إسلام ويب

الصوم عبادة لا رياء فيهاللشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الصوم عبادة جليلة أضافها الله إلى نفسه من بين سائر العبادات، وقد تعددت آراء العلماء حول سبب هذه الإضافة حتى أوصلوها إلى عشرات الأسباب، وكان أظهر هذه الأسباب هو أن الصوم عبادة لا رياء فيها، فهي سر بين العبد وربه، ولا يمكن أن يطلع عليها أحد إلا إذا تحدث بها صاحبها وأخبر أنه صائم، وقد ذهب إلى هذا المعنى جمع من أهل العلم كالقاسم بن سلام وأحمد بن حنبل وابن رجب رحمهم الله.

    1.   

    فضل الصوم ووجه إضافته إلى الله من بين العبادات

    بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين.

    اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.

    سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.

    اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

    إخوتي الكرام! كنا نتدارس فضائل شهر رمضان، وقلت: سنتدارس الثلاثين فضيلة لهذا الشهر الكريم، أولها:

    أن الصيام طاعة مكفرة للذنوب المتقدمة والمتأخرة.

    وثاني الفضائل التي امتن الله بها علينا في هذا الشهر الكريم: أن الله جعل هذه العبادة -أعني عبادة الصيام- سراً بيننا وبين ذي الجلال والإكرام سبحانه وتعالى، فالصيام لله وهو يجزي به، وقد ذكرت حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي يقرر هذا، ولفظ الحديث الثابت في مسند الإمام أحمد وموطأ الإمام مالك وهو في الصحيحين والسنن الأربع، فهو في الكتب الستة، وتقدم معنا أن الإمام ابن خزيمة رواه، وهكذا هو موجود في دواوين الإسلام التي جمعت حديث نبينا عليه الصلاة والسلام.

    ولفظ الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم له يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف )، زاد الإمام ابن ماجه في روايته: ( إلى ما شاء الله، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل ولا يسخط، فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم، والذي نفس محمد بيده على نبينا صلوات الله وسلامه لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه ).

    قلنا: هذا الحديث إخوتي الكرام يتضمن أربعة أمور تحتاج إلى شرح:

    أولها: (الصيام لي وأن أجزي به).

    إخوتي الكرام! جميع الأعمال التي نتقرب بها إلى ربنا جل وعلا هي له، ونحن نعبده بها من صلاة وزكاة وحج وغير ذلك، الطاعات كلها لله جل وعلا، وأمرنا أن نعبده وحده لا شريك له: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5]، وأمرنا الله جل وعلا أن نقاتل أهل الأرض قاطبة حتى يكون الدين كله لله، فالأعمال كلها والطاعات كلها لله جل وعلا، فعلام أضيفت عبادة الصيام على وجه الخصوص من سائر العبادات إلى رب الأرض والسماوات؟ فقال: (الصيام لي)، وأما بقية الأعمال أضافها الله إلى العاملين فقال: ( كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ).

    إخوتي الكرام! قلت: هذه الإضافة تحتمل عدة أمور سأقررها بعشرة أمور كما ذكرت هذا سابقاً.

    توجيهات إضافة الصيام إلى الله سبحانه

    وهذه الأمور العشرة أوردها الإمام ابن حجر في فتح الباري، وسأذكرها وأقررها بمزيد شرح، وبعد أن انتهى الحافظ من بيانها في فتح الباري قال: وقد بلغني أن بعض العلماء أوصلها إلى أكثر من عشرة احتمالات، وهو الإمام الطالقاني بإسكان اللام، هكذا الطالقاني في كتابه حظائر القدس، قال: ولم أقف عليها، وما عندي خبر عن هذا الكتاب، إنما نوه أئمتنا به كالإمام السبكي في طبقات الشافعية في الجزء الأول صفحة سبعة في ترجمة هذا العبد الصالح، وهو أبو الخير رضي الدين أحمد بن إسماعيل القزويني الشافعي الطالقاني ، فهو قد ألف كتاباً اسمه حظائر القدس، ذكر في هذا الكتاب أربعة وستين اسماً لشهر رمضان، وذكر خمسة وخمسين معنىً لقول الله: ( الصيام لي وأن أجزي به )، فهذه المعاني التي أوصلها إلى خمسة وخمسين معنى سنقتصر منها على عشرة، بمقدار الخمس، ذكرها الحافظ ابن حجر في الفتح.

    وهذا الإمام الطالقاني أبو الخير القزويني من أئمة الخير والصلاح، توفي سنة تسعين وخمسمائة للهجرة، وهو مترجم في المكان المتقدم الذي أشرت إليه في طبقات الشافعي الكبرى للإمام السبكي ، وترجمه شيخ الإسلام الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء في المجلد الحادي والعشرين صفحة تسعين ومائة، وكان عبداً صالحاً أواهاً قانتاً لله جل وعلا، لا يفتر لسانه من ذكر الله، وكان يديم الصوم ويختم كل يوم ختمة، وكان في أول أمره -كما يخبر عن نفسه- بليد الذهن وبطيء الحفظ، وكان في مدرسة يشرف عليها محمد بن يحي الذي كان بمثابة مدير وعميد لتلك المدرسة، فكان يستعرض الطلاب ويختبرهم، فكل من قصر في درسه وحفظ ما يتعلمه فصله من المدرسة.

