إسلام ويب

شكاية الموحدين أمورهم لرب العالمين [1]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد أوذي النبي صلى الله عليه وسلم من قبل المشركين في مكة بأشد أنواع الأذى، فقد مكروا به وكادوا له، وركبوا في سبيل ذلك كل صعب وذلول، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان يشكو حاله وأمره إلى ربه تبارك وتعالى، وهذا الأمر مستمر من قبل أعداء الله المجرمين ضد أولياء الله المؤمنين من العلماء والدعاة وغيرهم، بالمكر والكيد لهم ومحاربتهم والتضييق عليهم، ومحاربة الدين بكل وسيلة، بل إن الاعتداء على الدين حاصل ممن ينتسبون إلى الدين والعلم من أصحاب الفتاوى المخالفة لشرع الله التي تحل ما حرم الله تعالى وتجعل الدين فوضى لا نهاية لها، وكلأً مباحاً لكل سفيه ومارق.. لذلك كله يجب أن نرفع أمورنا وشكوانا إلى ربنا الجليل، لينصرنا ويفرج همومنا، وينصر دينه وينتصر له ممن أهانه واستهزأ به.

    1.   

    لجوء النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه وشكايته أمره إليه من كيد المشركين ومكرهم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد:

    فقد ذكر الله تعالى في كتابه الكريم ما كان يخطط له مشركو مكة ليمكروا ويكيدوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين تابعوه وآمنوا به في بداية الأمر في مكة المكرمة، قال تعالى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [الأنبياء:3]، والإسرار يأتي بمعنى الإظهار والإعلان، كما قال الله جل وعلا في سورة يونس: وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ [يونس:54]، أي: أظهروها وأعلنوها، فيأتي لفظ أسر بمعنى الإعلان والإظهار والجهر، و(النجوى) هي الحديث السري الذي يتناجى به أفراد الاجتماع المغلق دون أن يعلم بأمرهم أحد، وعليه فمعنى الآية إذا كان الإسرار هنا بمعنى الإعلان، أي: أن هؤلاء دبروا مكيدتهم في الخفاء ثم جهروا بها، وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ، أي: أعلنوها وأظهروها.

    ويأتي أسرّ بمعنى: كتم وأخفى، ومنه قول الله: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [الملك:13]، وعليه فالنجوى لا تكون إلا سراً، فالمراد من إسرارها المبالغة في كتمانها، اجتماعات مغلقة وحراسة مشددة في دار الندوة للبحث في أمر محمد عليه الصلاة والسلام، وأمر أصحابه وأمر الدعوة التي ينتمون إليها، وَأَسَرُّوا النَّجْوَى : بالغوا في كتمانها وإخفائها لتكون المكيدة محكمة، أمرٌ يدبر بليل، والأمران مرادان في الآية الكريمة، فهم بالغوا في الإخفاء والكتمان، ثم بعد أن أحكموا المكيدة أخرجوها إلى حيز الجهر والإعلان، كما يقع تماماً في هذه الأيام، تخطط الخطط الماكرة في الاجتماعات المغلقة للقضاء على الإسلام وذبح المسلمين، ثم بعد إحكام الخطة تنفذ بصورة وحشية، والله الذي لا إله إلا هو إن وحشية الوحوش في الغابات لا تعدلها ولا تصل إلى مستواها! قتل جماعي ومقابر جماعية للشيوخ والأولاد والذكور والإناث: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ [التوبة:10].

    وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [الأنبياء:3]، ما هي هذه النجوى؟ يتناجون فيما بينهم هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الأنبياء:3]، وكيف سنتبع بشراً مثلنا؟ وهذا هو الذي كان يدندن به المشركون في الصدر الأول عند بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم هو الذي دندنت به الأمم السابقة: أنه كيف يكون الرسول من البشر؟ مع أن الحكمة تقتضي هذا، الحكمة تقتضي أن يكون الرسول من البشر ليكون أسوة لأمته، وليسهل التلقي عنه والأخذ منه، قال تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ * فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ * سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنَ الْكَذَّابُ الأَشِرُ [القمر:23-26].

    ومن حماقات العقل البشري: أنه رضي أن يكون الإله من الحجر والبقر والشمس والقمر والفرج والذكر، واستأنف واستنكف وامتنع أن يقبل كون الرسول من البشر! سبحان ربي العظيم! على هذا المتاهة وهذا الضلال، إله من البقر؟! نعم هذا ممكن، لكن رسول من البشر هذا مستحيل، مع أن الأول هو المستحيل، والثاني هو الذي تقتضيه الحكمة الحقة الصائبة. هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [الأنبياء:3]، فإذا اتبعتموه مع علمكم بذلك فحالكم كحال من يذهب إلى الساحر ليسحر نفسه، قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنبياء:4].

    قرأ حمزة والكسائي وخلف وحفص في روايته عن عاصم بصيغة الفعل الماضي: قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأنبياء:4]، وقرأ بقية القراء بصيغة الأمر: ( قُلْ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )، والقول أعمّ من الكلام إذا كان جهراً أو سراً، والكلام هنا مرتبط بالمعنيين في قول الله جل وعلا، وَأَسَرُّوا النَّجْوَى [الأنبياء:3]، فإذا كان المعنى وَأَسَرُّوا النَّجْوَى جهروا بها وأعلنوها، فالنبي عليه الصلاة والسلام يرفع شكايته إلى ربه بعد إعلان الجهر بتلك المكيدة وذلك المكر، وَأَسَرُّوا النَّجْوَى : جهروا بما تناجوا به، وأرادوا المكر بالنبي عليه الصلاة والسلام، وتحذير الناس منه، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم أمره إلى ربه فقال الله مخبراً عنه: قَالَ رَبِّي [الأنبياء:4]، أي: قال محمدٌ عليه صلوات الله وسلامه، رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنبياء:4]، وإذا كان يسمع ويرى فأنا في حرز وفي أمن، ولذلك عندما أرسل الله نبيه موسى وهارون على نبينا وعليهما صلوات الله وسلامه، قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، وإذا كان الله يسمع ويرى فسيحفظ نبيه صلى الله عليه وسلم، وسيحفظ جنده وسيجعلهم الغالبين إذا توكلوا عليه، ولجئوا إليه، ورفعوا أمورهم إليه سبحانه وتعالى، فجهروا بمكرهم فقال النبي عليه الصلاة والسلام: رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنبياء:4]، وسيكفيني مكركم.

    وعلى المعنى الثاني لقوله: وَأَسَرُّوا أي: كتموا، فهذا الكتمان من أين علمه النبي عليه الصلاة والسلام حتى رفع شكايته إلى ربه؟ علمه عن طريق الله جل وعلا، ولذلك قال الله له: فقل لهم يا محمد عليه صلوات الله وسلامه: ما تكتمونه في مجالسكم يخبرني به ربي جل وعلا، وأمرني أن أرفع شكايتي إليه؛ لأنه سميع عليم، يرى ويبصر فيجعل كيدكم في نحوركم، ويحفظني من مكركم وشركم، وَأَسَرُّوا النَّجْوَى أي: بالغوا في كتمانها، فإذا كان الأمر كذلك فقل يا حبيبنا ويا رسولنا ويا خير خلقنا عليه صلوات الله وسلامه: رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنبياء:4].

    1.   

    المكر والكيد والحرب ضد المؤمنين

    عباد الله! وما جرى في العصر الأول يجري في هذه الأيام، مكر في الخفاء ثم جهر به وإعلان، فينبغي أن نلجأ إلى ربنا جل وعلا، وأن نرفع شكايتنا إليه ليحفظنا من مكرهم الخفي والعلني فهو السميع العليم، وإذا سلكنا مسلك السلف الأول فسيكون الله لنا كما كان لهم، وما جاءنا التفريط إلا من قبل أنفسنا: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].

    عباد الله! الليلة مثل البارحة، وما على الأرض من جديد، والتاريخ يعيد نفسه، والمكر الذي حصل بهذه الأمة في أول عهدها يحصل لهذه الأمة في هذه الأيام، لكن المكر ردّ في العصر الأول في كيد نحور من مكر وكاد، وفي هذا العصر وقع الكيد والمكر في نحورنا نحن معشر المسلمين، فتسلط السفهاء على الأتقياء، واضطهد أعداء الله المجرمون عباد الله الموحدين، وعذبوهم أليم العذاب في هذه الحياة، وهذا أمر فضيع، أشار إليه نبينا عليه الصلاة والسلام في أحاديثه الكثيرة الوفيرة، وأخبرنا أننا إذا تغيرنا فالأمور ستتغير، وسيحصل ما يندى له جبين المؤمنين.

    تسلط السفهاء على أمة الإسلام وعبثهم بها

    روى الإمام أحمد والبزار والطبراني بأسانيد حسنة، والحديث في درجة الحسن إن شاء الله، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ضاف ضيف من بني إسرائيل رجلاً ) ، أي: نزل ضيف من بني إسرائيل على رجل من بني إسرائيل، ( وكان عند صاحب البيت كلبةٌ مجحٌ )، يوجد عند صاحب البيت كلبة مجح، والمجح معناها حامل قريبة عهد بولادة، ( فقالت الكلبة: والله لا أنبح أضياف أهل بيتي هذه الليلة )، إكراماً لهم لا أخرج نباحاً ولا صراخاً ولا أصواتاً تزعجهم، وإن تألمت بالحمل الذي في بطني، ( لا أنبح أضياف أهل بيتي هذه الليلة، فنبح الجراء الذين في بطنها )، بدءوا ينبحون ويصرخون وهم لا زالوا في بطن الكلبة لم يخرجوا إلى ظاهر الحياة، ( فقيل: ما هذا؟ ) تعجب بنو إسرائيل من هذا الأمر، كيف جراء كلبة تنبح في بطنها، والكلبة التي هي الأم تكتم صوتها؛ إكراماً للضيوف الذين نزلوا عندها! ( فأوحى الله إلى نبي ذلك الزمان: أن ما حصل هو مثل لأمة تأتي بعدكم يقهر سفهاؤها حلماءها )، السفهاء يقهرون الحلماء في هذه الأوقات، وسنذكر السبب إن شاء الله الذي حصل به هذا القهر وهذا البلاء.

