تقدم لنا في الدرس السابق شيءٌ من سنن الإحرام وآدابه، وذكر المؤلف رحمه الله من هذه السنن الاغتسال وما يتعلق به من حيث الكيفية والحكم، وكذلك أيضاً التنظف بأخذ سنن الفطرة، وهل هو من سنن الإحرام؟ وهل يشرع للإحرام صلاة خاصة؟
وتكلمنا في آخر ما تكلمنا عليه ما يتعلق بالتلبية ومتى تشرع، وأن العلماء رحمهم الله اختلفوا في ذلك على أقوال: القول الأول: أنه يبدأ بالإهلال دبر الصلاة.
والقول الثاني: أنه يبدأ إذا استوت به راحلته.
والقول الثالث: أنه يبدأ إذا بدأ بالمسير.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله في هذا الدرس شيئاً من الأحكام المتعلقة بالتلبية؛ فذكر ما يتعلق برفع الصوت، وأيضاً متى تتأكد التلبية.
ورفع الصوت بالتلبية هذا باتفاق الأئمة.
وما ذكره المؤلف رحمه الله دليله ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان يلبي راكباً ونازلاً ومضطجعاً، وهذا أخرجه البيهقي ، وكذلك أيضاً روى سعيد بن منصور كما روى خيثمة بن أبي سبرة ، يقول: كان أصحاب عبد الله -يعني: عبد الله بن مسعود - يلبون إذا هبطوا وادياً، أو أشرفوا على أكمةٍ، أو لقوا ركباً، وبالأسحار ودبر الصلاة.
بعد أن ذكر المؤلف ما يتعلق بالإحرام وآدابه شرع رحمه الله فيما يتعلق محظورات الإحرام.
المحظورات، أي: المحرمات، وقوله: (الإحرام) هذا سبق بيانه، فالمراد بهذا الباب: المحرمات بسبب الإحرام، وتقدم أن ذكرنا أن المحرم إذا دخل في النسك، فإنه يحرم على نفسه شيئاً من المباحات التي كانت مباحة له قبل دخوله في النسك، فقولنا: المحظورات، أي: المحرمات بسبب الإحرام.
والحكمة من تحريم هذه الأشياء على المحرم هي: البعد عن الترفه، وتربية النفس على التقشف والاتصاف بصفة الخاشع، ولكي يتذكر بتجرده عن المخيط القدوم على ربه عز وجل فيكون أقرب إلى مراقبته. وكذلك أيضاً من الحكم: استكمال العبادة في جميع البدن. ومن الحكم أيضاً: أن الإنسان إذا أحرم فإنه ينبه نفسه أنه في عبادة لا ينبغي له أن يشتغل إلا بها.
ثم قال المؤلف رحمه الله: [وهي تسعة].
يعني: أن محظورات الإحرام تسعة أشياء، وهذا الحصر بناءً على استقراء العلماء رحمهم الله؛ فإن العلماء رحمهم الله استقرؤوا الأدلة، فتلخص لهم من الأدلة أنها تسعة محظورات، وسيأتي إن شاء الله بيانها.
وهل فعل شيءٍ من هذه المحظورات محرم؟ يعني: هل يأثم الإنسان إذا فعل شيئاً من هذه المحظورات؟ نقول بأن فعل هذه المحظورات ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يفعلها لحاجة، فهذا لا إثم عليه، وإنما تجب عليه الفدية كما سيأتي إن شاء الله بيانها.
القسم الثاني: أن يفعلها لغير حاجة، فهذا يأثم.
هذا المحظور الأول من محظورات الإحرام وهو حلق الشعر، وظاهر كلام المؤلف رحمه الله: أن حلق الشعر من جميع البدن من محظورات الإحرام، سواء حلقه من الرأس، أو حلقه من الأماكن التي يشرع أخذ الشعر منها، كسنن الفطرة: قص الشارب، ونتف الإبط، وحلق العانة، أو حلقه من بقية البدن.