    يقول هذا العبد الصالح أبو الخير الطالقاني القزويني : فلما عرضنا عليه سمع لي فقصرت في الحفظ ففصلني من المدرسة، فذهبت وأنا هائم على وجهي لا أعلم أين سأذهب وأين سأنام، يقول: فذهبت إلى حمام -الحمام في بلاد الشام وفي بلاد العراق ليست التي يقضى فيها الحاجة، وإنما التي يستحم فيها- فنمت في أتونها -يعني: في المكان الذي يوقد فيه النار في هذه الحمام- والتجأت إلى الله إذا كان في ذهني تقصيراً في الحفظ أن يشرح لي صدري وييسر لي أمري، يقول: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فشكوت إليه حالي وأنني فصلت من المدرسة وأنا أنام في أتون وجئت لطلب العلم في بلاد العراق، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: افتح فمك، يقول: ففتحت فمي فتفل النبي عليه الصلاة والسلام في فمي مرتين وقال: قم واذهب إلى المدرسة، يقول: فذهبت وقد حفظت وأنا في الطريق، جميع ما أخذناه في الدروس، وقد ثبت في صدري واستقر في قلبي، يقول: وكان إمام المدرسة المسئول عنها عميدها محمد بن يحي يصلي عند شيخ صالح صلاة الجمعة وهو عبد الرحمن الأكاف ، وكان المشايخ يجتمعون بعد الصلاة عند هذا الشيخ عبد الرحمن الأكاف يقول: فحضرت معهم -هو الآن عنده قوة وعنده جرأة، كيف لا، وقد حصلت بركة ريق النبي عليه الصلاة والسلام في فمه- يقول: فحضرت، فكان المشايخ إذا تكلموا في المسألة شاركتهم وأدليت بدلوي، فيشير علي الحاضرون: أن اسكت -يعني: أنت صغير، ولا زلت في أول طلبك- يقول: فأتكلم، قال: فقال الشيخ عبد الرحمن الأكاف : دعوه، فهذا العلم ليس منه، هذا العلم ممن علمه، وإذا هذا الشيخ أيضاً يكاشفه الله جل وعلا ويخبره بذلك، والله على كل شيء قدير، هذا ببركة النبي عليه الصلاة والسلام، وبركة النبي عليه الصلاة والسلام ثابتة حياً وميتاً، فداه نفسي وأبي وأمي عليه صلوات الله وسلامه.

    ولذا قال لـأبي هريرة لما شكا إليه -والحديث تقدم معنا في صحيح البخاري من أسباب حفظ أبي هريرة- شكا إليه أنه يسمع حديثاً كثيراً وينسى، قال: ابسط رداءك، فبسط رداءه، فعمل النبي عليه الصلاة والسلام فيه هكذا وقال: (اجمع عليك رداءك)، يقول: فما حفظت شيئاً بعد ذلك ونسيته، انتهى.

    فإذاً: هذا حصل للنبي عليه الصلاة والسلام في الحياة، فما المانع أن يحصل بعد الممات، والله على كل شيء قدير.

    وقد كنت ذكرت لإخوتي الكرام ما يشبه هذا من كرامة حصلت لبعض القراء السبعة، ألا وهو: نافع ، عندما قرأ النبي عليه الصلاة والسلام في فيه، وهذا ثابت في ترجمته، وكل من ترجمه ذكر هذه الكرامة له، فكان نافع إذا جلس في مجلس وقرأ القرآن يعبق ذلك المجلس بريح الطيب، فقالوا: من أين لك هذا الطيب؟ قال: هذا من طيب الحبيب عليه الصلاة والسلام، قرأ في فمي، فكلما أتكلم يخرج هذا الطيب.

    ولذلك يقول الإمام الشاطبي مشيراً إلى هذا في حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع:

    فأما الكريم السري في الطيب نافع فذاك الذي اختار المدينة منزلا

    فهو له هذه المنزلة وهذه المكانة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قرأ في فمه.

    فالإمام أبو الخير الطالقاني أوصل معاني هذه الجملة المباركة من كلام ربنا في الحديث القدسي: (الصوم لي، الصيام لي)، إلى خمسة وخمسين معنى.

    يقول الحافظ ابن حجر: ما وقفت على هذا الكتاب، وإذا كان الحافظ ابن حجر يقول هذا وبينه وبين الإمام الطالقاني قرابة مائتين وخمسين سنة فماذا نقول نحن في هذا العصر؟ يعني: من نعم الله علينا أننا وقفنا على فتح الباري، وأما حظائر القدس للإمام الطالقاني حقيقة ما عندنا علم عام، بل لما فتشت عنه كتب التراجم ككشف الظنون وغيرها لا يذكرونه ضمن الكتب التي تبتدئ بالحاء: حظائر القدس، وما تعرضوا لهذا الكتاب على الإطلاق، يعني: فقد نسي اسمه أيضاً، وليس في كتب المصنفات كتاب لهذا الإمام، ولكن بعد أن بحثت في ترجمة هذا العبد الصالح في طبقات الشافعية الكبرى في المجلد السادس صفحة سبعة أشار إلى هذا الكتاب.

    عبادة الصوم لا يتسرب إليها الرياء

    إخوتي الكرام! المعنى الأول الذي تحتمله تلك الجملة الكريمة من كلام ربنا الكريم: (الصيام لي، الصوم لي وأن أجزي به): أن الصوم عبادة خاصة بينك وبين ربك لا رياء فيها، ولذلك أضيفت هذه العبادة إلى الله جل وعلا، فلا يحصل رياء بالصوم إلا إذا تكلمت، وأما صورة الصوم فلا رياء فيها، بخلاف سائر العبادات فصورتها كلها يمكن أن يقع فيها رياء، فعندما تتصدق، وعندما تجاهد، وعندما تصلي، وعندما تحج، وعندما تبر والديك، وعندما تحسن إلى جارك، وسائر العبادات ظاهرة يمكن أن يقع رياء في فعلها، والمؤمن يجاهد نفسه ولا يرائي بأعماله أحداً من خلق الله ويجعل أعماله الصالحة لربه.

