إسلام ويب

المرابطون في بيوت الله [6] - فضل الصلاة وذكر اللهللشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من صفات الذاكرين أنهم لا تلهيهم الدنيا عن طاعة ربهم وتعظيمه في قلوبهم، وكذلك شفقتهم على خلق الله بإيتاء الزكاة، ومن صفاتهم الذكر فهو رأس الطاعات وروح العبادات، فلا تكاد تخلو عبادة من الذكر، فالصلاة من أهم العبادات التي جمعت الذكر بكل أشكاله وألوانه، فينبغي للمسلم أن يستشعر عظمة الصلاة وأن يؤديها بالكيفية المطلوبة، ولهذا ربط الله تعالى الصلاة بلفظ الإقامة، والإقامة تعني: توفية الشيء حقه علماً وعملاً وبذل النشاط فيه، وقد حذر الشارع من عدم القيام بالصلاة على وجه التمام.

    1.   

    أهمية الذكر للإنسان

    الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

    الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير.

    اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6] .

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3] .

    وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد: معشر الإخوة المؤمنين! إن أشرف بقاع الأرض وأحبها إلى الله جل وعلا المساجد، ففيها نور الله وهداه، وإليها يأوي المؤمنون المهتدون، وهؤلاء المؤمنون الذين يأوون إلى بيوت الحي القيوم في هذه الأرض وهي المساجد وصفهم الله جل وعلا بأنهم رجال، ثم نعتهم بأربع خصال:

    الخصلة الأولى فيهم: أنه لا تلهيهم الدنيا عن طاعة الله جل وعلا وعما أوجبه الله عليهم فهم -وهي الخصلة الثانية-: يعظمون الله ويعبدونه، يذكرونه ويوحدونه، يقيمون الصلاة، وهم يشفقون على خلق الله فيؤتون الزكاة، ثم يستعدون بعد ذلك للقاء ربهم جل وعلا، فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:36-37] .

    وقد مضى الكلام -إخوتي الكرام- عن الصفة الأولى وهي أن هذه الدنيا لا تلهي عباد الله المؤمنين الذين يعمرون هذه المساجد في هذه الحياة.

    وأما الصفة الثانية: فهم يذكرون الله جل وعلا ويصلون له، نعم! هؤلاء عرفوا الغاية التي من أجلها خلقوا، وعرفوا الغاية التي من أجلها وجدت بيوت الله في الأرض؛ وجدت لذكر الله وعبادته، وللتفقه في دينه جل وعلا، وللخضوع له والتواضع لعظمته جل وعلا، فهم يذكرون الله في هذه البيوت، ويصلون له سبحانه وتعالى.

    أما الذكر فقد تكلمت عليه بشيء من التفصيل عند قول الله جل وعلا: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36] ، وبينت مكانة الذكر، والمعاني التي يحتملها الذكر في شريعة الله جل وعلا، وأقول ما تقدم على وجه الاختصار بشرط أن أذكر كلاماً غير الكلام الذي تقدم عند تفسير أول الآية.

    إخوتي الكرام! أما الذكر فإنه للإنسان كالماء للسمك، فلا يمكن للإنسان أن يحيا بدون ذكر الله جل وعلا بقلبه ولسانه، وقد وضح لنا نبينا صلى الله عليه وسلم هذه الحقيقة في الحديث الثابت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت )، هذا حي كحال السمك في الماء عنده بهجة وحياة، وذاك ميت قلبه خرب.

    ولفظ الإمام مسلم : ( مثل البيت الذي يذكر فيه الله والبيت الذي لا يذكر فيه الله كمثل الحي والميت ).

    إذاً هذا الذكر فيه حياة لقلوب المؤمنين الموحدين، فهذه الدنيا لا تلهيهم عن ذكر رب العالمين.

    1.   

    أثر ذكر الله في حياة العبد

    وهذا الذكر -إخوتي الكرام- هو رأس الطاعات، وروح العبادات، فمن أجله شرع الله العبادات من أجل أن نذكره بها، وأن نعظمه جل وعلا.

    قال جل وعلا: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45] .

    ولذكر الله الذي يحصل في الصلاة عند التلذذ بمناجاته أكبر فائدةً وأعظم منزلةً من كون الصلاة تنهانا عن الفحشاء والمنكر.

    فالمصلي يحصل فائدتين في صلاته:

    الفائدة الأولى -وهي المقصودة أصالةً-: أن قلبه يبتهج، ونفسه تنشرح، وصدره يتنور بمناجاة الله جل وعلا، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]. ثم يترتب على هذا أثر آخر أن هذه الصلاة تحصنه بعد ذلك من المنكر والفحشاء، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، أي: أكبر أثراً ومنزلةً وفائدةً من كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.

