إسلام ويب

مباحث النبوة - أزواج المؤمنين في جنات النعيمللشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد دلت أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم على أن للمؤمن في الجنة اثنتين من الزوجات، كما دلت أحاديث صحيحة أخرى على أن له أكثر من ذلك، ففي بعضها سبعون، وفي بعضها اثنتان وسبعون، وفي بعضها عدد غير معين من الحور العين، والجمع بينها أن العدد القليل يدخل ويندرج تحت العدد الكبير، وعليه فإن المؤمن في الجنة يتزوج بإذن الله من الحور العين أكثر من زوجتين وما شاء، وفضل الله تعالى عظيم.

    1.   

    تقرير أن للمؤمنين في الجنة أكثر من زوجتين والجواب عما ورد في ذلك

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك الله وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    إخوتي الكرام! لا زلنا نتدارس وصف القاصرات في أحاديث نبينا خير البريات عليه صلوات الله وسلامه، وتقدم معنا أن هذا المبحث ساقنا إليه بحث استطرادي ضمن مباحث النبوة ألا وهو: مقاصد النكاح، وتقدم معنا من مقاصد النكاح وحكمه: تذكر لذة الآخرة، وعند هذه الحكمة بحثت في أحوال الحوريات الحسان اللائي يكن في غرف الجنان، فذكرت ما وصفهن به ربنا الرحمن في آيات القرآن، وما ورد من وصفهن في أحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام، وباختصار: أعطاهن الله الكمال في خلقهن وفي أخلاقهن، فهن مطهرات من كل آفة حسية أو معنوية.

    إخوتي الكرام! وعند المبحث ذلك تقدم معنا أن الله يمن على عباده الموحدين في جنات النعيم بعدد كثير عظيم من الحور العين، وما ورد من أن الواحد يتزوج زوجتين أو سبعين أو ثنتين وسبعين، أو أن له خيمة من لؤلؤة مجوفة له فيها أهلون يطوف عليهن فلا يرى بعضهم بعضاً، أو أن السحابة تمر -كما تقدم معنا في كلام كثير بن مرة - فتقول: يا أهل الجنة! ماذا تريدون أن أمطركم؟ فما طلبوا شيئاً إلا أمطرتهم إياه، قال كثير بن مرة : لئن أشهدني الله ذلك لأقولن لها: أمطري علينا جواري مزينات.

    وخلاصة ما قلته حول هذه الأحاديث الثابتة عن نبينا عليه الصلاة والسلام: أن ذكر القليل لا يتنافى مع الكثير، والله يغدق على عباده ما شاءوا وما أرادوا وما أحبوا لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35]، وقلت: هذا الجواب هو فيما يظهر أسد الأجوبة في هذا الموطن وفيما يشبهه عندما يرد معنا أعداد مختلفة، فالجمع بينها: أنه لا تعارض بينها؛ لدخول القليل في الكثير والعلم عند ربنا الجليل، وهذا الجواب هو الذي يميل إليه شيخ الإسلام الإمام النووي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في مثل هذه المباحث.

    أجوبة الحافظ ابن حجر في عدد أزواج المؤمن في الجنة والتعليق عليها

    هذا الجواب أولى من جواب الحافظ ابن حجر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في الفتح في الجزء السادس صفحة خمس وعشرين وثلاثمائة، فقد ذهب إلى أن الزوجتين يكونان للموحد المؤمن في الجنة من أهل الدنيا، فله زوجتان من أهل الدنيا، وما زاد على ذلك فهو من الحوريات، فله اثنتان وسبعون، وله أكثر من ذلك ما يشاء، هذا كله من الحوريات الحسان، لكن لكل واحد زوجتان من نساء الدنيا، هذا ما ذهب إليه الحافظ ابن حجر في الفتح، ثم ذكر جوابين آخرين فقال: يمكن أن تكون التثنية من باب المشاكلة، كقول الله: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، ثم قال: ذَوَاتَا أَفْنَانٍ [الرحمن:48]، فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ [الرحمن:50]، فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ [الرحمن:66]، يقول: فهذه التثنية مثل التثنية المذكورة أن لكل واحد منهم زوجتين، فلا يراد منها حقيقة العدد، إنما يراد المشاكلة بين هذه الصيغة وصيغة (عينان تجريان)، وهناك عيون كثيرة جارية، فجاءت التثنية من باب المشاكلة اللفظية، ثم استبعد الحافظ ابن حجر هذا.

    ثم ذكر جوابا ثالثاً فقال: يمكن أن تكون التثنية للتكثير والتعظيم، ولا يراد منها حقيقة العدد الذي هو بين الواحد والثلاثة، قال: وهذا كقولهم: لبيك وسعديك، لا يريد أنني أطيعك مرة بعد مرة فقط، إنما لبيك وسعديك صيغة تثنية، والمراد طاعة لك بعد طاعة إلى ما لا نهاية له، وإسعاداً لك بعد إسعاد إلى ما لا نهاية له، من ألب بالمكان إذا أقام على ما يريد من الأمر، فأنا طوع أمرك أنفذ ما تريد، وأنا عبد لك، فأتى بصيغة التثنية ولا يراد من ذلك العدد المحصور بين الواحد والثلاثة، أي: طاعة لك بعد طاعة فقط، إنما طاعة بعد طاعة إلى ما لا نهاية له، فأنا مطيع لك في جميع أحوالي، فالصيغة صيغة تثنية، والمراد منها التكثير والتعظيم.

