إسلام ويب

البدعة - إهداء القربات البدنية للأمواتللشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أمر الله سبحانه وتعالى أن ينتفع المسلمون بعضهم ببعض؛ فدلهم على بعض العبادات التي يعملونها حال حياتهم لينتفعوا بها في الآخرة، وجاءت نصوص تدل على أن الميت ينتفع بما يصل إليه من القربات من الأحياء، ونصوص أخرى من الكتاب والسنة ظاهرها المخالفة، وقد تبين سبب المخالفة وأنه ليس بينها تعارض، وأن هذه القربات إلى الأموات جائزة.

    1.   

    إهداء القربات إلى الأموات واختلاف أهل العلم في مشروعيته

    الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا،: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف:17].

    الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة وهو اللطيف الخبير، اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].

    وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عميا، وآذاناً صما، وقلوباً غلفا، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    معشر الإخوة الكرام! تقدم معنا أن من أسباب سوء الخاتمة البدعة، وقلت سنتدارس ما يتعلق بالبدعة ضمن ثلاثة مباحث: أولها: في تعريف البدعة، ثانيها: في النصوص المحذرة من البدعة، وثالثها: في أقسام البدعة. ولا زلنا نتدارس المبحث الأول من هذه المباحث في تعريف البدعة وبيان ضلال الضالين نحو هذا التعريف.

    تقدم معنا أن البدعة: هي الحدث في الإسلام، عن طريق الزيادة أو النقصان، مع زعم التقرب بذلك إلى الرحمن، ولا تشهد لذلك الحدث نصوص الشرع الحسان، وهذا التعريف السديد الذي قرره أئمتنا رضوان الله عليهم أجمعين ضل نحوه فريقان من الناس:

    الفريق الأول: وسعوا مفهوم البدعة، ووسعوا دائرة البدعة، فحكموا بالبدعة والتضليل على ما شهد له الدليل، وقال به إمام جليل.

    وفريق آخر: نفوا البدعة والابتداع في الدين وقالوا: كل ما يفعله الإنسان ويريد به التقرب إلى رب العالمين فليس ببدعة وليس بمحدث في الدين، وكل من الفريقين على ضلال، ودين الله جل وعلا بين الغالي والجافي.

    وكنا في مناقشة الفرقة الأولى التي وسعت مفهوم البدعة، وأدخلت فيها ما ليس منها، وضربت لذلك أمثلة، وسأختم الكلام على هذه الفرقة لننتقل إلى مدارسة أحوال الفرقة الثانية.

    تقدم معنا ما يتعلق بإهداء القربات والطاعات والأعمال الصالحات إلى الأموات، وقلت: هذه المسألة لها حالتان: حالة متفق عليها بين أئمتنا الكرام، ولا يخالف فيها إلا أهل البدع والعصيان، وهذا الحالة هي أن الميت ينتفع بعدة أمور بعد موته بإجماع أئمتنا، وهذه الأمور أجملتها في أربعة أمور:

    أولها: ما تسبب الميت في فعله بعد موته، وثانيها: دعاء المؤمنين واستغفارهم له، وثالثها: الحج والعمرة عنه، ورابعها: أداء الدين عنه والصدقة عنه، أي: أن القربات المالية تصل إلى الأموات بعد موتهم باتفاق أئمتنا الكرام، والمخالف في شيء من ذلك هو من أهل البدع والهذيان.

    والحالة الثانية: هي محل اختلاف وافتراق، وهي فيما يتعلق بإهداء ثواب الطاعات إلى الأمومات، وهذا سنتدارسه هنا إن شاء الله.

    إخوتي الكرام! بقية الطاعات عدا ما تقدم هل يجوز أن نهديها إلى الأموات؟ وهل يجوز أن يفعلها الحي عن الميت؟ سواء كان الحي قريباً للميت أو لا، من صلاة وصيام، ومن جهاد وذكر للرحمن، ومن نشر للعلم وقراءة القرآن، ومن أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، والصلاة والسلام على نبينا عليه الصلاة والسلام، لو فعل الإنسان هذه الطاعات، ثم وهب ثواب هذه الطاعات للأموات هل يصح هذا أو لا؟

    كما قلت هذه المسألة اختلف فيها أئمتنا الكرام، وسأبسطها هنا بإذن الله.

    ذهب فقيه هذه الملة الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت ، أول الفقهاء الأربعة والإمام المبجل أحمد بن حنبل آخر الفقهاء الأربعة عليهما رحمة الله ورضوانه، ومعهما جمهور السلف الكرام وجماهير الخلف من أهل الإسلام على أن كل قربة يصح أن يفعلها الحي وأن يهديها إلى الميت، من صلاة وجهاد ونشر علم وتأليف، وقراءة قرآن وذكر لله وصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، كل هذا يجوز أن يفعله الحي وأن يهدي ثوابه إلى الميت، وهو قول وسأوثق هذا عما قريب -إن شاء الله- بالنقول عن أئمتنا وتحديد أجزاء وصفحات ما ورد فيها من تقرير لذلك.

    والمشهور من مذهب الإمام مالك والإمام الشافعي -رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين- أنه لا يصح للحي أن يهدي ثواب هذه الطاعات البدنية إلى الميت، ولو قدر أنه أهدى له شيئاً من ذلك فلا ينتفع الميت بذلك، ولا يصل إليه ثواب ما يهدى إليه من طاعات بدنية غير ما تقدم ذكره من مما اتفق عليه.

