إسلام ويب

المرابطون في بيوت الله [9] - تعريف الخوف ومنزلتهللشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الخوف من الله من أعظم صفات من يعمرون بيوته حيث قال الله فيهم: (يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار)، وقد كان الصحابة والتابعون أعرف الناس بالله وأشد الناس خوفاً منه. ثم إن منزلة الخوف في الإسلام عظيمة، وقد جمع الشرع بين الخوف والرجاء والمحبة؛ لكي لا يقنط الناس من رحمة الله، وتعتبر هذه الثلاثة الأمور أركان العبادة التي تقوم عليها. ثم إن الأدلة قد وردت بحرمة صرف الخوف لغير الله؛ لأنه من العبادة.

    1.   

    مقدمة

    الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهد الله فهو المهتدي, ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

    الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً, وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير.

    اللهم لك الحمد كله, ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله, أنت رب الطيبين.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين, وخالق الخلق أجمعين ورازقهم, وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].

    وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله, أرسله الله رحمةً للعالمين, فشرح به الصدور, وأنار به العقول, وفتح به أعيناً عمياً, وآذاناً صماً, وقلوباً غلفاً, فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] .

    أما بعد: معشر الإخوة المؤمنين! إن أفضل بقاع الأرض وأحبها إلى الله جل وعلا المساجد, ففيها نوره وهداه، وإليها يأوي الموحدون المهتدون, وقد نعت الله الذين يعمرونها بأنهم رجال لا تلهيهم البيوع والتجارات عن الغاية التي خلقهم من أجلها رب الأرض والسماوات, وهم الذين يصلون لله, ويذكرونه في الغدو والعشيات, وهم الذين يحسنون إلى عباد الله, ويشفقون على المخلوقات, وهم الذين يبذلون ما في وسعهم استعداداً للقاء ربهم.

    قال الله: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:36-37] .

    إخوتي الكرام! قد عشنا في نور هذه الآية الكريمة وقفات متعددة, وتدارسنا الصفات الثلاث الأولى من صفات هؤلاء الرجال الأبرار.

    فتدارسنا الصفة الأولى وهي: لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ [النور:37] .

    وتدارسنا الصفة الثانية لهم وهي: يذكرون الله, عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ [النور:37].

    وتدارسنا الصفة الثالثة لهم وهي: وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ [النور:37].

    وبقيت الصفة الرابعة لهؤلاء العباد الطيبين وهي: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37].

    فهذه الصفات التي نعت الله بها من يعمرون بيوته في هذه الحياة.

    1.   

    معنى قول الله تعالى: (يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار)

    ذكر تفسير ومعاني تقلب القلوب والأبصار

    إخوتي الكرام! الصفة الرابعة لهؤلاء الرجال: قوله: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37], فتقلب القلوب هو: حركتها واضطرابها وتحولها من أماكنها.

    نعم إن القلوب في ذلك اليوم العصيب الرهيب تصل إلى الحناجر, وتخرج من أماكنها فلا يستطيع الإنسان أن يخرجها من فيه ليستريح ويموت، ولا تعود هذه القلوب إلى أمكنتها ليستريح ويهدأ ويطمئن، كما قال الله جل وعلا مقرراً هذا: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ [غافر:18] أي: ممتلئين غيظاً وهماً وغماً، قال: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر:18].

    فقوله: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37], أي: أن الأبصار في ذلك الموقف لا تستطيع أن تغمض, ولا أن يطبق الجفن على الجفن، إنما هي شاخصة زائغة، تدور يمنةً ويسرةً, ولا تدري ماذا يفعل بها, كما قال الله جل وعلا: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ [إبراهيم:42] فالأبصار لا تغمض, ولا يطبق الجفن على الجفن, ثم هي زائغة تدور, لا تعلم ماذا سيحل بها؟ ولا تعلم أين مصيرها إلى جنة أو إلى نار؟

    فهؤلاء الأخيار الذين يعمرون بيوت الله في هذه الحياة يستعدون لهذا اليوم الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار, وهذا المعنى لتقلب القلوب والأبصار هو أرجح ما قيل في تفسير الآية من أقوال أربعة، وعليه اقتصر الإمام الجليل شيخ الإسلام الإمام ابن كثير في تفسيره لهذه الآية, فذكر هذا المعنى ولم يذكر سواه، وهو الذي رجحه الشيخ المبارك محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان عليهم رحمات ذي الجلال والإكرام.

    وأما المعاني الثلاثة الأخرى لهذه الآية الكريمة: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37], فالأول: قوله: (تتقلب فيه القلوب)، أي: انتقالها من حال لحال، فتارة تطمع في رحمة ذي العزة والجلال, وترجو النجاة في ذلك اليوم، وتارة تنقبض وتخاف، فالقلوب في ذلك اليوم ما بين رغبة ورهبة، ما بين أمل ووجل.

    وهكذا الأبصار أيضاً، تتقلب وهي زائغة لا تعلم هل ستأخذ الكتب من اليمين أو من الشمال؟ ولا تعلم ماذا سيؤمر بها إلى جنة أو إلى نار؟ قال: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37], فتقلب القلوب تحولها من حال لحال ما بين أمل ووجل، وهكذا تقلب الأبصار.

    والمعنى الثاني من المعاني الثلاثة الأخرى سوى المعنى الأول: أن قوله: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37] أي: تتقلب القلوب يوم القيامة إلى يقين بعد شك، فالكفار الذين شكوا في هذه الحياة يوقنون بالحقيقة في ذلك الوقت على التمام، لكن ذلك الإيقان لا ينفعهم, تقلبت قلوبهم أي: بعد أن كفروا آمنوا، لكن الإيمان لا ينفعهم في ذلك الوقت، فتقلبت القلوب وتغيرت.

    وأما الأبصار فهذه الأبصار التي كانت فيها حدة وشدة في هذه الحياة, وتلمز المؤمنين وتغمزهم, هذه الأبصار تنكسر في ذلك الوقت وتتقلب وتكون ذليلة مطرقة خائفة.

    وآخر المعاني وهو الثالث -ويكون الرابع مع المعنى الأول- أن قوله: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37] أي: تقلب القلوب والأبصار عندما تكون في النار؛ كما قال العزيز الغفار: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا [الأحزاب:64-66].

    وقال جل وعلا: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110] هذا على معنىً من المعاني التي تحتمله هذه الآية الكريمة, كما هو مقرر في كتب التفسير, وعليه: (نقلب أفئدتهم) أي: عقولهم وقلوبهم وأبصارهم في النار؛ لأنهم لم يؤمنوا بهذا, أي: لم يؤمنوا بالقرآن وبالرحمن وبنبينا عليه الصلاة والسلام في الحياة.