    هذه ثلاثة أجوبة ذكرها الحافظ ابن حجر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا واختار الأول، وهو أن ما ورد من زوجتين فهذا من نساء أهل الدنيا، والزائد على ذلك من الحور العين. وسيأتينا -فيما يظهر لي والعلم عند ربي- أن هذا القول فيه بعد مع جلالة من قال به؛ لأنه ورد أن لكل واحد زوجتين من نساء أهل الدنيا، وورد أن له زوجتين من الحور العين، وورد ما هو أكثر من ذلك، فلابد إذن من أن نجمع؛ لأن هذا العدد لا مفهوم له، فلا يعني أنه إذا حصل له هذا العدد لا يحصل له ما زاد عليه.

    أجوبة الإمام ابن القيم في عدد أزواج المؤمن في الجنة والتعليق عليها

    وأما الإمام ابن القيم عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في كتابه حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح في صفحة ستين ومائة، فقد أبعد كثيراً في القول، فذكر ثلاثة احتمالات لهذه الأعداد المختلفة في عدد النساء اللائي يتزوج بهن المؤمن في جنات النعيم، فقال -وهو الاحتمال الأول الذي أورده-: الأحاديث الصحيحة صرحت بأن لكل منهم زوجتين، وليس في الصحيح زيادة على ذلك، هذا الوارد في الصحيحين، مع أنه سيأتينا في آخر كلامه، وتقدم معنا خبر الصحيحين وهو آخر ما ذكرته، حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه، وهو في المسند وسنن الترمذي وغير ذلك، بأن للمؤمن لخيمة مجوفة من لؤلؤة، للمؤمن فيها أهلون يطوف عليهم فلا يرى بعضهم بعضاً، إذن ليس زوجتان فقط، بل أهلون، فهو يقول: الأحاديث الصحيحة مصرحة بأن لكل منهم زوجتين، ثم قال: وأما الأحاديث الزائدة، فإن كانت محفوظة نجمع بينها وبين ما في الصحيح فنقول: ما في الصحيح لكل منهم زوجتان، أي: الزوجة التي هي زوجة حقيقة، سواء من نساء أهل الدنيا أو من الحوريات، وما زاد على ذلك فهو من السراري والإماء والخدم، ولسن من الزوجات، هذا الجواب الأول، يقول: إن ثبت هذا في الأحاديث وصحت فإن الزيادة على الزوجتين على الثنتين هن من باب السراري والإماء، والخدم، لا أنهن زوجات.

    ثم أورد احتمالاً ثانياً أبعد من الأول بكثير فقال: لعل النبي عليه الصلاة والسلام ذكر أن كل واحد له زوجتين، ويعطى قوة سبعين أو أكثر في الجماع، مع أنه ليس له إلا زوجتان، فتصرف بعض الرواة في حديث نبينا خير البريات عليه الصلاة والسلام، فبدل من أن يقول: إنه يعطى قوة سبعين، قال: يزوج بسبعين، فقال: هذا لعله من باب تصرف الرواة.

    والاحتمال الثالث الذي ذكره، قال: لعل هذا التفاوت فيما بينهم إن ثبتت به الأحاديث -وهي ثابتة- لتفاوتهم في الدرجات، فبعضهم له زوجتان، وبعضهم له اثنتان وسبعون، وبعضهم له سبعون، وبعضهم أربعة آلاف، على حسب درجته ومنزلته عند ربه جل وعلا، وختم الكلام بقوله: ولا ريب أن للمؤمن أكثر من اثنتين؛ لحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه.

    وأنا أقول معلقاً على كلام شيخ الإسلام الإمام ابن القيم عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: أما الاحتمال الأول الذي ذكره وهو أن الأحاديث الصحيحة صرحت بأن لكل واحد زوجتين، والزائد إن ثبت فنقول: هذا من باب السريات والإماء، فأقول: لا فارق بين أحاديث الصحيحين وغيرهما إذا صحت، فإذا صحت فالكل كلام النبي عليه الصلاة والسلام، ينبغي أن نأخذ به، والأحاديث الصحيحة، سواء كانت في المسند أو في الصحيحين، إذا صحت فلا داعي بعد ذلك وأن نقول: ما في الصحيحين يحمل على أنه زوجة، وما في المسند يحمل على أنه سرية، وقد تقدم معنا أحاديث صحيحة متعددة بأن للمؤمن أكثر من زوجتين في جنات النعيم، فهذا الاحتمال بعيد.

    وأبعد منه فتح باب توهيم الرواة وتخطئتهم بدون بينة ولا برهان لا يعول عليه، ولا يجوز أن نفتح هذا الباب قطعاً، ولا يحل لنا أن نقول به، يقول: لعل الرواة أخطئوا وتصرفوا، فبدلاً من أن يقولوا: يعطى الواحد قوة سبعين، قالوا: يعطى سبعين زوجة، وهذا كما قلت: فتح باب تخطئة الرواة بدون مبرر، وهو خطأ.