    عباد الله! وهذا القهر الذي قهر به الحلماء في هذه الأيام، وعذب به الأتقياء في هذا الزمان هو أمر فضيع وفضيع، وإذا وقع فهذا دليل على اختلال الأمور وقرب زوالها، وهذا من أبرز أشراط الساعة، ثبت في صحيح البخاري ، والحديث أورده الإمام البخاري في كتاب العلم، كما أورده في كتاب الرقاق، وقد أورده في كتاب العلم ليشير إلى أن هذا الأمر إذا وقع فقد تغير العلم وعم الجهل وانتشر، ثم أورده في كتاب الرقاق ليشير إلى ما سيحصل في آخر الزمان من أمور وتغيرات، والحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث الناس فجاء أعرابي فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! متى الساعة؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه، فقال بعض الناس: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعض الناس: بل لم يسمع، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم حديثه قال: أين أراه السائل عن الساعة؟ قال: هأنذا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله )، يضيع العلم وينتشر الجهل، ويقرب زوال هذه الحياة ودخول الناس بعد ذلك في الحياة الأخرى، في الحياة الباقية في يوم القيامة. قال الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله في الفتح: المراد من الأمر جنس الأمور المتعلقة بدين العزيز الغفور سبحانه وتعالى، والمراد من هذا الأمر الذي هو جنس الأمور فيما يتعلق بأمر الخلافة العظمى، وأمر الإمارة والولاية والقضاء والإفتاء وما شاكل هذا.

    ( إذا وسد الأمر إلى غير أهله، وصار جليل القوم أرذلهم، وتحكم السفهاء، وصار أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع، فانتظر الساعة )، إذا صار من له شأن يجعجع في هذا الوقت بأن شريعة الله لا يصلح أن تحكم في هذا الزمان، وهذا وزير للأوقاف، وذاك أيضاً طاغوت حاكم للبلاد يقول: ما يقف أمام تقدم البلاد -على حسب زعمه- إلا الإسلام! سبحان الله! كأنه ليس للطواغيت في هذه الأيام همٌّ إلا محاربة الله، ليس لهم لهم إلا أن يعتدوا على الله وأن يتهجموا عليه وأن يحاربوه، وصدق الله عندما يقول في سورة النحل: خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [النحل:4]، قال أئمتنا: الآية تحتمل أمرين: الأمر الأول: للإشارة إلى عقوق الإنسان وضلاله وزيغه وتكبره وتجبره على ربه ونسيان حاله، خلقه الله من هذا المني المهين، ثم بعد أن شب وكبر نسي ما كان عليه فبدأ يخاصم ربه، وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا [الفرقان:55]، يظاهر الشيطان في عداوته للرحمن، خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [النحل:4]، لا يوجد ما يمنع تقدم البلاد في هذه الأيام عند سفهاء الأنام إلا الإسلام، لذلك ينبغي أن يزال الإسلام من الوجود، وأن تقطع رءوس كل من ينتمي إليه! خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ، خلقه الله وبدأ يعادي ربه.

    المعنى الثاني: خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ، للإشارة إلى عظيم قدرة رب العالمين، كيف جعل من هذه النطفة المهينة إنساناً في أحسن تقويم منطيقاً فصيحاً بليغاً، خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ ، بدايته أمر حقير، ونهايته شأن جميل فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ، فاستيلاء السفهاء في هذه الأيام، وعربدتهم في هذا الزمان، واضطهادهم لأولياء الرحمن مما يندى له جبين أهل الإيمان، وقد خاف علينا نبينا صلى الله عليه وسلم هذا الأمر وهو إمرة السفهاء، وزعامة الأمة من قبل أناس هم أخبث عند الله من المجوس، وتخوفه على هذه الأمة لأن هذا إذا وقع دلّ على أن الأمة في منتهى الانهيار والانحطاط، لأنهم إذا أفسدوا ما بينهم وبين ربهم سلط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب.

    ثبت في مسند الإمام أحمد ومسند البزار ومعجم الطبراني الكبير والأوسط، وإسناد معجم الطبراني الكبير رجاله رجال الصحيح، عن عبس بن عابس الغفاري ، ويقال له عابس بن عابس الغفاري ، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( أتخوف عليكم ستاً )، وفي رواية في المسند: ( بادروا بالموت ستاً )، هذه الستة الأمور التي ابتلينا بها في هذه الأيام، تخوف منها نبينا صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة: ( إمرة السفهاء، وكثرة الشرط، وبيع الحكم، واستخفافاً بالذنب، وقطيعة الرحم، وناساً يتخذون القرآن مزامير يقدمون مغنيهم وإن كان أقل منهم فقهاً )، (إمرة السفهاء) الذين يحاربون شريعة الله الغراء، ويعلنون حربهم الشعواء على رب الأرض والسماء، وقد وصل الأمر ببعض الحثالة في هذا الوقت أنهم قالوا: ليس في استطاعتنا أن نقاتل اليهود، بل باستطاعتنا أن نقاتل الله المعبود! أيها الصعلوك الحقير! أيها العبد الخسيس الذليل! عند من لنا عليهم الغلبة تكون الذلة والمسكنة والإدبار، وبعد ذلك تتمرد على العزيز الجبار، جئت تتمرد على العزيز الجبار!

    (وكثرة الشرط)، يوسع السفهاء سوأتهم بهؤلاء الزبانية، بهؤلاء الجلادين، (وبيع الحكم)، عمالة لشرق أو لغرب، جثمت فوق صدور المسلمين في بلاد المسلمين فتنكروا لدين الله ولعباد الله، من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا وهم دعاة على أبواب جهنم، (بيع الحكم) ما أخذ الحكم إلا بعد أن وقّع بالعشرين بأصابع اليدين والرجلين، وماذا فعل معه في السّر، في أوكار الماسونية وأندية الروتاري؟ لا يعلمه إلا الذي يعلم السر وأخفى، ماذا فعل به بعد ذلك؟ الله عليم، إنما وقّع بالعشرين أنه سيقضي على الإسلام، وأنه سيذبح المسلمين.

    (واستخفافاً بالذنب، وقطيعة الرحم) ولعل الحديث فيه إشارة إلى ما حصل في أيامنا من الجواسيس المخفيين الذين قطعوا الأرحام التي أمر ربنا جل وعلا أن توصل، يأتي يتجسس الابن على أبيه، ووصل الحال في بعض بلاد المسلمين أن الزوجة تكتب في زوجها تقارير، وأن الأسرة يجتمعون وكل واحد يخشى من الفرد الذي هو في هذه الأسرة، هذه قطيعة الرحم على أشنع وجه، ثم بعد ذلك حصل التلاعب بكتاب الله يغنون به فيقدمون من يطرب ومن ينغم وإن كان لا يفقه من كلام الله شيئاً.

    محاربة السفهاء والمجرمين لعلماء الدين الربانيين

    عباد الله! وإذا كان يراد في هذا الوقت القضاء على الإسلام من قبل سفهاء الأنام، ويذبحون المسلمين عباد الرحمن، إذا كان المراد هذا، وهذا مما انتقل من المرحلة الخفية إلى المرحلة العلنية، فلعلماء الإسلام النصيب الأكبر من الاضطهاد والأذى والتجريح والتشريد في هذه الأيام، ولا غرو في ذلك فهم أهل الله وخاصته، وإذا كان المجرمون يعادون الله فسيعادون أهل الله وخاصته، ولا غرو في ذلك فالعلماء ورثة الأنبياء، وإذا كان المجرمون يعتبرون النبي صلى الله عليه وسلم سفيهاً مجرماً فسيقتلون ورثته وأتباعه، المتمسكين بشريعته وهديه، فالعلماء هم أهل الله جل وعلا.

    ثبت في مسن الإمام أحمد وسنن ابن ماجه ، والحديث في مستدرك الحاكم بسند صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن لله أهلين من الناس، قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الله منّا؟ قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته )، هؤلاء أهل الله، ولهم النصيب الأكبر من ولاية الله التي يشير إليها قول الله: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63].

    وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( قال الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، قال الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله ونضر وجوههم ونور قبورهم وقلوبهم، وجعل مقعدهم عند مليك مقتدر، قال هؤلاء الأئمة الثلاثة الأبرار: إن لم يكن العلماء أولياء الله فليس لله وليّ في الدنيا ولا في الآخرة. فالعذاب يصب على العلماء على وجه الخصوص؛ لأنهم أهل الله وخاصته، وهم ورثة الأنبياء، كما ثبت في سنن الترمذي وأبي داود ، والحديث رواه ابن ماجه وابن حبان بسند صحيح أيضاً عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر ).

    العلم ميراث النبي كذا أتى في النص والعلماء هم وراثه

    ما خلف المختـار غير حديثه فينا فذاك متاعه وأثاثه

    عليه صلوات الله وسلامه.