    وأما الصوم فقد كفيت مؤنة هذه المجاهدة، فهذه العبادة لا يطلع عليها في الأصل أحد، وصورة الممسك شبعاً كصورة الممسك عن الطعام عبادة لله جل وعلا، فهذا ممسك وهذا ممسك، ولا أحد يعلم حقيقة الأمر إلا الله.

    وهذا القول إخوتي الكرام هو أظهر الأقوال المقولة في بيان معنى هذه الجملة المباركة: ( الصيام لي وأن أجزي به ).

    القاسم بن سلام ورأيه في سبب إضافة الله الصيام إلى نفسه

    عباد الله! قد ذهب إلى هذا القول سيد المسلمين في زمانه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام الذي توفي سنة أربع وعشرين ومائتين للهجرة، وهو من أهل السنة الكرام، يقول عنه أئمتنا كما هو نص كلام الإمام الذهبي في ترجمته: الإمام الحافظ المجتهد ذو الفضول.

    وكتابه غريب الحديث في أربع مجلدات يرحل إليه، وما طبع إلا من قريب، وكان في عالم المخطوطات، وما أدخل في غريب الحديث الذي صنفه حديثاً من أحاديث صفات الله جل وعلا؛ لأن معاني أحاديث الصفات على حسب ما يليق برب الأرض والسماوات، فلا تفسر بلغة، ولا يجوز أن تدرك كنها وحقيقتها على حسب عقل ورأي، إنما -كما تقدم معنا- إقرار وإمرار، فيثبت الصفة دون أن تبحث في كيفيتها وكنهها وحقيقتها، في غريب الحديث ما أدخل حديثاً من أحاديث الصفات على أنه غريب، بل يقول: تفسير هذا قراءته، فإذا مر معك حديث بأن الله يضحك وأنه يعجب وأنه ينزل فتفسير هذا أن تقرأه على حسب المعنى الذي يليق بالمتصف بهذه الصفة سبحانه وتعالى.

    وأبو عبيد القاسم بن سلام كان إسحاق بن راهويه -شيخ البخاري واسمه إسحاق بن إبراهيم الحنظلي- يقول: الله يحب الإنصاف، وإن الله لا يستحي من الحق، أبو عبيد أعلم مني ومن الشافعي ومن أحمد بن حنبل.

    وكتابه الأموال حقيقة لو رحل الإنسان إليه الليالي الطوال لأجل تحصيله لكان قليلاً، وما أعلم هل عندكم خبر عن كتابه الأموال أم لا؟ والصعلوك الضال الذي يجعجع في هذه الأيام بأن كتب الفقه ليس فيها ما يتعلق بالاقتصاد ولا بالتجارة ولا بالسياسة، إنما فيها أحكام قضاء الحاجة، قل له: يا من طمس الله على بصيرتك! أما قرأت كتاب الأموال؟ يزيد على ثمانمائة صفحة لمن؟ لـأبي عبيد القاسم بن سلام في الاقتصاد الإسلامي، في أي قرن؟ في القرن الثالث للهجرة، ولكن نحن ما عندنا علم بتراثنا ولا بكتب سلفنا، ثم عندنا سفاهة وشطط، درسنا عند الغربيين وأخذنا ما لقنوناه، ثم زدنا ضلالاً على ضلالاتهم فقلنا ما لم يقله المستشرقون والغربيون: كتب الفقه ليس فيها إلا أحكام قضاء الحاجة، فهذا يقوله من يريد أن يجدد الإسلام في هذا العصر! أعاذنا الله منه ومن تجديده ومن تجديد أمثاله، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

    فكتاب الأموال لـأبي عبيد القاسم بن سلام احرصوا عليه إخوتي الكرام.

    وهذا العبد الصالح يرى أن معنى قول الله في الحديث القدسي: ( كل عمل ابن آدم له إلا الصوم )، يقول: أي: أن الصيام عبادة خالصة بينك وبين ربك لا يدخلها رياء. قال هذا وقرره في كتابه غريب الحديث.

    وكان يقيم في مرو، ثم لما مر أمير خراسان -وهو طاهر بن الحسين - بمرو في طريقه إلى الغزو، ففي الليلة التي بات فيها في مرو طاهر بن الحسين قال: ألا يوجد عالم ينادمني هذه الليلة، أي: يذاكرني؟ قالوا: عندنا مؤدب للصبيان يعلمهم القرآن، قال: علي به، فأتوه بـأبي عبيد القاسم بن سلام وإذا عنده علم الدنيا من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وحوادث الصحابة الكرام إلى زمنه، فقال: أنت تقيم في مرو في هذه البلدة الصغيرة وتؤدب هنا الأولاد وتعلمهم القرآن، أهذه منزلتك؟ ثم قال هذا الأمير المبارك: من المصائب والبلايا ضياع مثلك، يعني: من مصائبنا أننا نضيع أمثالك، ثم قال له: وأنا في طريقي إلى الغزو، فهذه عشرة آلاف دينار ولا أريد أن تصحبني وأن تسافر إلى الغزو؛ محافظة عليك، فأنفقها حتى أعود، فلما عاد اصطحبه معه إلى خراسان، وأجرى له نفقة كل شهر عشرة آلاف درهم، ولما ذهب الأمير إلى الغزو وعاد كان أبو عبيد قد صنف كتابه الغريب في أربع مجلدات، فلما عرضه عليه قال: مثلك ما ينبغي أن يحصل معاشه، يعني: بما أنك بهذه المنزلة فلا تذهب وتحصل معاشك وتكتسب بيدك، بل تجلس في بيتك ورعايتك واجبة على المسلمين، فأجرى له عشرة آلاف درهم في كل شهر.

    وكان يقول هذا العبد الصالح في القرن الثالث: المتبع للسنة في زماننا كالقابض على الجمر.