    الأمر الثالث: قوله: يتفاوتون في المنزلة، نعم هم يتفاوتون، وإذا تفاوتوا فلكل واحد على حسب منزلته، لكن لا يعني أن بعضهم قد يقتصر على زوجتين فقط. فالجواب المعتمد أن نقول: ذكر القليل لا يتنافى مع الكثير، ثم هم يتفاوتون في ذلك، فلا مانع أن يكون عند بعضهم عشرة آلاف، وعند بعضهم ألف، لكن ليس واحد منهم له زوجتان فقط، فإن الأحاديث صرحت بأن أدنى أهل الجنة له اثنتان وسبعون كما تقدم معنا، ويوجد أعداد زائدة، فلا يجوز إذن أن نقول: إنهم يتفاوتون، فبعضهم له زوجتان، وبعضهم له اثنتان وسبعون، وبعضهم مائة، وبعضهم ألف، بل نقول: ذكر القليل لا يتنافى مع الكثير، ثم هم يتفاوتون حتماً فيما بينهم على حسب رغبتهم، فإذا كان الواحد منهم كـكثير بن مرة رضي الله عنه وأرضاه يريد أن تمطره السحاب جواري مزينات، يعطيه الله من الحوريات ما شاء، وإذا كان الواحد منهم لا يريد عدداً كثيراً على حسب ما يطلب، فلهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد.

    1.   

    ذكر حديث ابن مسعود الطويل: (يجمع الله الأولين والآخرين...) الدال على أن للمؤمن في الجنة أكثر من زوجتين

    إخوتي الكرام! والأحاديث الصريحة الصحيحة في ذلك كثيرة، سيأتينا بعد حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه الذي ذكرته في آخر الموعظة المتقدمة سأذكر بعده عدة أحاديث منها ما يتعلق بالشهداء، أن الواحد منهم له أكثر من زوجتين، وهذا ثابت عن نبينا سيد الكونين على نبينا وآله وصحبه صلواته الله وسلامه.

    إخوتي الكرام! الحديث -كما قلت- في مجمع الزوائد، انظروه في الجزء العاشر في صفحة أربعين وثلاثمائة إلى صفحة ثلاث وأربعين وثلاثمائة، أورده في قرابة الصفحتين ونصف، وهو حديث صحيح ثابت عن نبينا صلى الله عليه وسلم، رواه الإمام الطبراني من طرق في معجمه الكبير، ورجال أحدها رجال الصحيح كما قال الإمام الهيثمي في المجمع في الجزء العاشر صفحة ثلاث وأربعين وثلاثمائة، قال: غير أبي خالد الدالاني وهو ثقة، فجميع رجال الإسناد رجال الصحيح غير أبي خالد الدالاني وهو ثقة، وسأتينا ذكر أبي خالد الدالاني وترجمته إن شاء الله، وقد نص شيخ الإسلام الإمام الهيثمي على تصحيح هذا الحديث في مكانين: في هذا المكان الذي ذكرته لكم في باب جامع في البعث، وذكره بعد ذلك في باب أدنى أهل الجنة منزلة، وآخر من يدخلها، ثم قال: تقدم حديث صحيح طويل رواه ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه ذكرته في جامع في البعث، أي: في باب فيما يتعلق بأمر البعث.

    تخريج حديث ابن مسعود الطويل في ما لأهل الجنة من أزواج

    والحديث صححه شيخ الإسلام الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الرابع صفحة ست وخمسمائة، وعزاه إلى الطبراني في معجمه الكبير كما هنا، وإلى ابن أبي الدنيا وإلى مستدرك الحاكم ، ثم قال الإمام المنذري : هكذا روي عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً، يعني إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، وأحد طرق الطبراني رجاله رجال الصحيح إسناده صحيح، واللفظ له، أي: اللفظ الذي ساقه في الترغيب والترهيب، ثم نقل عن الحاكم في المستدرك قال: وقال الحاكم : صحيح الإسناد، قال الإمام المنذري : وهو في صحيح مسلم بنحوه باختصار عنه يعني هذا الحديث مروي في صحيح مسلم مختصراً، ورواية الحاكم انظروها في المستدرك في الجزء الرابع صفحة تسع وثمانين وخمسمائة إلى اثنتين وتسعين وخمسمائة، قال الإمام الحاكم في المستدرك: رواة هذا الحديث ثقات عن آخرهم، غير أنهما -يعني: الشيخين البخاري ومسلماً - لم يخرجا لـأبي خالد وهو -أبو خالد الدالاني - يقول: لم يخرجا لـأبي خالد لما ذكرته من انحرافه عن السنة في ذكر الصحابة. كان أحياناً عندما يذكرهم لا يقف موقف أهل السنة الكرام نحو الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، قال الإمام الحاكم : فأما الأئمة المتقدمون فكلهم شهدوا له بالصدق والإتقان، والحديث صحيح.