    وقوله: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ [الأنعام:110] أي: على النار وفي النار كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110].

    وكما قلت: هذا على أحد المعاني الذي تحتمله هذه الآية في سورة الأنعام.

    وأرجح المعاني ما قدمته وهو: أن القلوب في ذلك الوقت تضطرب وتخفق خوفاً وفزعاً من هول ذلك اليوم، وتتحول من أماكنها, وتصل إلى الحناجر, فلا تخرج ولا تعود إلى مكانها, وهكذا الأبصار تدور وتزيغ, قال الله: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37].

    حقيقة الخوف ومعناه عند علماء الإسلام

    إخوتي الكرام! إذا أردنا أن نستوعب الكلام على وجه الاختصار على الصفة الرابعة من صفات من نعتهم الله بأنهم يعمرون بيوته في هذه الحياة فسيكون الكلام عليها ضمن مقامين وأمرين ومبحثين: أولهما: في الخوف الذي اتصفوا به: (يخافون).

    والثاني: في بيان يوم القيامة وما يتعلق به.

    أما الخوف فسأقصر الكلام عليه ضمن أربعة أمور:

    أولها: في تعريف الخوف.

    وثانيها: في منزلة الخوف.

    وثالث الأمور المتعلقة بالخوف: ثمرة الخوف.

    ورابع الأمور: في أسباب الخوف.

    وأما ما يتعلق بيوم القيامة يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37] فالبحث في ذلك طويل, سيأخذ معنا وقفات متعددة, نسأل الله أن يمنَّ علينا بالفقه في دينه ومعرفة معنى كلامه, إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

    إخوتي الكرام! أما ما سنتدارسه في هذه الوقفة من الأمور المتعلقة بالخوف أمران هما: بيان معنى الخوف، وبيان منزلة الخوف.

    إخوتي الكرام! إن حقيقة الخوف كما قرر علماء الإسلام هو: احتراق القلب، وتألُّمه لتوقع مكروه في المستقبل عن أمارة, -أي: عن علامة- مظنونة أو معلومة.

    فمن توقع مكروهاً سينزل به في المستقبل في هذه الحياة أو بعد الممات فإنه يعتري قلبه حالة، هذه الحالة هي حالة الخوف.. هي حالة الوجل.. هي حالة الإشفاق، هذا هو الخوف.

    إذاً: الخوف احتراق القلب، وتألم القلب بسبب توقع مكروه في المستقبل عن أمارة مظنونة أو معلومة.

    أقسام ما يعتري الإنسان في الحياة من خير وشر

    وقد قرر علماؤنا الكرام أن ما يعتري الإنسان في هذه الحياة من خير وشر.. من محمودٍ ومذمومٍ.. من شيءٍ يحبه أو شيءٍ يكرهه، ما يعتريه ينقسم إلى ثلاثة أقسام بالنسبة في حلوله عليه وشعوره به.

    إما أن يكون هذا الذي في الإنسان شيءٌ مضى وانقضى، إنما يتذكره في هذه الأيام، من خير أو شر.. من محمود أو مذموم، أي: حالة مرت عليه في الزمن الماضي، فإذا تذكرها يقال لهذه الحالة: ذكر وتذكر للماضي، فإن كانت في أمر محمود فرح، وإن كانت في أمر مذموم حزن، أي: حزن على شيءٍ فاته مما يحبه, أو فرح بأمرٍ فاته مما يكرهه، فهذه الحالة الأولى، حالة ماضية تتذكرها الآن فيقال لها: ذكر وتذكر.

    وإما شيء آخر يقع عليك مما تحبه أو تكرهه، لكنه يقع عليك في الزمن الحاضر فهو يباشرك، فهذه الحالة التي تكون في الزمن الحاضر يقال لها: ذوق وإدراك ووجد؛ لأنك تجد هذا, وتذوقه في هذا الوقت، وهذا الذي ينزل عليك إن كان محبوباً يعقبه الرضا، وإن كان مكروهاً يعقبه السخط، فتشعر بحالة الرضا وبحالة السخط، فتذوق هذا، وتتلذذه، وتكره ذاك وتبغضه، كل هذا في هذا الوقت، بينما هناك في الأولى حزن أو فرح، وأما هنا فرضاً أو سخطاً.

    والحالة الثالثة التي تعتري الإنسان ولا تخرج أحوال الإنسان عن ذلك, حالة مستقبلة ستنزل به يفكر فيها, فيقال لها: توقع وانتظار، فإن كانت في محمود ومحبوب سميت تلك الحالة: رجاءً وأملاً، وإن كانت تلك الحالة المتوقعة في مذموم ومكروهٍ سميت: خوفاً وإشفاقاً ووجلاً.

    وهذا ما قررته في تعريف الخوف: تألم القلب، واحتراق القلب بسبب توقع مكروه سينزل عليك في المستقبل عن أمارة يقينية معلومة أو مظنونة, وعليه هنا ما تتوقع أنه سينزل بك إن كان محموداً يسرك فرحت، وهذا يقال له: أمل ويقال له: رجاء، وإن كان سينزل بك وهو مكروه تخافه وتحذره يقال: هذا خوف، وإشفاق، ووجل.

    تذكر الموت والآخرة سبب في استحضار الخوف من الله

    وهؤلاء العباد الذين يعمرون بيوت الله في الأرض, يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37] فلنطبق تعريف الخوف على حالتهم, كل واحد منا إخوتي الكرام! يوقن يقيناً أنه سيموت, وبعد الموت سيبعث, وسيأتينا تقرير البعث بأدلته التي لا يماري فيها عاقل في المبحث الثاني من هذه المباحث إن شاء الله، وإذا كان الأمر كذلك فسنبعث كما نستيقظ، وسنموت كما ننام، إذا كان الأمر كذلك فسنموت ونبعث، ولا يخلو واحد منا من تفريط وتقصير في حق الله جل وعلا, وما يعلم هل سيغفر له أم لا؟ وإذا علم أنه سيئول إلى الله وهو صاحب تفريط وتقصير وعصيان، ماذا سيكون حاله؟ إذا توقع عقوبة من الله وغضباً من الله سيعتري قلبه في هذه الحياة الحالة التي ذكرتها وهي الخوف والوجل والإشفاق من الله عز وجل.

    نعم، من علم هذا سيخاف ولا بد، فرضي الله عن الحسن البصري عندما يقول -كما في حلية الأولياء- من علم أن الموت مورده, وأن الساعة موعده, وأن الوقوف بين يدي الله مشهده, حقيق به أن يطول حزنه في هذه الحياة، وأن يخاف من رب الأرض والسماوات, فالموت مورده ولا شك في ذلك، والقيامة موعده لا شك في ذلك، وسيجمع الله الناس ليومٍ لا ريب فيه، ويحصي عليهم مثاقيل الذر, قال الله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8]، وقال: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].