    والآية تحتمل أيضاً احتمالاً آخراً وهو حق منقول عن سلفنا الكرام وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، أي: أكبر من سائر الطاعات، وأفضل من جميع القربات، فهو روح كل عبادة، فكل عبادة روحها الذكر كما أن الروح التي تحيا بها البدن في هذه الحياة روح للبدن، فروح العبادات بأسرها ذكر الله ومناجاته والتلذذ بالثناء عليه ومخاطبته ومناجاته سبحانه وتعالى، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، أكبر من كل طاعة، وهذا على أن المصدر مضاف إلى المفعول، وَلَذِكْرُ اللَّهِ [العنكبوت:45]، أي: ذكرنا لربنا أعظم من كون الصلاة تنهانا عن الفحشاء والمنكر، وأكبر من كل طاعة.

    وتحتمل الآية معنىً ثالثاً على أن المصدر مضاف إلى الفاعل، والمعاني كلها حق ثابتة، ولذكر الله لنا عندما نذكره أكبر، فالله جل وعلا تعهد وتكفل بذكر من يذكره، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، لذكر الله لنا عندما نذكره أكبر وأعلى من ذكرنا له، فهو يذكرنا إذا ذكرناه، ونحن عندما نذكره فهذا أعظم طاعاتنا، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45] .

    وإذا أردت أن تعرف حقيقة هذا الأمر فاسمع شيئاً لم يتقدم ذكره.

    أخرج الطبراني في معجمه الأوسط بسند رجاله وثقوا كما قال الحافظ الهيثمي في المجمع، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لو أن رجلاً في حجره دراهم يقسمها، وآخر يذكر الله لكان الذاكر لله أفضل منه )، فقوله: ( لو أن رجلاً في حجره دراهم يقسمها ) جمع في حجره الدراهم والدنانير وجلس يقسمها ويوزعها على عباد الله المحتاجين وآخر جلس يذكر الله ويناجيه لكان الذاكر لله أفضل منه؛ وما ذلك إلا لأن القلب لا يحيا إلا بذكر الله، لا خير في صدقة ليس معها ذكر وتعظيم لله جل وعلا، لا بد إذاً من حياة القلب، فإذا حيي القلب يتصدق الإنسان بعد ذلك ويحسن إلى عباد الله، ويجاهد في سبيل الله، ويحافظ على طاعاته فلا يدخلها رياء ولا عجب.

    1.   

    الحث على ذكر الله كثيراً

    وفي معجم الطبراني الأوسط بسند رجاله وثقوا أيضاً كما قال الحافظ الهيثمي في المجمع، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما من صدقة أفضل من ذكر الله ).

    نعم! عندما تذكر الله جل وعلا تتصدق على نفسك، وتحيي قلبك، فهذا الذكر لقلبك كالماء للسمك، ( فما من صدقة أفضل من ذكر الله )، أفضل الصدقة ما تنفقها على نفسك، ثم على من تعول، ثم على عباد الله المحتاجين الآخرين، فأنت بالذكر تتصدق على نفسك، وتحيي قلبك، ( ما من صدقة أفضل من ذكر الله ).

    ولذلك أمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم بالإكثار من هذه العبادة من أجل أن يحيا قلب الإنسان، فهذه العبادة ينبغي أن نكثر منها على الدوام.

    ثبت في مسند الإمام أحمد ، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في شعب الإيمان، ورواه الإمام ابن السني في عمل ليوم والليلة، ورواه عبد بن حميد في مسنده وغيرهم، من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( أكثروا من ذكر الله، حتى يقولوا مجنون )، أي: حتى يقول المنافقون عن الذاكر: إنه مجنون، وقد قيل هذا لأعقل وأذكى الخليقة خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه، وقالوا: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الحجر:6] ، وقالوا هذا عن أول رسل الله إلى أهل الأرض بعد ما حصل فيها الشرك، وهو أول أولي العزم نبي الله نوح على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ [القمر:9] ، (مجنون)، اذكروا الله، أكثروا من ذكر الله حتى يقول المنافقون عن الذاكر: إنه مجنون، والحديث حسنه الحافظ ابن حجر ، وليس في إسناده من حوله شيء من الكلام إلا دراج أبو السمح وهو من رجال السنن الأربع، وأخرج حديثه الإمام البخاري في الأدب المفرد، وحكم عليه الحافظ في التقريب بأنه صدوق، وحديثه إن شاء الله حسن، نعم في روايته عن أبي الهيثم شيء من الضعف والكلام، وكما قلت: نص على تحسين الحديث شيخ الإسلام الإمام أبو الفضل ابن حجر العسقلاني عليهم جميعاً رحمة الله.