    والحديث رواه مع من تقدم ذكرهم: الطبراني في معجمه الكبير، وابن أبي الدنيا والحاكم ورواه إسحاق بن راهويه في مسنده كما في المطالب العالية لشيخ الإسلام الحافظ ابن حجر في الجزء الرابع صفحة سبع وستين وثلاثمائة، وقال: هذا إسناد صحيح متصل رجاله ثقات، هذا كلام الحافظ ابن حجر في المطالب العالية، والحديث أيضاً رواه الإمام عبد الله ولد سيدنا الإمام أحمد بن حنبل عليهم جميعاً رحمة الله في كتاب السنة في الجزء الثاني صفحة عشرين وخمسمائة، ورواه الإمام الدارقطني في كتاب الرؤية، انظروه في خمس صفحات برواياته وأسانيده من صفحة خمس وثلاثين ومائة إلى صفحة أربعين ومائة، ورواه الإمام الآجري في كتاب الشريعة صفحة أربع وستين ومائتين، ورواه البيهقي في البعث والنشور صفحة اثنتين وخمسين ومائتين، ورواه عبد بن حميد في مسنده وابن مردويه في تفسيره كما في الدر المنثور في الجزء السادس صفحة ست وخمسين ومائتين.

    إذن: رواه جم غفير: الطبراني في المعجم الكبير، ابن أبي الدنيا ، الحاكم في المستدرك، إسحاق بن راهويه ، عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب السنة، الدارقطني في الرؤية، البيهقي في البعث والنشور، الآجري في الشريعة عبد بن حميد في مسنده، ابن مردويه في تفسيره، وصححه جم غفير من أئمتنا: الحاكم والمنذري والهيثمي وشيخ الإسلام الحافظ ابن حجر عليهم جميعاً رحمة الله جل وعلا.

    ولفظ الحديث -إخوتي الكرام- سأذكره بطوله، وإن كان محل الشاهد منه مختصراً، لكن لا أريد أن أذكر هذا المختصر الذي هو محل الشاهد من هذا الحديث فقط، وهذا الحديث يذكرنا بما سنقابله عند بعثنا وحشرنا ونشرنا، ونسأل الله أن يحسن ختامنا، وأن يجعل خير أيامنا يوم لقاه إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، ونحن -إخوتي الكرام- لا زلنا فيما يشوق إلى الجنة وفيما يكون فيها، وهذا كذلك يبين لنا ما لله من فضل على عباده المؤمنين، وما يظهر منه من عدل بين الخلق أجمعين عندما يجمعهم ليوم تشخص فيه الأبصار.

    وأئمتنا كانت الآخرة دائماً نصب أعينهم، وتقدم معنا عن عدد من الصالحين عندما اشتاقوا فرأوا الحور العين، وكان الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين قلوبهم متعلقة بالآخرة، الواحد منهم إذا نام يرى نفسه في عرصات الموقف، وفي غرف الجنان، وهذا كان يقع بكثرة للرجال وللنساء في العصر الأول؛ لطهارة القلوب، يتذكرون الدار التي سيئولون إليها وهي الدار الثالثة التي سيمكثون فيها ولا ينتقلون.

    والإنسان يسكن في ثلاثة دور: في دار الدنيا وهي عاجلة زائلة، وفي دار البرزخ وهي حاجز بين الدنيا والآخرة، ثم في دار البقاء، إما في جنة وإما في نار، نسأل الله حسن الخاتمة.

    فهذا الحديث يذكرنا بما يستقبلنا، فلعلنا بعد ذلك نشغل أنفسنا بما سنئول إليه فيصبح حالنا كحال سلفنا رضوان الله عليهم أجمعين.

    يروي الإمام أحمد في كتاب المسند عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وانظروه إن شئتم في المسند في الجزء الثالث صفحة خمس وثلاثين ومائة، وصفحة سبع وخمسين ومائتين، أورده في مكانين من مسند سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، والأثر رواه الإمام النسائي في السنن الكبرى وأبو يعلى في مسنده، ورواه البيهقي في دلائل النبوة، إن شئتم انظروه في الدلائل في الجزء السابع صفحة سبع وعشرين، ورواه الإمام الضياء المقدسي في كتاب صفة الجنة وصحح إسناده، كما رواه عبد بن حميد في مسنده، وقد حكم على إسناده شيخ الإسلام الإمام الهيثمي في المجمع في الجزء السابع صفحة خمس وسبعين ومائة فقال: رجال إسناده رجال الصحيح.