    فالموت موردنا, والقيامة موعدنا, والوقوف بين يدي الله مشهدنا؛ ليحاسبنا على النقير والقطمير، وعلى القليل والكثير، فمن استحضر هذا سيخاف ولا شك من الله الجليل, قال الله: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37].

    أضواء على قول الحسن البصري: الإنسان بين خوفين لا ينفك عنهما

    يقول سيد المسلمين الحسن البصري عليه رحمة الله كما في الحلية: الإنسان بين خوفين لا ينفك عنهما وإن كان محسناً، إذا كان عاقلاً مهما وصل في درجة الإحسان وطاعة الرحمن فهو بين خوفين لا ينفك عنهما، ولا يفارقان قلبه طرفة عين، قيل له: ما هما؟

    قال: ذنب مضى ما تدري ما الله صانع فيه؛ هل سيغفر لك أو سيعاقبك عليه؟ -ذنوب عملتها في ما مضى, ونحن نخطئ في الليل والنهار، فنسأل الله أن يدخل عظيم جرمنا في عظيم عفوه، إنه واسع الفضل والمغفرة-، قال: ذنب مضى لا تدري ما الله صانع فيه؟ وأجل بقي -أي: من حياتك- لا تدري ما أنت عامل فيه.

    يا عبد الله! إذا كنت الآن في نعمة الإيمان, هل تعلم أن هذه النعمة ستثبت لك على الدوام. أم لا؟ نسأل الله أن يثبت قلوبنا على دينه, وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

    ولذلك إذا كان الأمر كذلك فحقيقة الإنسان بين خوفين لا ينفك عنهما, فهو لا يعلم ماذا سيعمل في المستقبل؟ ولا يعلم بأي شيء سيعامله فيما جرى منه في الماضي؟ ولذلك كان الحسن البصري عندما يقال له: أمؤمن أنت؟ فيقول: أرجو، قيل له: أشك يا أبا سعيد ؟! أتشك في إيمانك؟ قال ليس بشك، لكن ما يدريني أن الله اطلع على ذنب من ذنوبي فقال: يا حسن ! اعمل ما شئت فلن أقبل منك، ما يدريني أن الله اطلع على عمل من أعمالي السيئة, وعلى ذنب من ذنوبي, وعيب من عيوبي فمقتني، فقال: اعمل ما شئت فلن أقبل منك، ما يدريني بأي شيءٍ سيختم لي.

    وبما أنك لا تدري ما جرى منك وما حالك عند الله، فأنت بين خوفين لا ينبغي أن يفارقا قلبك طرفة عين، قال الله: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37].

    1.   

    الخوف من عدم الصدور عن النار بعد الورود عليها

    إخوتي الكرام! أخبرنا ذو الجلال والإكرام أننا سنرد على النار, وهذه قضية مفروغ منها، وهل سننجو أم لا؟ لا يعلم هذا إلا الله, قال الله: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا * ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا * وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:68-72]، هذه النجاة هل تضمنها لنفسك يا عبد الله؟!

    خوف الصحابة وتذكيرهم لبعضهم بهذه الآية

    ثبت في كتاب المصنف للإمام ابن أبي شيبة ، وكتاب الزهد للإمام أحمد عن الحسن البصري رضي الله عنه وعن سلفنا أجمعين قال: كان الرجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا التقيا يقول أحدهما لصاحبه: هل أخبرك الله أنك سترد على النار؟ قال: نعم، أخبرنا بذلك أي: إن الله أخبرنا أننا سنرد على النار, فيقال له: هل أخبرت أنك ستصدر عنها, وتخرج منها, وعندك صك بذلك؟ فيقول: لا، فيقول كل واحد لصاحبه، فعلام نضحك؟ وعلام الضحك؟

    إخوتي! عندنا الآن إثبات بالورود على النار، لكن الخروج منها والصدور عنها هل نجزم ذلك لأنفسنا أم لا؟ لا يعلم ذلك إلا الله وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71].

    قصة عبد الله بن رواحة في خوفه من عدم الصدور عن النار

    انظروا إخوتي الكرام! لهذه القصص التفصيلية لهذا الإجمال الذي ذكره الإمام الحسن البصري عليه رحمة الله, وسأذكر قصتين فقط، قصة لصحابي وقصة لتابعي رضي الله عنهم أجمعين.

    أما الصحابي فهو عبد الله بن رواحة استحضروا قصته وطبقوها على قول الله تعالى: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37] روى الإمام أحمد في الزهد, والأثر رواه وكيع، وعبد الله بن المبارك ، وهناد بن السري في كتب الزهد لهم أيضاً، والأثر رواه عبد بن حميد في مسنده, وابن أبي شيبة في المصنف, ورواه الإمام الطبري في تفسيره, ورواه الحاكم في مستدركه وصححه, ورواه البيهقي في دلائل النبوة والبعث، وإسناد الأثر صحيح لكن فيه إرسال كما سأوضح عن قيس بن أبي حازم ، -وقيس تابعي مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام، لكن لم تكتحل عيناه برؤية نبينا صلى الله عليه وسلم فما قدر له أن يلتقي به، لكنه كان في زمانه, ولو التقى به لثبت له شرف الصحبة، ولذلك يقال له: مخضرم، توفي سنة تسعين للهجرة 90هـ بعدها أو قبلها وقد جاوز المائة, وهو من أئمة التابعين الصالحين، حديثه مخرج في الكتب الستة، وهو ممن روى عن العشرة المبشرين بالجنة رضوان الله عليهم أجمعين- فرواية قيس بن أبي حازم عن صاحب هذه القصة وهو عبد الله بن رواحة مرسلة فلم يلتق به ولم يسمع ذلك منه، لكن قصة بكاء عبد الله بن رواحة المذكورة في هذه الآية واردة من عدة طرق يتقوى بعضها ببعض، فالأثر صحيح، وخلاصته: أن عبد الله بن رواحة كان متكئاً في حجر زوجته, وهي تفلي شعره.. -تداعبه وهو في حجرها في حال معاشرة أباحها الله- فبكى رحمه الله ورضي عنه، فبكت زوجه لبكائه، فلما انتهت عنهما العبرة وانقطع بكاؤهما قال لزوجه: علام بكيت؟ قالت: رأيتك بكيت فبكيت، فما أبكاك أنت؟ -سبحان ربي العظيم! يعاشر زوجته, ورأسه في حجرها لكن قلبه متعلق بقول الله: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37] فقلبه في الآخرة وإن كان البدن مع الزوجة، لا يعلم هل سيستقر في النار أو سيكون مع الأبرار في الجنة بجوار العزيز الغفار؟- قالت: بكيتَ فبكيتُ فما أبكاك أنت؟ قال: ذكرت قول الله جل وعلا: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71] أخبرنا الله في هذه الآية أننا سنرد على جهنم, وأننا سندخلها, ولكن ما أعلم هل سأخرج منها وأصدر عنها أم لا؟ فهذا الذي أبكاني.