    وهذا الحديث وجد ما يشهد له من طرق أخرى، ففي حلية الأولياء ومعجم الطبراني الكبير، والحديث رواه عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد والرقائق من رواية ابن عباس رضي الله عنهما -والرواية الأولى من رواية أبي سعيد رضي الله عنهم أجمعين- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اذكروا الله ذكراً حتى يقول المنافقون: إنكم مراءون )، فقوله: (اذكروا الله ذكراً) أي: ذكراً كثيراً، مستمراً طويلاً.

    والحديث رواه البيهقي في شعب الإيمان، والإمام أحمد في الزهد، ورواه سعيد بن منصور في سننه لكن من رواية أبي الجوزاء مرفوعاً إلى خاتم الأنبياء عليه صلوات الله وسلامه، وأبو الجوزاء من التابعين، والحديث على هذا مرسل.

    وخلاصة الكلام: أن الحديث لا ينزل عن درجة الحسن أكثروا من ذكر الله، اذكروا الله ذكراً كثيراً، (أكثروا من الذكر حتى يقول المنافقون: إنكم مراءون) وحتى يقول المنافقون عن الذاكر: إنه مجنون، فهؤلاء العباد لا تلهيهم الدنيا بما فيها من بيوع وتجارات عن ذكر رب الأرض والسموات.

    1.   

    دخول الصلاة في ذكر الله

    إخوتي الكرام! تقدم معنا أن لفظ الذكر يطلق على أمرين: على ذكر الله باللسان وبالقلب، وهو الأوراد والأذكار، ويطلق على ما هو أعم من ذلك على القيام بكل طاعة لله، فمن أطاع الله فهو ذاكر؛ لأن كل طاعة فيها ذكر لله جل وعلا، واستحضار بالقلب لعظمة الله جل وعلا، وتلفظ باللسان بهذه العبادات التي يقوم بها، فكل مطيع لله فهو ذاكر لله، وعليه فقول الله جل وعلا: لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ [النور:37].

    إقامة الصلاة تدخل في ذكر الله قطعاً وجزماً؛ فهي خصوص بعد عموم، إنما خصها الله بالذكر لمنزلتها ولأهميتها في شريعة الله جل وعلا، ففيها الذكر بجميع أنواعه وألوانه ففي الصلاة من أفضل الأذكار ألا وهو تلاوة العزيز الغفار، ثم من تسبيح وتحميد وصلاة على نبينا عليه الصلاة والسلام كل هذا يحصل في هذه العبادة، ففيها الذكر الكامل التام بجميع أنواعه وأشكاله، ولذلك خص الله هذه العبادة بالذكر فقال: لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ [النور:37].

    1.   

    وقفات مع حقيقة الصلاة وإقامتها

    أما الصلاة فالبحث فيها سيكون على مراحل:

    معنى الصلاة

    المرحلة الأولى في بيان معناها اللغوي: اختلف علماؤنا الكرام من الفقهاء واللغويين عليهم جميعاً رحمة الله هل لفظ الصلاة مشتق أو هو اسم علم وضع على هذه العبادة لم يشتق من شيء؟ على قولين اثنين.

    وعلى القول بالاشتقاق فاختلف أئمتنا في هذا الاشتقاق أيضا على أربعة أقوال، أظهرها:

    أولها: وهو أن لفظ الصلاة مأخوذ من صلى يصلي صلاةً إذا دعا، فالصلاة بمعنى الدعاء، وإنما سميت الصلاة الشرعية التي هي أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم بشرائط مخصوصة، إنما سميت صلاةً بمعنى الدعاء؛ لأن الدعاء جزء منها، وبعض منها، وركن من أركانها، فأنت عندما تقرأ الفاتحة تدعو الله، وتسأل الله، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:5-7] .

    وهكذا تثني على الله وتدعوه بعد ذلك بغيرها، فبما أنه يحصل في الصلاة دعاء لرب الأرض والسماء فقيل لها: إنها صلاة.

    وقد جاء لفظ الصلاة بمعنى الدعاء في آيات القرآن وأحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام، قال الله جل وعلا: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103] أي: ادع لهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أعطيت له الزكاة والصدقة ليصرفها في مصارفها يدعو للمتصدق وللمزكي، وَصَلِّ عَلَيْهِمْ [التوبة:103] أي: ادع لهم، ومنه قول الأعشى :

    تقول بنتي وقد قربت مرتحلاً يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا

    عليك مثل الذي صليت فاغتمضي نوماً فإن لجنب المرء مضطجعا

    عندما احتضر فبدأت ابنته تدعو له: يا رب! جنب أبي الأوصاب والوجعا، عليك مثل الذي صليت، أي: مثل الذي دعيت لي، فأسأل الله أن يجنبك الأوصاب والألم والأوجاع:

    وقد ثبت هذا المعنى عن نبينا عليه الصلاة والسلام، ففي مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم والحديث أخرجه أهل السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه، والبيهقي في السنن الكبرى من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان مفطراً فليأكل، وإن كان صائماً فليصل ). (إذا دعي أحدكم -إلى طعام ووليمة- فليجب، فإن كان مفطراً فليأكل وليطعم، وإن كان صائماً فليصل)، أي: فليدع لأهل البيت بالخير والبركة، أجاب دعاءهم لكن ما أفطر فدعا لهم فحصل بوجوده الأنس والسرور.