    وأكثر أتباع هذين الإمامين -أي: مالك والشافعي- على خلاف قولهما في ذلك، وإذا كان الأمر كذلك فلابد من تحقيق القول في هذه المسألة لننصف أنفسنا وغيرنا، ولنتق الله في أمة -نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه- إذا فعلوا شيئاً من ذلك هل يجوز أن نرميهم بالبدعة؟

    1.   

    أدلة القائلين بجواز إهداء القربات إلى الأموات وذكر بعض الأعمال البدنية في ذلك

    إخوتي الكرام! أما الجمهور فقرروا قولهم بجواز إهداء الثواب بأدلة كثيرة سأجملها في خمسة أدلة، وأما أولئك الذين اعترضوا على هذا القول فاستدلوا بأمور كثيرة سأوجزها أيضاً في خمسة أدلة، وعليه فموضوعنا سيقوم على عشرة أمور، خمسة منها في تقرير هذا القول، وخمسة في رد ما يرد على هذا القول من اعتراض.

    أما الدليل الأول الذي يقرر جواز إهداء القربات البدنية من الحي إلى الميت، ورود ذلك عمن لا ينطق عن الهوى عليه صلوات الله وسلامه، فقد ورد عنه نصوص صريحة تدل على هذا، وهو عليه صلوات الله وسلامه الذي ينبغي أن يحتكم إليه في كل شيء، فلا يتحقق إيمان الإنسان حتى يكون هواه تبعاً لما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام.

    فاستمعوا لنصوص الشرع الصحيحة الحسان الثابتة عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وفيها تقرير جواز إهداء الطاعات بأسرها إلى الأموات.

    الصيام عن الميت

    ثبت في المسند والصحيحين وسنن أبي داود وسنن النسائي الكبرى، والحديث رواه الإمام الطحاوي في شرح مشكل الآثار، ورواه البيهقي في السنن الكبرى والبغوي في شرح السنة، وهو من أعلى الأحاديث درجة وصحة فهو في الصحيحين، ولفظ الحديث: عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من مات وعليه صيام صام عنه وليه ).

    والصيام لم يتقدم له ذكر معنا في الأمور الأربعة التي أجمع واتفق على أنه يصح إهداؤها إلى الأموات، وهو عبادة بدنية محضة، وهل الصيام إلا كف ونية، بل هو أخلص العبادات البدنية لرب البرية، فهو الذي بين العبد وبين الرب ولا يطلع عليه إلا الله، كف للنفس عن المفطرات ونية الصيام تعظيماً لرب الأرض والسماوات، هذا هو الصيام: ( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )، والحديث في الصحيحين.

    وثبت في المسند والصحيحين والسنن الأربع، والحديث أيضاً في شرح مشكل الآثار والسنن الكبرى للإمام البيهقي وشرح السنة للإمام البغوي وهو من أعلى الأحاديث درجةً وصحةً؛ فهو في الصحيحين وفي الكتب الستة -كما سمعتم- من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! إن أمي توفيت وعليها صيام شهر -وفي رواية: صيام شهرين، وفي رواية: عليها نذر، وفي رواية: إن أختي توفيت وقد نذرت أن تصوم شهراً، أفيجزئها أن أصوم عنها؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أرأيت لو كان على أمك -على أختك- دين أكنت تقضيه؟ قالت: نعم يا رسول الله! قال: فدين الله أحق بالقضاء، صومي عن أمك -صومي عن أختك- ).

    وفي بعض روايات الحديث أن السائل رجل سأل عن أمه التي ماتت وعليها صيام، وهذا الاختلاف في الروايات لا يضر كما حقق أئمتنا المحدثون، ولا يعل الحديث بأنه مضطرب؛ لأن الحكم الشرعي في جميع الروايات واحد، ألا وهو كلام النبي عليه الصلاة والسلام أنه يجوز أن نصوم عن الميت، ثم بعد ذلك كون صاحب القصة رجلاً أو امرأة، أماً أو أختاً فهذا لا يضر في الرواية أبدا، إنما كلام النبي عليه الصلاة والسلام هو الحجة، وقد اتفقت الروايات على مضمونة.

    ورواية ثالثة ثبتت في المسند وصحيح مسلم أيضاً، وهي في السنن الأربع إلا سنن النسائي من رواية بريدة رضي الله عنه وأرضاه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت امرأة وقالت: يا رسول الله! أهديت إلى أمي جارية ثم ماتت -أي: ماتت الأم-، فقال عليه الصلاة والسلام: وجب أجرك على الله )، أي: حصل الأجر على هذه الجارية التي قدمتها إلى أمك لتخدمها ( ثم ردها عليك الميراث )، فلما ماتت أمك فأنت سترثينها فستعود هذه الجارية إليك، فلك أجر إهدائها إلى الأم ثم ردها عليك الميراث، (فقالت: يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها صيام شهر، أفأصوم عنها؟ قال: نعم، صومي عن أمك، ثم قالت المرأة: يا رسول الله! إن أمي ماتت ولم تحج، أفأحج عنها؟ قال: نعم، حجي عن أمك؛ دين الله أحق بالوفاء ).