    إخوتي! حقيقة الذي يتفكر في هذا يتفطر قلبه.

    معنى الورود في قول الله تعالى: (وإن منكم إلا واردها)

    إخوتي الكرام! وهذا يبين لنا معنى الورود، ومعناه: الدخول, وهو أحد القولين في تفسير الورود في قول ربنا المعبود: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71] أي: داخلها.

    والقول الثاني:- أن المراد من الورود هو: المرور على الصراط المنصوب على متن جهنم وفوقها وظهرها, وعليه لا يدخلون إلى داخلها، لكن يمرون فوقها، فمن كان تقياً نجا ولم يسقط، ومن كان مخلطاً مفرطاً سقط من الصراط إلى قعر جهنم.

    ولا تنافي بين التفسيرين, وسيأتينا إيضاح هذا عند أحوال يوم القيامة، فمن فسر الورود بالدخول أخبر كما ورد في الآثار وتفصيله: أن المؤمن إذا دخل النار تكون عليه كالحمام، فلا يتأذى بحرها, ولا يصطلي بنارها, وتكون عليه كحال النار التي كانت على خليل الرحمن إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام في هذه الحياة.

    ومن فسر الورود بالمرور فهذا الأمر واضح: لا يدخلون النار، إنما يمشون فوقها على الصراط الذي هو أدق من الشعر وأحد من السيف، ومع ذلك لا يثبت، فهو دحض مزلة، يمرون عليه، هذا المرور وهو الورود, وعلى الحالتين لا يقاسون العذاب فيها إن كانوا من المتقين.

    إذاً: قال: أخبرنا أننا سنرد لكن هل سنخرج ونصدر؟ ما عندنا بعد ذلك يقيناً في ذلك، هل تتحقق فينا الصفات, وهي التقوى لرب الأرض والسماوات، وكل إنسان يعلم ما عنده من تفريط وكدر؟ لذلك عندما يستحضر الإنسان هذا ينطبق عليه هذا الوصف وهو قوله: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37].

    قصة عمرو بن شرحبيل في خوفه من عدم الصدور عن النار

    والقصة الثانية إخوتي الكرام! رواها الإمام أحمد أيضاً في الزهد, وهناد بن السري في الزهد أيضاً, ورواها عبد الله بن المبارك في الزهد، والإمام الطبري في تفسيره, وابن أبي شيبة في مصنفه, ورواها الإمام أبو نعيم في الحلية عن التابعي الجليل وهو مخضرم أيضاً, أدرك الجاهلية والإسلام، ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم وهو أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل من الأئمة الصالحين توفي سنة ثلاث وستين للهجرة 63هـ , حديثه مخرج في الكتب الستة إلا سنن الإمام ابن ماجه .

    هذا العبد الصالح تقول زوجه: كان كلما دخل معها في الفراش يبكي ويقول: يا ليت أمي لم تلدني! فلما تكرر منه هذا, قالت له زوجه: علام تقول هذا؟ قد أنعم الله عليك بالإسلام, وفعل وفعل, وأنت من العلماء الربانيين في هذه الأمة، علام تقول هذا؟

    قال: يا أمة الله! أخبرنا الله جل وعلا أننا سنرد على النار, وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71], وما أعلم هل سأخرج منها أم لا؟ كلما يضطجع في فراشه يتذكر ذلك اليوم الذي لا يغيب عن المؤمنين طرفة عين, كقوله: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37], سبحان الله! يتعاشر مع زوجه في الليل, لكن قلبه مع ربه يفكر فيما سيئول حاله عندما سيرد النار، هل سيخرج منها أم لا؟

    إخوتي الكرام! وما جرى من هذا التابعي المخضرمي الجليل المبارك من قوله: (يا ليت أمي لم تلدني!) أثر هذا عن عدد من السلف الكرام من صحابة وتابعين رضوان الله عليهم, وليس في ذلك اعتراض على تقدير رب العالمين، إنما في ذلك إتهام للنفس واعتراف بتقصيرها، وفي ذلك خشية من خالقها وفاطرها وبارئها وهو الله جل وعلا، وهذا معنى الأثر, ولا أقول: هذا اعتراضاً على الله عز وجل (يا ليت أمي لم تلدني!) .

    إذاً: إخوتي الكرام! هذا حال الخوف وتعريفه: احتراق القلب، وتألم القلب بتوقع مكروه يقع في المستقبل عن أمارة معلومة أو مظنونة، فمن علم ماذا سيكون بين يديه مما سيستقبله عند لقاء ربه، ينبغي أن يطول حزنه في هذه الحياة, وأن يكثر خوفه من رب الأرض والسماوات، وهذا هو نعت المؤمنين الذين يعمرون بيوت رب العالمين يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37].

    1.   

    منزلة الخوف في الإسلام وعلاقته بالرجاء

    بعد تعريف الخوف يحسن بنا أن ننتقل إلى بيان منزلة الخوف في الإسلام، ودرجة الخوف في الإسلام، وهل هو من الأركان العظام أو هو من المستحبات والمندوب إليها في شريعة الإسلام؟

    إخوتي الكرام! لا بد من وعي هذه القضية، فالله جل وعلا ذكر في صفات هؤلاء العباد الطيبين الذين يعمرون بيوته في هذه الحياة: لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ [النور:37], وهذا واجب، ومن ألهته هذه الحياة عن طاعة رب الأرض والسماوات فهو في النار, ثم بعد ذلك يقيمون الصلاة وهو واجب أيضاً, ثم بعد ذلك يؤتون الزكاة، ويشفقون على عباد الله وهو واجب، ثم يخافون وهذا أوجب الواجب، ولا يمكن أن تقبل شيء من تلك الاعتبارات وتلك الأمور والواجبات إلا بعد تحقيق الخوف من رب الأرض والسماوات.

    إخوتي الكرام! الخوف له منزلة عظمية في الإسلام, والخوف مع الرجاء للإنسان كالجناحين للطائر من الحيوان، فإذا كان الطائر لا يمكن أن يطير بغير جناحين كذلك لا يمكن للإنسان أن يسير على هدىً, وأن يعبد المولى جل وعلا في هذه الحياة إلا إذا اتصف برجاء الله والخوف منه، فخوف ورجاء هما للإنسان كالجناحين للطائر.