واستدلوا على ذلك بقول الله عز وجل: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196] فقالوا: إن الله عز وجل نص على حلق الرأس، وأُلحق بقية الشعر بالرأس، وجمهور أهل العلم رحمهم الله يتفقون على أن حلق الشعر من جميع البدن -سواء كان من الرأس أو من بقية البدن- أنه من محظورات الإحرام.
وإن كانوا يختلفون في تحديد المحظور إلا أنهم يتفقون من حيث الجملة أن حلق الشعر يشمل كل البدن، ولا يختص ذلك بالرأس. وهذا الرأي الأول.
والرأي الثاني: وهو رأي ابن حزم رحمه الله أن حلق الشعر الذي هو محظور من محظورات الإحرام إنما هو حلق شعر الرأس فقط، أما أخذ الشعر من بقية البدن فإنه ليس من محظورات الإحرام؛ لأن النص إنما ورد في شعر الرأس فقط.
والقول بأن النص إنما ورد في شعر الرأس فقط هذا غير مسلم؛ فإن الله عز وجل قال: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29] وقضاء التفث هذا إنما يكون يوم النحر عند التحلل، وقد فسره جمع من العلماء كـمحمد بن كعب وغيره: أن قضاء التفث المراد به حلق العانة ونتف الإبط والأخذ من الشارب وقص الأظفار.. هكذا فسره طوائف من أئمة اللغة وجمع من المفسرين، فدل ذلك -أعني تفسير قوله سبحانه وتعالى: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ)- أنه كان ممنوعاً من هذه الأشياء قبل تحلله.
وعلى هذا نقول: الشَّعر ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: شعر الرأس، وهذا لا إشكال في أنه من محظورات الإحرام، والاتفاق واقع على ذلك.
القسم الثاني: الشعر الذي يشرع أخذه وندب الشارع إلى أخذه، كشعر الإبط والشارب والعانة، فهذه أيضاً دل قول الله عز وجل: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [الحج:29] على أنه أيضاً من محظورات الإحرام.
القسم الثالث: الشعر من بقية البدن، فهذا لا دليل على أنه محظور من محظورات الإحرام، ولكن الأولى والأحسن بالمسلم أن يترك ذلك؛ لأنه كما سبق أن الأئمة الأربعة رحمهم الله كلهم يتفقون على أنه من محظورات الإحرام، وإن كان يختلفون في شيءٍ من التفاصيل.
وقول المؤلف رحمه الله: (حلق الشعر) يشمل ما إذا نتفه، يعني: سواء كان حلقاً، أو كان ذلك عن طريق النتف، أو كان ذلك عن طريق القص، فهذا كله لا يجوز لعموم قول الله عز وجل: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196] وسيأتينا إن شاء الله ما هو الشعر الذي إذا حلق ترتبت الفدية في حلقه، ولكن هنا بينا: هل حلق الشعر أو قص الشعر من محظورات الإحرام أو لا؟ وتلخص لنا أن الشعر ينقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة.
أيضاً اتفق الأئمة الأربعة على أن تقليم الأظفار من محظورات الإحرام، واستدلوا على ذلك بقول الله عز وجل: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، فإن قضاء التفث فسره جمع من المفسرين وأهل اللغة أن المراد به قص الشارب ونتف الإبط وحلق العانة وتقليم الأظفار. وورد أيضاً عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله سبحانه وتعالى: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ): هو وضع إحرامهم؛ من حلق الرأس ولبس الثياب وقص الأظفار.
فتفسير ابن عباس على أنه مما يدخل في التفث قص الأظفار، والله عز وجل قال: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) وهذا إنما يكون عند إيفاء النذر. وإيفاء النذر يكون يوم العيد، فإن الإنسان إذا أحرم يكون كأنه نذر إتمام هذا النسك؛ ولهذا سبق أن أشرنا إلى أن الإحرام بالحج والعمرة من ميزته: أنه لا يمكن أن تبطل الإحرام بالحج والعمرة، يعني: لو أن الإنسان دخل في الحج أو دخل في العمرة وأراد أن يبطل الإحرام بهما فإنه لا يتمكن من ذلك، ولا يمكن أن يخرج من إحرام الحج والعمرة إلا بواحدٍ من أمورٍ ثلاثة:
الأول: إتمام النسك، كما قال الله عز وجل: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196].