    خطر احتقار العلماء وازدرائهم والاستهزاء بهم

    ولذلك اعتبر ربنا جل وعلا في محكم كتابه أن الاستهزاء بالعلماء، واحتقار طلبة العلم، ردةٌ وكفر وخروج من دين الله، يقول الله جل وعلا في سورة التوبة في سورة براءة في سورة الفاضحة: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66]، روى ابن إسحاق في كتاب المغازي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن هذه الآية نزلت في المنافقين الذين قالوا في مجلسهم فيما بينهم: قراؤنا أكذبنا ألسنة، وأرغبنا بطوناً، وأجبننا عند اللقاء، هؤلاء القراء كذابون جبناء أكالون يملئون بطونهم، يقول عبد الله بن عمر : ( فذكرت هذا للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزل قول الله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [التوبة:65]، فاستدعاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ما حملكم على هذا؟ قالوا: يا رسول الله! كنا نخوض ونلعب ونمزح، فقال: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65-66] )، ولذلك لا يستخف بطالب العلم ولا بالعالم إلا منافق خبيث، شيطان مريد غضب الله عليه ولعنه في الدنيا والآخرة.

    فمن أجلّ علماء الشريعة المطهرة فقد أجلّهم لأنه يجل الله، ومن آذاهم فإنما آذاهم لأنه عدو لله، ولذلك ثبت في سنن أبي داود بإسناد حسن عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، والإمام المقسط)، من إجلال الله أن نجل هؤلاء، ومنهم حامل القرآن الذي يقوم بحدوده ويقف عند أحكامه، هذا ينبغي أن يجل إجلالاً لله سبحانه وتعالى.

    وقد قرر أئمتنا -كما هو مذكور في كتب الحنفية عليهم رحمة الله- أن من جلس فوق طالب العلم احتقاراً له لأنه طالب علم، فهو مرتد كافر بالله، جلس فوق كرسي وطالب العلم على الأرض، ما وقع هذا بدون قصد، إنما هو يقصد هذا، يقصد أن يذل هذا الطالب، وأن يترفع عليه، لأنه طالب علم شرعي لا يؤبه به، ولا يلتفت إليه، وأحياناً يجلس هذا الطاغوت من المسئولين، ويضع أيضاً رجلاً على رجل بحيث يوجه حذائه إلى وجه طالب العلم، لماذا تفعل هذا؟ هل تستطيع أن تجلس هذه الجلسة إذا دخل عليك الأمير أو ابن الأمير؟! فكيف تجلس هذه الجلسة أمام أهل الله، أمام خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! كيف تجلس هذه الجلسة؟ هذا ينتمي إلى الله ورسوله فليس في قلبك تعظيم لا لله ولا للرسول عليه صلوات الله وسلامه عندما جلست هذه الجلسة، تترفع عليه وتمد رجلك إليه، لأنه طالب علم شرعي، والله ليس في قلبك ذرة إيمان، ولا خشية من الرحمن، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].

    المقصود بالعلماء الذين يحاربهم أعداء الله

    عباد الله! وأقصد بالعلماء الذين يعذبون هم العلماء الذين يلتزمون بشريعة الله الغراء سبحانه وتعالى، يلتزمون بهذه الشريعة، أقصد العلماء الذين يعذبون من هذا وصفهم، الذين عند ذكرهم تنزل الرحمات، وتطيب المجالس بحديثهم ويرضى رب الأرض والسماوات، وقد ثبت عن سفيان بن عيينة رضي الله عنه أنه قال: عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة، والأثر رواه عنه أبو نعيم في الحلية، ورواه الإمام أبو داود في كتاب المسائل عن الإمام أحمد عن سفيان بن عيينة أنه قال: عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة، ووهم الإمام الغزالي غفر الله له ورحمه في الإحياء فساق هذا الأثر مرفوعاً من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هو من كلامه، إنما هو من كلام سفيان بن عيينة كما بين هذا أئمتنا.

    هؤلاء العلماء الذين تكتحل الأعين برؤيتهم، ويذكر الله عند مشاهدتهم، إذا شوهدوا ذكر الله، وقد نعتهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي معجم الطبراني الكبير ومسند البزار عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، والحديث في درجة الحسن: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ( من أولياء الله؟ قال: أولياء الله الذين إذا رءوا ذكر الله )، وهذا حال أئمتنا الأبرار، ويعلم الله الذي لا تخفى عليه خافية أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، ورؤية الصحابة، ورؤية الأئمة المتقين أفضل من عبادة عشرات السنين، رؤية واحدة، إذا اكتحلت عين الإنسان برؤية عالم صالح فهنيئاً له، ورحمة الله على الإمام جعفر الصادق من آل البيت الطيب الطاهر كان يقول: إذا وجدت في قلبي قسوة وفي عملي فترة نظرت إلى وجه محمد بن واسع . أذهب وأنظر إليه نظرة واحدة فأجتهد أسبوعاً دون أن أسمع منه كلمة، وكان الحسن البصري إذا رأى محمد بن واسع يقول: هذا زين القرآن. وقد قال كثير من أئمتنا: ما نحب أن نلقى الله بصحيفة أحد إلا بصحيفة محمد بن واسع عليه رحمة الله. كان إذا نظر إلى وجهه اجتهد أسبوعاً وزالت الغفلة عن قلبه، ولذلك قال أئمتنا: من لم ينفعك لحظه لن ينفعك وعظه، وإذا لم يدلك حال الإنسان على الله فلن ينفعك مقاله عندما يذكرك بالله، اصحب من يعظك حاله، ويدلك على الله جل وعلا مقاله، أولياء الله الذين إذا رءوا ذكر الله، هؤلاء هم حملة العلم، وهم ورثة الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، وهم أولياء الله حقاً.

    ثبت في سنن البيهقي وكتاب شرف أصحاب الحديث للخطيب البغدادي عن عدة من الصحابة الكرام وصلوا إلى ثلاثة عشر صحابياً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يحمل هذا العلم من كل خلف عُدُولُه، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ) ، والحديث نص الإمام أحمد عليه رحمة الله على أنه صحيحٌ، وقال الإمام العلائي : إنه حديث حسن، وذهب الإمام العراقي والبلقيني إلى أنه حديث ضعيف، ولا تعارض بين كلام أئمتنا عليهم رحمة الله، كما قال الإمام جمال الدين القاسمي في كتابه قواعد التحديث: إن الحديث بالنسبة إلى انفراد كل سند له ضعيف، ومجموع طرقه ترفعه إلى درجة الحسن، والحسن هو نوع من الصحيح يحتج به ويقبل ويعول عليه، فإذا نظر إلى إسناد رواية من هذه الروايات المنقولة عن الصحابة رضوان الله عليهم لهذا الحديث فهو ضعيف، لكن الطرق إذا اجتمعت يتقوى بعضها ببعض فترتقي لدرجة الحسن، وذلك نوع من الصحيح يعمل به ويعول عليه: ( يحمل هذا العلم من كل خلف عُدُولُه ) .

    ومما يفري الأكباد أنني سمعت مرةً في إذاعة القرآن بعض من ينقل هذا الحديث عمن كتبه وقدمه إلى الإذاعة ويقوله المذيع، فيروي هذا الحديث بلفظ منكر، ولا غرو في الأمر فإذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة، يقول: يحمل هذا العلم من كل خلف عَدُوٌ لَه! نعوذ بالله من هذا التصحيف الخبيث، يعلم الله أنني سمعته بأذني، فهذا الذي ليس هو في العير ولا في النفير، يريد أن يقرأ هذه الموعظة ليأخذ دريهمات، فقال: يحمل هذا العلم من كل خلف عَدُوٌ لَه! وكيف سيتفق آخر الحديث مع هذا المعنى وهذا اللفظ؟! (ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين)، وهل أعداء الله الذين يتاجرون بدين رب العالمين يصدر منهم هذا؟ لا ثم لا.

    1.   

    الفوضى الفكرية والدينية والإفتاء بغير علم ولا ورع

    عباد الله! هذا هو الأمر الأول: تخطيط أثيم للقضاء على دين رب العالمين، وذبح للمسلمين وعلى الخصوص أئمة الدين علماء شريعة رب العالمين، هذا يخطط لنا في هذا الوقت، كما خطط لهذه الأمة في أول عهدها، والأمر الثاني الذي دعاني للحديث عن هذا الموضوع: أنه نتج عن هذا الأمر عن هذا التخطيط الخسيس، وافتراء السفهاء، واضطهاد الأولياء، نتج ما نعيشه في هذه الأيام فوضى لا مثيل لها في هذه الحياة، والله وكأننا نعيش في غابات، وكل واحد يتطفل على دين الله، وكأن شريعة الله في هذه الأيام كلأ مباح لكل سائمة ترتع فيها، فوضى لا نهاية لها، كل واحد يهرف بما لا يعرف، وكل واحد يدعي أنه شيخ الإسلام، وأنه وصل لدرجة الإمام ابن تيمية ، بل وصل الأمر بكثير من صغار طلبة العلم الذين لا يتقنون أحكام الطهارة أن يخطئ أبا بكر وعمر ، وما أعلم إذا كان الوقت سيمتد بنا لندرك من سيخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم من طلبة العلم في هذه الأيام؟!

    فتوى البعض بجواز اقتناء التلفزيون

    إننا نعيش في فوضى لا نهاية لها، وإذا أردت أن أقرر هذه الفوضى فسأذكر بعض النماذج مما عانيته ومما وقع، ومما قلته في بعض المحاضرات وماذا حصل له من صدى وأذى، تعرضت في بعض المحاضرات إلى حكم جهاز التلفزيون وقلت: إن اقتناءه حرام حرام، وإن وجوده في البيت دياثة ولا شك في ذلك، فهذه الفتوى ما راقت لكثير من طلبة العلم؛ لأننا نعيش في فوضى، وكل واحد سيتكلم بعد ذلك على حسب مزاجه كما هو حال السفهاء في هذا الوقت أيضاً كل واحد يذكر الله على حسب مزاجه، فواحد يقول: لا داعي للتشديد في دين الله، والدين يسر. نقول: ما دخل يسر الدين في نشر الفساد؟! هل يسر الدين أن نجعل بيوتنا ملهى من ملاهي باريس؟! هل هذا هو يسر الدين؟! هل يسر الدين أنا خلقنا لنفعل فعل الشياطين، والله يقول: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

    وواحد يتفلسف فلسفة لعل الشيطان الرجيم لو جلس مكانه لاستحى من تفصيله الأثيم، يقول: التلفزيون آلة كالسكين لا يجوز أن نقول: إنه حلال ولا حرام. سبحان ربي العظيم! على السفه والعته الذي نعيشه في هذا الحين، نحن ما نتكلم في كونها آلة أو في كونها جماداً أو بشراً أو حجراً أو بقراً، نتكلم في وضعها الواقعي الموجود الذي يطلع عليه كل إنسان، ثم بعد ذلك نسمع هذا التلاعب في الأحكام، هذا نموذج مما يطنطن به حول هذا الأمر ونتيجة الفوضى التي نعيشها.