    وهذه الروايات الثلاث: رواية أمنا عائشة رضي الله عنها رواية وعبد الله بن عباس ورواية بريدة رضي الله عنهم أجمعين، كلها صحيحة ثابتة، وهذا تنصيص على عبادة بدنية ينتفع بها الميت ويصل ثوابها إليه من الحي، وما ورد في الرواية الأولى: ( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )، قال أئمتنا شراح السنة: إن المراد من الولي هو الوارث مطلقا، وبعضهم قال: إن المراد منه القرابات، وأما من قال خصوص العصبات فقوله مهجور ما عول عليه أئمتنا رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين، وعلى تفسير الولي بمن فسر به أنه مطلق القريب أو الوارث، فليس المراد من ذلك خصوص الولي كما ذهب إلى ذلك أئمتنا، وهذا هو اختيار الإمام البخاري عليه رحمة الله حيث بوب عليه في كتاب الصيام: باب من مات وعليه صيام، فالمراد من الولي هنا من يصوم عنه، وإنما عبر عنه بالولي باعتبار الغالب؛ لأن الغالب أن القريب يشفق على قريبه أكثر من البعيد فيصوم عنه، ويتصدق عنه، ويصلي عنه ويؤدي الثواب إليه، باعتبار الغالب، وإلا فلو صام غير القريب أجزأ عن الميت إذا كان عليه صيام، ولو صام عنه نافلة وأهدى إليه، وصل الثواب إليه سواء كان ولياً أم لا، والذي يدل على هذا ما ورد في الحديث ( فدين الله أحق بالقضاء )، فسماه ديناً، وقد تقدم معنا أن الأمة أجمعت على أن قضاء الدين عن الميت يصح ممن كان، من قريب أو من غيره، وتقدم معنا الروايات الكثيرة كيف تحمل أبو قتادة الأنصاري رضي الله عنه الدين عن الميت، ثم بعد ذلك صلى خير البريات -عليه صلوات الله وسلامه- عليه، وأبو قتادة ليس بينه وبين هذا الميت قرابة نسبية رحيمية.

    وعليه؛ فالمراد من الولي -كما قلت- القريب، وأطلق هذا باعتبار الغالب، ويصح هذا من غيره كما قرره أئمتنا رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.

    إذاً: هذه طاعة ورد الحديث الصحيح الصريح بجواز فعلها عن الميت، وصحة إهداء الحي لها للميت، والثواب يصل إليه وينتفع به بإذن الله جل وعلا.

    الأضحية عن الميت

    وهنا عبادة وقربة بدنية أخرى وردت بها الأحاديث عن خير البرية عليه صلوات الله وسلامه بأنه يصح فعل الأضحية عن الميت وتجزئ عنه، والأضحية عبادة بدنية محضة، وحذاري حذاري أن تدخلها في العبادات المالية، لا ثم لا؛ لأن القربة في الأضحية هي إراقة الدم، ولا يشترط لذلك ثمن، ولو تصدقت بأضعاف أضعاف ثمن الأضحية لما نلت أجر الأضحية، فالقربة في الأضحية هي إراقة الدم وهذا عمل بدني، وذلك عندما يريق الإنسان دم الحيوان الذي أحل لنا ذبحه والتقرب به إلى الله في يوم الأضحى وأيام التشريق، وقد ورد فعله عن الأموات! بل وعن الأحياء ممن لم يضح من نبينا عليه الصلاة والسلام، فهو فعله وناب به عن غيره كما فعل عن نبينا عليه الصلاة والسلام بعد موته، وإليكم الروايات في ذلك.

    أما نبينا عليه الصلاة والسلام فقد ضحى عن نفسه وأهله في حياته عليه صلوات الله وسلامه، وضحى عمن لم يضح من أمته ممن شهد لله بالتوحيد ولنبينا عليه الصلاة والسلام بالبلاغ، والأحاديث في ذلك صحيحة ثابتة كالشمس وضوحا، منها: ما رواه أحمد في المسند، والبزار في مسنده والطبراني في معجمه الكبير، والبيهقي في السنن الكبرى، من رواية أبي رافع مولى نبينا -على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه-، والحديث رواه أبو داود وابن ماجه والدارمي في سننهم، ورواه البيهقي في السنن الكبرى والطحاوي في شرح مشكل الآثار من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وروي من رواية عدة من الصحابة الكرام، روي عن أبي سعيد الخدري وأبي طلحة الأنصاري وأبي هريرة وعبد الله بن عباس وروي من رواية حذيفة بن أَسيد وهو أبي سريحة بفتح الهمزة: أَسيد وروي من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها فهذه ثمان روايات عن الصحابة الكرام.

    انظروا تفصيل الكلام على الرواية الأخرى في مجمع الزوائد في الجزء الرابع: صفحة واحدة وعشرين إلى ثلاث وعشرين، ولفظ الحديث المتقدم من رواية أبي رافع وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى يوم النحر بكبشين أقرنين أملحين موجوءين سمينين، فسمى على الأول وقال: اللهم منك وإليك، هذا عمن شهد لك بالتوحيد ولي بالبلاغ ممن لم يضح من أمتي، وقال في الثاني: اللهم منك وإليك، هذا عن محمد وآل محمد على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه )، فهنا فعل طاعة بدنية وهي قربة يتقرب بها الإنسان إلى رب البرية عن غيره وصح هذا، وهذا هو فعل النبي عليه الصلاة والسلام.

    وقد ضحى أئمتنا عن نبينا عليه الصلاة والسلام بعد موته، وأول من فعل هذا: علي رضي الله عنه وأرضاه، ثم تتابع بعد ذلك المسلمون على فعل الأضحية عن النبي عليه الصلاة والسلام، أما تضحية علي عن النبي -على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه- فهي ثابتة في سنن أبي داود وفي سنن الترمذي وفي مسند الإمام أحمد، وهي ثابتة في السنن الكبرى للإمام البيهقي من طريقين: من طريق حنش بن المعتمر وعاصم بن شزيب: أن علياً رضي الله عنه وأرضاه: ضحى بكبشين أقرنين أملحين -أيضاً- موجوءين -بالصفة التي ضحى بها نبينا عليه الصلاة والسلام- فلما أضجع الأول قال: باسم الله اللهم منك ولك، لك من محمد عليه الصلاة والسلام، ثم تصدق بلحمه، ثم أضجع الثاني وذبحه بيده المباركة وقال: اللهم منك ولك، لك من علي -رضي الله عنه وأرضاه- ثم أمر بأن يهيأ له قطعة منه فأكلها ثم تصدق بالباقي، والحديث في كلا الروايتين مع وروردهما في سنن الترمذي -كما قلت- وأبي داود والمسند والسنن الكبرى للإمام البيهقي في كلا الروايتين كلام، لكن تعتضد الروايتان ببعضهما، وتشهد لذلك الأدلة الحسان.