    والحديث كما قلت يحرك هممنا لأن نشتاق إلى ما عند ربنا، يقول أنس رضي الله عنه وأرضاه: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبه الرؤيا الصالحة، فكان أحياناً يقول لأصحابه عليه صلوات الله وسلامه ورضي الله عن الصحابة أجمعين: أيكم رأى رؤيا فإذا عرض أحدهم عليه رؤياه سأل عنه، فإن قالوا: لا بأس به -يعني هو من الصالحين- كان رسولنا صلى الله عليه وسلم أعجب لرؤياه -يعني يعجب بها فيطمئن إليها- فمرة سأل أصحابه الكرام رضوان الله عليهم أجمعين عن رؤيا رأوها، فقالت امرأة رضي الله عنها وأرضاها: رأت كأنها دخلت الجنة، فسمعت وجبة فيها فارتجت منها الجنة بأسرها )، دخلت الجنة فسمعت فيها وجبة، أي: صيحة ووقعة مثل الصاعقة، حتى ارتجت الجنة، تقول: ( فجيء باثني عشر رجلاً من أصحابك يا رسول الله عليه الصلاة والسلام، وسمتهم واحداً واحداً -وكان هؤلاء قد أرسلهم نبينا عليه الصلاة والسلام ضمن بعث للغزو في سبيل الله- عليهم ثياب طلس، -أي: بالية قديمة- تشخب أوداجهم -تسيل الدماء منهم- فأمر بهم فأخذوا إلى نهر في الجنة فغسلوا فيه فخرجوا أضوأ من القمر ليلة البدر، ووضعت لهم كراسٍ من ذهب فجلسوا عليها، وقدمت لهم صحفة إناء وقصعة فيها بسرة -والبسر هو التمر قبل أن يصبح رطباً- فأكلوا منها من فاكهة ما أرادوا )، أي فاكهة يريدون من هذه البسرة يأكلون، تفاحاً موزاً برتقالاً، تتشكل البسرة بأشكال الفاكهة ويأكلون، قالت: ( وأكلت معهم يا رسول الله عليه الصلاة والسلام ).

    والحديث -كما قلت- إسناده صحيح في هذه الكتب، فنبينا عليه الصلاة والسلام علم تأويل الرؤيا ولم يتكلم عليه صلوات الله وسلامه، فلم يلبث إلا قليلاً حتى جاء البشير، فأخبر نبينا عليه الصلاة والسلام بحصول النصر واستشهاد اثني عشر رجلاً من أصحابه سماهم كما سمتهم المرأة، فدعا النبي عليه الصلاة والسلام المرأة وقال: ( قصي على هذا رؤياك، فقصت عليه الرؤيا، وذكرت من قتل، وكيف تشخب أوداجهم، فقال هذا الرجل الذي كان في البعث: والله! يا رسول الله عليه الصلاة والسلام ما أخطأت مما وقع شيئاً )، كأنها ترى الأمر رؤيا عيان، ونقلوا بعد ذلك إلى غرف الجنان.

    حقيقة المنام ينبغي أن يكون مطية لنا إلى ذي الجلال والإكرام، إذا نام الإنسان يجتمع مع أحباب الله، مع أولياء الله، مع الملائكة الكرام، مع الأنبياء العظام على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، مع الحور الحسان كما هو حال السلف الكرام عندما ينام ينتقل من روضة إلى روضة، كان في خير في الدنيا فانتقل إلى خير في عالم الرؤى، فهذا الحديث كما قلت الطويل يذكرنا بما يقع أمامنا وهو حديث صحيح فاستمعوا إليه إخوتي الكرام:

    دلالة حديث ابن مسعود الطويل على أن للمؤمن في الجنة أكثر من زوجتين

    عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم، قياماً أربعين سنة، شاخصة أبصارهم)، بارزة لا تتحرك ولا تغمض، (ينتظرون فصل القضاء)، يقفون في عرصات الموقف وساحة الحساب عند البعث أربعين سنة، أبصارهم بارزة شاخصة، ينتظرون فصل القضاء، قال: (وينزل الله عز وجل في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي، ثم ينادي مناد: أيها الناس! ألا ترضون من ربكم الذي خلقكم ورزقكم، وأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً أن يولي كل إنسان منكم ما كان يعبد في الدنيا؟! أليس ذلك عدلاً من ربكم؟ ) من كان يعبد شيئاً يتولاه ويكون معه في الآخرة، خلقكم ورزقكم وأمركم بعبادته، أنتم وما اخترتم، فمن عبد شيئاً في الدنيا يكون معه في الآخرة، أليس هذا عدلاً من الله؟ بلى، (فيقول أهل الموقف: بلى)، هذا عدل من الله، كل واحد يكون مع من عبده، ويتولاه في الآخرة كما عبده في الدنيا، (قالوا: بلى، قال: فينطلق كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ويتولون في الدنيا )، أي: ما كانوا يعتقدون في الدنيا ويعبدون وينطلقون إليه، (قال: فينطلقون، ويمثل لهم أشباه ما كانوا يعبدون، فمنهم من ينطلق إلى الشمس، ومنهم من ينطلق إلى القمر والأوثان من الحجارة وأشباه ما كانوا يعبدون، قال: ويمثل لمن كان يعبد عيسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام شيطان عيسى) حتماً لم يكونوا معه، هو ما أمرهم بعبادته، وهو بريء منهم ومن عبادتهم، (ويمثل لمن كان يعبد عزيراً شيطان عزير، ويبقى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، قال: فيتمثل الرب تبارك وتعالى فيأتيهم فيقول: ما لكم لا تنطلقون كانطلاق)، وفي رواية: (كما انطلق الناس؟) لم َلم تذهبوا كما ذهب الناس إلى أوثان وشمس وقمر وشيطان في صورة شيطان في صورة عيسى وشيطان عزير على نبينا وعلى أنبياء الله ورسله جميعاً صلوات الله وسلامه؟ (لم َلم تنطلقون كانطلاق الناس؟ فيقولون: إن لنا لإلهاً ما رأيناه)، نحن عبدنا إلهاً ما رأيناه لنذهب إليه ولنكون معه، (فيقول: هل تعرفونه إن رأيتموه؟ فيقولون: إن بيننا وبينه علامة إذا رأيناها عرفناه، قال: فيقول: ما هي؟ فيقول المسلمون الموحدون: يكشف عن ساقه، قال: فعند ذلك يكشف عن ساقه فيخر كل من كان نظره)، أي: نظر إليه ورآه وشاهده، من رأى الله عندما كشف عن ساقه سجد له، ( ويبقى قوم ظهورهم كصياصي البقر )، يعني كقرون البقر صلبة لا تستطيع أن تنحني ولا تميل ولا تسجد، ( يريدون السجود فلا يستطيعون، وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون )، وهذا كما قال الله جل وعلا في آخر سورة ن والقلم: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ [القلم:42-43].