    ويخبرني أخي أنه عندما كان في حلب في بلاد الشام -فرج الله عن المسلمين والمسلمات في جميع الأمكنة والجهات إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين- يقول لي: استفتاه بعض المدرسين فقال له: إن زوجته تذهب إلى المسبح المختلط لتسبح مع الرجال والنساء، فهل عليه إثم؟ قال: وكيف لا، قال: ولم؟ ما الدليل على أنني آثم؟ قال: لأنك ديوث، وبعد هذا الإثم تريد إثماً آخر، قال: ومن الديوث؟ قال: الذي يقرّ الخبث في أهله، والدياثة أنواع أشنعها أن يرضى بفعل زوجته الفاحشة، وبعد ذلك هي درجات ودركات، كما أن الخنوثة أنواع، فأشنع أنواع الخنوثة أن يفعل بالرجل كما يفعل بالمرأة، هذا هو المخنث خنوثة كبرى، ثم بعد ذلك هي درجات، فمن حلق لحيته فهو مخنث، دون خلاف بين أئمتنا، لكن لا نجزم أنه مخنث يلاط به، فالخنوثة أقسام، فقد تشبه بصفة من صفات المرأة وخواصها التي جبلها الله عليها، وهنا كذلك الدياثة دركات، فقال: ما الدليل؟ قال: لأنك ديوث، قال: هذا ما يقنعني، قال: إذاً ماذا تريد؟ قال: أريد دليلاً خاصاً في الموضوع، فقال له أخي: لعلك تريد حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام يقول فيه: إذا ذهبت زوجة أحدكم إلى المسبح لتسبح مع الرجال والنساء فهو ديوث وهو آثم، وهذا حرام؟ قال: نعم، أريد حديثاً بهذه الصيغة، قال: لا يوجد في شريعة الله هذا، قال: إذاً ليس عليّ إثم، نعوذ بالله من هذا الضلال المبين.

    إخوتي الكرام! ومن باب التنبيه على فائدةٍ ينبغي أن نعض عليها بالنواجذ للشيخ العبد الصالح عبد الله بن حميد ، وهي فتوى طويلة تقع في اثنتي عشرة صفحة في حكم هذا الجهاز الخبيث، بعد أن بين أن حكمه من ناحية الشريعة مقطوع بتحريمه، قال: ومع ذلك فله أضرار صحية كنت ذكرت شيئاً منها فيما يتعلق بالبصر، ونقل الشيخ عليه رحمة الله في هذه الرسالة عن علماء في بلاد الغرب إثبات أن هذا الجهاز يسبب مرض السرطان بواسطة الإشعاعات التي تخرج منه إلى أنظار الحاضرين وأجسامهم، ولذلك أقول: عندما انتشر مرض السرطان في هذا الوقت جَزَاءً وِفَاقًا [النبأ:26]، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].

    قول البعض بجواز استقدام الشغالات والخدم والسائقين

    مثال آخر مما انتشرت فيه الفوضى والاختلاف في هذه الأيام: موضوع الشغالات، وكنت تكلمت في بعض المحاضرات أن البيت الذي فيه شغالة فيه لعنة، ولن تدخله ملائكة الله جل وعلا، هذا الأمر الذي لا أعلم فيه خلافاً في شريعة الله المطهرة، بدأ يعترض عليه في هذا الوقت من يحسبون في صفوف الدعوة، فقال لي بعض المتخصصين في قسم الفقه، وما أعلم هل صار من يتخصص في الفقه يتلبس بالفقه؟ وحقيقة ترى كثيراً ممن يتخصصون في قسم الفقه وله درجة الرسوخ في الفقه، ليس بين وجهه ووجه امرأته فرق، وليس بين بيته وبيت إبليس فرق، وهذا متخصص في قسم الفقه فقال لي: يا عبد الله لا داعي للتشدد، الأمر مختلف فيه، قلت: سبحان الله! لا يجوز للمرأة أن تخرج بلا محرم، وأن تعيش في أسرة أجنبية، هذا الأمر مختلف فيه؟ قال: نعم، قلت: من الذي خالف؟ الذي خالف هو الصعلوك أنت، وهل صعلوك مثلي ومثلك يغير أحكام الله؟! ومن العجيب الفظيع أنه في محاضراته التي يتكلم فيها على الحب في الله والبغض في الله يفتي بأنه لا مانع من استقدام شغالة، لكن بشرط أن تكون مسلمة، من أين أتيت بهذا الحكم وبهذا الشرط؟! الذي أعرفه في شريعة الله المطهرة بلا خلاف، أنه لا يجوز للمرأة أن تسافر بلا محرم، وقد اشترط أئمتنا المحرم في حج الفريضة، أبو حنيفة والإمام أحمد ، فإذا لم يكن معها محرم فلا حج عليها، وهذا لا نقوله في هذا الوقت الفاسد، إنما حج الفريضة في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، وجزيرة العرب كانت على الإسلام، إذا لم يكن معها محرم فلا حج عليها، لكن قال الإمام الشافعي ومالك فقط عليهما رحمة الله: لها أن تحج مع نساء ثقات حجة الفريضة لا حجة التطوع ولا العمرة، لها أن تحج حج الفريضة مع نساء ثقات، لكن الاجتماع مع النساء في هذا الوقت يخبب المرأة على زوجها، وأين النساء الثقات التي تسافر معهن المرأة لأداء حج الفريضة في هذا الوقت؟ وستمر على عتبات وحدود وجهات وحجوزات، الرجل ينوء كاهله بها، نعم في العهد الأول عندما لم يكن هناك حاجز ولا حدود، والإنسان يتجول في أرجاء الدنيا بقوله: لا إله إلا الله محمد رسول الله، والأمة فيها خير وطهارة، فنساء ثقات صالحات خرجن لحج الفريضة بلا محرم فلا حرج، أما لحج النافلة أو للعمرة أو إذا لم يكن هناك النساء ثقات، فليس على المرأة حج عند الشافعي والإمام مالك عليهم جميعاً رحمة الله، فكيف ستأتي المرأة من بلاد الشام أو من مصر أو من إندونيسيا؟! هذه البلاد التي هي إسلامية، وأما التي يأتون من سيرلانكا أو غيرها فحدث ولا حرج، كيف ستأتي هذه المسافات الشاسعة الواسعة، وتوضع بعد ذلك في مكان عندما تصل إلى البلاد ليأتي مَن لا أقول: كفيلها بل محرمها، يأتي محرمها لأنه سيعاشرها إن كان تقياً معاشرة المحارم، وإن كان خبيثاً سيعاشرها معاشرة الأزواج، ليأتي محرمها حتى يدرك أن اسمه فلان فيقال له: خذ هذه الشغالة! هذا يفتى به بأنه إذا كانت مسلمة يجوز؟! من الذي أجازه؟! قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:93].

    وعندما تكلمت على موضوع الخدم أيضاً، وأنهم يأخذون بناتنا ونساءنا ذات اليمين وذات الشمال إلى المدارس إلى المتنزهات إلى الأسواق .. إلى حج وعمرة أيضاً، ومن هذا الضلال، ونقل لي بعض أفراد الأسرة أنها قالت: هو مسلم، قلت: خبروها أن المسلم والكافر في هذا الحكم سواء، فالبيت الذي فيه شغالة فيه لعنة لا تدخله ملائكة، وينبغي على المرأة إن كانت تخاف الله أن تقول لزوجها: اختر واحداً من ثلاث: إما أن تصرف هذه الشغالة، وإما أن تتزوجها وهي أختي، وإما أن أذهب إلى بيتي فأنت شيطان مريد، ليس بيني وبينك صلة، وأنا لا أجلس في بيت لا تدخله ملائكة، وليس فيه رحمة ومهددٌ بحرب الله جل وعلا، لابد من إيضاح أحكام الله كما شرعها الله وهو أحكم الحاكمين، وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، ليس للناس منة على ربهم إذا آمنوا بالله والتزموا بأحكامه، حتى نأتي إليهم بهذا الهزال وهذا الضعف وهذا التلفيق (لا مانع من شغالة مسلمة)، ووصلت البلاهة ببعض من يعتبر من الدعاة في هذه البلاد أنه قال: إن الشغالة التي أحضرها اشترطت أن تقرأ كل يوم عشر آيات من القرآن، ما شاء الله! ما شاء الله على هذا الضلال وهذا العار وهذا الخذلان، هذا مما نتج عن الأمر السابق عندما دبرت لنا المكيدة، واضطهد أولياء الله صار في دين الله هذه الفوضى.