    وقد فعل هذا أئمة الإسلام بعد علي رضي الله عنهم أجمعين، فهذا شيخ الإسلام وشيخ المحدثين في بلاد خراسان العبد الصالح أبو العباس السراج كان مجاب الدعوة كما قال أئمتنا، وكانوا يقولون: السراج كالسراج، وهو الإمام محمد بن إسحاق السراج توفي سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة للهجرة، وقد عاش سبعاً وتسعين، وولد سنة مائتين وست عشرة للهجرة، ولما عمّر وامتدت حياته روى عنه أئمتنا الذين ماتوا قبله، فمن تلاميذه البخاري ومسلم بن الحجاج، مع أن البخاري توفي سنة ست وخمسين ومائتين، يعني قبل وفاة السراج بما يزيد على خمسين سنة، والإمام مسلم توفي سنة واحدة وستين ومائتين، وروى عنه إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة وتوفي قبله بسنتين، فشيوخ أهل السنة رووا عن هذا الإمام المبارك أبي العباس السراج .

    هذا الإمام ضحى عن النبي عليه الصلاة والسلام اثنتي عشرة ألف أضحية، وختم عن النبي عليه الصلاة والسلام اثنتي عشرة ألف ختمة، وهذا ثابت في تذكرة الحفاظ للإمام الذهبي وفي سير أعلام النبلاء في ترجمته في الجزء الرابع عشر صفحة ثمان وثمانين وثلاثمائة، وثابت في شذرات الذهب للإمام ابن العماد الحنبلي، وثابت في كتاب طبقات الشافعية الكبرى للإمام السبكي عليهم رحمة الله، يضحي عن نبينا عليه الصلاة والسلام اثنتي عشرة ألف أضحية، ويختم عنه ويهب الثواب إليه اثنتي عشرة ألف ختمة، وما كان يقتصر على إيقاع التضحية في يوم الأضحى؛ لأن الأضحية عن الميت تصح في كل وقت، ولا يتعين لها وقت معلوم كما هو الحال في الأضحية عن الحي، فكان هذا العبد الصالح أبو العباس السراج كل أسبوع يجمع طلبة الحديث ويضحي عن نبينا عليه الصلاة والسلام، ثم يطعمهم من لحم هذه الأضحية إكراماً للنبي عليه الصلاة والسلام وإجلالاً له، وتقرباً إليه وإلى الله جل وعلا، وهذا -كما قلت- من شيوخ أئمتنا الكبار، وإذا كان أبو العباس السراج شيخاً للبخاري ومسلم ولإمام الأئمة الإمام ابن خزيمة فكم ستكون منزلته ودرجته رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين؟ وقد فعل هذا ولم يفعل رضي الله عنه منكراً بل إن عمله شرعي لا غبار عليه.

    إخوتي الكرام! قد يقول قائل: علام كان أبو العباس السراج يهدي إلى النبي عليه الصلاة والسلام؟ وهل هذا إلا تحصيل حاصل؟ فسواء أهدينا إلى النبي عليه الصلاة والسلام أو لم نهدِ، كل طاعة ستكتب في صحيفة نبينا عليه الصلاة والسلام إذا قمنا بها؛ لأنه هو الذي دلنا عليها فعلام نهدي إليه؟ الإهداء إليه فقط إعلان لمحبة النبي عليه الصلاة والسلام، نعم، سواء أهديت أو لم تهدِ، وسواء قرأت ختمة وأهديتها للنبي عليه الصلاة والسلام أو لم تهدها سيكتب مثل ثوابها له، لكن عندما تعلن بإهدائها تعلن بحبك لنبيك عليه الصلاة والسلام، وبتعلق قلبك به وليس في ذلك أي محذور، فإذا كان الأجر سيكتب لنبينا المبرور عليه الصلاة والسلام فإذا صرحت بالإهداء إليه فما الذي يضر؟ وهذا ما فعله أئمتنا، -وكما قلت- فعله علي رضي الله عنه، وفعله أبو العباس السراج وفعله أئمة المسلمون الكرام تقرباً إلى نبينا عليه الصلاة والسلام.

    إخوتي الكرام! هذه طاعة بدنية أخرى وردت النصوص الصحيحة الصريحة في إهدائها وأن الميت ينتفع بها، فنبينا عليه الصلاة والسلام فعلها عن غيره وفعلت بعد النبي عليه صلوات الله وسلامه.