    قول أبي علي الروذباري في الجمع بين الخوف والرجاء

    وقد قرر هذا أئمتنا الكرام الأبرار، نقلوه عن العبد الصالح أبو علي الروذباري، وهو من العلماء الربانيين الصالحين في هذه الأمة, توفي سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة للهجرة، وهو أبو علي الروذباري أحمد بن محمد بن القاسم, والروذباري يقول علماؤنا: هذه كلمة تقال على أماكن اجتماع الأنهار الكبار, وكان هذا من الصالحين, وكان شيخ المتصوفة الصادقين في بلاد مصر في القرن الرابع للهجرة، ولما قيل له: من الصوفي؟ قال: الصوفي هو من لبس الصوف على الصفا, واتبع طريق النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأذاق الهوى طعم الجفا، وكان في الدنيا منه على قفا.

    فهو عبدٌ صالح من العلماء الصالحين، وأما ما يتعلق بمبحث التصوف وما دخله من خلط وتكدير، وهذا موجود في سائر الجماعات والفرق التي دخلها خلط وتكدير, فسيأتينا الكلام إن شاء الله على تفصيل هذه الفرقة بعون الله, لنبين الصادق من الكاذب ممن ينتسبون إلى التصوف.

    إخوتي الكرام! هذا من أئمة الصالحين الربانيين, وأئمتنا يقولون: كان ذا عقلٍ وفضل، ومن كلامه المحكم يقول: في طلب الآخرة عز النفوس, وفي طلب الدنيا مذلة النفوس, فيا عجباً لمن يكثر الذل في طلب الفاني على العز في طلب الباقي.

    ويروي عنه أبو نعيم في الحلية والإمام ابن كثير في البداية والنهاية، والإمام القشيري في الرسالة, أنه قيل عمَّن يزعمون أنهم يستمعون الملاهي -آلات العزف والغناء والموسيقى- ويقولون: إنها لا تؤثر فيهم؛ لأنهم وصلوا إلى حالة لا يؤثر فيهم اختلاف الأحوال، قال: صدقوا، وصلوا ولكن إلى سقر؛ لأن هذا ليس من طريقة النبي عليه الصلاة والسلام.

    والتصوف الحق أن تتبع طريق النبي صلى الله عليه وسلم كما قال، ومن ادعى أنه وصل إلى حالة يسقط عنه فيها التكليف فهو أحط من البهيمة عند الله جل وعلا، قال الله: أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179] فهذا يستمع للملاهي ثم يقول: لا يؤثر فيَّ اختلاف الأحوال, وهي في حقي حلال؛ لأنه واصل، واصل ولكن إلى سقر.

    يقول هذا العبد الصالح: الخوف والرجاء للإنسان كالجناحين للطائر, فإذا استويا تم طيرانه، وإذا وقع النقص في أحدهما نقص الطيران بمقدار النقص الذي في هذا الجناح، فإذا عدم الجناحان فالطائر في حكم الموت, وهكذا من فقد الخوف والرجاء من الإنسان فكأنه خرج من الإيمان.

    إخوتي الكرام! خوف ورجاء للإنسان في هذه الحياة كالجناحين للطائر.

    قول الحسن البصري في الجمع بين الخوف والرجاء

    وقد أشار إلى هذا الإمام الحسن البصري عندما قال: الخوف والرجاء مطيتا المؤمن, يركبهما في هذه الحياة, فيركب مطية الخوف ليترك المحرمات, ويركب مطية الرجاء ليفعل الطاعات, يركب مطية الرجاء ليرجوا نعيم الجنات، ويركب مطية الخوف ليحذر جهنم والدركات. إذاً: الخوف والرجاء مطيتا المؤمن.

    1.   

    علاقة الخوف والرجاء بقبول العبادة

    إخوتي الكرام! قرر علماء الإسلام أن عبادة الله جل وعلا واجبة على العبيد في هذه الحياة، والله خلقنا من أجلها قال الله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56], قال علماؤنا الكرام: وروح العبادة وجوهرها محبة الله جل وعلا، وهذه المحبة لها دعامتان، أي: ركنان لا يمكن أن تكون المحبة تامة كاملة إلا بهما: خوف ورجاء، وعليه فالدين كله يقوم على هذه الأمور الثلاثة، ولا يمكن أن يعبد الإنسان عبادة حقة بدونها، محبة لله، وخوف منه، ورجاء له، وقد قرر هذا أئمتنا الكرام كما ذكر شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية في كتابه القيم التحفة العراقية, وهو مطبوع وموجود في مجموع الفتاوى في الجزء العاشر من أول المجلد إلى نهاية صفحة تسعين, التحفة العراقية في الأعمال القلبية.

    وهذا قرره تلميذه الإمام ابن القيم في مدارج السالكين: بأن أركان العبادة ثلاثة: حب، وخوف، ورجاء.

    قول مكحول الدمشقي في أهمية الحب والخوف والرجاء

    يقول مكحول الدمشقي , الذي توفي سنة بضع عشرة ومائة وهو من التابعين, وقال أئمتنا: إنه أفقه من الإمام الزهري , وهو من رجال مسلم والسنن الأربع وهو ثقة عدل رضا, يقول: من عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو موحد صديق، ومن عبده بالحب فقط فهو شقي زنديق، ومن عبده بالخوف فقط فهو حروري، ومن عبده بالرجاء فقط فهو مرجئي.

    وشرح كلامه: أن من قامت فيه هذه الأمور الثلاثة: محبة لله, ووجد ركنا المحبة: الخوف والرجاء، فقد انضبط سلوكه في هذه الحياة وعبد الله كما يريد الله وكما يحب، فهذا موحد صديق، وسيأتينا تقرير هذا بكلام الله المجيد.

    ومن عبد الله بالحب فقط دون خوف ولا رجاء فهذا زنديق، يدعوه الإذلال والبسط, أن يعامل محبوبه وهو الله كما يعامل المحبوب من البشر, فيقول معه ما لا ينبغي أن يقوله في حق الله جل وعلا، ويحمله الإذلال والبسط مع ربه أن ينزل الله كأنه مخلوق من المخلوقات، فمن عبد الله بالحب فقط فهو زنديق.

    ويأتي بشيء ضل اليهود والنصارى به, عندما زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن الله لن يعذبهم, ومهما فعلوه فهو مغفور لهم، فهكذا من عبد الله بالحب دون خوف ورجاء فنهاية أمره إلى الزندقة, سيستمع الملاهي ويقول: إنها لا تؤثر فيه، نعم واصل ولكن إلى جهنم.