    قول البعض بجواز الغناء وإباحته

    الغناء الذي تكلمت عليه وأثبت أنه محرم بإجماع أئمتنا الفقهاء، بإجماع أئمتنا الأتقياء، وأن الله سيمسخ في آخر الزمان من استحله، يوجد من لا زال يجعجع بأنه يتحدى من يستطيع أن يثبت نصاً في كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام بأن الغناء حرام، أقول: والله الذي لا إله إلا هو! لو نزل عليه جبريل وقال: أنا رسول من الله إليك بأن الغناء حرام لما اقتنع، وإلا فالنصوص صريحة، وما نزل به جبريل على نبينا الجليل عليهما صلوات الله وسلامه بين أيدينا، ووصلت السفاهة ببعض الدعاة الذين يطنطن بأسمائهم في هذه الحياة، أنه يخبر عن نفسه! زدنا خبثاً على الشيطان، زدنا خبثاً على الشيطان! إذا ابتلي الإنسان بالمعاصي فليستتر، أما أن يخبر عن نفسه أنه يسمع الغناء من مغنية في بلد الله الحرام في مكة المكرمة، أليس هذا من الإلحاد في دين الله؟ كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا حج أو اعتمر وأراد أن يعاتب زوجته -مجرد عتاب- يخرجها إلى الحل إلى التنعيم خشية أن يقع بينه وبينها شيء يكون من الإلحاد في الحرم، سبحان الله! وهذا غناء من امرأة على عزف الموسيقى، ثم تتبجح بعد ذلك في كتبك وصحفك بأنك تسمع..

    يا ضيعة الإسلام لما ولي مظالم الناس أبو عمر

    صير مأموناً على أمةٍ وليس مأموناً على بعر

    في بلد الله الحرام يسمع الغناء! وهذا يعتبره من الأمور المباحة الحلال، ويرد على من يرى تحريم ذلك، سبحان ربي العظيم!

    إباحة الطواف بالقبور والتمسح بها

    ومن الفظيع الذي يفري الكبد أنني كنت في أول هذا الشهر المبارك في شهر الله المحرم في مكة المكرمة، فقال لي بعض إخواننا الطيبين: سأسمعك شريطاً لعلك ما سمعت مثله، قلت: أسمعني لنرى ما في هذه الحياة، فأسمعني شريطاً فيه محاضرات لـأحمد حسن الباقوري الذي هو الآن في دار البرزخ، ونسأل الله أن يحسن ختامنا، وأن يجعل خير أيامنا يوم لقاه إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، يقول هذا الضال الشيطان المخرف: نحن لو ذهبنا إلى مقام سيدي الحسين وطفنا سبعة أشواط، وقبلنا الضريح المبارك وذلك المقام، ده يبقى شرك؟ هذا شرك؟ ده حب وعلامة على حبنا للحسين وآل البيت، ومثل هذا لو ذهبنا للسيدة زينب وطفنا سبعة أشواط، وقبلنا ذلك المقام، هذا حب لآل البيت. ليس العجب هنا، فقد سمعت مثل هذا الكلام بكثرة، إنما اسمعوا للعجب، من وزير الأوقاف وعميد معهد الدراسات الإسلامية، وأسندت إليه الفتوى فترة، وكان وكان كما سأذكر بعض أعماله، يقول: والدليل على هذا، هات الدليل على أن هذا حب وليس بشرك؟! يقول: قول الشاعر:

    أطوف على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا

    وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا

    سبحان الله! متى صار مجانين العشاق مشرعين؟! متى صار كلامه دليلاً يحكم به على شريعة الله، هذا هو دليلك؟! وليست الغرابة هنا، بل إنه يلقي هذا الكلام في حفل علني في المشهد الحسيني، فالحاضرون صاحوا وكبروا وهللوا، وكأن الباقوري فتح الصين، وكأنه قضى على الدب الروسي اللعين بهذه الفتوى، ووالله الذي لا إله إلا هو أن هذه ليست بفتوى، ينبغي أن تقلب تاء هذه الفتوى سيناً، وأستحي من ذكر اللفظ في بيت الله جل وعلا.. هذه فتوى؟! يطاف حول القبور ويتمسح بها، ومع ذلك هذا علامة حب يتقرب به إلى الله جل وعلا! إذا كان نبينا عليه الصلاة والسلام يقول: ( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد )، فكيف بقبر الحسين ؟! ومن الذي يوجد في قبر الحسين ؟! إنه رجل يهودي ملعون أقيم على ذلك الملعون هذا المشهد الحسيني، وإلا ما الذي أخذ الحسين من كربلاء إلى القاهرة؟ ويقال أن رأسه أخذ إلى الشام وأعيد إلى المدينة المنورة رضي الله عنه ورحمه وأكرم نزله وحشرنا معه مع نبينا عليه الصلاة والسلام، من الذي أخذه إلى القاهرة؟! في الدولة العبيدية الباطنية الملحدة الذين يدعون الرفض، وحقيقتهم الكفر المحض.

    إن هذا المهلوس يستدل بكلام مجنون ليلى على أن الشرك طاعة، وعلى أن عبادة القبور قربى إلى العزيز الغفور سبحانه وتعالى، فوضى نعيشها لا نهاية لها، هذا الرجل كان نائباً لمنظمة الإخاء الإنساني، وهي منظمة روتارية ماسونية، أسستها ملعونة صليبية ماري كاحيل ، وترتبط هذه المنظمة بكنيسة السلام في القصر العيني في القاهرة، كان رئيساً لهذه المنظمة وهذه الجمعية عبده محمود سلام الذي كان وزير الصحة في ذلك الوقت، وهو الذي كان يترأس حركة تحديد نسل المسلمين، وكان رئيساً لهذه الجمعية الإخاء الإنساني، وكان نائبه في تلك الجمعية الماسونية هذا الشيخ الضال أحمد حسن الباقوري الذي كان يفتي فتاوى والله الذي لا إله إلا هو إن الشيطان يستحي منها، ولو قلنا للشيطان: هل تقبل هذه الفتيا؟! لقال: استحوا من الله يا عباد الله، الظلال شيء ودين الله شيء آخر، فلا داعي لهذا التزوير والبهتان، وما أظن أن الإجرام وصل بالشيطان إلى ما وصل بهذه الفتاوى الضالة، وكنت ذكرت فتيا له في محاضرة الحجاب، وقد نشرت فتياه في مجلة الاعتصام أنه يبيح لنساء يذهبن إلى شواطئ البحر ليسبحن، يبيح لهن القصر والجمع والصلاة بما يستر العورة المغلظة فقط.. لا إله إلا الله! إنها فوضى لا نهاية لها نعيشها هذه الأيام.

    ويخبر من رأى هذا بعينيه وهو أبو إسلام أحمد بن عبد الله صاحب كتاب: الروتاري في قفص الاتهام، يقول: حضرت كنيسة اجتمع فيها الروتاريون والماسونيون، ومن جملتهم أعناق تنتسب إلى الأزهر، وقام القسس والبابوات عليهم لعائن رب الأرض والسماوات يكفرون ويتبجحون ويقولون، ثم تقدم القسيس إلى المحراب محراب النصارى وصلى صلاة النصارى، وكل من في الكنيسة وراءه صلوا بصلاته حتى الشيوخ المعممون، يقول: لكني أنا الوحيد الذي ما صليت، وكلهم كانوا يؤمنون على دعائه، ثم بعد أن انتهوا تصافحوا! فوضى لا نهاية لها.

    1.   

    التمثيل وحكمه

    من الفوضى التي نعيشها: التمثيل الذي شاع في هذا الوقت، ولا أقصد بالتمثيل ما يفعل في المسارح والمراقص ودور العهر من نساء يمثلن كاشفات عن سوءاتهن، غناء ورقص وغير ذلك، لا أقصد هذا، فهذا معلوم تحريمه من الدين بالضرورة، إنما أقصد تمثيلاً ابتدعه من يسمون بشباب الصحوة الإسلامية، وما أكثر البدع التي ننسبها إلى شريعة رب البرية في هذه الأيام، وندعي أننا نتقرب بها إلى الرحمن! وهذا -كما قلت- عصر الفوضى، تقام جمهورية يكتب وراءها: إسلامية، ويؤلف كتاب في الاشتراكية ويلصق وراءه: اشتراكية الإسلام، هذا يدعو إلى الوطنية وطنية الإسلام، وهذا يدعو إلى القومية، كذاب مجنون خبيث سفيه صاحب الكتاب الأخضر، الضال المضل الذي يقول: إن القومية نص الله عليها في كتابه، فكل نبي كان يقول: يا قوم اعبدوا الله، وهذه قومية.. هذا يوجد مثله كثير وكثير، في هذه الأيام كل بلاء يلصق وراءه: إسلامي، فيديو إسلامي، غناء إسلامي، على وزن الغناء الشيطاني، وأحياناً يصحبه من الآلات ما ليس في الغناء الشيطاني، لكن هذا إسلامي إياك أن تعترض! رقص إسلامي، بعد ذلك عهر وضلال وفنون إسلاميه.

    هذا التمثيل الذي حصل، تمثيل كما قلنا: طفرة ممتازة يمثلون لأغراض نبيلة على حسب زعمهم، يمثلون مشهداً في توعية الناس مثلاً بتوحيد ربهم، وعدم عبادة القبور، يمثلون مشهداً لأئمتنا كالإمام أحمد وغيره، يمثلون موقعة بدر إلى غير ذلك كما قيل، وصارت في هذه الأيام دور العلم مسرحاً للتمثيل، ودار العلم إذا لم يقم فيها التمثيل فما حصل فيها علم، هذه هي الفطرة.

    هذا التمثيل كنت بينت حكم الله فيه في المحاضرات في كلية الشريعة وأصول الدين، وأخبرت بعض المسئولين عن حكمه، ولما رأيت الأمر يزداد انتشاراً، ويزداد السؤال عليه إقبالاً، ومن أيام يعلم الله يأتي بعض الناس إلى البيت ليسألني عن هذا الأمر الذي فشا، سأذكر حكم الله في شريعته في هذا الأمر حسب الأدلة الشرعية لنكون على بصيرة من الأمر.