    المشي إلى المسجد والاعتكاف فيه بنية إيصال الأجر للميت

    سأختم الكلام بهذه القربة، أعني المشي إلى المساجد، لاسيما إذا كان المشي إلى بيت الله الحرام، إلى الكعبة المشرفة، كما أن الصلاة في المسجد طاعة، والاعتكاف في المسجد طاعة، وكل هذا وردت به الآثار أنه يصح للحي أن يقوم به وأن يهديه إلى الميت، فاستمعوا للأدلة:

    ثبت في معجم الطبراني الكبير، والأثر في الجزء الرابع صفحة تسعين ومائة من مجمع الزوائد، وقال: رجاله ثقات عن مروان بن قيس وهو من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، قال: (كنت مع النبي عليه الصلاة والسلام جالساً فجاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: يا رسول الله! إن أبي نذر أن ينحر بدنة وأن يمشي إلى بيت الله الحرام)، أي: أن يمشي على رجليه لأداء النسك، ونذر أن ينحر بدنة، (فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أوفِ بنذر أبيك، انحر بدنة عنه وامشِ إلى بيت الله الحرام )، أي: قم بهذه الطاعة نيابة عنه.

    إخوتي الكرام! المشي إلى بيت الله إلى الكعبة المشرفة طاعة بدنية، والنبي عليه الصلاة والسلام أمره بأن يمشي عن أبيه، وأخبره أن هذا الأجر يكتب لأبيه ويجزئ عنه بفضل الله ورحمته.

    وثبت في معجم الطبراني الكبير أيضاً عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، والأثر رجاله ثقات أثبات، وليس فيه من تكلم فيه إلا مولى عبد الله بن عباس ، وهو محمد بن كريب، وفي حفظه شيء من الضعف، وقد أخرج حديثه الإمام ابن ماجه فقط من أهل الكتب الستة، وعن سنان بن عبد الله الجهني عن عمة سنان بن عبد الله الجهني (أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: إن أمي نذرت أن تمشي إلى بيت الله -أي: إلى المسجد الحرام إلى الكعبة المشرفة- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أتستطيعين أن تمشي إلى بيت الله، فقالت: نعم، قال: فامشي عنها، فقالت: أيجزئها يا رسول الله! أي: أهذا يصل إليها، فقال لها نبينا عليه الصلاة والسلام كما قال لمن قبلها: لو كان على أمك دين ثم قضيته أما كان صاحب الدين يقضى؟ قالت: بلى، قال: فالله أحق بأن يقضى)، وهذه عبادة بدنية قام بها الإنسان عن ميت ووصل أجرها إليه.

    وورد أيضاً المشي إلى غير بيت الله الحرام والصلاة فيه، أن من فعل هذا عن ميت يجزئه إذا وهب الثواب إليه.

    ثبت في أصح الكتب بعد كتاب الله في صحيح الإمام البخاري عليه رحمة الله في كتاب الأيمان والنذور، وبوب باباً فقال: باب من مات وعليه نذر، ثم روى عن شيخ الإسلام في الصحابة الكرام العابد الزاهد القانت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فقال الإمام البخاري راوياً عنه معلقاً بصيغة الجزم: وأمر عبد الله بن عمر امرأة جعلت أمها عليها أن تصلي في قباء فقال عبد الله بن عمر لهذه البنت: صلي عنها، أي: جعلت على نفسها أن تصلي في قباء، ثم ماتت قبل أن تقوم بهذا النذر وقبل أن يحصل منها الوفاء، فجاءت هذه البنت تسأل عبد الله بن عمر: أمي نذرت وجعلت على نفسها أن تصلي في قباء، وفي الحديث: (ومن تطهر في بيته ثم ذهب وصلى في قباء ركعتين كان كمن أدى عمرة)، فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لهذه المرأة: اذهبي إلى قباء وصلي عنها.

    قال الإمام البخاري: وقال ابن عباس نحوه، أي: أفتى ابن عباس امرأة أيضاً عندما أخبرته أن أمها نذرت أن تصلي في قباء، فقال لها: صلي عن أمك، وأثر عبد الله بن عباس وصله الإمام مالك في الموطأ في أول كتاب الأيمان والنذور، ووصله الإمام ابن أبي شيبة في مصنفه بإسناد صحيح، أن امرأة أخبرته أن أمها نذرت أن تصلي في قباء فقال: أوفي بنذر أمك وصلي عنها، وثبت في مصنف ابن أبي شيبة: أن رجلاً قال لـعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: إن أمي نذرت أن تعتكف عشرة أيام ثم ماتت قبل أن تعتكف، قال: اعتكف عن أمك.

    إذاً: اعتكاف، وصلاة، ومشي إلى الصلاة، وأضحية، وصيام، وكلها -كما رأيتم- عبادات بدنية ورد الترخيص بإهدائها من الحي إلى الميت، وإقرار ذلك وجوازه عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وعن صحبه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، وإذا ضممت إلى هذه العبادات البدنية عبادة الحج وهي عبادة بدنية محضة، والمال ليس من أركان الحج، ومن استطاع أن يحج دون مال فعليه أن يحج ولا يشترط المال لأداء الحج، إنما من لم يتيسر له أن يمشي على رجليه لبعد المكان فلابد من زاد وراحلة، أما لو قدر أن الإنسان قريب من بيت الله الحرام، أو كان من أهل مكة فعليه أن يحج على رجليه ولا يدفع ريالاً واحداً تكلفة للحج، فالحج في الأصل عبادة بدنية، وتقدم معنا؟ جواز فعلها عن الميت، وإذا حججت فإنك تلبي وتصلي عنه، وتذكر الله عنه، وترجم عنه، وكل هذه عبادات بدنية ينتفع بها الميت.

    وشريعة الله جل وعلا -كما سيأتينا- تقتضي أن نسوي بين المتماثلات، وعليه وردت النصوص عن خير البريات عليه صلوات الله وسلامه: بأن العبادات البدنية يصح أن يفعلها الحي عن الميت والثواب يصل إليه، وهذا قول فقيه هذه الأمة المباركة، وقول الإمام أحمد وهو قول جمهور السلف، وجماهير المسلمين من الخلف رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين، هذا هو دليلهم الأول.

