله سوف يبعث له رسولاً كما ذكر ذلك الطبراني في حديث أخرجه، وهذا هو مصداق قول الرب جل جلاله: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، فمن مات ولم يسمع بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا بالإسلام فإنه يموت مشركاً، لكنه لا يدخل النار أو الجنة حتى يبعث ربنا إليه رسولاً فإن أطاعه دخل الجنة وإن عصاه دخل النار، ولهذا فإن الشهادة لشخص بالكفر غير الشهادة له بأنه كافر.

    فمن مات على غير الإسلام فإنه قد مات على الكفر، وأما من مات وسمع لا إله إلا الله، وسمع أن هناك إسلاماً، وسمع أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله فإنا نقول: إنه مات على الكفر، وهو في النار، فهذا هو معنى الكفر.

    فـشارون مات على الكفر وهو في النار، لكن لو أن شخصاً من أدغال أفريقيا ما سمع بالإسلام، فهذا مات على الكفر، لكن لا يقال: إنه في النار، ولا يقال: إنه يدخل الجنة، ولا يدخل النار، لكنه مات على الكفر، فيجرى عليه أحكام الكفار، فلا يغسل ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، وهذا هو الذي قرره أبو العباس ابن تيمية رحمه الله.

    وأما حديث ( إذا مررت بقبر كافر فبشره بالنار )، فهذا ليس على إطلاقه؛ فهناك كافر من حيث الوصف، وكافر من حيث العين، فكل كافر في النار من حيث الوصف، وأما من حيث العين فإن من مات وقد سمع بالتوحيد فإنه يكون كافراً ويكون في النار، لما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة؛ يهودي أو نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي جئت به إلا كان من أهل النار )، لماذا؟ لأنه سمع بالتوحيد، فهو إن سمع بالتوحيد وسمع بـ(لا إله إلا الله)، وسمع بالإسلام فهذا إما أن يكون كافراً كفر جحود، وإما أن يكون كافراً كفر إعراض -والله المستعان- ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ [محمد:28].

    قال المؤلف رحمه الله: [فهذا المشرك قد خالف ما أراده الله تعالى منه: من توحيده وألا يشرك به شيئاً، فخالف ما أراده الله منه فأشرك به غيره، وهذه هي الإرادة الشرعية الدينية كما تقدم.

    فبين الإرادة الشرعية الدينية والإرادة الكونية القدرية عموم وخصوص مطلق، يجتمعان في حق المخلص المطيع، وتنفرد الإرادة الكونية القدرية في حق العاصي، فافهم ذلك تنج من جهالات أرباب الكلام وتابعيهم ].

    كـأبي بكر فإنه مخلص مطيع وهذه إرادة شرعية، وقد وقع مع قدرة الله إرادة كونية.

    وإيمان أبي لهب إرادة شرعية، لكنها لم تقع، وكفره إرادة كونية، بمعنى: أنها وقعت بما قدرها الله وهو كفره، لكن لم تقع الإرادة الشرعية؛ لأنه مات على الكفر.

    1.   

    التحذير من عبادة الطاغوت

    قال المؤلف رحمه الله: [وقوله: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36].

    الطاغوت: مشتق من الطغيان، وهو مجاوزة الحد، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الطاغوت الشيطان.

    قال جابر رضي الله عنه: الطواغيت كهان كانت تنزل عليهم الشياطين، رواهما ابن أبي حاتم.

    وقال مالك: الطاغوت كل ما عبد من دون الله.

    قلت: وذلك المذكور بعض أفراده، وقد حده العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى حداً جامعاً فقال: الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده: من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم: من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله.

    فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها، رأيت أكثرهم أعرض عن عبادة الله تعالى إلى عبادة الطاغوت].

    الطاغوت إما أن يسمى بذلك لرضاه بفعلهم فيكون طاغوتاً، وإما أن يسمى طاغوتاً باعتبار عابده وطائعه، فإن رضي بذلك صار طاغوتاً من وجهين والعياذ بالله: من جهة محبته لذلك، ومن جهة طاعته، ولهذا عندما ذكر الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله عليه تحكيم القوانين الوضعية سماها طواغيت؛ لأن الناس يرضونها ويطيعونها، وإن كانت ليس لها إرادة، فالطواغيت قد تكون كتباً فإن كان يطاع مثل جنكيز خان فهو طاغوت بنفسه؛ لأنه يطاع.