    حكم التمثيل

    إخوتي الكرام! تمثيل الإنسان لغيره لأي غرض كان حرامٌ حرام، وإذا أراد الإنسان أن يقوم بالدعوة فبإمكانه أن يرسل هذا عن طريق الكلام، كما دعانا ربنا جل وعلا في كتابه ودعانا نبينا صلى الله عليه وسلم إلى عبادة الله في حديثه، وما ذكر الله لنا تمثيلية ولا ذكر لنا نبينا صلى الله عليه وسلم مسرحية، وقد ورد في شرعنا ما يؤيد هذا ويبين حكم التمثيل، وأريد أن أذكر سبعة أمور في بيان أن هذا التمثيل حرام، وأن شباب الإسلام ينبغي أن يجتنبوه وأن يبتعدوا عنه وأن يحذروه.

    أدلة تحريم التمثيل

    الأمر الأول الذي يدل على تحريم التمثيل: ما ثبت في سنن أبي داود وسنن الترمذي بسند صحيح عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: ( حكيت للنبي صلى الله عليه وسلم إنساناً، فقال: ما يسرني أني حكيت أحداً وأن لي كذا وكذا )، يقول أئمتنا: حكيت، أي: مثلت إنساناً في قوله أو في فعله، بهيئة من هيئاته، ذكرت هيئة من هيئاته، فلا ينبغي أن يأتي مستدل فيقول: هذا إذا حكته على وجه التنقيص، بل أقول: إن حكاية الغير تنقيص له، والدليل على هذا أن صعلوكاً منا يصل مقامه أن يمثل الإمام أحمد ، فهل الإمام أحمد في قلوبنا حتى يقوم أحدنا في مشهد الإمام أحمد إمام المسلمين؟ لما الإمام أحمد وقعت له حادثة مع قاضي القضاة الخبيث أحمد بن أبي دؤاد ، فمن الذي سيمثل نفسه أنه ذلك القاضي الوضيع السافل، من الذي سيمثل؟ إذاً عندما تمثل الإمام أحمد تجاوزت دورك واعتديت على هذا العبد الصالح، وعندما تمثل ذلك القاضي الخبيث، هل يجوز لك أن تتشبه بمن غضب الله عليه وبمن ذمه الله؟ فالتمثيل لشخصيات بارزة احتقارٌ لهم.

    وأنا أقول هذا في الكلية: من يجرؤ أن يقيم عندنا في الكلية تمثيلية لمجلس الجامعة، بحيث يكون الطالب على أنه مدير الجامعة، وطلاب آخرون هم العمداء، ثم تعرض القضية وينظر فيها كما يجري في مجلس الجامعة من غير استهزاء ولا سخرية، هل تقبل الكلية هذا؟ وهل يرضى مدير الجامعة أن يمثله طالب؟ سبحان الله! إذا كان بشر في هذا الوقت لا يرضى أن يمثله أحد، فلمَ نمثل من لقي الله وغفر له وأكرمه؟ إن وراء هؤلاء سلطة ومسئولية فنخاف منهم، ووراء أولئك رب العالمين، أحكم الحاكمين، مالك يوم الدين، ألا نخاف منه؟! أي صعلوك سيمثل إماماً من أئمتنا، وقد وصل الانحطاط ببعض الشباب في رحلاتهم وجولاتهم أنهم مثلوا موقعة بدر في بلدة بدر، وظهر بعضهم على أنه أبو جهل ، ورقى فوقه عبد الله بن مسعود فذبحه ذبحاً صورياً ليس حقيقياً، أعوذ بالله من هذا الضلال! ما بقي أننا نريد أن نعرف موقعة بدر إلا أن أظهر في صورة أبي جهل، وإذا سألتهم: لم؟ يقولون: هذا تمثيل إسلامي لغرض الدعوة، موقعة بدر يذكر ما فيها من مواعظ بكلام يلهب القلوب ويحركها، أما أن تحصل هذه السخرية وهذا الابتذال فلا، فتمثيل الإنسان احتقار له، ولذلك لا يجوز التمثيل.

    الأمر الثاني: أن التمثيل دخيل علينا، ما عرفه سلفنا، فما نقل التابعون ولا من جاء بعدهم حتى ابتلينا به في هذا العصر، فلما فتحت دور الرسم والتمثيل في بلاد الغرب وأوربا، إذاً ينبغي أن نتبعهم كمسلمين وراء ستار، جاءنا الشيطان وقال: هذا إسلامي، هل قام الإمام أحمد بمشهد تمثيل؟ وهل قام الشافعي بمشهد تمثيل عليهم رحمات ربنا الجليل؟ من نقل عنهم من سلفنا أنه كان يمثل؟ ( ومن أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد ) ، والله لا يمحو الخبيث بالخبيث، إنما يمحو الخبيث بالطيب، وإذا كان دين الله حقاً فينبغي أن نصل إليه بطريق حق مشروع.

    الأمر الثالث: التمثيل يورث الإنسان قلة حياء ونقصاً في المروءة، ولذلك يعتاد أهل التمثيل أن يلبسوا ملابس معينة، وهذا حتى في التمثيل الإسلامي، ولا أتكلم -كما قلت- عن التمثيل الذي يخرج في أجهزة الإعلام، يأتي شيطان رجيم فيضع لحية من صوف ويمثل ذلك على أنه مظهر شرعي، لكن لما أراد أن يتمثل بهيئة الإمام أحمد وضع العمة وصار وقوراً ويمشي بسكينة ويتكلم بهدوء، والثاني لما تقمص شخصية أحمد بن أبي دؤاد بدأ ينهر ويصيح ويزمجر وكأنه شيطان، أليس هذا نقصاً في المروءة وقتلاً في حياء الإنسان؟ وأحياناً يكلف الإنسان أن يلبس ثياباً معينة من أجل هذا، ما المصلحة الشرعية التي توجب عليك هذا؟ لا شيء.

    الأمر الرابع: في صاحب التمثيل تهريج وفكاهة وضحك ولابد، ومن أنكر هذا فهو ممن يركب رأسه ويجادل في الضروريات، ففيه تهريج وإضحاك للناس، سبحان الله! وهل يجوز أن نختلق وأن نفعل أشياء لنضحك الناس؟ أما كفانا كثرة ضحكنا في جميع أحوالنا، حتى في الدعوة ينبغي أن نخترع أسلوباً لنضحكهم! وقد وصل الحال الآن في بعض البلاد كما يوجد في الكويت، أن كتاب الله يسجل بالموسيقى، لا يقرأ أبداً، إنما على النغم الموسيقي، وهذا انتشر بكثرة ويوضع في السيارات، لماذا؟ قالوا: ليحفظ الناس القرآن عن طريق أيسر وأسهل، فالموسيقى محببة إلى الناس، وهذا لو سمح به في هذه البلاد لما خلا بيت منه، قرآن على الموسيقى لا يذكر فيه آية بلفظ من الألفاظ، بل موسيقى فقط، للدعوة، موسيقى إسلامية! طيب نحن نسجل القرآن ماذا تريدون أكثر من هذا؟ يقول أئمتنا: إذا شرب الإنسان الخمر فهو آثم، وإذا شرب الخمر وقال: باسم الله فهو كافر؛ لأنه حقر اسم الله، والله لو لم يقرءوا آية في حياتهم لكان أخف لجرمهم عند ربهم من أن يستهزئوا بكلام الله وحرماته، نسأل الله اللطف والعافية.

    الأمر الخامس: هذه التمثيليات في الغالب تفعل بعد العشاء، ولا يجوز السمر بعد العشاء إلا لمصلحة شرعية، لا يجوز لأجل فكاهات وضحك وتهريج، إنما لمصلحة شرعية، من مذاكرة علم، من مؤانسة ضيف بمقدار، من ملاطفة أهل، وما زاد على هذا فالسهر حرامٌ، وإذا كنت لا تستيقظ لصلاة الفجر فسهرك من الكبائر، ولذلك كان نبينا عليه الصلاة والسلام يكره الحديث بعد العشاء ويكره النوم قبلها، فلا يجوز أن تسهر إلا لمصلحة شرعية، لا تسهر لتهريج وضحك باسم الدعوة للإسلام.

    الأمر السادس: عندما نحن ابتدعنا هذا التهريج الإسلامي فتحنا المجال لأعداء الله في تمثيلهم الغوي، ودائماً إذا انفتح الباب يدخل فيه ما تحب وما تكره، ولذلك إذا اتبع الإنسان بدعة وهو يظن أنها تقربه إلى الله ستوصله إلى جهنم وهو لا يدري، وسينتشر الأمر ويفتح الباب على مصراعيه، ولذلك عندنا قاعدة (ترك الذرائع) كل ما يؤدي إلى الفساد، وإن كنت تراه أنت من وجهة نظرك لا بأس به، لكن هذا سيحتج به أناس وأناس على ضلالهم، فاتق الله في فعلك.

    وهذا الأمر أحب أن أقف عنده وقفة يسيرة: لعلكم تذكرون -إخوتي الكرام- من قرابة عشر سنين الذي مثل في بريطانيا نبينا محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشترك فيه عبد الباسط محمد عبد الصمد القارئ الذي يجعجع في الإذاعات، اشترك في (محمد رسول الله)، وحصل استنكار في ذلك الوقت من مشيخة الأزهر ومن مجمع البحوث؛ لأنه مثل رجل على أنه محمد عليه الصلاة والسلام، ونزل عليه جبريل يغطه ويقول: اقرأ.. تمثيل، ثم سحبت بعد ذلك صور لتعرض في فلم سينمائي على التلفزيون، أقول: نحن عندنا نفتح باب التمثيل يحصل هذا، وأنا أقول وستشاهدون هذا: إذا ما أغلقنا هذا الباب والله سيوجد عما قريب من سيمثل الله، وستشاهدون هذا، وأنه إذا مثل جبريل الذي إيماننا به عن طريق الغيب، فما الفارق بينه وبين ربنا الجليل؟ هذا سيقع، لذلك لابد من إيصاد الباب، وعندنا طرق ندعو بها إلى الله ما أكثرها، ومن لم يسعه ما شرعه الله فلن تسعه إلا نار جهنم.