    سد المسلمين بعضهم مسد بعض في بعض الواجبات

    الدليل الثاني على صحة إهداء الطاعات والقربات البدنية إلى الأموات من المسلمين: أن الله جل وعلا جعل المسلمين يسد بعضهم مسد بعض، وينفع بعضهم بعضاً فيما أوجبه الله عليهم، فالواجبات تنقسم إلى قسمين: إلى واجب عيني المطلوب فعله من كل أحد، وإلى واجب كفائي: المطلوب فعله دون أن يتعين هذا على كل أحد، فالواجب الكفائي كالصلاة على الميت مثلا، وكحفظ القرآن وعلم الفرائض وكالتخصص في علم الحديث.. فهذه كلها فروض كفائية، إذا لم يوجد من يتقنها في الأمة فقد عصت رب البرية بأكملها، ولو وجد من يسد الثغرة فقد ارتفع الإثم عنها، لو أن واحداً قام بهذه العبادة لأجزأ وسقط الإثم عن الباقين؛ فالله جعل هذه الأمة المباركة ينفع بعضها بعضاً، فالفروض الكفائية إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين، وعليه بما أنه ينفع بعضنا بعضا وينوب بعضنا عن بعض، فلا مانع أن يهدي بعضنا إلى بعض طاعات بدنية، يفعلها بعد موت الإنسان وتهدى إليه.

    ثبوت النفع في الأمور الدنيوية وترتب الأجر على ذلك

    الدليل الثالث: أمرنا الله بنفع بعضنا في هذه الحياة في الأمور الدنيوية، ورتب عظيم الأجر على من يسقي إنساناً شربة ماء أو مذقة لبن، أو يطعمه كسرة خبز، أو يعطيه تمرة، ودين الله جل وعلا تعظيم لله وشفقة وإحسان إلى عباد الله، فإذا رغبنا وندبنا وأمرنا ربنا أن ينفع بعضنا بعضاً بشربة ماء أو بمذقة لبن، أو بتمرة أو بكسرة خبز، ألا يرضى لنا ربنا إذا قرأنا سورة يس، أو سورة الفاتحة، أو سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، أو سورة البقرة، أو ختمةً كاملة وأهدينا ثوابها إلى موتى المسلمين؟ بلى وعزة ربنا إنه يرضى ذلك من باب أولى، فإذا كان الله يرضى لك ويريد منك أن تهدي وأن تساعد أخاك بشربة ماء، فكيف إذا انقطع عمل هذا الإنسان وصار إلى عالم البرزخ؟ وهو بحاجة من معروف وإحسان، إن الله جل وعلا يحب منك أن تهدي إليه من باب أولى.

    إهداء القربات إلى الأموات مقتضى القياس

    الدليل الرابع: جواز إهداء الطاعات البدنية إلى الأموات هو مقتضى القياس السديد الذي دل عليه شرع الله المجيد، ووجه ذلك -كما قرر أئمتنا رحمة ورضوانه عليهم أجمعين-: أن العمل يستحق العامل الثواب عليه فضلاً من الله وكرماً وجوداً وإحساناً، وإذا استحق العامل هذا الثواب فقد ملكه، فيجوز أن يهديه إلى غيره، كما أن الرزق الذي يحصل عليه الإنسان -بفضل الله وكرمه- في هذه الحياة له أن يملكه، وإذا أراد أن يهديه إلى غيره صح ذلك منه، كذلك الثواب الذي تحصله من طاعتك إذا أردت أن تهديه إلى غيرك صح ذلك منك، وهذا هو الذي قرره الإمام ابن القيم وغيره عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه.

    الرؤيا التي يراها الإنسان من انتفاع الأموات بالقربات

    وآخر الأدلة وهو مما يستأنس به: ما ذكره الإمام ابن القيم عليه رحمة الله في كتاب الروح، وقد بحث هذه المسألة في سبع وعشرين صفحة، كلها في تقرير جواز إهداء القربات البدنية إلى الأموات، من صفحة مائة وسبع عشرة إلى صفحة مائة وثلاث وأربعين، كلها يقرر فيها هذا الأمر وأنه يصح للإنسان أن يهدي القربات البدنية بأسرها إلى الأموات، يقول عليه رحمة الله: ومما يستأنس لهذا ما رأيناه، وحكي لنا، ونقل عمن قبلنا من رؤى المنام التي يراها الإنسان بأن الأموات ينتفعون بما يهدى إليهم من طاعات بدنية من قبل الأحياء.

    ولا يقولن قائل: أنتم تستدلون برؤى المنام، وتثبتون بذلك الأحكام، لا ثم لا، لقد أثبتنا الأحكام بما دل عليه حديث نبينا عليه الصلاة والسلام، وقرره أئمتنا الكرام، ثم قلنا: بالرؤى يستأنس كما قال أئمتنا رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.