    واعلم أن اللام في قول الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ [النحل:36]، هي اللام الموطئة للقسم.

    وقوله: أمة: الأمة تطلق على أربعة معان:

    تطلق على الإمامة: كما قال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً [النحل:120]، يعني: إماماً.

    وتطلق على الطائفة: كما في الآية: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ [النحل:36]، يعني: في كل طائفة.

    وتطلق على الملة: كما قال تعالى: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [الزخرف:22]، يعني: ملة.

    وتطلق أيضاً على الزمن: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ [يوسف:45].

    فهذا أربعة معان: إمام، وطائفة، وملة، وزمن، والله أعلم.

    قال المؤلف رحمه الله: [رأيت أكثرهم أعرض عن عبادة الله تعالى إلى عبادة الطاغوت، وعن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طاعة الطاغوت ومتابعته.

    وأما معنى الآية: فأخبر تعالى أنه بعث في كل طائفة من الناس رسولاً بهذه الكلمة: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، أي: اعبدوا الله وحده واتركوا عبادة ما سواه، كما قال تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا [البقرة:256]، وهذا معنى (لا إله إلا الله)، فإنها هي العروة الوثقى].

    ولو كانت أحكام القوانين الوضعية صحيحة لما جاء الربيع العربي ليغير كل الدساتير؛ لأنه لو كان الخلل في مادة أو مادتين أو أربع مواد أو خمس مواد لغيرت وانتهى الأمر، لكن الخلل فيها كلها، إذ كيف يحكم الناس دستوراً صنعوه قبل أربعين سنة ثم ماتوا فيحكمون به على الأحياء إلى يوم الدين، هذا خلل، قال تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، لكن تحكيم الشرع صالح ومصلح لكل زمان ومكان، علمه من علمه وجهله من جهله.

    1.   

    الحكمة من بعث الرسل

    قال المؤلف رحمه الله: [قال العماد ابن كثير في هذه الآية: كلهم -أي: الرسل- يدعو إلى عبادة الله، وينهى عن عبادة ما سواه، فلم يزل سبحانه يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم في قوم نوح الذين أرسل إليهم، وكان أول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض إلى أن ختمهم بمحمد صلي الله عليه وسلم، الذي طبقت دعوته الإنس والجن في المشارق والمغارب، وكلهم كما قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل:35]، فمشيئة الله تعالى الشرعية عنهم منفية؛ لأنه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله، وأما مشيئته الكونية وهي تمكينهم من ذلك قدراً فلا حجة لهم فيها؛ لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة، وهو لا يرضى لعباده الكفر، وله في ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة، ولهذا قال: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل:36]، انتهى].

    إذاً الحكمة من بعث الرسل أمران:

    الأمر الأول: إقامة الحجة: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [النحل:36]، وقال تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]، فهي حجة عليهم، لأجل ألا يقول أحدهم: أنا لم أفهم، أنا لم أعلم، أنا لم أدر، فبعث الله هؤلاء الرسل لأجل أن يطيعهم أقوامهم.

    الأمر الثاني: أن بعث الرسل هو رحمة للعالمين: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، وكلما اتصف العالم بهذين الوصفين: وصف إقامة الحجة على خلق الله ووصف رحمة الخلق كلما كان الأمر أقرب إلى دعوة الأنبياء.

    وقد يكون العالم رحيماً بالخلق، لكنه يجبن عن بيان الحق فيقع منه النقص، وقد يكون من العالم تقرير بالحجة ولكنه لا يبالي بالخلق، فيقع منه تقصير في هذا الجانب، فمن اتصف بصفتين: إقرار بالوحدانية لله على خلقه وإثبات الإلهية له، وبيان أخطاء الناس في هذا الأمر، وتقرير ذلك بالحجة، فقد حاز قصب السبق في إقامة الحجة وتقرير ما صنعه الرسل.