    فعندما تنتشر البدع والأهواء يكون اتباع السنة والالتزام بها أفضل من الضرب بالسيف في سبيل الله. هذا يقوله القاسم بن سلام في القرن الثالث، فماذا نقول نحن؟ نسأل الله أن يجعلنا ممن يتبعون سنة نبيه عليه الصلاة والسلام في جميع أحوالنا ظاهراً وباطناً، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

    فهذا العبد الصالح يقول هذا المعنى، وقاله أيضاً معه إمام أهل السنة الإمام المبجل أحمد بن حنبل الذي توفي سنة واحدة وأربعين ومائتين للهجرة عليهم جميعاً رحمة الله، قال: ( الصوم لي )، يعني: عبادة خالصة لا رياء فيها، فهذا شيء في قلبك بينك وبين ربك.

    قال الحافظ ابن حجر : وقد ورد في الأثر ما يدل على هذا القول المعتبر، فقد روى البيهقي في شعب الإيمان عن الزهري مرسلاً، يعني مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن الزهري من صغار التابعين، فبينه وبين نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام واسطة، وما رفعه التابعي إلى النبي عليه الصلاة والسلام يقال له: مرسل.

    روى البيهقي في شعب الإيمان عن الزهري مرسلاً -أي: عن نبينا عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ( ليس في الصوم رياء )، أي: فعله لا رياء فيه، إلا إذا تحدث، كما ذهب بعض الحمقى مرة إلى جزار ليشتري لحماً، فجاء بعض الناس يلح بأن يعجل الجزار في إعطائه ما يريد من اللحم، ثم قال له ذاك يلح في طلبه: أنا اليوم صائم وأنت تؤخرني، عجلني، فقال من بجانبه -ولعله أفسد منه والعلم عند الله: أنت في هذا اليوم صائم فقط، أنا من ثلاثة أيام أصوم وما طلبت أن يعجلني الجزار، فأنت تمن علي بصيام يوم.

    يا عبد الله! سترك الله وجعل هذه العبادة بينك وبينه, فما الداعي الآن في مثل هذا المكان أن تظهرها، فهذا لو لم يتحدث لما علم بذلك أحد، ولذلك في هذه الرواية عن الزهري عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( ليس في الصوم رياء ).

    قال الحافظ ابن حجر : وقد روي الأثر مرفوعاً إلى أبي هريرة عن نبينا عليه الصلاة والسلام في كتاب شعب الإيمان أيضاً للبيهقي ، ولكن إسناد الأثر موصولاً ضعيف، ولعله يتقوى بمرسل الزهري ، فيصبح للأثر اعتباراً، ولفظ حديث أبي هريرة عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( الصيام لا رياء فيه، قال الله تعالى: هو لي وأنا أجزي به )، قال الحافظ ابن حجر : وهذا لو صح لكان قاطعاً للنزاع، ولكن الأثر كما قلت إسناده ضعيف موصولاً، وروي بعد ذلك مرسلاً، والمرسل ضعيف، ولكن أقول: مرسل ضعيف وموصول ضعيف لعله يتقوى بذلك.

    وهذا المعنى حق، ولا يعني ذلك أننا ننكر بقية المعاني، ولو وجد ما يدل على هذا لما كان هناك داع لقصر الحديث على هذا المعنى فقط كما سيأتينا.

    إذاً: فمن جملة معاني هذه الجملة الكريمة: ( الصيام لي وأن أجزي به ) أن الصيام عبادة خالصة بين العبد وبين الرب لا يطلع عليها إلا الله جل وعلا، ولذلك أضافها الله إلى نفسه، ولا يعني هذا أننا ننفي بقية المعاني وإن دل دليل على هذا المعنى.

    فإذا كان أثر أبي هريرة صحيحاً فإنه لا ينفي بقية المعاني التي سنذكرها، والعلم عند الله جل وعلا.

    رأي ابن رجب في السبب الذي لأجله أضاف الله الصيام لنفسه

    إخوتي الكرام، كما قلت: هذا فيما يظهر هو أرجح المعاني، وقد ذهب إليه الإمام ابن رجب الحنبلي بعد أن حكاه عن أبي عبيد وعن الإمام أحمد عليهم جميعاً رحمة الله، ثم علق الإمام ابن رجب الحنبلي في كتابه لطائف المعارف -وله بعد ذلك في موسم رمضان كلام خاص، وفصل ضمن كتاب مستقل بحدود ثمانين صفحة، فيه فضائل شهر رمضان- يقول في صفحة تسع: وهذا المعنى وجيه رشيد سديد، فالله يحب من عباده أن يعاملوه سراً بينهم وبينه، كما يحب المخلصون أن يعاملوا الله جل وعلا سراً لا يطلع على عبادتهم أحد من خلقه، فالمحبون يغارون من اطلاع الأغيار على الأسرار.

    وهذه العبادة جعلها الله سراً، فحقيقة: هي قرة عين للمؤمنين حيث لا يطلع عليها أحد من عباد الله أجمعين، وإنما هي بينك وبين الله جل وعلا.

    1.   

    فضل الإسرار بالعمل

    إخوتي الكرام، العمل سراً له منزلة عظيمة عند الرحمن، ولذلك العمل الظاهر إذا أسررت به كان أعظم لأجرك، فقد ثبت في المسند والصحيحين وسنن الترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو في أعلى درجات الصحة، فهو في الصحيحين: ( ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه )، فهذا له هذه المنزلة الكبيرة عند الله؛ لأنه أخفى الصدقة وكتمها عن الناس، حتى إن هذه اليد لا تعلم ما أنفقته تلك اليد؛ فلا تعلم الشمال ما أنفقت اليمين.

    وقال: ( ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ).