    قال الإمام ابن القيم : ولو أردت أن أذكر ما بلغني وحكي لي ممن هو في عصري أو ممن تقدمنا لطال الأمر جدا، وقد أخبرني بعض الإخوة الكرام عن بعض الصالحين أنه قرأ مرة ختمة من القرآن كاملة، ثم ألهمه الله أن يهدي ثوابها لأهل بدر ولأمه وأن يجعل الثلث الباقي له، فقال: اللهم اكتب ثواب هذه الختمة لشهداء بدر، ولأمي الثلث الثاني، والثلث الثالث لي، وقد ختم تلك الختمة بعد العشاء، فأمه ظهرت في الرؤيا وهي ميتة على أخته -أي: ابنتها- وقالت: أمر أخيك عجيب، يهدي لنا ثلث سور القرآن، كل سورة أهدي لي منها ثلثها، ألا أكمل سورةً وأهداها إليّ كاملة، أي: أهدي لي من سورة البقرة ثلثها، ومن سورة آل عمران ثلثها، ومن سورة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، ثلثها، فقط ثلث من كل سورة، فقالت لأخيها: ماذا عملت؟ قال: وماذا حصل؟ قالت: رأيت أمنا هذه الليلة فقالت لي: أمر أخيك عجيب؛ أهدى إلي ثلث كل سورة من القرآن، هلا أكمل السور، فبكى هذا العبد الصالح وقال: أهديت الثلث لشهداء بدر، والثلث لأمي، وطلبت أن يكون الثلث الباقي لي، قالت: وهذا ما حصل في نفس تلك الليلة ورأته أمي، وأخبرتك به.

    يقول الإمام ابن القيم عليه رحمة الله: هذه الرؤى تواطأت وتكاثرت، ورؤى المسلمين إذا اجتمعت على شيء لا تجتمع على ضلالة، كما أنهم في هذه الحياة لا يجتمعون على ضلالة.

    هذه خمسة أمور إخوتي الكرام! تدل على هذا الأمر:

    أولها: ورود هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحيحة الصريحة.

    ثانيها: أن بعضنا ينوب عن بعض في فعل الخيرات كما هو في فروض الكفاية.

    ثالثها: أن الله شرع لنا أن ينفع بعضنا بعضاً في هذه الحياة في مذقة لبن وشربة ماء وكسرة خبز، فمن باب أولى أنه يحب لنا أن ينفع بعضنا بعضاً بعد الممات.

    ورابعها: هذا الذي يقتضيه القياس السديد الذي دل عليه شرع الله المجيد.

    وخامسها: تواطؤ الرؤى والمنامات في ذلك.

    هذا ما قرره أئمتنا الكرام، وكما قلت كثير من أئمة الشافعية والمالكية خالفوا إمامي المذهبين رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين، فالإمام النووي في شرح صحيح مسلم في الجزء الثامن صفحة خمس وعشرين عند الحديث المتقدم: ( من مات وعليه صيام صام عنه وليه )، قال: هذا قول للشافعي في القديم، وعلق القول به على صحة الحديث فقال: إن ثبت حديث أمنا عائشة رضي الله عنها فأنا أقول به؛ فيجوز الصيام عن الميت، وأما في الجديد فرجع عن ذلك وقال: لا يصوم أحد عن أحد، ولا يصلي أحد عن أحد، قال الإمام النووي: والذي نختاره ونعتقده أنه يصح للولي أن يصوم عن الميت، وأن الميت يبرأ بذلك ولا يحتاج إلى أن يطعم عنه، ثم قال: وهذا الذي نختاره ونعتقده هو الذي عليه محققو أصحابنا -أي: من الشافعية- الجامعون بين الفقه والحديث؛ لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة، وهكذا فعل الإمام البيهقي وهو الذي يقال له الشافعي الصغير رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين، وما من شافعي بعد الإمام الشافعي إلا وللشافعي عليه منة في رقبته إلا البيهقي فله منة على الإمام الشافعي؛ لأنه بذل حياته في تقرير أقواله، وكتابه السنن الكبرى في تحقيق مذهب الإمام الشافعي على طريقة الحديث والأثر رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.

    يقول الإمام البيهقي في الجزء الرابع صفحة سبع وخمسين ومائتين: وهذا القول -أي: جواز الصيام عن الميت- هو الصحيح الثابت، ولو أن الإمام الشافعي بلغته هذه الأحاديث ووصلته طرقها لما خالفها إن شاء الله، يقول: لو وقف على هذه الروايات وأنها ثابتة عن خير البريات عليه الصلاة والسلام لما خالفها ولقال: بأنه يجوز للحي أن يصوم عن الميت.

    هذه -كما قلت- إخوتي الكرام! خمسة أدلة تقرر هذا.

    1.   

    أدلة القائلين بعدم جواز إهداء القربات إلى الأموات والرد عليها

    وأما الاعتراضات التي وجهت لهذا القول فأولها: قالوا: وردت في النصوص الشرعية ما يدل على أن الإنسان لا ينتفع إلا بعمله، يقول الله جل وعلا في كتابه في سورة النجم: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:36-39]، ليس له إلا سعيه، قالوا: ونظير هذه الآية آيات كثيرة، يقول الله جل وعلا في آخر سورة البقرة: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:286]، فلها سعيها وكسبها، فكيف إذاً ستنال كسب غيرها؟ ويقول الله جل وعلا في سورة الجاثية: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ * وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:27-28]، وأنت إذا أهدي إليك هذا ليس من عملك، فكيف ستنال أجره وستحصله؟

    وقرروا هذا بحديث نبينا عليه الصلاة والسلام -وقد تقدم معنا- في المسند وصحيح مسلم ورواه الإمام البخاري في الأدب المفرد وهو في السنن الأربع إلا سنن الإمام ابن ماجه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا مات ابن آدم انقطع علمه إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له ).