والثاني: الردة عن دين الإسلام.
والثالث: الإحصار.
وما عدا ذلك لا يمكن، وللأسف تجد بعض الناس يذهب للإحرام ثم يجد مشقةً أو زحاماً، ثم يقول: أبطلت الإحرام ورجعت، ويلبس ثيابه، وهذا لا يبطل إحرامه؛ بل لا يزال محرماً، وكونه لبس الثياب أو رفض الإحرام فإن الإحرام لا يبطل ولا يمكن أن يخرج من الإحرام إلا بواحدٍ من هذه الأمور الثلاثة، ولهذا سماه الله عز وجل نذراً، والله عز وجل يقول: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196].
المهم: هذا الذي دخل في نسك الحج إيفاؤه بالنذر إنما يكون يوم النحر؛ لأن يوم النحر به يحصل التحلل الأول، وقد يتحلل الإنسان التحلل الثاني، فإذا حصل التحلل الأول فإنه يقضي تفثه ويحلق عانته ويقص شاربه وينتف إبطه ويقص أظفاره، فدل على أنه كان ممنوعاً من هذه الأشياء. وهذا الرأي الأول.
والرأي الثاني: رأي الظاهرية، فقالوا بأن قص الأظفار هذا ليس من محظورات الإحرام، فلا بأس أن يقص الإنسان أظفار يده أو أظفار رجله، وأنَّ هذا ليس من محظورات الإحرام، ولكن ما ذهب إليه جماهير أهل العلم رحمهم الله، وقلنا بأن الأئمة يتفقون على ذلك هو الأقرب. فالأقرب أن الإنسان يترك قص أظفاره لما ذكرنا من دليلهم.
يقول المؤلف رحمه الله: (في ثلاثة أظفار دم).
يعني: إذا قلم ظفراً أو بعض ظفرٍ، فهذا يجب عليه أن يطعم مسكيناً، فإذا قلم ظفرين فإنه يجب عليه أن يطعم مسكينين، فإذا قلم ثلاثة أظفار فإنه يجب عليه الدم، والمراد بالدم هنا: فدية الأذى، وما هي فدية الأذى؟ كما سيأتينا إن شاء الله فدية الأذى: أنه مخير بين أن يصوم ثلاثة أيام، أو أن يطعم ستة مساكين، أو أن يذبح شاةً، والشاة أيضاً مخير في ذلك بين أمورٍ أربعة: إما سبع بدنة، أو سبع بقرة، أو ثني معز، أو جذع ضأن.
فقوله رحمه الله: إذا قلم ثلاثة أظفار يجب عليه دم. هذا كما أشرنا إلى أن المراد بالدم هنا فدية الأذى، وفدية الأذى يكون فيها مخيراً بين أن يذبح شاة أو أن يطعم ستة مساكين، أو يصوم ثلاثة أيام، وكونه يصوم فبعض الناس قد يكون الصيام عليه سهلاً، وأيضاً إطعام ستة مساكين قد يكون أسهل، وذبح الشاة مخير في ذلك بين واحدٍ من أمورٍ أربعة سبق أن بيناها.
أيضاً بالنسبة للشعر، يقولون: إذا حلق شعرةً فعليه أن يطعم مسكيناً، فإذا حلق شعرتين فعليه أن يطعم مسكينين، فإذا حلق ثلاث شعرات فعليه دم، والمراد بالدم هو فدية أذى، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد وذكره المؤلف رحمه الله، وهو أيضاً مذهب الشافعي رحمه الله تعالى. وهو الرأي الأول.