    ومن عبد الله بالخوف فقط، أي: دون محبة دون رجاء فهو حروري, والحرورية: هم الخوارج عندما اجتمعوا في بلدة حروراء في ظاهر الكوفة فنسبوا إليها، وهؤلاء دينهم واعتقادهم قائم على التخويف، فلا رجاء عندهم, ولا محبة منهم لربهم جل وعلا, ولو أخطأ الإنسان خطيئة في هذه الحياة حكموا بكفره وخلوده في نار جهنم.

    قال: من عبد الله بالخوف فقط فهو حروري، أي: من الخوارج الضالين المضلين.

    ومن عبد الله بالرجاء فقط -رجاء وأمل دون خوف ووجل- فهو مرجئي، والمرجئة: هم الذين يقولون: لا يضر مع كلمة الشهادة خطيئة، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وعليه من شهد أن لا إله إلا الله, وأن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام درجته مع درجة الصدِّيقين مهما فعل بعد ذلك من إثم ومعصية لرب العالمين.

    إذاً: هناك مرجئي، وحروري، وزنديق، وصديق، أربعة أصناف لا يخرج الناس عن هذا، فمن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو موحد صديق، ومن عبد الله بالحب فقط فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف فقط فهو حروري، ومن عبد الله بالرجاء فقط فهو مرجئي.

    الأدلة على أهمية الخوف والرجاء في قبول العبادة

    هذه الأمور الثلاثة إخوتي الكرام! هي أركان العبادة, وقد قررها الله جل وعلا في كثير من آيات القرآن, من ذلك قوله جل وعلا: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90] أي: يسارعون في الخيرات لحبهم لنا, وطلبهم المنزلة عندنا، ويدعوننا رغباً: راجين، ورهباً: خائفين.

    إذاً: هم يسارعون في الخيرات لمحبتهم لله، ويرجون رحمة الله، ويخافون من عذاب الله، قال الله: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90].

    وضمير الجمع في قوله: (إنهم) ذكر أئمتنا في بيان مرجعه قولان، نجمع بينهما ولا تعارض بينهما إن شاء الله.

    القول الأول: أن الضمير يعود إلى من تقدم ذكرهم من أول سورة الأنبياء إلى هذا الموطن، فذكر الله في سورة الأنبياء موسى وهارون، وذكر إبراهيم، وذكر نبيه لوطاً، وذكر إسماعيل وإسحاق ويعقوب، وذكر أيضاً في سورة الأنبياء داود وذكر سليمان وأيوب وذا الكفل وذا النون، ثم جاء إلى آخر من ذُكِرُوا في هذه الآيات وهو زكريا فقال: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:89-90] فجميع من تقدم ذكرهم من أنبياء الله هذا وصفهم.

    وذهب بعض الأئمة الكرام إلى قصر الضمير على آخر مذكور, وهو نبي الله زكريا وولده يحيى, وأهل نبي الله زكريا؛ لقوله: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء:89-90].

    فهؤلاء الأصناف الثلاثة في زكريا وزوجه وولده قال الله عنهم: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90] فتخصيص من تعميم، ففي القول الأول: دخل هؤلاء الصالحون المباركون مع من ذكروا قبلهم، والقول الثاني: قال: أن الضمير خاص بهم والأمر يسير.

    ويفهم من كلام الإمام ابن كثير الميل إلى القول الثاني, حيث نقل خطبة أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين, ونقلها عن تفسير ابن أبي حاتم وهي مذكورة أيضاً في حلية الأولياء في ترجمة أبي بكر ، أنه خطب المسلمين فقال في خطبته: أما بعد: أوصيكم بتقوى الله, وأن تثنوا عليه بما هو أهله، وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة، -أي: الخوف بالرجاء.. الأمل بالوجل- وأن تجمعوا بين الإلحاف والمسألة -والإلحاف هو الإلحاح في السؤال، وسؤال ذي العزة والجلال- فإن الله ذكر زكريا وأهله فأثنى عليهم بذلك فقال: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:89-90].

    والشاهد على القولين: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [الأنبياء:90] لمحبتهم لرب الأرض والسموات، ويدعون الله طامعين خائفين راغبين راهبين، وكانوا لله خاشعين.

    وهكذا قول الله أيضاً في سورة الإسراء, يقول رب الأرض والسماء: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:56-57].

    فقوله: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ [الإسراء:57] أي: تدعونهم وتعبدونهم من دون الله يتصفون بهذه الصفات، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ [الإسراء:57] أي: هم يتنافسون في طاعة الله, ويريدون الحظوة عنده والمنزلة لديه لحبهم لربهم, قال: وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:57].

    والآية نازلة كما في صحيح البخاري ، والأثر رواه الحاكم في المستدرك، وهو في صحيح البخاري فلا داعي لاستدراكه على الصحيح، والأثر رواه الإمام ابن جرير في تفسيره، والإمام الطبراني في معجمه الكبير، وهو موجود في كتب التفسير المتقدمة كتفسير ابن المنذر وابن مردويه ، وتفسير ابن أبي حاتم ، ورواه الإمام أبو نعيم في دلائل النبوة، وإسناد الحديث صحيح, عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: هذه الآية نزلت في ناس من الإنس, كانوا يعبدون ناساً من الجن، فآمن الجن بعد بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم فبقي أولئك الناس من الإنس يعبدون هذا الفريق من الجن, وهؤلاء الجن آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبدءوا يحبون الله ويخافونه ويرجونه، فأنزل الله هذه الآية يعيرهم بها, فيقول: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:57].

    أي: من تعبدونهم من دوني هم يتقربون إليَّ بحبي, ويرجوني، ويخافوني، فاعبدوني كما عبدني من تعبدوه, فقال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:57].

    والأثر كما قلت: في صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، واستشكل الإمام ابن التين -وهو عبد الواحد بن التين توفي سنة إحدى عشرة وستمائة للهجرة- ورود لفظ الناس في حق الجن, في هذا الأثر وهو: (كان ناس من الإنس يعبدون ناساً من الجن), وقال: الجن يطلق على خلاف الإنس، فكيف يستعمل لفظ الناس في حق الجن؟ فقال: هذا مشكل.

    يقول الإمام ابن حجر عليه رحمة الله راداً هذا الإشكال: إن لفظ الناس هنا لا يراد منه الناس الذي يقابل الجن، إنما الذي يراد منه اشتقاق اللغة من الناس، أي: ينوس إذا تحرك، وصفة الحركة موجودة في الإنس وفي الجن، فكان ناس من الإنس الذين فيهم صفة الحركة والحيوية يعبدون ناساً من الجن يتحركون أيضاً، وليس المراد أن الناس كانوا من الجن, أو أن لفظ الناس لا يطلق على الجن؛ لأن الجن يقابل الإنس، لا، ثم لا.