    إذاً: ذكر الله خالياً بعيداً عن الناس، في خلوة بينه وبين ربه، في مكتبه، أو في حجرته، لم يطلع عليه أحد من أسرته فضلاً عمن عداهم، وإنما أغلق الباب على نفسه وبدأ يعاتب نفسه ويحاسبها ويبكي بين يدي ربه جل وعلا، فكان جزاؤه أنه يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

    والبكاء أمام الناس محمود إذا لم يدخله رياء، وإذا دخله الرياء فالويل لك.

    وأما في هذه الخلوة فلا مجال للرياء، فهذا حقيقة: دليل على إخلاصك وصدقك في خلوتك.

    فعبادة السر كما سيأتينا يزيد أجرها وفضلها على عبادة العلن، ولذلك ثبت في معجم الطبراني بسند حسن، والحديث حسنه الإمام الهيثمي في المجمع في الجزء الثالث صفحة خمس عشرة ومائة في كتاب الصدقات والزكاة: باب صدقة السر، وحسنه الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الثاني صفحة ثلاثين من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصلة الرحم تزيد في العمر، وصدقة السر تطفئ غضب الرب )، والحديث رواه الإمام الطبراني في معجمه الأوسط والكبير من رواية معاوية بن حيدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن صدقة السر تطفئ غضب الرب )، وورد الحديث من رواية عدة من الصحابة الكرام: ورد عن أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها أمنا المباركة، وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهم أجمعين.

    وانظروا هذه الروايات في مجمع الزوائد في المكان الذي أشرت إليه في الجزء الثالث صفحة مائة وخمس عشرة.

    إذاً: صدقة السر لها هذه المنزلة، والصوم عبادة سرية بينك وبين ربك جل وعلا.

    نعم إخوتي الكرام! لهذا أضيفت عبادة الصيام إلى ذي الجلال والإكرام، فقال ربنا الرحمن: ( الصوم لي وأنا أجزي به )، فالعمل كلما كان سراً بينك وبين ربك كلما كان أعظم لأجرك، ولذلك ترجم البخاري عليه رحمة الله في صحيحه في كتابه الزكاة باباً يقرر به هذا الأمر، وهو: أن عمل السر يزيد أجره على عمل العلن، فقال: باب صدقة السر، ثم دلل على هذا بآية وحديث، وأورد الحديث معلقاً، وهو موصول في غير هذا الموضع من صحيح البخاري .

    وأما الآية: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:271].

    وأما الحديث فقال الإمام البخاري : وقال أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه ).

    قوله: (وقال أبو هريرة) أورده معلقاً بصيغة الجزم، وحذف الإسناد منه إلى أبي هريرة وقلت لكم: وصله في مواطن أخرى، والحديث ثابت في الصحيحين وغيرهما ضمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.

    وهؤلاء السبعة ليس للتحديد، وإنما هم من جملة من يظللون بعرش الرحمن، فهم ربع من يظللون؛ لأن الذين يظللون أربع سبعات: سبعة وسبعة وسبعة وسبعة، فيصبح العدد ثمانيةً وعشرين صنفاً، وقد أحصاهم الحافظ ابن حجر في الفتح، وألف في ذلك أيضاً كتاباً سماه: الخلال الموصلة إلى الظلال، فهؤلاء أربعة سبعات لثمان وعشرين صنفاً من الطاعات، إذا تلبست بواحدة منها كان لك هذه الفضيلة عند الله؛ تظلل في ظل عرش الله يوم لا ظل إلا ظله.

    إذاً: هذا الحديث: وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( ورجل تصدق بصدقة فأخفاها )، رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم في هذا الباب فضل إخفاء الصدقة: باب صدقة السر، والحديث وصله -كما قلت- في مواطن أخرى، والحديث ثابت في الصحيحين وغيرهما كما تقدم.

    1.   

    الصدقة .. بين الجهر والإسرار

    إخوتي الكرام! قال الحافظ ابن حجر في هذا الباب: حديث أبي هريرة أقوى الأدلة على أفضلية إخفاء الصدقة، أما الآية فظاهرة في تفضيل صدقة السر أيضاً، وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271]، ولكن ذهب الجمهور إلى أنها نازلة في صدقة التطوع، فصدقة الفريضة تظهرها وصدقة التطوع تسرها، ثم حكى الإمام ابن حجر عدة أقوال في ذلك تتعلق ببحثنا ضمن إسرر العمل فانتبهوا لذلك إخوتي الكرام.

    يقول: حكى الطبري في تفسيره الإجماع على أن الجهر بزكاة وصدقة الفرض أفضل، والإسرار بصدقة النافلة أفضل، فالصدقة الواجبة تجهر بها؛ لئلا يقال: منعت حق الله الذي هو حق لمن جعل الله لهم هذا الحق وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25]، فلئلا تتهم بأنك تمنع الزكاة فتؤديها وتخرجها علناً، وأما صدقة النافلة فهذه قربة خاصة تتقرب بها إلى الله، فالصدقة التي ليست بواجبة كلما كتمتها ولم تعلم أحداً بها كان أعظم لأجرك، وتلك حق شرعه الله فأخرجه. وأما الصوم فهو في نفسه عبادة سرية، يعني: الزكاة عبادة جهرية، وإن كانت سراً فهو الأفضل، والصوم فريضة، ولكنه سر لا يطلع عليه إلا الله جل وعلا، فقد تكون مفطراً في صيام الفريضة وقد تكون صائماً في صيام النافلة، وما أحد يعلم؛ لأن هذا بينك وبين ربك جل وعلا.