والرأي الثاني: أنه لا تلزم الفدية إلا إذا حلق من رأسه ما يحصل به إماطة الأذى فإنه تلزمه الفدية، ودليل ذلك قصة كعب رضي الله عنه كما في قول الله عز وجل: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة:196]، وهذه الآية نزلت في كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه لما حمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهه، فأمره النبي عليه الصلاة والسلام أن يحلق رأسه وأن يخرج الفدية، أي: فدية من صيام أو صدقة أو نسك؛ إما صيام ثلاثة أيام، أو صدقة: يطعم كل مسكينٍ نصف صاع، أو نسك: أن يذبح شاةً، فهو مخير بين هذه الأمور الثلاثة.
فإذا حلق ما يحصل به إماطة الأذى فإنه تجب عليه الفدية، أما إذا حلق دون ذلك فإن الفدية لا تجب عليه، ولهذا ثبت في صحيح البخاري : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم )، ولا شك أن الإنسان إذا احتجم فإنه سيأخذ شيئاً من شعره، ولم يرد أن النبي عليه الصلاة والسلام أخرج في ذلك فديةً.
وعلى هذا نقول: عندنا فرق بين الحكم الوضعي والحكم التكليفي؛ ففي الحكم التكليفي التحريم، أي: نقول بأنه يحرم على الإنسان أن يأخذ ولو شعرة واحدة من رأسه؛ لأن الله عز وجل قال: وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة:196] والنهي يتعلق بجميع أفراد المنهي عنه، لكن بالنسبة للحكم الوضعي متى تجب الفدية؟ نقول: لا تترتب الفدية إلا إذا حلق من شعره ما تحصل به إماطة الأذى؛ كما قال الإمام مالك رحمه الله: ما يحصل به إماطة الأذى أو الترفه، فإذا حصل ذلك لزمت الفدية، كما في قصة كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه.
أما لو حلق شعرة أو شعرتين أو عشر شعرات مما لا يحصل به إماطة الأذى فنقول: لا دليل على الفدية، والمؤلف يقول: إذا حلق شعرة فعليه إطعام مسكين وإذا حلق شعرتين فعليه أن يطعم مسكينين وإذا حلق ثلاثاً هنا ترتبت عليه الفدية، ولكن الصحيح أن نقول بأنه يفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي؛ ففي الحكم التكليفي: نقول بأن النهي يتعلق بجميع أفراد المنهي عنه، ولا يكون الإنسان ممتثلاً النهي حتى يترك جميع أفراد المنهي عنه، وهذا بالنسبة للتحريم، وأما بالنسبة للحكم الوضعي وما يتعلق بالفدية، فنقول: الذي دل عليه الدليل أنه إذا حلق من رأسه ما تحصل به إماطة الأذى فإن الفدية تترتب عليه.
وكذلك أيضاً بالنسبة لتقليم الأظفار، فهناك فرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي؛ لأن تقليم الأظفار من محظورات الإحرام كما قال جماهير أهل العلم وكما ذكرنا الدليل على ذلك، فهذا حكم تكليفي؛ فيحرم على الإنسان أن يأخذ هذه الأشياء إذا كان لغير حاجة، ولكن هل وجب في ذلك فدية وهل دل دليل على وجود فدية في تقليم الأظفار؟ نقول بأنه لم يرد في ذلك دليل، فلا بد أن نفرق بين ما يتعلق بالحكم التكليفي وبين ما يتعلق بالحكم الوضعي وهو الفدية.
إذا خرجت شعرةٌ في عينه فقلعها فإنه لا شيء عليه في ذلك، مع أنه قال المؤلف رحمه الله فيما تقدم: أنه إذا حلق شعرةً أو قصها فعليه إطعام مسكين، وهنا يقول: إذا خرج في عينه شيء فقلعه فإنه لا شيء عليه، والعلة في ذلك، قيل: لأن هذا من حكم دفع الصائل، والمحرم له أن يدفع الصائل، فإذا خرج في عينه شيء فإنه لا فدية عليه لأذى كالصائل، كما لو صال عليه شيء فدفعه حتى قتله فإنه لا شيء عليه.