    ثم ختم الإمام ابن حجر كلامه فقال: ليت شعري على من يعترض ابن التين ؟ يعترض على الصحابي وهو حجة في الشرع وفي اللغة, فهو صحابي عندما يتكلم وهو عربي, فأطلق هذا اللفظ على الجن مراعياً هذا المعنى من النوس الذي هو الحركة والتحرك والإضراب, فـ(كان ناس من الإنس يعبدون ناساً من الجن)، وفي كل من هذين الصنفين حركة واضطراب، فأنزل الله هذه الآية يعيرهم بها.

    وهذا الأثر الثابت في نزول هذه الآية لا يتعارض مع ما رواه ابن جرير في تفسيره عن عبد الله بن مسعود أيضاً، أن الآية نزلت في صنف من العرب كانوا يعبدون صنفاً من الملائكة، ويزعمون أنهم بنات الله جل وعلا، فأنزل الله هذه الآية يعيرهم ويعيبهم بها فقال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:57] أي: من تعبدونهم من الملائكة هم يعبدوني، فاتركوا عبادتهم واعبدوني كما عبدني الملائكة الكرام.

    وهذا الأثر كما قال عنه الحافظ ابن حجر: إن ثبت فيجمع بأن الآية نزلت رداً على الفريقين، على من عبد فريقاً من الجن, ثم آمن أولئك الجن، وعلى من كان يعبد الملائكة الكرام, ثم استشكل بعد ذلك فقال: ظاهر الأثر يدل على أن المعبودين كانوا راضين بعبادة العابدين، والملائكة لم يرضوا بعبادة أولئك, فالله أعلم بحقيقة الأمر.

    والذي يظهر لي -والعلم عند الله- أن هذا الاعتراض لا يرد، وأنه لا يلزم من عبادة المعبود أن يكون المعبود راضياً بعبادة عابده، فإذا عبد واحد من البشر من نبيٍ أو ملك لا يلزم من هذا أن يكون راضياً، فإذا كان الجن يُعبدون في الجاهلية ثم أسلم من كان يُعبَد منهم، ففي حال جاهليتهم كانوا يرضون العبادة، وفي حال إسلامهم يرفضونها، ولا يعني هذا أن الإنسان إذا عبد ينبغي أن يكون راضياً سابقاً بالعبادة، لا يلزم هذا على الإطلاق, وليس في اللفظ ما يشير إلى ذلك، والعلم عند الله جل وعلا.

    ولا يتعارض هذا مع ما ثبت في تفسير الطبري عن عبد الله بن عباس أن الآية نزلت فيمن عبدوا عيسى وأمَّه والعزير والشمس والقمر، فيمكن أن يقال أن الآية نازلة فيمن عبد غير الله, وكان ذلك المعبود يعبد الله، فالله أكبر العابدين، فكما أن من تعبدونهم يعبدونني، فاتركوا عبادتهم واعبدوني، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:57].

    وخلاصة الكلام: لا بد من تحقيق هذه الأمور الثلاثة في عبادة الرحمن: محبة لله، ورجاء له، وخوف منه، والخوف والرجاء هما للعبادة كالجناحين للطائر.

    1.   

    شواهد لتوضيح معنى الخوف الذي وصف الله به عباده

    1.   

    الخوف من الله تعالى والنهي عن صرفه لغيره

    إخوتي الكرام! إن الخوف من خصال أهل الإيمان، من خصال من يعمرون بيوت الرحمن: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37].

    وهذه الصفة التي فيهم ينبغي أن تصرف نحو الله جل وعلا، ولا يجوز أن تصرف نحو أحد من خلق الله، فالمؤمن يخاف من الله وكفى، ولا يخاف من مخلوق مهما كان شأنه، وقد نهانا الله جل وعلا عن الخوف إلا منه, وحذرنا من الخوف من غيره, وأمرنا بأن نخافه, وأن نفرده بذلك سبحانه وتعالى.

    امتثال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأمر الله وعدم الخوف من الناس

    يقول الله جل وعلا: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:172-175].

    وهذه الآيات نزلت بعد ما حصل ما حصل في موقعة أحد، كما روى ذلك الإمام الطبري في تفسيره، والإمام الطبراني في معجمه الكبير، والإمام النسائي في سننه الكبرى، وابن مردويه في تفسيره، وإسناد الأثر صحيح عن عبد الله بن عباس قال: لما انتهت موقعة أحد ورجع أبو سفيان بمن معه إلى مكة, استقبلهم المشركون فقالوا لـأبي سفيان -الذي رضي كما يقال من الغنيمة بالإياب والسلامة والهرب- قال له المشركون ولأصحابه: بئس ما فعلتم، لا محمداً صلى الله عليه وسلم قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، ماذا عملتم في هذه المعركة؟ ما أتيتم بأسيرات من المؤمنات, ولا قتلتم خير البريات عليه الصلاة والسلام؟ فبئس ما فعلتم، جئتم تقولون: انتصرنا، ما هو النصر الذي حصل لكم، لا محمداً صلى الله عليه وسلم قتلتم, ولا الكواعب أردفتم، -وهي: النساء التي تكعب ثديها في صدرها-؟ فبئس ما فعلتم.

    فأخذت الحمية أبا سفيان وهم بالرجوع لمقاتلة النبي صلى الله عليه وسلم من أجل أن يقتل النبي صلى الله عليه وسلم وأن يأتي بالكواعب الحسان، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك استنفر الصحابة الكرام, وشرط عليهم أن لا يخرج إلا من حضر موقعة أحد فقط؛ ليعلم الكفار أننا إذا خسرنا في معركة لأمر من الأمور فما خسرنا الحرب, ولا نخشى غير الرب جل وعلا, ولو لم يقع خسران في المعركة كيف سيُنال شرف الشهادة؟ قال الله: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140] فخرج النبي صلى الله عليه وسلم بمن معه من الصحابة الكرام وقد أصابهم القرح؛ كما قال الله: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ [آل عمران:172] وقرأ الآخرون حمزة والكسائي وخلف من العشرة، وأبو بكر شعبة عن عاصم رضي الله عنهم، القرح بضم القاف, قال الله: (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القُرحُ).

    من بعد ما أصابهم القُرح, وقيل: إن القراءتين بمعنى واحد كالضَعف والضُعف والفَقر والفُقر، وقيل أن القرح بالفتح هي: الجراح والقتل، وبالضم: الآلام الناتجة عن الجراح والقتل

    قال الله: الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:172] خرجوا ووصلوا إلى حمراء الأسد، وهي تبعد ثمانية أميال عن المدينة المنورة على منورها صلى الله عليه وسلم ينتظرون الجبان الذي يريد أن يثأر من النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا كما قال الله: مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ [آل عمران:172-173]وهم المنافقون ونعيم بن مسعود الأشجعي وكان على شركه, وفريق من المسافرين قابلوا النبي الأمين صلى الله عليه وسلم وصحبه الطيبين, فقالوا: كيف خرجتم للقاء أبي سفيان والمشركين, وقد جمعوا لكم جموعهم وأنتم لم تخرجوا إلا بمن بقي معكم من موقعة أحد؟ قال الله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173] أي: يكفينا الله.