    إذاً: ليس للإنسان إلا ما سعى، وإذا مات الإنسان انقطع عمله إلا ما تسبب في فعله بعد موته، فكيف تقولون: يجوز أن نصلي عن الميت، ويجوز أن نهدي ثواب الصيام والذكر والجهاد ونشر العلم له، كيف هذا؟

    والجواب: هذه الأدلة ثابتة على العين والرأس، وحقها الصدق؛ لكن الشأن في فهمها، وقد وجهها أئمتنا بتوجيهين معتبرين -وقيل بعد ذلك ستة أقوال في توجيهها- لا تقبل إلا بتكلف وتمحل، فلنذكر الجوابين المعتبرين:

    الجواب الأول: قرره شيخ المسلمين في زمنه الإمام أبو الوفاء علي بن عقيل الذي توفي سنة ثلاث عشرة وخمسمائة للهجرة، صاحب أكبر كتاب في الأمة الإسلامية بلغ خمسمائة مجلد، أي: كتاب الفنون للإمام ابن عقيل ، قرأ الإمام ابن الجوزي منه ما يزيد على مائتي مجلدة، وهو كتاب واحد.

    يقول: لا تعارض بين ما تقدم وبين هذه الآيات، كيف لا تعارض وهنا: وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى [النجم:39]، ( وإذا مات ابن آدم أنقطع علمه إلا من ثلاث ) ثم أنت تقول: يجوز أن نصلي عن الميت، وأن نذكر الله عنه، وأن نصلي على النبي عليه الصلاة والسلام عنه، كيف هذا؟ قال: افهموا معنى الآية والحديث، ما معناهما؟ يقول هذا العبد الصالح: الإنسان بإيمانه بربه ودخوله في الإسلام تسبب في إهداء تلك الأعمال الصالحة إليه، فهي حصلت له بكسبه وبسعيه وبسببه، ولو أن الإنسان لم يؤمن بالله ولم يؤمن بنبينا رسول الله عليه الصلاة والسلام، لا يجوز أن ندعو له، ولا نستغفر ولا نصلي عليه، ولا أن نهدي له طاعة من الطاعات التي أجمعنا على أنه ينتفع الميت بإهدائها إليه، فالإنسان إذا آمن تسبب في حصول الإهداء إليه، وعليه فهذا من كسبه وسعيه، كما أن ولدك هذا من كسبك، فأنت عندما تؤمن عقدت بينك وبين كل موحد على وجه الأرض، ممن يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام، عقدت معه عقد الإخاء، والله يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، ونبينا عليه صلوات الله وسلامه يقول كما في صحيح البخاري وغيره: ( من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته )، فالمؤمنون إخوة يشد بعضهم أزر بعض، وهم ( كالجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى )، وعليه إذا أهدي من الحي للميت طاعة تسبب الميت في حصول هذه الطاعة بسبب إيمانه، فلولا إيمانه لما صح الإهداء إليه ولما انتفع بما يهدى إليه، ووالله إن هذا الجواب من أعلى الأجوبة وأفضلها وهو الذي مال إليه شيخ الإسلام الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه الروح.

    وهذا يدل عليه -إخوتي الكرام- أدلة كثيرة سأقتصر على دليلين في صحة هذا التوجيه وعلوه ورفعة قدره.

    ثبت في مسند الإمام أحمد من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، والحديث جميع رجاله ثقات أثبات، وليس فيهم من حوله كلام إلا الحجاج بن أرطأة الذي توفي سنة خمس وأربعين ومائة للهجرة وحديثه في كتاب الأدب المفرد وصحيح مسلم والسنن الأربع وهو صدوق لكنه يخطئ أحياناً ويدلس، ولذلك قال الإمام الهيثمي: رجاله ثقات وفيه الحجاج بن أرطأة يعني: اعلم حاله فهو ثقة صدوق لكنه يخطئ ويدلس، ولفظ الحديث من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (أن عمراً -أي: عمرو بن العاص رضي الله عنه- سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن العاص -هو والد عمرو- نذر أن ينحر مائة بدنة، وإن هشاماً -هو هشام بن العاص أخو عمرو بن العاص -نحر خمسين وبقي نصيب عمرو -أي: أن ينحر عن والده خمسين بدنة فهل يجزئه أن أنحر عنه؟ ... )، والعاص بن وائل والد عمرو بن العاص كان له قدر عند قومه في الجاهلية ولم يوفق للإسلام، وكان من المستهزئين بنبينا عليه الصلاة والسلام، وقد توفي قبل الهجرة بقرابة ثلاث سنين، وفيه نزل قول رب العالمين: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا [مريم:78-80]، كما ثبت ذلك في المسند والصحيحين وسنن الترمذي وتفسير الطبري وغير ذلك من كتب الآثار، من رواية خباب بن الأرت رضي الله عنه وأرضاه، فقال نبينا عليه الصلاة والسلام لـعمرو بن العاص : ( أما لو أقر والدك بالتوحيد فصمت عنه وتصدقت عنه نفعه ذلك )، لكنه ليس من الموحدين، فلا ينفعه أن تتصدق عنه وأن تنحر عنه ولا أن تصوم عنه، وعليه فالإنسان بكسبه الإيمان حصل ثواب ما يهدى إليه من أهل الإسلام فهو المتسبب، وهذا من كسبه وسعيه عندما يهدى إليه.

    ومعنى هذا الحديث ثابت في المسند وصحيح مسلم أيضاً من رواية أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: (يا رسول الله! إن عبد الله بن جدعان كان يطعم المساكين، ويصل الرحم هل ينفعه ذلك عند الله؟ فقال: لا ينفعه يا عائشة؛ إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين )، وعبد الله بن جدعان هلك في الجاهلية وقد أدركه نبينا عليه الصلاة والسلام قبل النبوة، وكان نبينا عليه الصلاة والسلام يأكل من جفنته التي لها شأن، وترجم له الإمام ابن كثير في البداية والنهاية في الجزء الثاني صفحة سبع عشرة ومائتين.

    وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755982998