وقوله رحمه الله: (أو نزل شعره فغطى عينه) أيضاً لو نزل الشعر من رأسه فغطى عينيه فقصه، هذا أيضاً نقول: دفعه لأذى هذا الشعر كدفع الصائل، فلا يجب عليه شيء.
وقوله رحمه الله: (أو انكسر ظفره فقصه فلا شيء عليه) إذا انكسر الظفر فقصه فإنه لا شيء عليه لما تقدم أن ذكرنا أنّ هذا كالصائل.
هذا المحظور الثالث من محظورات الإحرام، وهو: لبس المخيط، وتقدم أن ذكر المؤلف رحمه الله المحظور الأول: وهو حلق الشعر، وبينا ما المراد بالشعر الذي يمنع من حلقه، والشعر الذي يباح حلقه، ثم ذكر المؤلف رحمه الله المحظور الثاني: وهو تقليم الأظفار، ثم بعد ذلك شرع في المحظور الثالث: وهو لبس المخيط.
ودليل ذلك حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: ما يلبس المحرم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لا يلبس القمص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا أحد لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما من أسفل الكعبين، ولا تلبسوا شيئاً من الثياب مسه زعفران أو ورس ) وهذا الحديث في الصحيحين، وأيضاً في سنن البيهقي : ( ولا القبا ) .
وقول المؤلف رحمه الله: (لبس المخيط) هذه اللفظة لم ترد في السنة، أي: لم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: لا يلبس المحرم المخيط، وإنما عبر بها بعض العلماء فتلقاها العلماء عالماً عن عالم، وهذه اللفظة أوقعت بعض الناس في شيءٍ من الإشكال، فتجد أن كثيراً من عامة الناس يسأل: عن ثوب الإحرام إذا كان فيه شيء من الخياطة، هل يجوز أن يلبسه أو لا يجوز أن يلبسه؟ ويسأل أيضاً عن النعل إذا كان فيها شيء من الخياطة، يظن أن المراد بالمخيط هو تلك الخيوط الموجودة المغروزة، وليس كذلك، لكن ذكر العلماء رحمهم الله ضابط المخيط: أنه ما صنع على قدر العضو، يعني: كل ما صنع على قدر العضو أو على قدر البدن بحيث يحيط به؛ إما بخياطة أو بنسج أو غير ذلك، فالمراد بالمخيط هو: ما صنع على قدر العضو أو على قدر البدن بحيث يحيط به، فهذا هو المراد، وليس المراد هو وجود خيوط في اللباس الذي يلبسه المحرم.
وحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يلبس القمص ولا العمائم ولا السراويلات، ولا البرانس ولا الخفاف ).
نقول: ما يمنع المحرم من لبسه ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: ما كان منصوصاً عليه، يعني: جاء النص عليه في السنة، فنقول: هذا لا إشكال في أن المحرم ليس له أن يلبسه، والنبي عليه الصلاة والسلام نص على القمص ونص على السراويلات والعمائم والبرانس والخفاف، وكما قلنا: أيضاً وفي سنن البيهقي : ( ولا القباء )، في حديث يعلى بن أمية : ( الجبة )، فما كان منصوصاً عليه هذا يمنع منه.
القسم الثاني: ما كان في معنى المنصوص عليه؛ إذ إن الشريعة لا تفرق بين المتماثلات، فهناك أشياء في معنى هذه الأشياء، فما كان في معنى هذه الأشياء أيضاً يكون ممنوعاً، مثل: الكوت، فهذا يمنع منه المحرم، ومثل: الفانيلة، هذا أيضاً يمنع منه المحرم؛ لأنها في معنى المنصوص عليه، ومثل: الجوارب للذكر، فهذا أيضاً يمنع منه المحرم؛ لأنها في معنى المنصوص عليه.