    وثبت في صحيح البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، والأثر مروي في غير صحيح البخاري عن هذا الصحابي الجليل قال: عندما ألقي إبراهيم في النار قال: (حسبي الله ونعم والوكيل) وعندما قال الناس لمحمد صلى الله عليه وسلم: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173], وهكذا قال صحبه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين: حسبنا الله ونعم الوكيل, فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ [آل عمران:174].

    أما النعمة: فحصلوا أجر غزوة أخرى, وحصلوا العافية فما جاء أبو سفيان ولا من معه من المشركين، وأما الفضل: فباعوا واشتروا وغنموا سرية في طريقهم للمشركين قال الله: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:174-175].

    فقوله: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [آل عمران:175] تحتمل معنيين معتبرين: (يخوف أولياءه)، يخوفكم بأوليائه، يخوفكم من أوليائه، الشيطان يخوفكم من المشركين فلا تخافوهم.

    قال: إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [آل عمران:175] أي: لا يلقي الرعب إلا في قلوب أوليائه المشركين، وأما المؤمنون فيستعينون بالحي القيوم، فلا يخاف إلا من كان منافقاً ليس في قلبه خشية من خالقه، إنما ذلكم الشيطان يخوفكم أولياءه، يلقي الخوف في قلوب أوليائه من المنافقين, قال الله: فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175], فنهى عن الخوف من غيره، وأمر بالخوف منه، وأوجبه, وجعل ذلك شرطاً للإيمان فقال: وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175].

    وهذا المعنى الذي دلت عليه الآية قبل أن أنتقل إلى تقريره بآيات أخرى, تكملة الأثر الذي نقلته عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى الآية أيضاً, وقال أبو سفيان بعد موقعة أحد: (موعدكم يا محمد! -صلى الله عليه وسلم- موسم بدر في العام القادم حيث قتلتم إخواننا، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام إلى بدر في موسم بدر، وثبتوا هناك لكن أبا سفيان ومن معه ما أتوا، ولذلك قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين: (أما الشجاع فقد أعد أهبته وعدته، وأما الجبان فجلس في بيته) .

    إذاً: خرجوا لحمراء الأسد بعد موقعة أحد مباشرةً, وعندما حدد ذاك موعداً في موقعة بدر في العام القادم خرجوا أيضاً وقابلوه في موسم بدر، فما استطاع أن يقابل المسلمين في هذين المكانين بعد أن أصاب المسلمين ما أصابهم من قرح وقُرحٍ.

    إفراد الله بالخوف والأدلة على وجوب ذلك

    إخوتي الكرام! ينبغي أن نفرد الله جل وعلا بخوفنا وكما نفرده برجائنا وكما نفرده بحبنا، وكما نفرده بسائر عباداتنا، فهو المعبود الذي تصرف جميع أشكال العبادة إليه، لا إله إلا الله وحده لا شريك، قال الله: فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175].

    إخوتي الكرام: هذا الخوف ينبغي أن نفرد به ربنا ولا يجوز أن نخاف أحداً غيره، وقد دل على هذا آيات كثيرة في القرآن؛ منها: قول الله جل وعلا: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة:150].

    وهكذا قول الله جل وعلا: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44].

    ونظيرها قول الله جل وعلا: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40].

    وهكذا أمرنا الله جل وعلا أن نفرده بالخشية والخوف, وأخبر أن هذا هو نعت العلماء العاملين الذين يدعون على بصيرة إلى رب العالمين، فقال ربنا الكريم: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا [الأحزاب:39].

    مدى صحة عبارة: أنا أخاف من الله وأخاف من لا يخاف الله

    إخوتي الكرام! ينبغي أن نفرد الله جل وعلا بحبنا وخوفنا ورجائنا، وبجميع أشكال العبادة فلا يستحق ذلك إلا هو سبحانه وتعالى.

    قال شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية عليه وعلى جميع أئمتنا رحمات رب البرية, قال: من الناس من يقول: أنا أخاف الله وأخاف من لا يخاف من الله؛ لأن من لا يخاف من الله ظالم لا يردعه شيء عن ظلمه, فأنا أخاف الله وأخاف ممن لا يخاف من الله, قال: وهذا غلط, وهذا كلام باطل، بل نخاف الله ولا نخاف غيره، سواء كان ذلك الغير يخاف من الله أو لا يخافه، بل نفرد الله جل وعلا.

    فإن قيل: إن من لا يخاف الله لا يتق الله, فقد يظلمنا ويبطش بنا ويوقع العقوبة علينا؟

    فالجواب: فنقول كما قال الإمام ابن تيمية : لو اتقيت الله وعبدته حق العبادة، ولم تخف أحداً دونه لكفاك شر هذا الظالم, ورد كيده في نحره سبحانه وتعالى, وأنت ما أوتيت, أي: ما سلط عليك هذا الظالم إلا لتفريطك في طاعة ربك، وإلا لخوفك من غير ربك جل وعلا، فلما خفت هذا المخلوق سلطه الله عليك، ولو أفردت الله جل وعلا بالخوف ولم تخف غيره سبحانه وتعالى لكفاك ما عداه قال الله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2] وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:3].

    إخوتي الكرام! هذه النقطة تحتاج إلى شيءٍ من التقرير والتوكيد أيضاً والإيضاح، وكان في نيتي أن أكمل الكلام عليها في هذه الموعظة, ولكن خشية الطول أقف عند هذا الحد, وأكمل ما يتعلق بهذه القضية وهي: أننا نفرد الله بخوفنا إن شاء الله في أول الوقفة الآتية ثم أكمل مراحل البحث بعون الله.

    نسأل الله برحمته التي وسعت كل شيء أن يجعلنا ممن يفردونه بالحب والخوف والرجاء وبجميع أشكال العبادة, أنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

    أقول هذا القول وأستغفر الله.

    الحمد لله رب العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين, وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين.

    اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين, وسلم تسليماً كثيراً.

    وارض اللهم عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    اللهم اغفر ذنوبنا, واستر عيوبنا, وأصلح أحوالنا, واجعل الجنة دارنا, ولا تجعل إلى النار مصيرنا يا أرحم الراحمين. (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار).

    اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا, اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً, اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا, اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا, اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات, وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب الأرض والسماوات.

    اللهم صل الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين, وسلم تسليم كثيراً.

    والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756420280