    والمراد من الصلاة الدعاء لأهل البيت بالخير والبركة، وليس المراد من الصلاة الصلاة الشرعية كما فهم بعض العلماء، فقال: (فليصل) أي: فليذهب إلى البيت الذي فيه الوليمة ثم ليصل ركعتين ولينصرف، ليس المراد هذا كما وضحت رواية الطبراني في المعجم الكبير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان مفطراً فليأكل، وإن كان صائماً فليدع بالبركة ). فقوله: ( وإن كان صائماً فليدع بالبركة ) هذا هو معنى (فليصل) أي: فليدع لأهل البيت بالخير والبركة.

    وكما قلت إخوتي الكرام: هذا أرجح الأقوال -على القول بالاشتقاق- أن الصلاة بمعنى الدعاء صلى يصلي صلاةً، دعا يدعو دعاءً. وهناك ثلاثة أقوال أخر قيلت في الاشتقاق أذكرها على وجه الإيجاز، وفيها -كما قال أئمتنا- ضعف والعلم عند الله جل وعلا.

    قيل: إن لفظ الصلاة مأخوذ من الصلا وهو عرق يكون في وسط الظهر، ويفترق عند عجب الذنب، فيكتنف ويحيط بعجب الذنب الذي هو عظمة صغيرة، وعجب الذنب قيل: تكون في رأس العصعص من الإنسان في هذا المكان عظمة صغيرة، وكل ما في الإنسان إذا مات يبلى إلا عجب الذنب منه خلق ومنه يركب.

    والصلا باللام بعدها ألف بدون همزة هو هذا العرق يمتد إلى أن يصل إلى عجب الذنب فيفترق ثم يكتنف عجب الذنب ويحيط به.

    ومنه قول العرب للمصلي في الحلبة، أي: حلبة السباق بين الخيل، فتقول العرب للذي يأتي بالدرجة الثانية: مصلي، والذي يسبق يقال له: مجلي، قال أئمة اللغة: سمي الثاني التالي للمجلي سمي مصلياً؛ لأن رأسه ورأس فرسه يكون عند صلوي المجلي، أي: يأتي وراءه، يكون تالياً له، ذاك سبق وهذا وراءه، فرأسه عند صلوي المجلي، أي: عند ظهر المجلي السابق، وعليه فالصلاة مأخوذة من الصلا.

    قال الإمام القرطبي : وهذا الاشتقاق يفيد معنيين:

    المعنى الأول: من الصلا، بمعنى المصلي الذي يأتي بعد المجلي أي: هي تالية للإيمان، وهي أعظم الواجبات بعد توحيد الرحمن، كالمصلي والمجلي، فعندنا أعظم حقوق الله على عباده توحيده، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ويلي التوحيد مباشرةً الصلاة له سبحانه وتعالى. فالصلاة إذاً كأنها مصلي لذلك الأمر الأول الذي هو مجلي وهو توحيد الله جل وعلا، وفي الاشتقاق -كما قال الإمام الألوسي- غرابة وبعد، وقبله الإمام الرازي ، وحقيقةً إن القول فيه خفاء وبعد.

    والمعنى الثاني: سميت الصلاة صلاةً إذا كانت مأخوذة من الصلا، قالوا: لأن المصلي عندما يركع ويسجد ينثني صلواه، أي: العرقان اللذان صارا اثنين عند عجب الذنب وأحاطا به واكتنفاه ينثنيان في حال الركوع والسجود، فقيل للصلاة: صلاةً؛ لأن الإنسان يثني صلويه، أي: هذا العرق الذي تفرق إلى عرقين عند عجب الذنب.

    وكما قلت: الاشتقاق فيه بعد.

    وقيل: إن لفظ الصلاة مأخوذ من الملازمة، ومنه صلي بالنار إذا لازمها واحترق بها، تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية:4] ، تقاسي هذه النار مقاساةً لا خروج منها، وعليه فيجب على الإنسان أن يلازم الصلاة، وأن لا يهملها طرفة عين.