    الأمر السابع: لماذا سيحتاج الناس إلى التمثيل؟ إن التمثيل لا يفعله إلا غليظ الطبع بليد الذهن قاسي القلب متحجر العقل، لعل حكمه حكم البهائم التي تمشي على أربع، لم تفعل التمثيل؟ قد يقول: أريد أن أوضح للناس الحقيقة، وقال لي بعض الناس: نحن لا نمثل غيرنا، بل نمثل مشهداً في أنفسنا، قلت: وكيف؟ قال: أعتبر نفسي أنني سائل شحات، وهذا مسئول أسأله وأقول: أعطني من مال الله، ثم لنبين وضع السؤال في هذه الحياة وتجري بيني وبينه أمور، فأنا أسأله ويقطب وجهه، ويعبس بوجهه فيّ، ثم يعرض عني، كما هو الحاصل الآن من الشحيحين الأثرياء البخيلين، يقول: فيأتيه من جهة أخرى عن يمينه فيعرض عنه، عن شماله يعرض عنه، ثم يمشي الغني، قلت: وهل هناك حاجة إلى هذا؟!

    الله تعالى يقول: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34]، انظروا لهذه الصورة الحية -إخوتي الكرام- صورة نظرية لا تحتاج بعد ذلك لهذه الطرق الرديئة، يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:35]، أنت إذا عرضت الآية وبينت معناها رسخت الصورة دون هذر وثرثرة، ودون فكاهة، ودون ضحك وسخرية، نقول: الغني الشحيح عندما يسأله السائل المحتاج يقطب وجهه، فيعرض بوجهه عنه لينصرف، كما أشارت السورة القرآنية إلى هذا، فيأتيه السائل من شدة حاجته من الجانب الذي انحرف إليه فيقول: أعطني من مال الله، فينحرف إلى الجانب الثاني، فيلحقه: أعطني من مال الله، فيعرض عنه ويوليه دبره، هذه الجهات التي حصل بها الإعراض ستكوى يوم القيامة في نار جهنم، انتهى وضحت الصورة، هل هناك داعٍ لأن أقيم إنساناً وآتي لأسأله ثم يعبس في وجهي؟ ليس هناك داعٍ لهذا.

    يقول لي بعض الإخوة هنا في بعض المدارس: مثلوا تمثيلية في الصباح ووضعوا سريراً، انظروا كيف وصل بنا الانحطاط والفوضى! وضعوا سريراً وجلس طالب على السرير أمام طابور الطلاب واجتماعهم، ثم اضطجع ونام وشد البطانية إلى رأسه وبدأ ينادي: أبغى أنام، أبغى أنام، أبغى أنام، فجاء إليه من هو مشترك معه في التمثيل وقال: هذا لا ينبغي أن تقوله عند نومك، قال: ماذا أقول؟ قال: قل دعاء النوم. وماذا عملت يا أبله؟ إلا أنك أضحكت الناس فقط في هذه الصورة، دعاء النوم إذا أراد الإنسان أن ينام يقول: اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك... إلى آخره، لا يحتاج هذا التمثيل، وصورة أخرى: إنسان معه رغيفان من الخبز من أقراص التميز، فجاء واحد فأكلهما، فبدأ يبكي، فأحضروا له لهاية الطفل الصغير الذي توضع في فم الأولاد ووضعه له ليسكت.. هل هذه مدارس علم؟ سبحان ربي العظيم! اتخذنا ديننا لهواً ولعباً، حياة المسلمين حياة جد ليس فيها هزل، فإلى الذين يقضون أوقاتهم في التمثيل خافوا الله الجليل.

    وأنا أقول لكم: المسرح موجود إن كان بإمكانكم أن تمثلوا شخصية مرموقة على قيد الحياة، لكنكم تمثلون من لا ناصر لهم إلا الله، وما بقي لله في قلوبنا قداسة ولا تعظيم، فنتهجم على أئمتنا، من الذي تطاوعه نفسه أن يقف بمشهد يمثل الفضيل بن عياض ؟ إلى هذا الحد وصل بنا الابتذال لأئمتنا، رضي الله عنك يا شيخ الإسلام والمسلمين في زمن أتباع التابعين عبد الله بن المبارك ، سئل عن مسألة أمام شيخه سفيان بن عيينة ، فقيل له: حدثنا فيها، فقال: ليس من الأدب أن أتكلم بحضور شيخنا، يقول هذا الكلام يقوله من يستسقى غيث السماء بدعائه، مادام الشيخ سفيان بن عيينة حاضراً، فكيف أتكلم؟ يقول الشافعي عن شيخه مالك : والله لقد كنت أقلب الورقة قلباً خفيفاً حتى لا يتأثر الإمام مالك ، ويقول الربيع تلميذ الشافعي : ما استطعت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إلي، نعم، ليكن أدبك دقيقاً وعلمك ملحاً، العلم يأتي منه القليل، لكن الأدب ينبغي أن يكون الكثير، ومن لم يعرف ذلك الأدب لأئمتنا أسرع إليه الهلاك والعطب، إنسان يمثل هؤلاء الأئمة إلى هذا الحد وصل بنا التطاول والسفاهة!

    وهكذا الرحلات التي تقام الآن ويقال لها: رحلات إسلامية، ساعتان في اليوم لعب كرة كالشيطان، هذه رحلات إسلامية؟! ساعتان لعب كرة؟! ثم بعد ذلك أسرة كذا وأسرة كذا، إن هذه الأمة لا يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها: ( ومن أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد )، لعب الكرة مباحٌ، لكن على العادات المعروفة والقوانين الموضوعة حرامٌ، لا مانع أن نلعب كرة، هذا يضربها وذاك يضربها، إنما بعد ذلك ترتيبات معينة كما للصلاة شروط معينة فلا، قف عند حدك، هذا اسمه لعب ومرح، لا تأتينا بشروط وضعتها أمريكا ولا روسيا في لعب الكرة لتلزمنا بها، لا يمنع أن آخذ الكرة وأن أضربها تنشيطاً للجسم، مع أولادي مع أهلي مع أصدقائي، لكن دون هذه الترتيبات التي لها حسابات وحسابات، ويمرن عليها الإنسان فترة طويلة، فلابد من النظر إلى الموضوع كما نظر إليه الشرع المطهر، أما أن نلبس زياً معيناً، ثم بعد ذلك نريد أن نلعب الكرة في اجتماعات إسلامية، الأمر ليس كذلك أخي المسلم! فانصح نفسك؛ لأنك عندما تخادع ربك لا تخدع إلا نفسك والله لا يخادع، فإذا خدعته خدعت نفسك، فانتبه لنفسك.

    هذا التمثيل الذي شاع ويقول فيه كثير من الناس: لا بأس، المقصود منه نشر الدعوة، ليس الأمر لقولك ولا لقولي، دين الله لا يجوز للإنسان أن يقول فيه: حلال ولا حرام حتى يأتي بنص شرعي على قوله، هذا الأمر -إخوتي الكرام- ينبغي أن نعيه، وأن ننشره لنقف عنده.

    1.   

    موقف الأمة الإسلامية من الفوضى في دين الله

    إخوتي الكرام! هذا هو حال الأمة الإسلامية، وهذا الذي دعاني للمحاضرة، إن تسلق السفهاء على الأولياء نتج منه هذه الفوضى التي لا نهاية لها، فما موقفنا نحن معشر المسلمين؟ ما موقف المصلحين الدعاة؟ ما موقف الأمة المباركة نحو هذين الأمرين؟ بأي شيء قابلت ذلك؟ الذي ينظر إلى واقعنا يتقطع قلبه ويفرى كبده، الذي يتأمل أحوالنا يرى أننا على ثلاثة أقسام:

    القسم الأول: اختلافات ومناحرات وخصومات وعداوات، بكل ما في معنى هذه الألفاظ من معانٍ، وإذا تفرقنا فشلنا بنص القرآن: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46]، وأعظم نعمة امتن الله بها على النبي عليه الصلاة والسلام في الصدر الأول: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ [الأنفال:62-63]، والآن فرقة القلوب موجودة.

    القسم الثاني: يوجد أيضاً في الأمة في جسمها في بعض أعضائها لما رأوا هذا الانهيار، أرادوا أن يقابلوا هذا البلاء بقوة مادية، لكن القوة المادية إذا ما أعد لها عدةً مطلوبة في الشرع، وفيها ما تقدم من الاعتبارات الرديئة من الاختلاف والتنازع، لا تجدي ولا تسمن ولا تنفع ولا تقدم في حال الأمة شيئاً، بل لعلها تؤخرهم إلى الوراء أكثر وأكثر، فلما قام عتبة ليعارض الواقع بقوة المادة صب على المسلمين عذاباً مضاعفاً بسبب ذلك، وأنا أقول لنفسي ولهؤلاء الإخوة: الله جل وعلا عندما أمرنا أن نعبده، وأن نلتزم بشرعه وهديه، هذا الالتزام شامل لقلوبنا ولأبداننا، أما الالتزام القلبي فلا ينبغي أن يكون فيه نقص على الإطلاق، فالقلب معلق بالله على وجه التمام لا يقدم على الله أحداً، حبٌ كامل لله وذلٌ كامل له، لكن هذا البدن إذا حصل فيه نقص فأنت الناقص، وأنت الملوم وأنت المقصر، أما البدن فـ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وقد قرر أئمتنا كما ذكر هذا الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله في كتابه الحسبة، وهو في مجموع الفتاوى في الجزء الثامن والعشرين في صفحة سبعٍ وأربعين فما بعدها قال: أما من كملت نيته لله، واكتملت طهارة قلبه، ثم ما تمكن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ببدنه على وجه التمام لعدم استطاعته؛ فله أجر تام عند الله كما لو قام بهذا الأمر ببدنه على وجه التمام، لأنه جاءه ما يمنعه من ترتب محذور وبلاء أكبر.