القسم الثالث: ما كان ليس في معنى المنصوص عليه أو متردداً بينه وبين غير المنصوص عليه، فنقول: الأصل في ذلك الحل، فما ليس في معنى ما نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم أو كان متردداً بين أن يكون منصوصاً عليه أو يكون غير منصوص عليه -يعني: لا يظهر في أحدهما- فهذا نقول فيه: الأصل في ذلك الحل، وهذا يدخل فيه أشياء كثيرة، مثل: نظارة العين والساعة والخاتم، فهذه ليست بمعنى المنصوص عليه، فليست في معنى الثياب والسراويل والبرانس والخفاف.
ومثل ذلك أيضاً: ما يوجد عند بعض الناس يصل إزاره، يعني: يكون الإزار موصولاً مخيطاً، فهذا داخل في ذلك ولا يظهر أنه في معنى المنصوص عليه، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام نص على الإزار، قال عليه الصلاة والسلام: ( فإن لم يجد إزاراً فإنه يلبس السراويل ) وهذا يشمل ما إذا كان موصولاً أو كان غير موصول، المهم يظهر هنا عدم دخوله، ولو قلنا بأنه في معنى المنصوص عليه فإنه مستثنى؛ لدخوله في عموم لبس الإزار.
ومثل ذلك أيضاً: أن بعض الناس يلبس شيئاً على ركبته أو خرقةً على فخذه ونحو ذلك من الأشياء، فنقول: بأن هذه الأشياء ليست في معنى المنصوص عليه، ومثل ذلك أيضاً: المحفظة والمنطقة التي يلبسها الحاج يحفظ فيها النقود، فهذه ليست في معنى المنصوص عليه.
وهل يجب عليه أن يفتق السراويل وأن يقطع الخفين، أو نقول بأنه لا يجب عليه؟ يعني: هذا محرم لم يجد إزاراً، نقول: البس السراويل، أو أحرم وأنت عليك سراويل.. ما يضر هذا، أو لم يجد نعلين نقول: البس الخفين وأحرم بهما، هل يجب عليه أن يقطع الخفين من الأسفل حيث يظهر العقب، وهل يجب عليه أن يفتق السراويل بحيث أنها تكون كالإزار، أو نقول بأنه لا يجب عليه شيء من ذلك؟
هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، والصواب: أنه لا يجب عليه شيء من ذلك؛ لأن الأمر بالقطع في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان في أول الأمر.. كان في المدينة، ثم بعد ذلك خطب النبي صلى الله عليه وسلم الناس كما في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في عرفة ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم القطع، فدل ذلك على أنه قد نسخ. وعلى هذا نقول بأنه كما قال المؤلف رحمه الله: فليلبس السراويل ولا يجب عليه أن يفتقها، وكذلك أيضاً يلبس الخفين ولا يجب عليه أن يقطعهما.
أما بالنسبة للإزار فالإنسان له أن يعقد إزاره، وجمهور أهل العلم رحمهم الله على ذلك؛ لأنه محتاج إلى ستر عورته، والإزار هو الذي يستر النصف الأسفل من البدن، فإذا احتاج إلى أن يشبكه بمشبك ونحو ذلك فإن هذا جائز ولا بأس به، وهذا عند جمهور أهل العلم خلافاً للمالكية فإنهم لم يجوزوا ذلك.
وبالنسبة للرداء الذي يستر أعلى البدن، هل للمحرم أن يشبكه أو ليس له أن يشبكه؟ جمهور أهل العلم رحمهم الله على أنه ليس له أن يشبكه، وعند الحنفية واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن له ذلك، يعني: له أن يشبك الرداء وهذا هو الصحيح، فنقول: الإزار له أن يشبكه لحاجته إلى ستر العورة، فإذا احتاج أن يشبكه بمشبك أو مشبكين أو ثلاثة، نقول: هذا لا بأس به، وبالنسبة للرداء لا بأس أن يشبكه، لكن لا يكثر من ذلك، لأنك تجد أن بعض الناس يكثر من شبك الرداء ويضع مشابك كثيرة، فنقول: الأولى والأحسن ترك ذلك ويقتصر على مشبك واحد؛ لأنه كما أسلفنا أن جمهور أهل العلم رحمهم الله يمنعون من شبك الرداء.