    ومع ذلك فمن رحم الخلق إما لقصور أو لتقصير، فقد اتصف بصفات الأنبياء، ولهذا نجد كل من اتصف من العلماء الربانين بهذين الوصفين كلما كان له أثر في دعوته، نسأل الله ألا يحرمنا فضل ما عنده في هذا الأمر.

    واعلم أن قوله تعالى: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، يدل على أن التوحيد لا بد فيه من إثبات ونفي؛ لأن الإثبات المحض لا ينفي المشاركة؛ لأنك عندما تقول: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [النحل:36]، فقط فقد يوجد عبادة لله وعبادة لغيره، والنفي المحض تعطيل.

    فلا بد من أمرين: إثبات الألوهية والعبودية لله، ونفي ما سوى الله سبحانه وتعالى من عبادة غيره.

    ولعلنا نقف عند هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    1.   

    الأسئلة

    ما يلزم من الإثبات المحض في باب الأسماء والصفات

    السؤال: [ماذا يلزم من الإثبات المحض؟]

    الجواب: يلزم من الإثبات المحض وجود المشاركة، يمكن أن نعبد الله ونعبد ما سواه، ولهذا عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كلمة تدين لكم بها العرب (لا إله إلا الله)، قال: تباً أجعل الآلهة إله واحداً، إن هذا لشيء عجاب )، فهم يريدون أن يعبدوا الله ويعبدوا معه غيره، وهذا ليس صحيحاً، فهذا هو معنى أن الإثبات المحض يلزم منه المشاركة، والنفي المحض لا فائدة فيه، فهو تعطيل؛ فإذا قلت: لا نعبد أحداً تكون قد عطلت الله سبحانه وتعالى من صفه العبودية له وهذا لا يجوز.

    معنى قوله تعالى في الحديث القدسي: (قد أردت منك أهون من هذا)

    السؤال: [ما هو المعنى الصحيح لقوله: (قد أردت منك أهون من هذا؟]

    الجواب: المعنى الصحيح، أنه لما لم يقر في صلب أبيه فإنه لن يقر بعد حياته، وليس معنى ذلك أن إقراره في صلب آدم ينفعه أو يضره، فمعنى هذا أن توحيد الربوبية حاصل، وتوحيد الألوهية كأنه تقرير إرادة الله على خلقه: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30]، هذا هو معنى الحديث.

    وأما قوله: (قد أردت منك أهون من ذلك) يعني أن هذا لن يكون؛ لأن الله قدر ألا تطيعه، هذا معناه، ولهذا قال الله تعال: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ [الأنعام:28]، فقال: (قد أردت منك أهون من ذلك) يعني حتى لو أرجعتك فإنني قد قدرت وأنت في صلب أبيك آدم أنك لن تكون مسلماً، هذا معنى الحديث.

    مدى معرفة النبي عليه السلام بالغيبيات وبمن هو من أهل النار

    السؤال: [هل الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم بعض الغيب، ويعلم بعض أهل النار؟]

    الجواب: قال الرسول عليه الصلاة والسلام: ( إن أبي وأباك في النار )، فعلم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كافر، ولهذا أشار العلماء كـأبي العباس ابن تيمية في هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحكم عندما غضب فقال: (سلوا، فقال رجل: أين أبي؟ قال: أبوك في النار، قال آخر: من أبي؟ قال: أبوك فلان. فلما رأى عمر غضب رسول الله قال: نعوذ بالله من غضب الله ومن غضب رسوله).

    فالرسول علم مثل علم الخضر بالغلام أنه قد طبع كافراً، مع أن مذهب أهل السنة والجماعة أن أطفال المسلمين والمشركين في الجملة في الجنة، لكن لا بأعيانهم.

    وأبو العباس ابن تيمية يقول: وهو مذهب جمهور أهل السنة والجماعة، وقد حكاه أبو الحسن الأشعري في كتاب الإبانة عن جمهور أهل العلم، فأخذ ابن تيمية هذا التقرير من كتاب أبي الحسن، وهذا يدل على أن أبا الحسن قد ذهب إلى مذهب أهل السنة والجماعة في الجملة، وليس بالجملة، فإنه لا بد أن يتأثر الإنسان في بعض الكلام؛ لأنه قد قرر قواعد فلا يمكن أن ينسلخ منها انسلاخ الثوب من الجسد، وجزاكم الله خيراً.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755999418