    دلالة حديث ابن مسعود على إثبات صفة الساق لله تعالى

    وقد ثبت في مسند الإمام أحمد والصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه عن نبينا صلى الله عليه وسلم: (أن الله يكشف عن ساقه يوم القيامة، فمن كان يعبد الله عرف الله بهذه العلامة وخر له ساجداً)، نسأل الله أن يمن علينا بذلك أنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، (ومن كان يعبد الله نفاقاً ورياء يريد أن يسجد فيصير ظهره طبقاً، إذا أراد أن يسجد خر إلى قفاه )، إلى الجهة الأخرى، وهنا قال: ويبقى قوم ظهورهم كصياصي البقر، كقرون البقر أي: لا تميل ولا تنحني ولا تسجد.

    وهذا كما ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام نقره ونمره كما تقدم معنا الكلام في هذا مراراً إخوتي الكرام! قلت: صفات الله إقرار وإمرار، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، ولا ندخل عقولنا في صفات ربنا سبحانه وتعالى، العقل ما ينبغي أن يدخل في هذه الأمور، إنما ندرك أصل المعنى ونفوض كيفيته وحقيقته إلى المتصف به، ويقول: آمنا بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنا بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء عن سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام على مراد سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام.

    هذا لا بد من أن يرسخ في أذهاننا -إخوتي الكرام- إقرار وإمرار، (ليس كمثله شيء)، هذا رد للتمثيل والتشبيه، (وهو السميع البصير)، رد للتحريف والنفي والتعطيل، فمن عطل عبد عدماً، ومن مثل عبد صنماً، فإياك أن تنفي وإياك أن تفهم من صفات الله ما تفهمه من صفاتك، فالله ليس كمثله شيء في ذاته وصفاته وأفعاله، وهو السميع البصير سبحانه وتعالى.

    وبمثل هذا نثبت المعنى لقوله: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم:42]، أي: يكشف ربنا عن ساقه، وما ورد في تفسير الطبري ومسند أبي يعلى من رواية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه، عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال في تفسير هذه الآية: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم:42] ( يكشف ربنا عن نور عظيم فيسجد له المؤمنون )، هذا الحديث كما قال الحافظ ابن حجر : إسناده ضعيف، وقال الإمام ابن كثير في تفسيره في الجزء الرابع صفحة ثمان وأربعمائة: في إسناده رجل مبهم، وانظروا كلام الحافظ في الفتح في الجزء الثامن صفحة أربع وستين وستمائة، والحديث مع ضعف إسناده لا يتنافى ولا يتعارض مع ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من كشف ربنا عن ساقه بكيفية يعلمها سبحانه وتعالى ولا نعلمها؛ لأننا نقول: إذا كشف الله عن ساقه ظهر نور عظيم، فسجد المؤمنون الموحدون.

    وما ثبت عن حبر الأمة وبحرها سيدنا عبد الله بن عباس ، وسيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما، ونقل هذا عن جم غفير من التابعين رضوان الله عليهم أجمعين: أن المراد من تفسير قول الله: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم:42]، قال: يوم كرب وشدة، أي: تحصل الكروب والشدائد والأهوال، وشدة الامتحان، لا يتنافى أيضاً مع الأمرين المتقدمين، وعليه فنجمع بين الأمور الثلاثة فنقول: إذا كشف ربنا عن ساقه ظهر نور عظيم، فحصل كرب وشدة لأهل الموقف، أما المؤمن الموحد فيسجد لله كما كان يسجد في هذه الحياة، وأما من عداه فيصبح ظهره كصياصي البقر -أي قرونها- طبقاً كأنه جدار لا يستطيع أن يسجد، والعلم عند الله جل وعلا.