    رأي يزيد بن أبي حبيب في الإسرار والجهر بالصدقة وترجمته

    فإذاً: الإمام الطبري يحكي الإجماع على هذا، وفي حكاية الإجماع تساهل، ولذلك نقل الحافظ ابن حجر قولاً آخر، وهو القول الثاني فقال: خالفه يزيد بن أبي حبيب ، وهذا الإمام وهو يزيد بن أبي حبيب توفي سنة ثمان وعشرين ومائة للهجرة، وحديثه مخرج في الكتب الستة، فهو إمام حجة، وهو مفتي الديار المصرية في زمانه، أبو رجاء الأزدي مصري من صغار التابعين، يقول أئمتنا: ارتفع بالتقوى، مع كونه مولىً أسود، كان من جلة العلماء العاملين.

    قال فيه الليث بن سعد إمام أهل مصر: يزيد بن أبي حبيب سيدنا وعابدنا. انتبهوا لأجل لا يقول أحد: الشيخ يخرف يقول: سيدنا، كما يقول بعض المخرفين: لا يجوز أن نطلق هذه الكلمة إلا على الله رب العالمين، ولا يجوز أن نطلق لفظ السيد لا للنبي عليه الصلاة والسلام ولا لمن بعده؛ لأن هذا غلو.

    أقول: هذا من سفاهته وشططه وعدم علمه ووعيه، فنبينا عليه الصلاة والسلام سيد ولد آدم ولا فخر، وقد وصف الله من دون نبينا عليه الصلاة والسلام بوصف السيادة في كلامه الجميل كما في حق نبي الله يحيى: وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:39]، فكيف بسيد ولد آدم ولا فخر على نبينا صلوات الله وسلامه.

    وهنا يقول الليث بن سعد : سيدنا وعالمنا، وكان عمر يقول كما في سنن الترمذي : أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا بلال . والأثر ثابت في سنن الترمذي بإسناد صحيح.

    ومن ظرافة هذا الإنسان وحلاوة تعبيره أنه اجتمع مع بعض العلماء الكرام؛ لعيادة مريض، فتدافعوا، كل واحد يقول: تقدم، تقدم، ثم أجمعوا على أن الذي ينبغي أن يدخل في البداية يزيد بن أبي حبيب ، والغرض من هذا التدافع أن تظهر لإخوانك ما في قلبك من طهارة، وفي أخلاقك من دماثة، وانتهى الأمر فقال: أنتم قدمتموني جزاكم الله خيراً، وأنا أعلم أن الضأن إذا اجتمعت مع المعزة تقدمت المعزة على الضأن، فأنا معزة وأنتم ضأن أشرف مني، فلا أتقدم لأنني أفضل منكم، رحمه الله ورضي الله عنه وعن أئمتنا، ما كان أحد أشد منهم أدباً وظرافة وطهارة وإخلاصاً لله جل وعلا.

    فـيزيد بن أبي حبيب خالف الإمام الطبري فقال: صدقة السر أفضل؛ سواء كانت الصدقة واجبة أو نافلة.

    ولا يوجد دليل يلزمنا أن نجهر بصدقة الفرض وأن نسر بصدقة التطوع، وقول الله عام، ولا يوجد ما يدل على أنه في النافلة فقط، وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271]، وحديث النبي عليه الصلاة والسلام: ( تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه )، ليس خاصاً في صدقة التطوع، وعليه فالإسرار بطاعة الصدقة أفضل سواء كانت فريضة أو نافلة.

    رأي الزجاج في الإسرار والجهر بالصدقة

    وحكى قولاً ثالثاً عن الزجاج بعد ذلك في هذه المسألة فقال: إخفاء الزكاة الواجبة في زمن النبي عليه الصلاة والسلام أفضل له؛ لأنه لا يتهم في ذلك العصر المبارك بأنه لا يخرج زكاة ماله، وإظهارها في الأزمان التالية لزمن النبي عليه الصلاة والسلام أفضل حتى لا يقال: فلان لا يزكي ولا يخرج صدقة ماله.

    هذا ذهب إليه الإمام الزجاج يقول: ففي زمن النبي عليه الصلاة والسلام قم بالفضيلتين وحصل الحسنيين: أخرج الزكاة الواجبة، ولكن اكتمها؛ لأنك لن تتهم، وفي الأزمان المتأخرة لو كتمتها تحصل فضيلة الكتمان والإسرار، ولكن تتهم أمام الناس أنك لا تتق الله ولا تخرج زكاة مالك، فاجهر بها لدفع هذه المنقصة عن نفسك، وجاهد نفسك في أنك تريد بعملك وجه ربك جل وعلا.

    وما نقل عن الزجاج يشبه أن يكون في زماننا صدقة السر أفضل في الزكاة الواجبة، على حسب ما يفهم من كلام الزجاج ، لم؟ قال: لأنه كثر المانع، أقول: الأصل في زماننا أن الناس لا يخرجون زكاة أموالهم، وعليه إذا أخرجت صار لك شيء من المنزلة وكذا، وعندما تكتم ما أحد يسيء بك الظن؛ لأن الأصل أن الناس لا يخرجون.

    ومرة كلمني بعض الأغنياء في بعض البلاد ويسأل، يقول: يا شيخ! منذ أن نشأت إلى الآن ما أخرجت زكاة واجبة أبداً ولا في سنة من السنوات، يقول: أحياناً أتصدق على بعض السائلين، وأما زكاة واجبة؛ بأن أجمع ما عندي وأخرج زكاته فهذا ما فعلته، فماذا يجب علي؟ قلت: لمَ لم تفعل من سنوات طويلة وأنت من الأغنياء ومن عداد المسلمين؟ قال: يا شيخ! ما أعلم أن أحداً يحتاج إلى الزكاة. لا إله إلا الله! ما تعلم أن أحداً يحتاج إلى الزكاة، الأمة تتضور جوعاً ولا تحصل الخبز الصغار لتأكله، وأنت لا تعلم من يحتاج إلى الزكاة؟! قال: حقيقة لا أعلم، في محيط أسرتي ما أعلم، يعني: حصر الله أمة محمد عليه الصلاة والسلام في محيط أسرتك؟!

    عقد مرة مقابلة مع بعض الأميرات في بعض البلاد حول الفقر في العالم، وسألت: هل يوجد في هذا الزمان فقر؟ فقالت: لا أتصور أنه في هذه الحياة التي نعيشها يوجد فقر، وحقيقة هي معذورة؛ لأن ملابسها كحال البيت المعمور مع الملائكة، يدخله كل يوم سبعون ألفاً لا يعودون إليه إلى قيام الساعة، وهذه إذا لبست الملابس هذا اليوم -وهو يوم الإثنين- لن تعود إلى هذه الملابس بعد ذلك، يعني: في كل يوم تلبس ليس لباساً واحداً، بل عدة ملابس، ثم لا تعود إليها، متى ما وضعته على جسمها لا ترجع في لبسها له مرة ثانية، فهل هذه ستتصور أنه يوجد فقر؟ حتماً إذا شبع الإنسان سينسى الجائع.

    وحقيقة: إذا قلت: إن الأغنياء تسعون بالمائة لا يخرجون الزكاة لم أكن مبالغاً، ولو أخرج الناس الزكاة وأنصفوا لما وجد في الدنيا فقير عار واحد؛ لأن الذي أعطى هذه الأموال وقدر فيها نسبة للفقراء، ولكن إذا قصر هؤلاء فالبلاء من العباد، فالعنوان الرئيس للناس الآن عدم إخراج الزكاة كالمعاملات؛ فالذي يتعامل معاملة شرعية في بيوعه قليل، والأصل معاملات فاسدة؛ سواء في شركات، أو في معاملات ربوية، حتى لا يكاد يوجد معاملة إلا وفيها دنس، ولذلك عندما يريد الإنسان أن يتعامل معاملة شرعية فإنه يتعب، وأما المعاملة الرديئة فهذا طبيعي، فالأبواب كلها مفتحة.

    وصاحبنا يقول: ما أخرج زكاة في حياته، فماذا يعمل؟ قلت: ما لك إلا أن تقدر ماذا كنت تملك في السنوات الماضية في كل سنة من باب التقدير، والله سيحاسبك ما دام أنك تعرف، فأنت أدرى بحالك، ثم المال لو قدرنا أنك من ثلاثين سنة ما أخرجت زكاته، وفي السنة الأولى من السنوات التي ما أخرجت فيها الزكاة فيها الزكاة لو قدرنا أنه كان عندك مائة ألف فعليك ألفان وخمسمائة زكاة، ولو قدرنا في السنة التي بعدها أنه كان معك مائة وعشرون تزيد الزكاة، ثم تحصي كل سنة، وتجمع الزكاة ثم تخرجها، قال: يا شيخ! تصبح مبالغ طائلة، قلت: لا منة لك، هذا مال الله، إن دفعته وأخرجت ما أوجبه الله عليك فقد أديت ولا منة لك، وإلا سينتزع هذا المال منك عما قريب، ورغم أنفك، وستسأل أمام الله جل وعلا: من أين اكتسبته؟ وفيما أنفقته؟ وماذا عملت به؟ فأعد جواباً، فإنك لن تفوت الله جل وعلا ولن تعجزه، فهو لك بالمرصاد، وأما كونها مبالغ طائلة فهذا حق الله، وهذا حق الفقراء، ولا منة لك ولا لغيرك عندما تعطي الفقير هذا المال، ولذلك إذا أعطيته تعطيه له؛ لأنه حق له، لا تعطيه إياه وتقول له: ادع لي، يدع لك لم؟ يعني تعطيه ويدعو لك؟ لا، ما يحتاج إلى دعاء أبداً، بل تقول: هذا حقك، وإذا دعا لك فأنت تدعو له بمثل دعائه؛ لئلا يكون ذلك مكافأة على هذا الحق الذي تقربت به إلى الله جل وعلا، وهو حقه لا منة لك ولا لغيرك في إخراج هذا الحق إلى مستحقه.

    فالإمام ابن عطية يقول: لعله في زمننا يكون الحكم بعكس ما قاله الزجاج في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، نخفي لأننا لا نتهم، وفي الأزمان التي بعده نظهر لئلا نتهم، يقول ابن عطية : نحن صرنا في زمن الذي لا يخرج لا يعير ولا يتهم، والذي يخرج قد يتكلم الناس عليه؛ فيقولون: هذا أحمق قليل العقل، يعني: يخرج عشرين ألفاً زكاة، لم لم يتركها لنفسه ولأولاده؟

    إذاً: لا يعير إذا ما أخرج الزكاة، وعليه فيخرجها سراً بينه وبين ربه جل وعلا.

    رأي الزين بن المنير في الجهر والإسرار بالصدقة

    وحكى قولاً خامساً عن الزين بن المنير وهو أحمد بن محمد بن منصور عالم الديار المصرية من أهل الإسكندرية، توفي سنة ثلاث وثمانين وستمائة للهجرة، وهو صاحب كتاب الإنصاف فيما في الكشاف من الاعتزاليات، رد عليه الزين بن المنير .

    وهو مترجم في شذرات الذهب في الجزء الخامس صفحة واحد وثمانين وثلاثمائة.

    وانظروا ضبطه المنير؛ لأنني كنت أسمع من بعض الناس -وهذا ما كنت أنطق به- المنيَّر بصيغة اسم المفعول، الزين بن المنير ، ومر معي بكثرة فقلت: لا بد له من ضبط، وبحثت عنه فهو في تبصير المنتبه بتحريم المشتبه للحافظ ابن حجر في الجزء الرابع صفحة خمس وعشرين وثلاثمائة وألف، ضبطه بما ذكرت لكم: بالياء المشددة المكسورة: المنيِّر، وليس المنيَّر، وسمعته من كثير من الناس من أساتذة وشيوخ وغيرهم بالضبط الذي فيه تصحيف، فانتبهوا له.