    وقيل: إنها مأخوذة من التعديل، ومنه صليت العود بالنار إذا لينته بالصلاء، وهو لهب النار وحرها، فهكذا إذاً ينبغي أن يعدل الإنسان نفسه بالصلاة، وأن يلازم الصلاة، والصلاة تالية للإيمان، وإذا سجد الإنسان ينثني صلواه، ثم في الصلاة دعاء والتجاء إلى الله جل وعلا.

    وهذه الأقوال الأربعة أظهرها -كما قلت- من حيث الاشتقاق اللغوي أولها والعلم عند الله جل وعلا، وللأقوال الأخرى شواهد من كلام العرب، وبسط هذا في كتب اللغة وكتب الفقه.

    القول الثاني: الصلاة ليست مشتقة من شيء لا بمعنى الدعاء ولا الاشتقاقات الأخرى، إنما هي اسم علم على عبادة معروفة، ذهب إلى هذا الإمام أبو نصر القشيري ، وتبعه عدد من أئمة الإسلام، ووجه تعليل هذا القول: أنه لم يخل زمان من شريعة، فما من أمة إلا وأرسل الله فيها نذيراً، وما خلا تشريع لأمة من الأمم من الصلاة، وعليه هذا اللفظ اسم لهذه العبادة التي فرضها الله جل وعلا على الأولين والآخرين من عباده المكلفين، فالصلاة علم مرتجل غير مشتقة من شيء كلفظ الحجر والشجر وغير ذلك.

    وهذا البحث اللغوي بقسميه سواء كانت مشتقة أو أنها اسم علم مرتجل ليست مشتقةً من شيء لا يعنينا كثيراً، إنما يحسن بنا أن نعرف أصل اللفظ من حيث اللغة.

    أما المعنى الشرعي للصلاة بلا خلاف بين أئمتنا: أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم بشرائط مخصوصة، فمفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم.

    أدلة وجوب الصلاة من القرآن الكريم

    هذه الصلاة -إخوتي الكرام- فريضة محكمة يكفر جاحدها، قرر الله وجوبها في آيات القرآن، وقرر وجوبها نبينا عليه الصلاة والسلام في أحاديثه الصحيحة الحسان، وأجمع على ذلك أئمة الإسلام، فمن آيات القرآن التي تقرر وجوب الصلاة: قول الله جل وعلا في سورة البينة: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5].

    ومن ذلك قول الله جل وعلا في سورة النساء: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، أي: فرضاً مؤقتاً محدداً في أوقات ينبغي أن تفعل هذه الصلاة فيها.

    ومن الآيات أيضاً قول الله جل وعلا في سورة هود: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114]، فقال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ [هود:114] والأمر للوجوب، فما أمرنا إلا بالإخلاص لله وتوحيده وتعظيمه عن طريق الصلاة، والإحسان إلى عباده والشفقة عليهم عن طريق إيتاء الزكاة، فالصلاة فرض مكتوب علينا، ولها أوقات محددة ينبغي أن نفعلها فيها.

    أدلة وجوب الصلاة من السنة النبوية

    وقد تواترت الأحاديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام بوجوب الصلاة وفرضيتها، ففي مسند الإمام أحمد والصحيحين، والحديث في سنن الترمذي والنسائي ، وهو في أعلى درجات الصحة من وراية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً ).

    وقد وردت الأحاديث الكثيرة في تبين فرضية الصلاة ووجوبها، وأن من تركها يقاتل حتى يأتي بها، فثبت في الكتب الستة من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث متواتر روي عن عدة من الصحابة الكرام عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله ).

    والحديث أخرجه الشيخان من رواية ابن عمر رضي الله عنهم بزيادة: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله ).

    وتخصيص الصلاة بالذكر لأنها أعظم حقوق الله، وتخصيص الزكاة بالذكر؛ لأنها أعظم حقوق العباد، وعليه ينبغي أن تقوم بكل حق واجب لله أو للعباد، وإلا تقاتل عليه، كما ثبت في صحيح مسلم من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله ).

    فهذه فريضة ثابتة محكمة يكفر جاحدها كما دلت على ذلك آيات القرآن وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام.

    فضل الصلاة والمحافظة عليها

    وهذه الصلاة مع أنها فريضة محكمة هي أفضل الطاعات وأعظم القربات نتقرب بها إلى رب الأرض والسموات، وقد وضح هذا الأمر وقرره خير البريات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ففي مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجه ، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه، والإمام الدارمي ، والحديث إسناده صحيح عن ثوبان مولى نبينا عليه الصلاة والسلام قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ).

    فقوله: ( استقيموا ولن تحصوا ) أي: لن تطيقوا الاستقامة كما يريد الله منكم، إنما ابذلوا ما في وسعكم والله غفور رحيم، ولا يمكن للعبد أن يؤدي حق الرب، ونحن نخطئ في الليل والنهار، ولا يسعنا إلا عفو العزيز الغفار سبحانه وتعالى.

    والمعنى الثاني وهو حق ( استقيموا ولن تحصوا ): لن تستطيعوا إحصاء ثواب الاستقامة إن استقمتم، فلذلك أجر لا يخطر على بال أحد منكم، استقيموا فإن استقمتم لا يعلم أحد مقدار ثوابكم إلا الله.

    وقوله: ( واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ) أي: خير الأعمال التي نتقرب بها إلى ذي العزة والجلال الصلاة، ( ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ).

    وهذا الحديث -الثابت من رواية ثوبان عن نبينا عليه وعلى آله وأصحابه ومواليه الصلاة والسلام- روي عن عدة من الصحابة الكرام أيضاً وهو حديث صحيح -كما قلت- رواه الإمام ابن ماجه والطبراني في معجمه الكبير من رواية أبي أمامة الباهلي ، ورواه ابن ماجه في سننه عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، ورواه الطبراني في معجمه الكبير أيضاً، وفي معجمه الأوسط عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنهم أجمعين، وعن عبد الله بن قرظ ، ولفظ حديث معجم الطبراني الأوسط: ( استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن أفضل أعمالكم الصلاة )، فهذه الصلاة مع أنها فريضة محكمة هي أفضل عمل نتقرب به إلى الله جل وعلا.

    ولذلك أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن هذه الصلاة إذا وقعت على الكيفية المطلوبة، وأقامها الإنسان كما اشترط الله فيها: لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ [النور:37]. إذا أقامها كما أراد الله فهنيئاً له؛ فصلاح الصلاة يستلزم صلاح سائر الأعمال، وفساد الصلاة يترتب عليه فساد سائر الأعمال، وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن هذه الحقيقة، وبين لنا أن أول ما نحاسب عليه يوم القيامة من أعمالنا الصلاة، فهنيئاً لمن صلحت صلاته، وشقاءً لمن فسدت صلاته.

    ثبت في مسند الإمام أحمد ، والحديث رواه أهل السنن الأربعة، ورواه الحاكم في المستدرك، والبيهقي في السنن، وإسناده صحيح، والحديث من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، وروي عن أبي قتادة رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر )، وفي رواية: ( فإن صلحت صلح عمله كله، وإن فسدت فسد عمله كله ).

    والحديث -إخوتي الكرام- كما قلت: روي عن غير أبي هريرة رضي الله عنه، فروي عن أنس أيضاً، وعن تميم الداري ، وروي عن عبد الله بن مسعود وعن عدد من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، وفي بعض روايات عبد الله بن مسعود : ( إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، وإن أول ما يقضى به بين الناس يوم القيامة في الدماء )، وكنت وجهت هذا الحديث سابقاً، فقلت: أول ما يحاسب عليه العباد من حقوق الله الصلاة، وأول ما يحاسبون عليه من حقوق العباد الدماء، فنسأل الله أن يسلمنا من الدماء ومن شرها، وأن يجعلنا ممن يقيمون الصلاة حق الإقامة، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

    1.   

    المفهوم الصحيح لإقامة الصلاة

    وأما إقامة الصلاة -وقد اشترط الله في الصلاة هذا الأمر فقال: لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ [النور:37]- .

    فليس المطلوب من الإنسان أن يصلي، فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4-5]، إنما المطلوب منه أن يقيم الصلاة، وبذلك يزول الإشكال الذي يخطر في البال في كثير من الأحيان كيف تهدد الله المصلين بالويل؛ لأنهم ما أقاموا الصلاة، نعم حصلت منهم الصلاة لكن بدون إقامة لها، فما معنى الإقامة؟

    ارتباط لفظ الإقامة بالصلاة في القرآن الكريم

    شاع في تعبير القرآن عند ذكر الصلاة -واستفاض هذا- أن يذكر الله الصلاة بلفظ الإقامة، والآيات في ذلك كثيرة وفيرة، فأول آية ذكر الله فيها الصلاة في مطلع كتابه في أول سورة البقرة: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:2-5]، إذاً يقيمون الصلاة.

    وهكذا قول الله جل وعلا في سورة الأعراف: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ [الأعراف:170].

    وهكذا أخبرنا الله عن عباده الطيبين أنه إذا مكن لهم في الأرض يقيمون الصلاة، قال جل وعلا في سورة الحج: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41].

    وجاء في آية العنكبوت: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ [العنكبوت:45] ، والآيات في ذلك كثيرة منها قول الله جل وعلا في سورة فاطر: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [فاطر:18].

    وهكذا قول الله في نفس السورة بعد آيات: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ [فاطر:29] .

    وهكذا أخبرنا الله عن هذه الفريضة أن المطلوب فيها إقامتها في هذه الأمة وفي الأمم السابقة، فهذا خليل الرحمن إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم يقول ما حكاه عنه ربنا العظيم في السورة التي سماها باسمه بسورة إبراهيم: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37].

    وقال ما أخبر الله عنه في آخر السورة: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ [إبراهيم:40].

    وهكذا نبي الله موسى وكليمه على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه أوحى الله إليه وإلى أخيه وإلى أمته بإقامة الصلاة، فقال جل وعلا: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [يونس:87].

    وهكذا أخبر الله أنه عندما أوحى إلى كليمه موسى عليه صلوات الله وسلامه أمره أن يقيم الصلاة: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14] .

    وهكذا عندما أوصى العبد الصالح لقمان ولده قال: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17].

    والآيات في ذلك -كما قلت إخوتي الكرام- كثيرة كثيرة تطلب منا أن نقيم الصلاة لا أن نؤدي الصلاة، فماذا يدل هذا اللفظ من دلالة معتبرة ينبغي أن نتصف بها، نسأل الله أن يجعلنا ممن يقيمون الصلاة حق إقامتها.

    معاني لفظ الإقامة في الصلاة

    إخوتي الكرام! لفظ الإقامة من أقام الصلاة إقامةً يحتمل أربعة معان كلها حقة.

    المعنى الأول للفظ الإقامة: توفية الشيء حقه علماً وعملاً.

    إذا وفيت الصلاة حقها علماً نظرياً، فأتقنت أحكامها، وعرفت أركانها وشروطها وسننها ثم طبق هذا عملياً فهذه إقامة الصلاة، وما عدا هذه الكيفية فقد يضرب بها وجهك قبل أن تسلم.

    إذاً لا بد من إقامة الصلاة: توفيتها حقها علماً وعملاً، قال الله جل وعلا في سورة الرحمن: وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا [الرحمن:7-9] وفوُّا هذا الميزان حقه، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [الرحمن:9] ، وهنا لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ [النور:37]، فإذا فرطت في شيء من معرفة أحكام الصلاة فما أقمت الصلاة، وإذا فرطت في شيء من أعمال الصلاة من أركانها وشروطها وواجباتها ومستحباتها فما أقمت الصلاة؛ فالمطلوب منا إقامتها لا تأديتها، يقيمون الصلاة، أي: يوفونها حقها، ولأجل هذا قال العبد الصالح سفيان، واختلف في تعيينه أي السفيانين هل هو الثوري أو ابن عيينة ؟ والأثر رواه عنه الإمام البخاري في تفسيره في تفسير سورة المائدة معلقاً بصيغة الجزم دون أن يبين أي السفيانين هو، وقال بعض العلماء: إنه سفيان الثوري ، قال الحافظ ابن حجر : لم أقف على ذلك موصولاً، وإذا كان هذا القائل هو سفيان الثوري أو سفيان بن عينية فكل منهما من أئمة الهدى والرشاد، يقول سفيان : ما في القرآن آية أشد علي من هذه الآية، قول الله في سورة المائدة: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [المائدة:68] .

    والإقامة هي: توفية الشيء حقه علماً وعملاً، فكأن الله يقول للأمم قبلنا: لا اعتبار لكم ولا وزن ولا تقدير، وأنتم هباء منثور إلا إذا وفيتم ما أنزل الله عليكم حقه علماً وعملاً، وهذه الأمة يقال لها ما قيل للأمم السابقة، وعليه فهم سفيان من هذه الآية المعنى الذي سأذكره: يا أمة محمد -على نبينا صلوات الله وسلامه- لستم على شيء حتى تقيموا القرآن وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، وإقامتهما توفيتهما حقهما علماً وعملاً، وهنا كذلك إقامة الصلاة: توفية الصلاة حقها علماً وعملاً، هذا هو المطلوب توفية الشيء حقه، وهذا أرجح المعاني وأظهرها وأعلاها، والمعاني الثلاثة مقبولة وسأجمع بينهما إن شاء الله.

    وقيل: إن إقامة الصلاة مأخوذ من قامت السوق، إذا نفقت وراج ما فيها، وعليه فينبغي أن تكون هذه الصلاة نافقةً رائجةً مرغوب فيها، ويترتب على هذا المحافظة عليها في أوقاتها، هذا هو الذي يفعله الإنسان في الشيء الذي يرغبه ويحبه ويحرص عليه ويتعلق به، فينبغي أن تكون هذه الصلاة كأنها سلعة تعامل بها لله، وهي سلعة غالية ترغب فيها وتحرص عليها وتتعلق بها كما يتعلق أهل السوق بسلعهم في بيعهم وشرائهم.