    فهذا العذر ليس من قبل نفسه، إنما طارئ عليه، و لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، أما القلب فلابد من كونه مشبعاً مشرباً بحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وليس فيه نقص بوجه من الوجوه، وأما البدن فكما في الحديث: ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم )، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحتاج الكلام عليه إلى موضوع طويل، إنما أذكر هنا ما يتعلق ببحثنا كما قلت.

    القسم الثالث: لما رأوا الأمرين المتقدمين، تشتت واختلاف وفرقة، وقوة قامت لتعارض معارضة مادية فقهرت وقمعت وأوذيت الأمة بسببها، فمدوا أيديهم، ماذا أقول عنها؟ طاهرة أو نجسة؟ الله يحكم في شأنها يوم القيامة، مدوا أيديهم لمن هو أكثر ممن يعادونه، يطلبون منه النصرة، ويطلبون منه التمكين في الأرض، وملة الكفر واحدة، فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يونس:32]، ونحن عندما نقاتل كافراً لا نقاتله لعينه وشخصه، إنما نقاتله لمبدئه وفكره، فإذا كان هذا الفكر في ذهن إنسان آخر فهما عندنا سواء، وملة الكفر واحدة، ولما أخرج عن هذا الكافر لأستعين بكافر آخر لأكون عميلاً له لمقاتلة هذا، هذه أمور كلها ضالة سلكتها الأمة في هذا الوقت وهذه الأيام، وزادتها تعثراً وضلالاً وشقاءً إلى ضلالها وشقائها.

    1.   

    المخرج للأمة

    فإن قيل: فما المخرج؟ وما الحل؟ نقول: ذكرته في بداية المحاضرة، وهذا موضوع موعظتنا إن شاء الله، الحل: أن نتبع الحق، وأن نسير على الحكمة، وأن نضع الأمور في مواضعها، ومن تأمل الموجود وجده ينقسم إلى قسمين لا ثالث لهما: خالق ومخلوق.

    أما الخالق فيتصف بالعدل والفضل، ولا تخرج أفعاله عن هذا سبحانه وتعالى، فلا ظلم في أفعاله ولا جور، قال تعالى: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، وثبت في صحيح مسلم في حديث أبي ذر رضي الله عنه الطويل في الحديث القدسي، وفيه يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: ( يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا )، فأفعال الله فضل وعدل، فإن أثابنا فبمحض الفضل، وإن يعذب فبمحض العدل.

    ما للعباد عليه حقٌ واجب كلا ولا سعي لديه ضائع

    إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع

    سبحانه وتعالى، عدل وفضل، والجنة دار الفضل، والنار دار العدل، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، ومن تأمل حال المخلوق الموجود الحادث وهم عباد الله سبحانه وتعالى، وجده لا يخرج عن الظلم وجهل، قال تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72]، كل واحد منا يظلم نفسه، ويظلم غيره ويعتدي على حقه، هذا وصفنا (ظلوماً جهولاً)، كل واحد منا ظلوم جهول، وإذا كان الأمر كذلك، وهذه حقيقة لا يماري فيها أحد، ولذلك يخبرنا الله عن وضع العباد كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه المتقدم: ( يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم )، هذا حال المخلوقات، خطأ مستمر متواصل في الليل والنهار، نسألك يا الله أن تغفر لنا، وأن تدخل عظيم جرمنا في عظيم عفوك يا واسع الفضل والمغفرة بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

    هذا حال الإنسان (ظلم وجهل).

    ومن تأمل حال المخلوقات يجد أنهم لا ينفكون عن هذين الوصفين، ثبت في كتاب الحلية عن مطرف بن عبد الله بن الشخير ، وهو من أئمة التابعين، قال عنه الحافظ ابن حجر : ثقة فاضل عابد من رجال الكتب الستة عليه رحمة الله، وهو صاحب عبادة وأكرمه الله بكرامات كثيرة، منها: ما ذكره الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله في كتابه الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، والكتاب موجود في مجموع الفتاوى، وهذه القصة في الجزء الحادي عشر في صفحة إحدى وثمانين ومائتين: أن مطرف بن عبد الله بن الشخير كان إذا دخل إلى بيته تسبح معه آنية البيت، والأمر ليس فيه غرابة، فالتسبيح ثابت لكل مخلوق: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44]، لكن الله كان يكرم هذا العبد الصالح بسماع هذا الصوت، الآنية التي في البيت من صحون وسكاكين وغير ذلك تقول: سبحان الله! سبحان الله وبحمده! سبحان الله العظيم! سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك! سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك! ويسمع تسبيحها، وهذا ثابت في ترجمة هذا العبد الصالح، يقول الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله: وخرج مرة مع صاحب له في ليلة مظلمة ومعهما سوط فأضاء لهما السوط، نور يضيء لهما الطريق، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [إبراهيم:20].

    يقول هذا العبد الصالح: لو حلفت لبررت، ليس أحد إلا وهو مقصر في حق الله تعالى. إي والله! لو حلف على هذا لبرّ، ما يوجد أحد إلا وهو مقصر في حق الله تعالى، ثبت في صحيح ابن حبان عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( لو يؤاخذني الله وابن مريم بما جنت هاتان -السبابة والإبهام- لعذبنا ثم لم يظلمنا )، سبحان الله العظيم! خير خلق الله وروح الله لو حاسبهما بما جنت هاتان لعذبهما وهو غير ظالم لهما، ولو عذب الله أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيراً من أعمالهم.

    وكان يقول: جميع الناس حمقى، لكن بعض الحمق أهون من بعض، أما كل واحد فهو أحمق في طاعة الله وفي جنب الله، ولذلك كل واحد يوم القيامة يتحسر، وقد سمى الله يوم القيامة بهذا الاسم في محكم كتابه: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ [مريم:39]، لا يحضر ذلك المشهد أحد من خلق الله إلا وتحسر، سواءٌ كان صديقاً أو زنديقاً، أما الصديق فيتحسر لأنه لم يزدد في رضوان الله والدرجات العلا، وأما الزنديق فيتحسر لأنه لم يقلع ولم يتب، فجميع الناس حمقى في دين الله، لكن بعض الحمق أهون من بعض.

    وفي كتاب زوائد الزهد لـنعيم بن حماد على كتاب الزهد لـعبد الله بن المبارك عليهم جميعاً رحمة الله، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: لن يصيب أحد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن جميع الناس حمقى في دين الله. ما يصل الإنسان لحقيقة الإيمان، ويكون من أهل الإيقان حتى يثبت عنده هذا، وأول ذلك لنفسه، ورحمة الله على عبد الله بن المبارك عندما يقول، والكلام عنه منقول في سير أعلام النبلاء، يقول: من عرف نفسه كانت أذل عنده من الكلب، من عرف نفسه كانت أذل عنده من الكلب. نعم، من عرف تقصيره وبلاياه صارت نفسه أذل عنده من الكلب، فلا يحصل للإنسان حقيقة الإيمان حتى يرى جميع الناس حمقى في دين الله.

    وفي كتابه زوائد الزهد أيضاً لـنعيم بن حماد عن خالد بن معدان ، قال: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى الناس كالأباعر، ثم يرجع إلى نفسه فيراها أصغر من كل صاغر. هذا حال من عدا الله: ظلوم جهول، والله جل وعلا عادل وذو فضل.

    1.   

    الأسئلة

    حكم الغناء

    السؤال: يقول ذكر بعض الإخوة أن بعض المشايخ أفتى بأن الغناء ليس حراماً، ولا داعي للتشدد على الشباب، نرجو توضيح ذلك؟

    الجواب: متى أوضح لك ذلك؟ هذا من جملة الفوضى التي نعيشها؛ لأن ديننا في هذا الوقت ما عاد يعي ولا يفقه ما يسمع، ولا يتدبر ما يقول، وإلا فإن الظمآن يكفيه من الماء أيسره، وكان يأتي الرجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيسمع منه آية: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8]، فيقول: هذا يكفيني، فما بالنا الآن نسترسل في إعادة ما هو من الواضح، ما حكم الغناء؟ حكم الغناء معروف، هل يلزم أن أكرره الآن فيما ذكرت من أدلة في محاضرة كاملة، الغناء حرام، وهو كبيرة، وهو محرم في جميع الأديان، التغني حرام في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل، لا خلاف في ذلك، ولا يجتمع هدي الله ونوره مع كلام الشيطان ووحيه في قلب عبد أبداً، آية ومغنى، قرآن الشيطان وقرآن الرحمن لا يجتمعان، ولذلك كان عمر بن عبد العزيز عليه رحمة الله يقول لمؤدب أولاده: ليكن أول ما يعتقدون من أدب الزهد الغناء، الذي مبدؤه من الشيطان وعاقبته سخط الرحمن، هذا هو الأمر أخي الكريم، وفيما ذكرته كفاية وزيادة عن الكفاية، فتريد التوضيح وأن بعض الناس أفتى، هذا مثل من أفتى بعض الناس في هذا الوقت بأن استعمال الشغالة كاستعمال المرأة أو عن طريق الرق لا حرج فيه، لأن هذه حكمها حكم الأمة.

    يا إخوان الشياطين والقردة! عندما نقول لكم: أباح الله الرق في الإسلام، وجعل الإماء عبيداً، تقولون: هذه وحشية، وعندما تأتون للحرائر وتعتدون على عفافهن تقولون: هذه أمة! هذا اتباع لهوى النفس، ليس تحكيم شرع الرب سبحانه وتعالى، فمن يفتي كل هذا من جراء الفوضى التي نعيشها في هذا الوقت.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756008131