    وأيضاً بشر المريسي هكذا ضبطه، وسمعت من شيوخ كثيرين في محاضرات توحيد وغيرها مرات كثيرة: (المريسي)، فمن أين يشددون ويثقلونها؟ فالطالب يتلقى عنهم هذا إلا أن يصحح لنفسه بعد ذلك، يعني عن طريق الضبط الحقيقي:

    وهنا كذلك المنير أحمد بن محمد بن منصور بن المنير ، ضبطه بذلك الحافظ ابن حجر في تبصير المنتبه بتحريم المشتبه، كما قلت لكم في المكان المتقدم.

    يقول الزين بن المنير : لعل ذلك يختلف باختلاف الأحوال، ولو قال الإنسان هذا لما كان بعيداً، فأنت تنظر: إذا علمت أن إخراج الزكاة الواجبة يترتب عليه شيء من المفاخرة وإن كتمت وأسررت لا تتهم فأسر، وإذا كتمتها ولكن سيطعن في دينك ويقال: ما أخرج زكاته الواجبة فاجهر بها.

    القول الراجح في أفضلية الإسرار أو الجهر في الصدقة

    والذي يظهر لي والعلم عند ربي جل وعلا: أن ما أمر الله بإظهاره ينبغي أن نظهره، وما أمر الله بإسراره ينبغي أن نسره، وما خيرنا فيه فالأحسن أن نسره إلا إذا كان الإظهار يستدعي ويترتب عليه مصلحة فنجهر بهذا العمل ونظهره.

    فمثلاً: صلاة الجماعة أمرنا الله بإظهارها وأن نصلي في المساجد الصلوات الخمس، فلا يجوز للإنسان أن يقول: أنا إذا صليت جماعة تكون الصلاة جهرية سأصلي في بيتي وأسر، ولا أريد أن أظهر الصلاة أمام الناس، نقول: لا، أنت ضال بعيد؛ لأنك الآن تخالف ما أمر الله، أمر الله بإظهار هذا الأمر، فما أمر الله بإظهاره نظهره، وما أمر الله بإسراره كالصوم لم نظهره أمام الناس؛ لأنه في الأصل عبادة سرية بينك وبين ربك فاكتم هذا، وما بعد ذلك -كما قلت- خيرنا فيه من صدقة وغيرها، فإذا كان هناك دافع للجهر جهرنا، وإذا لم يوجد فالأحسن أن نسر في جميع الأعمال.

    إذاً: فالإسرار أفضل إلا إذا ترتب على ذلك مصلحة، أو أمر الله بإظهاره فنظهره ونريد بعملنا وجه ربنا جل وعلا.

    إخوتي الكرام! الصوم فيه هذا المعنى، فهو عبادة تفعل سراً، عبادة قلبية بينك وبين رب البرية، فهنيئاً للصائم الذي يحصل هذا الأمر من صيامه وتكون هذه العبادة بينه وبين ربه جل وعلا.

    إخوتي الكرام، إسرار الطاعات -كما قلت- أفضل من إظهارها، وإظهارها إذا أردت به وجه الله فهو حسن، والمؤمن يفعل الأمرين: فما أمر الله بإظهاره أظهرناه، وما أمر الله بإسراره أسررناه، وهناك عبادة أحياناً تسرها لمعنىً شرعي وأحياناً تجهر بها لمعنىً شرعي، ولكن في الحالتين تريد بها وجه الله، فهذا هو حال المؤمن، وقد أثنى الله جل وعلا على من هذا وصفه في سورة الرعد فقال جل وعلا: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً [الرعد:22]، إذاً: ينفق مما رزقه الله سراً وعلانية، قال أئمتنا: إنما ذكر الله هنا وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً [الرعد:22]، ليفيد وليخبر وليدلل وليبين على تلبسهم بالخيرات في جميع الأحوال والأوقات، فإذا جاءهم ما يتعلق بإخراج الصدقة جهراً أمام الناس جهروا وجاهدوا أنفسهم وأرادوا بعملهم وجه ربهم، وإذا لم يكن هناك داع للجهر أسروا.

    إذاً: وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً [الرعد:22]، قال أئمتنا أيضاً: سراً للنافلة لما تحتمله الآية، علانية للصدقة الواجبة الفريضة، سراً عند عدم التهمة في الزكاة الواجبة فيسرها، وعلانية عندما يتهم إذا لم يخرج الزكاة جهراً في الزكاة واجبة.

    إذاً: هذه المعاني كلها تدخل في هذه الآية، يسر ويعلن حسبما يقتضيه الحال والمقام، ويريد بجميع أحواله وجه ذي الجلال والإكرام.

    إخوتي الكرام! هذه الآية تدل على منزلة الصبر وفضله ونحن في شهر الصبر، كما تدل على إخفاء الصدقة ومنزلتها، ونحن كما قلنا في عبادة الصيام التي هي سر بيننا وبين ربنا الرحمن، هذه الآية إخوتي الكرام سأتكلم على شيء من معناها إن شاء الله في أول الموعظة الآتية، وأستعرض إن شاء الله بقية المعاني العشرة لقول ربنا جل وعلا: ( الصيام لي وأن أجزي به ).

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، اللهم لا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً، اللهم اجعل هذا الشهر الكريم أوله لنا رحمة، وأوسطه لنا مغفرة، وآخره عتقاً لرقابنا من النار.

    اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا يا أرحم الراحمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755820717