هذا المحظور الرابع من محظورات الإحرام، ودليله ما تقدم في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: ما يلبس المحرم؟ قال: لا يلبس القمص ولا العمائم ) والعمائم هذه من لباس الرأس.
وأيضاً في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الرجل الذي وقصته راحلته، قال عليه الصلاة والسلام: ( اغسلوه بماءٍ وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً ) فتغطية الرأس من محظورات الإحرام، وهي من محظورات الإحرام الخاصة بالذكر، أما الأنثى فسيأتينا إن شاء الله أن لها أن تغطي رأسها.
القسم الأول: أن يغطي رأسه بلباسٍ معتاد، مثل: العمامة وما يقوم مقام العمامة اليوم، مثل: الطاقية والغترة والشماغ وغير ذلك من هذه الأشياء التي تختلف باختلاف الأعراف والبلدان والأزمنة والأمكنة فنقول بأن هذا من محظورات الإحرام.
القسم الثاني: أن يغطي رأسه بشيءٍ غير معتاد، مثل: لو أنه غطى رأسه بقرطاس، أو بشيء من الورق مثلاً، فهل هذا من المحظورات أو ليس من المحظورات؟ نقول: هذا من محظورات الإحرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ولا تخمروا رأسه ) يعني: تغطوا، وهذا داخل في التغطية.
القسم الثالث: أن يحمل على رأسه شيئاً، يعني: يحمل متاعاً ونحو ذلك، فهل هذا داخل في النهي أو ليس داخلاً في النهي؟ هذا فيه تفصيل؛ فإن قصد بالحمل أن يغطي رأسه فهذا من محظورات الإحرام، وإن لم يقصد ذلك وإنما قصد أن يحمل متاعه على رأسه فإن هذا جائز ولا بأس به.
القسم الرابع: أن يستظل بشيءٍ غير تابع له، فهذا ليس من محظورات الإحرام، كما لو استظل ببيت أو خيمة ونحو ذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام ضربت له القبة بنمرة.
القسم الخامس: أن يستظل بشيءٍ تابع، يعني: يتحرك بحركته، مثل: السيارة ومثل الشمسية التي يحملها في يده، فهل هذا من المحظورات أو ليس من المحظورات؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله، فعند المالكية والحنابلة يرون أنه من محظورات الإحرام، وعند الشافعية والحنفية أن هذا ليس من محظورات الإحرام، والصحيح أن هذا ليس من محظورات الإحرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التغطية ولم ينه عن الاستظلال، وورد في حديث أم الحصين رضي الله تعالى عنها، أنها قالت: ( حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت
القسم السادس: أن يلبد رأسه كما لبد النبي عليه الصلاة والسلام رأسه، يعني: لو لبد رأسه بشيءٍ من الصمغ أو العسل أو نحو ذلك لكي يجتمع ولا يتشعث، فإن هذا لا بأس به.
القسم السابع: أن يعصبه بسيرٍ ونحو ذلك، أو خرقة أو ثوب، فإن العلماء رحمهم الله يقولون بأنه داخل في تغطية الرأس؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن تغطية الرأس، والنهي يتعلق بجميع أفراد المنهي عنه كما تقدم.
واستدلوا على ذلك بحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الذي وقصته راحلته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تخمروا رأسه ) هكذا في الصحيحين، فيفهم منه أن الوجه لا بأس للإنسان أن يغطيه، فلو احتاج أن ينام لا بأس، أو احتاج أن يضع على وجهه كماماً عن الغبار أو عن الدخان فإن هذا لا بأس به.
وقد ورد عن الصحابة عثمان وزيد بن ثابت أنهم كانوا يخمرون وجوههم وهم حرم، وكذلك أيضاً ورد ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأيضاً ورد عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه قال: يغطي المحرم أنفه من الغبار، ويغطي وجهه وهو نائم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر