إسلام ويب

البدعة - الاجتهاد وموقعه من التشريعللشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • البدعة هي: حدث في الدين يقصد به التقرب إلى الله تعالى، ولا بد من التفريق بين المبتدع السالك طريق الهوى، والمجتهد الذي يبذل ما في وسعه للوصول إلى الحكم، فهذا بفعله قد حصل على المنزلة العالية، كما حصل على الأجر في كل أحواله، واجتهاد المجتهدين هو ما يعرف بالشريعة المؤولة التي ضل فيها أقوامٌ، فطعنوا بالأئمة الأعلام، فتارة يتهمونهم بعدم الفهم للدليل، وأخرى يتهمونهم بعلماء الساسة والسلاطين، وكل ذلك يدل على جهلهم بمعنى السياسة الشرعية، وعدم فهمهم بأن اجتهاد الأئمة ثروة فقهية، ومعجزة لخير البرية صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    تعريف البدعة وعلاقتها بالاجتهاد وأصناف الناس نحوها

    الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.

    الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً، وهو اللطيف الخبير.

    اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].

    وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد: فقد تقدم معنا أن البدعة من أسباب سوء خاتمة الإنسان، وقلت: سنتدارس ما يتعلق بهذا المبحث الجليل ضمن ثلاثة أمور:

    أولها: ما يتعلق بتعريف البدعة.

    وثانيها: في النصوص المحذرة من البدعة.

    وثالثها: في أقسام البدعة.

    ولا زلنا -إخوتي الكرام- في المبحث الأول في تعريف البدعة: فهي الحدث في الإسلام عن طريق الزيادة أو النقصان، مع زعم التقرب بذلك إلى الرحمن، ولا يشهد لذلك الحدث نصوص الشرع الحسان.

    إخوتي الكرام! نحو هذا التعريف السديد للبدعة ضلت فرقتان من الأنام: فرقة أفرطت فوسعت تعريف البدعة وأدخلت فيها ما ليس منها.

    وفرقة فرطت فضيقت مفهوم البدعة فألغت البدعة من الدين كلاً أو بعضاً، والفرقتان على ضلال -كما تقدم معنا-، وناقشنا الفرقة الأولى، وبينا فساد أقوالها، وكيف حكمت بالبدعة والتضليل على ما شهد به الدليل، وقال به إمام جليل.

    وقبل أن ننتقل إلى مدارسة هذيان الفرقة الثانية التي ألغت الابتداع من الدين، قلت: يحسن بنا أن نتدارس بين هاتين الفرقتين الضالتين معالم ثلاثة تنفعنا في الرد على هاتين الفرقتين، وتنفعنا في حياتنا، وهذه المعالم هي:

    المعلم الأول: تشريع الأحكام من خصائص ذي الجلال والإكرام، ولا يجوز لأي إنسان أن يدخل عقله في أمر الحلال والحرام، ومن استحسن فقد شرع من الدين ما لم يأذن به ذو الجلال والإكرام.

    والمعلم الثاني: أركان هداية الإنسان ركنان:

    أولهما: نقل وحي وشرع قويم.

    وثانيهما: عقل سليم. ولن يتعارض العقل الصريح مع النقل الصحيح -كما تقدم معنا-.

    وثالث هذه المعالم: منزلة الاجتهاد في شريعة رب العباد، وهو ما بدأنا في دراسته في الموعظة الماضية، وسأكمله في هذه الموعظة لننتقل في المواعظ الآتية إن شاء الله إلى بيان هذيان الفرقة الثانية التي ألغت البدعة من الدين.

    إخوتي الكرام! تقدم تعريف الاجتهاد، وشروط المجتهدين، وقلت: إن الناس ينقسمون إلى قسمين: إلى مجتهدين ومن عداهم، وبينت أقسام المجتهدين الثلاثة، وواجب الأمة نحو هؤلاء أن يسألوهم، فهم أهل الذكر، كما تقدم معنا هذا موضحاً مفصلاً بأدلته في الموعظة السابقة.

    1.   

    الاجتهاد في الدين وموقعه من تشريع الأحكام

    وفي هذه الموعظة سأتكلم على أمرين اثنين ينبغي أن نعيهما تمام الوعي:

    أولهما: إن المجتهدين ليسوا بمشرعين.

    وثاني الأمرين: إن اجتهادات أئمتنا الفقهاء ثروة فقهية، وهذه الثروة هي من أعظم معجزات نبينا خير البرية عليه صلوات الله وسلامه، وإليكم تفصيل هذين الأمرين إخوتي الكرام:

    أجر المجتهد في حال الخطأ والصواب

    أولهما: إن المجتهدين -كما تقدم معنا حالهم- يؤجرون في جميع أحوالهم، وبينت أن الأظهر من أقوال العلماء: أن المجتهد له أجران، وهو مصيب على الدوام إلا إذا صادم قوله نصاً من نصوص الشرع الحسان، فيلغى القول، ويلتمس له العذر، ويستغفر للقائل، والله أثبت له الأجر؛ لأن اجتهاده ما صدر عن طريق الهوى، ولا صدر عن طريق الاحتكام إلى الجاهلية، فبذل ما في وسعه لمعرفة حكم الله في هذه القضية، فلو قدر أنه صادم اجتهاده نصاً فيطرح الاجتهاد وهو معذور، وخطؤه مغفور، وهو مثاب عند العزيز الغفور سبحانه وتعالى.

    وأما إذا احتمل النص كلامه، وقال فيه فهماً وخالفه إمام آخر، فهذه المفاهيم كلها على حق وصواب، وهدىً ورشاد، ولكل واحد من أصحاب هذه المفاهيم من أئمتنا أجران عند ربنا العظيم، فلا يحكم على الاجتهاد بأنه خاطئ إلا إذا صادم نصاً ولم يبلغ الإمام ذلك النص.

    علاقة الاجتهاد في الأحكام الشرعية بالتشريع

    إخوتي الكرام! إن المجتهدين فيما يفعلون ويستنبطون ويقررون الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية، إنهم في فعلهم هذا ليسوا بمشرعين، ولا نزاع في ذلك عند المسلمين الموحدين، فالتشريع -كما تقدم معنا في أول المعالم الثلاثة- من خصائص الله جل وعلا، فهو رب العالمين سبحانه وتعالى، وهو بخلقه عليم، وهو بهم رءوف رحيم، يعلم ما يصلحهم ويسعدهم في كل حين، ولذلك قرر أئمتنا الكرام ولا نزاع بينهم في ذلك -وهذا الكلام موجود في مجموع الفتاوى في الجزء الثامن والعشرين في صفحة سبع وثمانين فما بعدها للإمام ابن تيمية عليه وعلى أئمتنا رحمات رب البرية- أن من اعتقد أنه يجوز لأحد أن يخرج عن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، وعن اتباعه، وعن طاعته، ولا يلتزم بما نزل عليه من الكتاب، وبما آتاه الله من الحكمة، من اعتقد أنه يجوز لأحد ذلك فلا شك في كفره وخروجه من دين الله جل وعلا، وسواء كان من العلماء أو غيرهم.

    نعم، إن الفقهاء ليسوا بمشرعين، ولذلك قال أئمتنا في كتب الفقه في مبحث القضاء مبينين لهذه الأمة منزلة القضاء وشأنه، وأنه قائم على الاتباع لا على الابتداع والاختراع، يقول الأئمة قاطبةً في كتب الفقه: إن القضاء مظهر لا مثبت، يعني: أن القاضي في قضائه يظهر الحكم الشرعي الذي حكم به ربنا القوي سبحانه وتعالى، ويبين أن حكم الله كذا في هذه القضية، ولا يستطيع القاضي أن يثبت وأن ينفي على حسب رأيه، فإذا فعل ذلك فقد جعل نفسه نداً لربه جل وعلا.

    مكانة المجتهدين وسببها

    وأما ما يحصل لأئمتنا الفقهاء من المنزلة والامتياز في هذه الأمة فإن هذا الامتياز ليس بامتياز الحكم، وإنما هو بامتياز العلم، فالعلم هو الذي جعل لهم ميزة ومنزلة، ومن حقهم أن يستنبطوا، وأن يقرروا الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية؛ لوجود شروط الاجتهاد فيهم، وهذا لا يعني أنهم مشرعون، وإنما امتازوا لأنهم علموا دين الحي القيوم، وورثوا نبينا المعصوم، على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

    أما الحكم فهو خاص لله جل وعلا: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40]، كما تقدم معنا تقرير هذا مفصلاً في المعلم الأول من المعالم الثلاثة.

    إخوتي الكرام! ومع أن الفقهاء ليسوا بمشرعين إلا أن اجتهاداتهم تشريع معتبر في ديننا العظيم، يلزم به المكلفون، فإن قيل: كيف هذا؟ نقول: لا إشكال في ذلك أخي الكريم، واستمع للجمع بين هذين الأمرين أعني: أنهم ليسوا بمشرعين، واجتهاداتهم وفقههم أحكام شرعية تلزم بها البرية.

    نعم، الحكم لله جل وعلا، لا يشرك في حكمه أحداً، والمبلغ عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمستنبط لأحكام الشرع من نصوص الكتاب والسنة أئمتنا وسادتنا فقهاء هذه الأمة المباركة رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين، وعليه فاستنباطهم حكم شرعي لكن ليسوا بمشرعين، فهذا الاستنباط بني كما تقدم معنا على النصوص الثابتة من الكتاب والسنة ولم يبن على رأي أو عرف أو هوى أو مصلحة أو غير ذلك، فالمستنبط يظهر هذا الحكم الذي استنبطه من نصوص الشرع، وليس هو بمثبت له أو مخترعه من عند نفسه.

    توجيه القول: بأن الفقهاء ليسوا مشرعين وأن اجتهادهم تشريع معتبر

    1.   

    المدلولات المختلفة للفظ الشريعة وعلاقة ذلك بالاجتهاد

    وقد تقدم معنا في مواعظ ماضية من فترة طويلة أن لفظ الشريعة مقول على ثلاثة أمور:

    يطلق لفظ الشريعة على الشريعة المنزلة، وهي شريعة مقدسة مطهرة، وهي نصوص الكتاب والسنة، وهذه يحتج بها ولا يحتج لها، فهي المهيمنة على ما سواها.

    ولفظ الشريعة يقال أيضاً: على شريعة مؤولة، وهي اجتهادات أئمتنا البررة، وهذه الاجتهادات أحكام شرعية معتبرة في شريعتنا المطهرة، وهذه الشريعة المؤولة التي دخل فيها الاستنباط والاجتهاد وبذل ما في الوسع للوصول إلى الحكم الشرعي في أمر ما بناءً على الأدلة الشرعية، هذه الشريعة المؤولة يحتج لها ولا يحتج بها، فينبغي أن نثبت صحتها، وأن يبرهن المجتهد على ثبوت هذا الحكم في شريعة الله جل وعلا، وأن مصدره كتاب الله، أو سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، أو إجماع قوي قطعي، أو قياس سديد سوي، فلا بد من أن نبين هذا.

    وهناك شريعة ثالثة باطلة هي شريعة وضعية، وهي الشريعة المبدلة، والآراء الجاهلية والقوانين الوضعية، وهي كما قال أئمتنا الكرام: شريعة جاهلية نجسة قذرة.

    ونحن في المعنى الثاني في الشريعة المؤولة، في اجتهادات أئمتنا الكرام رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.

    1.   

    شبهات ودعاوى حول الفقه الإسلامي وأئمته

    إخوتي الكرام! هذه الشريعة المؤولة -اجتهاد أئمتنا البررة- ضل نحوها فريقان من الأنام، لا سيما في هذا الزمان:

    فريق جعلوا اجتهادات أئمتنا شريعةً ثابتةً، وهذا لا نزاع فيه، إنما زادوا وقالوا: إن الأئمة مشرعون، وأراد هؤلاء بهذا الأمر أن يحولوا ذلك الوصف إليهم ليشرعوا بعد ذلك ما شاءوا، بحجة أن الأمة الإسلامية وجد فيها فقهاء مشرعون، وقالوا ما قالوا في أزمانهم، ونحن نقول أيضاً في أزماننا ما يناسبنا؛ لأن المجتهد له أن يشرع وأن يقرر ما شاء.

    وهذا كلام ضلال، وكلام باطل، فأئمتنا كما قلت: ليس لواحد منهم صفة التشريع، ومن جعل هذه الصفة لمخلوق فقد أشرك بالله وكفر بالله، ومن جعل لمخلوق حق التشريع، ورأى لمخلوق أنه لا يلزم بأن يتقيد باتباع النبي عليه الصلاة والسلام، ورأى أنه يحق لمخلوق أن يخرج عن طاعة النبي عليه الصلاة والسلام فقد كفر بالله، وكفر باتباعه لمحمد رسول الله عليه الصلاة والسلام.

    إذاً قولهم: تشريع معتبر، صحيح وحق وعلى العين والرأس، لكن قولهم: إن الفقهاء مشرعون كلام باطل مردود في دين الحي القيوم، فهم متبعون وليسوا بمشرعين، وليسوا بمبتدعين.

    وفريق ثان: قال: إن أقوال الفقهاء لا تعتبر تشريعاً، ولا تعتبر أحكاماً شرعية، ثم انقسم هؤلاء فيما بينهم على قسمين، كل واحد منهما أضل من الآخر.

    دعوى: أن أقوال الفقهاء آراء رجال ونحن رجال

    فالفريق الأول -وهو ما نسمعه في هذه الأيام من ضجيج النوابت في ملة الإسلام- يقولون: إن أقوال الفقهاء أراء رجال، ونحن رجال كما هم رجال، ولا يلزمنا أن نتقيد بأقوال أئمتنا الأبرار، وترى صعاليك الناس في هذه الأيام ممن لا يتقن قراءة صفحة، ولا يعرف أحكام الطهارة يتبجح في المجالس بأنه أخطأ الإمام مالك ، وما فهم المسألة أبو حنيفة ، والشافعي ما بلغه الحديث، والإمام أحمد ما استوعب القضية، ومن الذي فهم؟! فهم هذا الصعلوك الذي يلحن عندما يقرأ أكثر مما يصيب، وعنده من الضلال والهوى ما الله به عليم، ويقول: هم رجال ونحن رجال، أما هم رجال فلا شك.

    ولا زلنا في تفسير الآية التي أخذت معنا فترةً طويلة كما تقدم معنا فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ [النور:36-37] ، نعم هم رجال، وأما نحن فالإنسان على نفسه بصيرة، والله لو قلنا على أنفسنا: إننا شياطين في صورة آدميين لما بالغنا، هل نعرض أنفسنا ونقارن أنفسنا مع أئمتنا؟ رحم الله امرأ عرف قدره ووقف عنده.

    دعوى أن المذاهب الأربعة بنيت على سياسات الحكام

    وفريق ثان أضل من هؤلاء: قالوا: إن المذاهب الأربعة، والأحكام الشرعية التي قررت فيها بنيت على سياسات الحكام، فـأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين قرروا ما قرروا اتباعاً لسياسات الحكام، والله لو عرض هذا الكلام على الشيطان لقال: إن هذا كذب وبهتان، فكيف يقوله من يتبوءون أعلى المناصب في الإسلام في هذه الأيام، ويقولون ما لا يقبله الشيطان؟

    الرد على الدعاوى حول الفقه الإسلامي وأئمته

    وأنا لا أريد أن أدخل في مناقشة هؤلاء طويلاً، وإنما أريد أن أذكر لهم حال إمامين مباركين، أول الأئمة الأربعة وآخر الأئمة الأربعة رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين، لنرى من الذي يتبع سياسات الحكام ويمشي وراء أهوائهم؟

    هذا الفقيه الأول فقيه الملة أبو حنيفة النعمان بن ثابت، الذي توفي سنة خمسين ومائة للهجرة، عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وحب هذا الإمام الصالح دين نتقرب به إلى رب العالمين، قال أبو معاوية الضرير محمد بن خازم بالخاء المعجمة: وهو من رجال الكتب الستة، توفي سنة خمس وتسعين ومائة للهجرة، وهو أثبت الناس في شيخه الأعمش عليهم جميعاً رحمة الله، قال أبو معاوية الضرير محمد بن خازم : حب أبي حنيفة من السنة، ويقصد بالسنة هنا أي: الدين اللازم الثابت، كما ألف أئمتنا كتب التوحيد وسموها بكتب السنة، يعني: هذا من سنة المسلمين، فمن لم يحب أبا حنيفة ومن بعده من أئمتنا فليس من عباد الله الموحدين المسلمين، حب أبي حنيفة من السنة دين نتقرب به إلى رب العالمين، هذا الإمام المبارك في أول أمره رأى في نومه أنه ينبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فتأثر وعرض الرؤيا على شيخ الإسلام محمد بن سيرين ، وقال: ما تقول في رجل رأى أنه ينبش قبر النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال: أبشر أبشر ستكون فقيه هذه الأمة، وستستنبط الأحكام من أخبار نبينا عليه الصلاة والسلام، وستنبش عن الأخبار لتستنبط منها أحكام العزيز القهار.

    هذا الإمام المبارك عرض عليه أبو جعفر المنصور القضاء فأبى؛ لأنه كان يرى أن القضاء بعد الخلافة الراشدة حصل فيه ما حصل، فدعاه ورعه أن يبتعد عن هذا الأمر، فهدده أبو جعفر ، ورأى أن امتناع أفقه المسلمين في زمانه عن القضاء كأن في ذلك تعريض بحكم أبي جعفر ، فهدده أبو جعفر بالضرب فقال: لا ألي، فحلف أبو جعفر أن يلي أبو حنيفة القضاء، فقال: والله لا ألي القضاء، فقال الربيع : يحلف أمير المؤمنين وتحلف، قال: هو أقدر على الكفارة مني، لا ألي القضاء، ثم اشتط أبو جعفر فضربه مائة سوط في عشرة أيام كل يوم عشرة أسواط على أن يلي أبو حنيفة القضاء، فما ولي القضاء، فهل هذا بنى فقهه على سياسات الحكام؟! وهل هذا بنى فقهه على قول فلان وفلان؟! ألا تتقون الله يا من أسندت إليكم مناصب طويلة عريضة؟! ثم بدأتم تستعملونها في هدم الإسلام، ألا تتقون الله؟ فهل فقه أئمتنا بني على سياسات الحكام؟! سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور:16].

    وأما آخر الأئمة وهو الإمام المبجل الإمام أحمد بن حنبل عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، بعد أن حصل له في المحنة ما حصل، وضرب وأغمي عليه مراراً، وانخلعت كتفه رضي الله عنه وأرضاه، فلما آل الحكم إلى الخليفة المتوكل وأفرج عنه، جاء المتوكل ليزوره في بيته بعد أن أفرج عن هذا الإمام المبارك، نضر الله وجهه ونور قبره، فلما جاء ووصل أمام البيت واستأذن خرج عبد الله ولد الإمام أحمد ، ثم جاء إلى والده وقال: أمير المؤمنين الخليفة على الباب، قال: قل له: إن أمير المؤمنين أعفاني مما أكره، وزيارته إلى بيتي مما أكره، فلينصرف من حيث جاء، فعاد الخليفة المتوكل ولم يتمعر وجهه، إنه خليفة المسلمين، وخليفة المسلمين في ذاك الوقت يقيم الدنيا من أولها لآخرها، لا يوجد انقسامات ودويلات، يأتي لهذا الإمام المبارك ويستأذن فلا يقابله ولا على الباب، يقول: أتيتني مما أكره، وأخرجتني مما وقع علي من الظلم ممن قبلك، وزيارتك إلى بيتي مما أكره، فانصرف راشداً من حيث جئت، فعاد الخليفة المتوكل .

    أمثل هذا الإمام يقرر أحكامه تبعاً لأهواء الحكام؟! سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور:16].

    إخوتي الكرام! دعاوى ضالة في هذه الأيام تنتشر نحو فقه أئمة الإسلام، فواحد يقول: إنهم مشرعون؛ لينتحل هذه الصفة، وليخرف وليخبط في دين الله كما يريد، وواحد يقول: أقوال رجال، فمن حقنا أن نقول كما قال، وواحد يقول: فقه أئمتنا بني على آراء وأهواء الحكام في زمنهم، فنحن إذاً نقول أيضاً كما حصل من أئمة الإسلام.

    إخوتي الكرام! إن هذا كله افتراء وبهتان.

    1.   

    علاقة السياسة بالفقه الإسلامي

    وأما لفظ السياسة الذي يتعلق به من قال: إن مذاهب الفقهاء الأربعة بنيت على السياسة، كما قال هذا في مؤتمر عظيم، رجل من كبار المسئولين، ولكن أخطر ما يكون على هذه الأمة: الإنسان إذا كان منافقاً عليم اللسان، أقول له: لفظ السياسة لا بد أن يعيه هو وغيره؛ لأن هذا اللفظ حصل حوله من التخليط والتضليل ما حصل، فلا بد من وضع الأمر في موضعه الشرعي.

    معنى السياسة والدليل على أنها تابعة للدين

    إخوتي الكرام! لفظ السياسة معناه في لغة العرب: القيام على الشيء بما يصلحه، ورعاية الشيء برفق وحكمة يقال له: سياسة، وعليه جميع أنبياء الله سياسيون مصلحون على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، وقد أشار إلى هذا نبينا عليه الصلاة والسلام، ولا يجوز لأحد أن يدخل قوله في هذا الأمر.

    ثبت في المسند والصحيحين وسنن ابن ماجه ، والحديث رواه الإمام البيهقي في السنن الكبرى، والبغوي في شرح السنة، وهو في أعلى درجات الحديث، فهو في الصحيحين من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه آخر )، أي: كان الأنبياء يتتابعون على رعاية أممهم في الأمم السابقة، ويعاملونهم بالسياسة الحكيمة الرشيدة بتعاليم الشريعة المطهرة، مع علم ورفق وأناة في نفوس الأنبياء الطاهرة، على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

    ( كان بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه آخر، وإنه لا نبي بعدي -على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه- وسيكون عليكم خلفاء فيكثرون، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فوا بيعة الأول فالأول )، ( فوا ) أي: أوفوا بيعة الأول فالأول، ( وأعطوهم الحق الذي جعله الله لهم، وسلوا الله حقكم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم ).

    إذاً: كان الأنبياء المتقدمون على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه يسوسون أممهم، ويتصفون بهذه الصفة، ألا وهي السياسة الحكيمة الرشيدة، والقيام على الشيء بما يصلحه، ورعاية الشيء برفق وحكمة وأناة ورشد، ولكن هذه الأمة لا نبي بعد نبيها على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وقد تنحرف أحياناً سياسة بعض الخلفاء عن المنهج السديد الرشيد القويم، فالتزموا بهذا الهدي من نبينا الكريم عليه صلوات الله وسلامه. ( فوا بيعة الأول فالأول )، وأدوا لهم الحق الذي نحوهم من السمع والطاعة في غير معصية، وبعد ذلك إذا لم يعطوكم حقكم سلوا الله جل وعلا أن يعطيكم حقكم، فالله سيسألهم عما استرعاهم، إذاً: قد يحصل في سياسة الحكام بعد نبينا عليه الصلاة والسلام ما يحصل، أما في سياسة الأنبياء السابقين كلما هلك نبي خلفه نبي، فكانت سياسة شرعية، سياسة راشدة رشيدة، لا خلل فيها ولا ظلم ولا جور ولا زيغ ولا انحراف.

    الرد على من يقول: لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة

    إذاً: السياسة -إخوتي الكرام- هي: القيام على الشيء بما يصلحه، وأما التلبيس الذي حصل والتضليل حول هذا اللفظ في هذه الأيام، من أن السياسة كلها كذب واحتيال، ولا يصلح الحكم إلا بذلك الضلال، فهذا افتراء وبهتان في تعريف السياسة، وقد استغل كثير من الضالين هذا التعريف اللعين للسياسة ألا وهو: كذب واحتيال، ولا يصلح الحكم إلا بذلك الضلال، استغل كثير من العتاة والمجرمين هذا التعريف اللعين فقالوا: لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة، وإذا قال هذا بعض الطواغيت في هذا الحين، فالأعجب والأعجب من ترداد هذه المقولة ممن ينسبون أنفسهم إلى السلف الصالح، فاستمع لقول بعضهم عندما يتحدث عن حزبه وشيعته فيقول: وأحسب أن مقولة ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، كلمة حكيمة في هذا الزمن ينبغي على الناس أن يأخذوا بها، فهل هذه هي السلفية؟ أو هذا شرك برب البرية؟ ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، يعني: السياسة تترك لمن يخبط فيها كما يريد، وبعد ذلك يكفينا أن نعبد الله في المسجد، أهذه هي السياسة الشرعية؟ أهذا هو دين الله؟ تحسب أن هذه المقولة مقولة حكيمة؟ ثم قال بعد ذلك: وإننا لنرى أن العمل السياسي محظور عندنا شرعاً نعم، محظور عندك، وأما شرعاً فهذا افتراء على شرع الله جل وعلا، وهذا قد اشترك في جرم قوله مع عتاة المجرمين، وإن كان ممن ينسبون أنفسهم بعد ذلك إلى السلف الصالح، تشابهت القلوب فتشابهت الأقوال.

    نعم هناك اختلاف في الأشكال، لكن الحقائق ضالة، والمراد من هذه الدعوات المضلة إفساد دين الله جل وعلا.

    إخوتي الكرام! إن هذا الكون من عرشه إلى فرشه ملك لله جل وعلا، وما شارك الله أحد في خلقه، فينبغي أن يكون هذا الكون بكل ما فيه عبداً لله، وأن يعبد هذا الكون طاعةً لله جل وعلا.

    وإذا لم ترد أن تكون عبداً لله عن طريق الاختيار، فأنت عبد له على رغم أنفك عن طريق الاضطرار، فخرجت إلى الدنيا من غير اختيارك، وستخرج منها على غير اختيارك، والله جل وعلا هو العزيز القهار سبحانه وتعالى، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:93-95] .

    إن الحكم إذا لم ينشد، ولم يطلب، ولم يسع في إقامة حكم الله، وتعبيد الخلق لله فإنه لصوصية في هذه الحياة، وأما الادعاء بعد ذلك بأنه لا سياسة في الدين، ولا دين في السياسة، وأن المقولة الباطلة: ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، كلمة حكيمة ينبغي أن يأخذ الناس بها، فهذا هو الضلال، وهذا هو الافتراء.

    إخوتي الكرام! إن لفظ السياسة -كما قلت- حصل حوله من التلبيس ما حصل، وصار هذا اللفظ إذا ذكر في مجلس فكأنك أخرجت ثعباناً وتنيناً ورميته بين الحاضرين، ويقولون: ما دخلنا؟ وما علاقتنا بهذا اللفظ وبما يدل عليه؟ سبحان ربي العظيم! وهل السياسة إلا القيام على الشيء بما يصلحه؟ وهل السياسة إلا رعاية الأشياء؛ رعاية شئون الأمة برفق وحكمة وأناة وروية؟ وهل السياسة إلا الحكم بما أنزل رب البرية؟

    الدليل على إدخال النبي صلى الله عليه وسلم السياسة في أفعاله

    وأنا أقول لمن يسيرون وراء هذا المصطلح الجاهلي فيرددون هذه المقولة الباطلة بأنه لا دخل لنا في السياسة، ولا علاقة لنا في السياسة، ولا يجوز أن نذكر ساس يسوس فهي مسوسة، أقول لهؤلاء: استمعوا إلى حال نبيكم عليه الصلاة والسلام، الذي هو قدوتنا وأسوتنا وهو إمامنا في جميع أحوالنا عليه صلوات الله وسلامه.

    استمع لهذا الأمر الذي وجد فيه كما وجد في الأنبياء السابقين على نبينا وعليهم صلوات الله وسلامه.

    ثبت في المسند، ومعجم الطبراني الكبير، ومسند أبي يعلى ، والحديث رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، ورواه عبد بن حميد في مسنده، والطحاوي في شرح مشكل الآثار، وإسناد الحديث حسن من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم )، أين ضاعت هذه المفاهيم من أذهان المسلمين؟ ( بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده )، نحن أرسلنا الله رحمةً للناس نخرجهم من الظلمات إلى النور، إن أرادوا بالحسنى، وإن أرادوا بالحديد الذي يفصل الله به بيننا وبين العبيد، وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحديد:25].

    إخوتي الكرام! هذا حال نبينا عليه الصلاة والسلام بعث بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده، وأعظم وأفضل رزق يحصله من المغانم، رزقه تحت ظل رمحه، وجعل الذل والصغار على من خالف أمره، ( ومن تشبه بقوم فهو منهم )؛ ولذلك عندنا في الدولة الإسلامية تقوم الجيوش الجرارة وهذه هي الوظيفة الأولى للجيوش في البلاد الإسلامية، تقوم بنشر الدعوة، تقوم بهداية الناس، تخرج هذه الجيوش الجرارة وكلها قراء وأئمة وأتقياء وفقهاء فيذهبون إلى بلاد الكفار الأعداء، يقولون: أرسلنا الله إليكم رحمة، ولا نقاتل أحداً؛ لنستعلي عليه ولنجعله عبداً لنا، إنما أنتم بين ثلاث: إن آمنتم فإخواننا، لكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن أبيتم فنقركم على دينكم على أن تؤدوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، وأن تحكموا في هذه الحياة بحكم الحي القيوم، وإن أبيتم هذا وذاك فأنتم عباد الله، ولا يجوز أن تخرجوا عن طاعته وأمره فيحكم الله بيننا وبينكم بهذا السيف وهو خير الحاكمين.

    وآخر الحديث: ( ومن تشبه بقوم فهو منهم )، رواه الإمام أبو داود في سننه أيضاً من رواية عبد الله بن عمر بسند حسن، كما نص على ذلك الإمام ابن تيمية في كتاب: اقتضاء الصراط المستقيم، ورواه الإمام الطبراني في الأوسط عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهم أجمعين، ورواه الإمام الترمذي والقضاعي في مسنده من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من تشبه بقوم فهو منهم )، والحديث قد نص على تصحيحه الإمام ابن تيمية، وقبله الإمام المنذري ، وبعدهم الإمام ابن حجر عليهم رحمة الله ورضوانه، ليعلم من يقولون: إنه لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة هذا الحديث.

    وهذا هو الحديث الثاني أيضاً: ليعلموا أمنية النبي عليه الصلاة والسلام، وكيف كان يتمنى في حياته هذا الأمر ليغرس في نفوسنا هذه المعاني.

    ثبت في المسند والصحيحين، والحديث في سنن النسائي ، ورواه الإمام مالك في الموطأ، وهو في أعلى درجات الصحة، فهو في الصحيحين من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( والذي نفسي بيده لولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلاف سرية تغزو، ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل في المرة الرابعة ).

    ( لولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلاف سرية تغزو )، أي: إذا خرجت السرية لتقاتل في سبيل الله ما أجلس أنا في المدينة، وبم تشق على أمتك؟ وردت الإجابة في بعض الروايات على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه قال: ( لا أجد ما أحملهم ) أي: ليس عندي سعة لأحملهم على ظهر ليجاهدوا معي، ولا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني، فإذا خرجت في كل سرية يصبح حرج على المسلمين، سيخرجون معي وليس عندي ما أحملهم، ومع ذلك تدرون كم غزوةً شهدها رسول الله عليه الصلاة والسلام في ثمان سنين فقط، وفي السنة الثانية فرض الجهاد، كم غزوةً شهد؟ وكم سرية أرسل؟ مجموع غزوات نبينا عليه الصلاة والسلام وسراياه بلغت اثنتين وثمانين غزوةً وسرية، شهد بنفسه الطيبة المباركة عليه صلوات الله وسلامه ستاً وعشرين غزوة بنفسه الطاهرة الطيبة المباركة، وتمنى أن يستشهد أو يقتل أربع مرات، ويحيا ويقتل ويحيا ويقتل، وأرسل ستاً وخمسين سريةً ما كان فيها عليه صلوات الله وسلامه، اثنتان وثمانون ما بين غزوة وسرية ذهبت في زمن خير البرية عليه صلوات الله وسلامه؛ لنشر الدعوة، ولتبليغ الإسلام، ولإخراج الناس من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ولإخراج الناس من عبادة العبيد إلى توحيد الله المجيد سبحانه وتعالى، إننا لا نقاتل أحداً لنستعلي عليه، وكل قتال غير القتال الإسلامي كله من باب البغي والعلو والاستكبار في الأرض، إلا القتال الإسلامي، نقاتلهم من أجل أن نخرجهم من الظلمات إلى النور، لا للاستعباد، ولا حباً للسيطرة، ولا إشفاءً للغليل، ليتذكر هذان الحديثان الذين يقولون: لا سياسة في الإسلام.

    1.   

    اجتهاد ابن مسعود وموافقة حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لاجتهاده

    إخوتي الكرام! اجتهادات أئمتنا -كما قلت- شريعة معتبرة مؤولة نلتزم بها، ومن قال بها واجتهد بها من أئمتنا فهو على هدى في جميع أحواله، فإن علم المجتهد النص الشرعي واستنبط منه حكماً، فتقدم معنا أنه مصيب على كل حال وله أجران، وإذا علم بالنص الشرعي ثم جمع بينه وبين نصوص شرعية، أو قدم بعض النصوص على بعضها لحجج معتبرة في شريعة الله المطهرة، فهو مصيب وله أجران، سواء وافقه الأئمة الكرام بعد ذلك على اجتهاده أم لا.

    ولو أخبر عن عدم علمه بالنص الشرعي، وعرض عليه قضية، وتعينت عليه الفتيا، فبذل ما في وسعه للوصول إلى حكم ربه في هذه المسألة، بعد أن تريث وتريث وتريث، والفتوى متعينة عليه، فأطلق الحكم الشرعي، فإن أصاب في هذه الحالة مع عدم علمه بالدليل الخاص في هذه القضية فله أجران وهو محمود، وإن أخطأ فله أجر وخطؤه معفو عنه، ويرد اجتهاده؛ لأن هذا الاجتهاد يعتبر ملغى في شريعة الله المطهرة.

    واستمعوا لهذه القضية التي جرت في العصر الأول في زمن الصحابة الكرام بعد موت نبينا عليه وعليهم جميعاً أفضل الصلاة وأزكى السلام.

    ثبت في مسند الإمام أحمد والسنن الأربعة، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في السنن الكبرى، من رواية مسروق وهو من أئمة التابعين الطيبين عن شيخه عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، عندما كان معلماً ومرشداً في الكوفة رضي الله عنه وأرضاه، وقد أرسله عمر مع عمار رضي الله عنهم أجمعين، فجعل عماراً أميراً، وجعل عبد الله بن مسعود معلماً ووزيراً، فجاء أهل الكوفة إلى عبد الله بن مسعود وعرضوا عليه قضيةً خلاصتها: أن امرأةً توفي عنها زوجها، وقد عقد النكاح عليها، ولم يدخل بها، ولم يفرض لها مهراً، فما حكم هذه المرأة: هل يجب لها مهر؟

    أما أنها سترث فلا شك في ذلك؛ لأنها زوجة، والعدة عليها؛ لأنها زوجة معقود عليها، لكن ما الحكم بعد ذلك في مهرها؟ عقد رجلٌ على امرأة عقد النكاح ولم يدخل بها ثم مات، فماذا يجب لهذه المرأة؟ وماذا يجب عليها؟ فأخرهم عبد الله بن مسعود وقال: لا أعلم في ذلك سنةً عن نبينا عليه الصلاة والسلام، لينظر ويتأمل في الأدلة الشرعية، فجاءوا إليه بعد شهر كامل، ثم قالوا له: أفتنا أبا عبد الرحمن ! قال: اسألوا غيري، قالوا: من نسأل وأنت المعلم المرشد في هذا المكان؟ قال: والله ما عرضت علي مسألة بعد أن فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد علي من هذه المسألة، اسألوا غيري، قالوا: من نسأل؟ أنت صاحب النبي عليه الصلاة والسلام، كنت تصاحبه في جميع الأوقات في الحضر والسفر، في المدخل والمخرج، أنت صاحب النبي عليه الصلاة والسلام من نسأل؟ فقال عبد الله بن مسعود : أقول فيها برأيي، وإياك أن تفهم أن معنى: برأيي أي: بهواي، لا، ثم لا، حاشاه من ذلك، إنما يريد أن يقول: أقول فيها باجتهادي الذي يبنى على أدلة عامة دون دليل خاص في هذه المسالة، أقول فيها برأيي، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمني ومن الشيطان، والله ورسوله من ذلك بريئان، لها مهر مثلها لا وكس ولا شطط؛ لا ناقصاً ولا زائداً، وعليها العدة، ولها الميراث.

    فجاء أناس من أشجع وقالوا: أبا عبد الرحمن ! حضرنا النبي عليه الصلاة والسلام فقضى فيها بمثل ما قضيت. فكبر عبد الله بن مسعود وهلل، وما فرح بشيء بعد الإسلام فرحه بأن وافق قضاؤه قضاء النبي عليه الصلاة والسلام، قضى فيها بمثل ما قضيت في بروع بنت واشق زوجة هلال بن أمية عندما توفي زوجها هلال وهو من الصحابة الكرام، وقد عقد عليها، ولم يدخل بها، ولم يسم لها مهراً، فرفعت القضية إلى خير البرية عليه الصلاة والسلام، فقال: (لها مهر مثلها لا وكس ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث)، فقال عبد الله بن مسعود : الله أكبر، لا إله إلا الله، وما فرح بشيء بعد الإسلام كفرحه بموافقة قضائه قضاء النبي عليه الصلاة والسلام.

    إخوتي الكرام! هذا القضاء الذي قضاه عبد الله بن مسعود في البداية هل قاله برأي مجرد؟ بتشهٍ؟ بغرض؟ لا، ثم لا، ووجه القضاء الشرعي في هذه المسألة لو لم يكن هناك نص، أن الموت يلحق بالوطء في تقرير المسمى بلا نزاع بين علمائنا الكرام، فلو وطئ الإنسان امرأةً ثم مات عنها فلها المهر المسمى، ولو سمى لها مهراً ثم مات عنها فلها المهر المسمى، ولو لم يطأها فهذا محل اتفاق، وقضاء عبد الله بن مسعود هو قضاء أبي حنيفة وهو المعتمد عند الحنابلة وأحد القولين عند الإمام الشافعي عليهم جميعاً رحمة الله.

    هذا القضاء مبناه على أن الموت كالوطء في تقرير ووجوب المهر المسمى، وهو كالوطء في وجوب المهر إذا لم يسم، فلو أن إنساناً عقد على امرأة ولم يسم لها مهراً ووطئها عن طريق ما أحل الله وتزوجها ثم مات، ماذا يجب لها؟ يجب لها مهر المثل، هذا بالاتفاق، ولو مات ولم يسم مهراً فلها مهر المثل كذلك، وكما قلنا: إن سمى مهراً فلها المسمى سواء وطئ أو لم يطأ إذا مات، وهنا كذلك إذا لم يسم مهراً ووطئها فلها مهر مثلها، فهذا هو القياس الذي بني على هذا النظير، وجعل هذا النظير كهذا النظير، والإمام الشافعي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في قوله القدير قال: إن صح حديث بروع بنت واشق قلت به. أي: بأن لها مهر مثلها لا وكس ولا شطط.

    قال الإمام أبو عبد الله بن الأخرم وهو محمد بن يعقوب ، توفي سنة أربع وأربعين وثلاثمائة للهجرة، وهو من شيوخ الإمام الحاكم رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين، ونقل عنه الحاكم هذا في مستدركه عند تخريج الحديث الذي ذكرته؛ لأنه رواه الحاكم أيضاً مع أهل السنن الأربعة، قال الإمام الأخرم : لو أدركت الشافعي لقمت على رأسه وقلت: أبا عبد الله ! قد صح حديث بروع بنت واشق فقل به.

    نعم إخوتي الكرام! إن المجتهد إذا اجتهد لا ينقض حكمه إلا إذا لم يبلغه نص، وخالف اجتهاده ذلك النص الذي ما وصله، أما إذا بلغه النص وفهمه فهماً معيناً ولو خالفه بقية المجتهدين، كلهم على هدى وأجرين، فلو بلغه النص وجمع بينه وبين غيره من النصوص أو قدم عليه نصاً أقوى منه كما قلت: فله أجران وهو على هدى، ولا ينقض اجتهاده ولا يرد، ولهذه المسألة شيء من التفصيل فيما يتعلق بحديث بروع ، لا أريد أن أذكر حوله كلاماً أكثر من هذا، فقد كنت فصلت الكلام عليه وعلى مآخذ أئمتنا الأربعة في استنباط الحكم من هذا الحديث والأدلة الشرعية الأخرى في هذه القضية في دروس الحديث الشريف عند شرح سنن الترمذي ، فلا أريد أن أتوسع أكثر من هذا في هذه القضية، فلا أريد أن أذكر القول الثاني الذي قال به الإمام أحمد والشافعي عليهم جميعاً رحمة الله، والقول الثالث الذي قال به الإمام مالك ، وكل هذا ذكرته ووجهته فيما مضى، إنما هنا كما قلت: أذكر توجيه استدلال عبد الله بن مسعود في أول الأمر رضي الله عنه وأرضاه، مع أنه ما بلغه النص فبناه على تعليل شرعي، واجتهاد قوي رحمة الله ورضوانه عليه وعلى أئمتنا أجمعين.

    هذا الأمر الأول إخوتي الكرام لا بد أن نعيه في هذه الأيام.

    إذاً: أئمتنا الفقهاء ليسوا بمشرعين، والتشريع من خصائص رب العالمين.

    1.   

    اجتهاد الأئمة ثروة فقهية ومعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم

    الأمر الثاني: اجتهادات أئمتنا الفقهاء كما قلت: ثروة فقهية، وهي من أكبر معجزات خير البرية عليه صلوات الله وسلامه، إنها معجزة عظيمة، كشف عنها الفقهاء، لو لهجت الأمة بعظيم الثناء لهم ليل نهار لما وفوهم حقهم إجلالاً لنبينا عليه الصلاة والسلام، فهؤلاء كشفوا عن صلاحية رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام في كل زمان ومكان بما استنبطوه من هذه النصوص الشرعية من أحكام.

    إن نصوص الشريعة محددة، وهي تحتمل أحكاماً كثيرةً متعددة، فمن الذي كشف عنها؟ إنهم أئمتنا الفقهاء رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.

    كفاك بالعلم في الأمي معجزةً في الجاهلية والتأديب في اليتم

    إن هذه المعجزة -أعني صلاحية النصوص الشرعية لكل زمان ومكان- لما تحتمله من أحكام شرعية والتي كشف عنها أئمتنا الفقهاء، لا تبلى جدتها، ولا تفنى جدتها، هذه ثروة عظيمة لأئمتنا، فلنقف نحوهم موقفاً يتناسب مع وضعنا ووضعهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

    أنموذج يبين قوة الأئمة في الاستنباط

    انظر لهذا الحديث الشريف الذي استنبط منه أئمتنا ما يشبهه مما دل عليه من أحكام، وانظر لتخبط المجتهدين في هذه الأيام.

    ثبت في المسند، والسنن الأربعة، والحديث في موطأ الإمام مالك، وسنن الدارمي، ورواه ابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، والبيهقي في السنن الكبرى، وإسناد الحديث صحيح كالشمس، من رواية كبشة بنت كعب بن مالك زوجة ابن أبي قتادة رضي الله عنهم أجمعين، قالت: (: دخل علي أبو قتادة -وهو والد زوجها- فسكبت له وضوءاً ليتوضأ، فجاءت هرة فأصغى لها الإناء، وبدأ يسقيها، فقالت كبشة رضي الله عنها: فلما رآني أنظر قال: لعلك تعجبين أنني أسقي الهرة ثم سأتوضأ من فضل سؤرها، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات )، أي: سؤرها ليس بنجس، وإذا شربت من الماء لا تنجسه؛ لأنه يشق الاحتراز منها لعلة الطواف، فتدخل إلى بيتك وتشرب من الماء واللبن وتلعق من الطعام بغير اختيارك، فلو حكم بنجاسة سؤرها تبعاً لنجاسة لحمها لتضرر الناس، وتعطلت كثير من مطاعمهم ومشاربهم، ( إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات )، قال أئمتنا: الطواف علة هذا الحكم؛ وهو طهارة سؤر الهرة، هذه العلة أينما وجدت يثبت هذا الحكم، فلو نظرنا أول المذاهب الأربعة: مذهب أبي حنيفة في الجزء الأول صفحة أربع وعشرين ومائتين في الرد المحتار على الدر المختار، ونظرنا آخر المذاهب أيضاً: في كتاب المغني في الجزء الأول صفحة أربع وأربعين، يقولون: السنور وما يلحق به في الحجم وما دونه مما هو من سواكن البيوت وحشرات الأرض كالفأرة، وهكذا الجرذان الذي يدخل إلى البيوت بغير اختيار الإنسان لو شرب من الماء سؤره طاهر، ولو أكل من الطعام سؤره طاهر، لماذا؟ قالوا: لعلة الطواف، فإذا كانت الهرة سؤرها طاهر لأنها تطوف، فالفأرة تطوف عليه أكثر من الهرة، وتدخل عليك من الجحر ومن تحت الباب، وأما الهرة فلو أغلقت الباب والنوافذ لما دخلت عليك، فإذا كانت الهرة يشق الاحتراز عنها، فالفأرة يتعذر ويستحيل الاحتراز منها، وستدخل عليك بغير اختيارك، فإذا عفي عن سؤر الهرة فيعفى عن سؤر الفأرة من باب أولى.

    وحديث كبشة -إخوتي الكرام- الذي يقرر هذا رواه أيضاً أبو داود، والبيهقي في السنن الكبرى عن أمنا عائشة رضي الله عنها ( أنه دخلت عليها هرة فأكلت من هريسة لها فأكلت أمنا عائشة من مكان سؤرها ثم قالت: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بفضل سؤرها ).

    إذاً ليست بنجسة؛ لأنها ( من الطوافين عليكم والطوافات ).

    نماذج في بيان ضعف القادحين في الأئمة وعدم قدرتهم على الاستنباط

    وانظر لبعض السفهاء في هذه الأيام الذين يقولون: الفقهاء رجال ونحن رجال، لنرى الفارق بين هؤلاء الرجال.

    قيل لمن يدعي الاجتهاد ولا يعجبه أحد من أئمتنا أهل الرشاد، قيل له في مناظرة جرت مع بعض شيوخنا في بلدة حلب: ما تقول في سؤر الفأرة طاهر أو نجس؟ وهات دليلاً على ذلك؟ قال: إن سؤر الفأرة طاهر، قال: ما الدليل؟ ففرك جبينه وعرك نفسه ثم قال: أستغفر الله أخطأت، سؤر الفأرة نجس، قالوا: ما الدليل؟ لا زلنا نطالبك بالدليل، قال: لا أعلم الدليل؟ فقال له الشيخ: أما تستحي؟ سؤر الفأرة لا تعرف حكمه وتذكر حكمين متناقضين في مجلس واحد، والحكمان بناءً على رأيك الذي سيلقيك في نار جهنم، أولاً تقول: طاهر ولا تعرف الدليل، ثم ترجع وتقول: نجس، ولا تعرف الدليل، أراد الشيخ أن يشوش ذهنه ليعرفه قدره، لما قال: طاهر، قال: أوليس لحم الفأرة نجساً؟ قال: نعم، قال: كيف يكون اللحم نجساً والسؤر طاهراً؟ قال: أنا أرجع عن قولي، السؤر نجس، وما الدليل؟ قال: لا أعلم، وهل يجوز أن تفتي في دين الله بلا دليل، وأنت جالس تخبط، وسؤر الفأرة لا تعرف حكمه، ثم تدعي أنك مجتهد وتتطاول على أئمتنا.

    وأنا أقول: والله إذا كنا لا نعرف حكم سؤر الفأرة فلا نؤتمن أيضاً على الفأرة في هذه الأيام، لا علم، ولا أمانة، ولا صدق، ولا ديانة، ثم نتطاول بعد ذلك على أئمتنا.

    واستمع لحال بعض هؤلاء أيضاً في قصة ذكرها الإمام الصالح أبو نعيم في حلية الأولياء في الجزء التاسع صفحة ثمان وسبعين وثلاثمائة في ترجمة العبد الصالح ذي النون المصري أبي الفيض الذي توفي سنة خمس وأربعين ومائتين للهجرة بعد الإمام أحمد بأربع سنين، عليهم جميعاً رحمات رب العالمين، وكان شيخ الديار المصرية، وعندما مات أظلت الطير جنازته رحمة الله ورضوانه عليه.

    هذا العبد الصالح كان عنده بعض الناس ممن يسلكون هذا المسلك في هذه الأيام، يريد أن يصل إلى الحقائق، ويقول للشيخ: أين اسم الله الأعظم؟ وأريد أن أعرف اسم الله الأعظم، ولو خصصتني بشيء من العلوم لأتميز على أصحابي... وهكذا تجده ما بين الحين والحين يطلق اعتراضات وأماني، ففي يوم من الأيام قال له الشيخ: يا ولدي! أريد أن تأخذ هذا الصندوق مني إلى فلان العالم، ففيه هدية، وأريد أن أرسل هذه الهدية له، وكان بينهما نهر ينبغي أن يعبره ليصل إلى العالم في المكان الثاني، فأخذ الصندوق، يقول: عندما حمله هذا الإنسان وجده خفيفاً، وفيه شيء أحياناً يتحرك، فأخذ يفكر: هل يفتح الصندوق -وهذه خيانة- أم لا؟ قال: لأفتحن الصندوق مهما جرى، ففتح الصندوق وفيه فأرة فقفزت وشردت، فرجع إلى الشيخ وقال: الصندوق فتح، والفأرة شردت، قال: يا ولدي! ما اؤتمنت على فأرة، فتريد بعد ذلك الحقائق، وتريد أن أخصك بعلوم، اذهب فالزم السوق، والله ما تؤتمن على فأرة، إي والله لا نؤتمن على فأرة، ومن عاملنا عرف ديانتنا، ولا نعرف حكم سؤر الفأرة، ولا نعرف إلى أي جهة نتوجه عندما نعبد ربنا.

    قال بعض السفهاء من هؤلاء الذين يقولون عن أئمتنا: هم رجال ونحن رجال، وما كلفنا الله باتباع أبي حنيفة ولا مالك ولا الشافعي ولا أحمد ، فقيل له: دع أئمة الإسلام من أولهم لآخرهم، من أين ستأخذ الأحكام؟ قال: من الكتاب والسنة؟ قال: فإذا قرأت قول الله أو قرأ إنسان قول الله: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115] ، وقال: هذه الآية لا تلزم الناس بالتوجه إلى القبلة إذا صلوا لله جل وعلا، فاستدبر القبلة وصلى إلى الجهة المعاكسة، فهل صلاته صحيحة أم باطلة؟ قال: صحيحة. قال: بلغه أن الفقهاء الأربعة قالوا: يشترط لصحة الصلاة استقبال القبلة، قال: ما ألزمه الله باتباع الفقهاء الأربعة، هو فهم من الآية وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة:115] أنه لا يلزمه استقبال القبلة، إذاً: لا يشترط في حقه أن يستقبل القبلة، يصلي إلى غير القبلة وصلاته جائزة قال: سأنشر هذا للناس، قال: أنشره أنا لا أخاف أحداً، قال له: إذا كنت لا تخاف من الله وتقول هذا الكلام فهل ستخاف من عباد الرحمن؟ نعم لا تخاف أحداً، أنت لا تخاف إلا إذا ألقيت في نار جهنم، في ذاك الوقت تعرف نفسك هل تخاف أو لا؟ إنما يستدبر القبلة ويصلي تحت ستار الاجتهاد، وأن أئمتنا رجال ونحن رجال، فلنجتهد كما اجتهدوا!!

    إخوتي الكرام! من لم تكن عنده عدة الاجتهاد واجتهد فهو ضال مضل، لجهنم حطباً، سواء أصاب أو أخطأ.

    ومن كانت عنده عدة الاجتهاد وآلته فهو على هدى، والله جل وعلا سيسدده ويلهمه رشده، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69] .

    اللهم ألهمنا رشدنا، وعافنا واعف عنا يا أرحم الراحمين، أقول هذا القول وأستغفر الله.

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله خير خلق الله أجمعين، اللهم صل على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، وارض اللهم عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    إخوتي الكرام: كان في نيتي أن أذكر بعد أن انتهيت من هذين الأمرين، أعني: أن أئمتنا ليسوا بمشرعين، واجتهاداتهم ثروة فقهية، وهي من أكبر معجزات نبينا خير البرية عليه صلوات الله وسلامه، كان في نيتي أن أذكر بعد هذين الأمرين عشرة معالم كنت ذكرت خمسةً منها في موعظة سابقة، وأضيف إليها خمسةً، فلو ضرب الناس أكباد الإبل لوعيها ولفهمها وللانتباه لها لكان ذلك قليلاً في شأنها.

    وكانت نيتي أن أذكرها بعد الأمر الثاني، وأذكر شيئاً آخر يتعلق بأمر آخر أيضاً: حوله ضجيج في هذه الأيام في الموعظة الثانية، لكن الوقت كما ترون وقدر الله وما شاء فعل، ولعل الموعظة الآتية ستكون أيضاً في إكمال هذا الموضوع، لننتقل بعد ذلك إلى إكمال موضوعنا في بيان الفرقة الثانية التي ألغت البدعة من الدين، فإن أحيانا الله سنتدارس هذا إنه أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين.

    اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار.

    اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن أوقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.

    قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:1-4].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718655

    عدد مرات الحفظ

    754768155