    قال الإمام القرطبي عليه رحمة الله: وإلى هذا المعنى أشار عمر رضي الله عنه، وأثر عمر مروي في موطأ الإمام مالك عن نافع مولى عبد الله بن عمر عن عمر ، والأثر إسناده منقطع، فـنافع لم يدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين، لكن الأثر له شواهد مرفوعة متصلة إلى نبينا عليه صلوات الله وسلامه، ولفظ الأثر والحديث في موطأ الإمام مالك ، وهو الحديث الخامس في الموطأ: ( أن عمر كان يكتب إلى عماله فيقول: إن أهم أمركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع )، فقوله: (حفظها) علماً، (وحافظ عليها) عملاً.

    فإذاً المعنى الثاني: إقامة الصلاة من قامت السوق -كما قلت- إذا نفقت وراج ما فيها.

    والمعنى الثالث أيضاً حق ومعتبر أن إقامة الصلاة من قام بالأمر إذا جد فيه، وبذل النشاط فيه، ومنه قامت الحرب إذا اشتد لهيبها والقتال فيها، وعليه يجدون ويجتهدون في إقامة الصلاة على أكمل وجه.

    والمعنى الرابع: أن المراد من إقامة الصلاة تأديتها وفعلها.

    وإذا جمعنا بين الأمور الأربعة فأقول: يؤدون الصلاة، ويجدون في تأديتها برغبة ونشاط وحرص، ثم بعد ذلك يكملون ما تستحقه الصلاة وما تريده علماً وعملاً، فعلاً وخبراً، فيحيطون بهذه الصلاة ويكملونها من كل جهة، وبهذا حصلت هذه المعاني كلها، وليس المقصود من إقامة الصلاة فعلها فقط كما اتفق على ذلك أئمتنا، ولو كان المراد من إقامة الصلاة فعل الصلاة كيفما كان لما عدل الله عن الأقصر إلى الأطول بدون فائدة، لقال: لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وعن الصلاة فلا داعي لقوله إقام الصلاة، ولما قال: يقيمون الصلاة بل لقال: يصلون، فالبليغ لا يترك الكلام الموجز إلى ما هو أطول.

    فيريد إذاً من الإقامة هنا توفية الشيء حقه علماً وعملاً.

    التحذير من عدم القيام بالصلاة على وجه التمام

    إخوتي الكرام! وإذا لم يقم الإنسان بالصلاة على وجه التمام فنفي هذه الحالة يكون قد جذعها ونقصها.

    ثبت في معجم الطبراني الأوسط بسند حسن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة الكرام -يقول أبو هريرة : وأنا حاضر-: لو كان لأحدكم هذه السارية -سارية في المسجد عمود جذع نخلة يقوم عليه المسجد- لكره أن تجدع -أي أن تقطع وأن يحصل فيها نقص-، فكيف بالصلاة التي هي لله وأنتم تجدعونها، أتموا صلاتكم فإن الله لا يقبل إلا تامة ).

    وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن الذي لا يوفي الصلاة حقها علماً وعملاً فقد سرق منها، وهذا أسرق السراق، وأسوأ السراق عند رب الأرض والسماء، فثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح ابن خزيمة ، والحديث رواه الحاكم في المستدرك، والطبراني في معجمه الكبير، والحديث روي من رواية أبي قتادة رضي الله عنه، وروي عن غيره من الصحابة الكرام: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أسوأ الناس سرقةً الذي يسرق من صلاته. قالوا: وكيف يسرق من صلاته يا رسول الله؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها ).

    وروي الحديث أيضاً عن أبي هريرة وعن أبي سعيد الخدري ، وروي عن غيرهم من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين: ( أسوأ الناس سرقةً الذي يسرق من صلاته. قالوا: وكيف يسرق من صلاته يا رسول الله؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها ).

    إخوتي الكرام! لتحصل الصلاة على التمام، وليحصل وصف الإقامة فيها لا بد من أدائها في أوقاتها، والخشوع فيها، وضبط الحركات والسكنات فيها، وألا يحرك الإنسان جوارحه وأعضاءه، وأن يطمئن في أركانها وأفعالها، هذه الأمور ينبغي أن نتدارسها، أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن يقيمون الصلاة ويتلذذون بها، وأن تكون صلاتنا تنهانا عن الفحشاء والمنكر، إنه أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، أقول هذا القول وأستغفر الله.

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    اللهم ارض عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم اغفر لأمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم ارحم أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم انصر أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم أهلك أعداء أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم فرج عن أمة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

    ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار.

    ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أعلنا وما أسررنا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت.

    اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن لمن أحسن إلينا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756202949