    قال: (ثم يقول ربنا جل وعلا: ارفعوا رءوسكم، فيرفعون رءوسهم فيعطيهم نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل -مثل الجبل العظيم يسعى بين يديه- ومنهم من يعطى نوره أصغر من ذلك، ومنهم من يعطى مثل النخلة بيده، ومنهم من يعطى أصغر من ذلك حتى يكون آخرهم رجلاً يعطى نوره على إبهام قدميه، يضيء مرة ويطفأ مرة)، يعطى نوره على إبهام قدميه، والإبهام معروفة وهي الأصبع الأولى العريضة في الرجل، فيعطى نوره على إبهام قدميه فقط، فليس في جسمه نور إلا على إبهاميه، ( فإذا أضاء قدم قدمه فمشى )، استطاع أن يمشي في تلك الظلمات، (وإذا طفئ قام)، وقف مبهوتاً مشدوهاً لا يدري ماذا يعمل، (قال: والرب تبارك وتعالى أمامهم حتى يمر في النار فيبقى أثره كحد السف دحض مزلة)، لأن هذه نار جهنم، وهذا هو الموقف، والصراط فوق نار جهنم، وسينتهون إلى الجنة إلى لقاء الله جل وعلا

    (قال: فيقول: مروا -أي: على هذا الصراط الذي هو فوق نار جهنم- فيمرون على قدر نورهم، منهم من يمر كطرف العين، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالسحاب، ومنهم يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كشد الفرس)، الفرس المسرعة، (ومنهم من يمر كشد الرجل)، أي: الرجل الذي يركض وهو قوي، (حتى يمر الذي يعطى نوره على ظهر قدميه يحبو على وجهه ويديه ورجليه)، هذا لا يستطيع أن يركض، الذي نوره على إبهام قدميه يحبو على وجهه ويديه ورجليه، (تخر يد وتعلق يد، وتخر رجل وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار، فلا يزال كذلك حتى يخلص، فإذا خلص وقف عليها فقال: الحمد لله الذي أعطاني، فقد أعطاني الله ما يعط أحداً، إذ نجاني منها بعد إذ رأيتها، قال: فينطلق به إلى غدير عند باب الجنة فيغتسل فيعود إليه ريح أهل الجنة وألوانهم، فيرى ما في الجنة من خلل الباب)، أولئك سبقوه ودخلوا وتنعموا، (فيقول: رب! أدخلني الجنة، فيقول الله: أتسأل الجنة وقد نجيتك من النار؟ فيقول: رب! اجعل بيني وبينها حجاباً لا أسمع حسيسها، قال: فيدخل الجنة، ويرى أو يرفع له منزل أمام ذلك، كأنما هو فيه إليه حلم، فيقول: رب! أعطني ذلك المنزل، فيقول له: لعلك إن أعطيتكه تسأل غيره، فيقول: لا وعزتك! لا أسألك غيره، وأنى منزل أحسن منه؟)، أي: وأي منزل أحسن منه؟ (فيعطاه فينزله، ويرى أمام ذلك منزلاً آخر كأنما هو فيه إليه حلم)، ذاك أيضاً فيه من الزينة والنعيم أعظم مما أخذه، (قال: رب! أعطني ذلك المنزل، فيقول الله تبارك وتعالى له: فلعلك إن أعطيتكه تسأل غيره، فيقول: لا وعزتك يا رب!) حلف سابقاً والآن يحلف، (وأنى منزل يكون أحسن منه؟ فيعطاه وينزله ثم يسكت)، الآن يبتدئه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، (فيقول الله جل ذكره: ما لك لا تسأل؟) سألت مرتين والآن لماذا انقطعت عن السؤال؟ (فيقول: رب! قد سألتك حتى استحييتك، وأقسمت حتى استحييتك، قلت: وعزتك! لا أسأل مرتين ثم سألت، فيقول الله جل ذكره: ألم ترض أن أعطيك مثل الدنيا منذ خلقتها إلى يوم أفنيتها وعشرة أضعافه؟! فيقول: أتهزأ بي وأنت رب العزة، فيضحك الرب تبارك وتعالى من قوله. قال: فكان عبد الله بن مسعود إذا بلغ هذا المكان من الحديث ضحك، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن ! قد سمعتك تحدث هذا الحديث مراراً، كلما بلغت هذا المكان ضحكت؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث هذا الحديث مراراً، كلما بلغ هذا المكان من هذا الحديث ضحك حتى تبدو أضراسه عليه صلوات الله وسلامه، قال: فيقول الرب جل ذكره: لا أستهزئ بك)، والله سبحانه وتعالى حكم عدل، ( لا أستهزئ بك، ولكني على ذلك قادر )، يعني أنا لست عاجزاً. إذا أعطيتك الدنيا منذ أن خلقتها إلى أن أفنيتها وعشرة أضعافها، (لا أستهزئ بك، ولكني على ذلك قادر، سل، فيقول: رب! ألحقني بالناس)، من سبقوني وحطوا رحالهم في جنات النعيم، وأنا لا زلت بعيداً عنهم، ألحقني بهم، ( فيقول الله له: الحق بالناس، قال: فينطلق يرمل في الجنة، حتى إذا دنا من الناس رفع له قصر من درة فيخر ساجداً، فيقال له: ارفع رأسك، ما لك؟ فيقول: رأيت ربي أو تراءى لي ربي، فيقال له: إنما هو منزل من منازلك، قال: ثم يلقى رجلاً فيتهيأ للسجود له، فيقال له: مه! فيقول: رأيت أنه ملك من الملائكة، فيقول: إنما أنا خادم من خدامك، وعبد من عبيدك، تحت يدي ألف قهرمان -وهو الخادم والأجير- على مثل ما أنا عليه، قال: فينطلق أمامهم حتى يفتح له القصر، قال: وهو من درة مجوفة، سقائفها وأبوابها وأغلاقها ومفاتيحها منها، تستقبله جوهرة خضراء مبطنة بحمراء فيها سبعون باباً، كل باب يفضي إلى جوهرة خضراء مبطنة، كل جوهرة تفضي إلى جوهرة على غير لون الأخرى، في كل جوهرة سرر وأزواج، ووصائف -وهن الإماء والخدم- أدناهن حوراء عيناء عليها سبعون حلة يرى مخ ساقها من وراء حللها)، يرى هذا الإنسان مخ ساقها من رواء حللها، (كبدها مرآته، إذا أعرض عنها إعراضة ازدادت في عينه سبعين ضعفاً عما كانت قبل ذلك، فيقول لها: والله لقد ازددت في عيني سبعين ضعفاً، وتقول له: وأنت ازددت في عيني سبعين ضعفاً، فيقال له: أشرف)، تطلع إلى غير هذا المكان الذي أنت فيه، وفي هذه البهجة، (فيشرف وينظر ويتطلع، فيقال له: ملكك مسيرة مائة عام ينفذه بصرك).

    فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه سيدنا أبو حفص الفاروق ثالث الخلفاء الراشدين: ألا تسمع ما يحدثنا ابن أم عبد يا كعب -وهو كعب الأحبار - عن أدنى أهل الجنة منزلاً؟! هذا أدنى أهل الجنة، له بمقدار الدنيا منذ أن خلقت إلى أن تفنى، وعشرة أمثالها، وله بعد ذلك زيادة ملك مسيرة مائة عام ينفذها بصره، ويحيط بجميع أطرافه وجهاته، فقال عمر : ألا تسمع ما يحدثنا ابن أم عبد يا كعب عن أدنى أهل الجنة منزلاً؟! فكيف أعلاهم؟! فقال كعب : يا أمير المؤمنين! ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، إن الله جل ذكره خلق داراً جعل فيها ما شاء من الأزواج والثمرات والأشربة ثم أطبقها فلم يرها أحد من خلقه، لا جبريل ولا غيره من الملائكة، ثم قرأ كعب على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]، قال كعب : وخلق الله دون ذلك جنتين وزينهما بما شاء، وأراهما من شاء من خلقه، ثم قال: من كتابه في عليين نزل في تلك الدار التي لم يرها أحد، حتى إن الرجل من أهل عليين ليخرج فيسير في ملكه فلا تبقى خيمة من خيم الجنة إلا دخلها من ضوء وجهه، فيستبشرون بريحه فيقولون: واهاً لهذا الريح، هذا ريح رجل من أهل عليين، وقد خرج يسير في ملكه.

    قال سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه: ويحك يا كعب ! إن هذه القلوب قد استرسلت، أي: انبسطت بالأمل والرجاء، فلا بد أيضاً من أن تقاد بسياط الخوف فاقبضها، فقال كعب رضي الله عنهم أجمعين: يا أمير المؤمنين! إن لجهنم يوم القيامة لزفرة ما من ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا خر لركبتيه، حتى إن إبراهيم خليل الله ليقول: رب! نفسي نفسي، حتى لو كان لك عمل سبعين نبياً إلى عملك لظننت ألا تنجو، وفي رواية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقوم الناس لرب العالمين ألف سنة شاخصة أبصارهم ينتظرون فصل القضاء)، رواه كله الإمام الطبراني من طرق، ورجال أحدها رجال الصحيح غير أبي خالد الدالاني وهو ثقة.

    الشاهد فيه إخوتي الكرام! أن هذا الذي هو أقل أهل الجنة منزلاً، وهو آخرهم دخولاً كما تقدم معنا، عندما يدخل قصره من درة مجوفة سقائفها وأبوابها ومغاليقها ومفاتيحها منها، تستقبله جوهرة خضراء مبطنة بحمراء فيها سبعون باباً، كل باب يفضي إلى جوهرة خضراء مبطنة -كل جوهرة تفضي إلى جوهرة غير لون الأخرى- في كل جوهرة سرر وأزواج ووصائف أدناهن حوراء عيناء عليها سبعون حلة، يرى مخ ساقها من وراء حللها، هذا أدنى أهل الجنة منزلاً، فما هو جزاء الأعلى والأكثر؟!

    بيان الحكم على حديث ابن مسعود الطويل والتعقيب على كلام الذهبي حوله

    إخوتي الكرام! هذا الحديث -كما قلت- صححه عدد من أئمتنا كما تقدم معنا: الإمام الهيثمي والمنذري والحافظ ابن حجر عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه، وقد علق الإمام الذهبي في تلخيص المستدرك على هذا الحديث فقال: ما أنكره حديثاً على جودة إسناده، ثم قال: وأبو خالد هو الدالاني شيعي منحرف.

    إخوتي الكرام! هذا الكلام الذي قاله الإمام الذهبي عليه رحمة الله ينبغي أن ننظر فيه ضمن ثلاثة أمور:

    أولها: أما أبو خالد فهو يزيد بن عبد الرحمن الدالاني ، قال الحافظ ابن حجر في ترجمته في التقريب: صدوق يخطئ كثيراً، وكان يدلس، وقد أخرج حديثه أهل السنن الأربعة، وقال الذهبي في ترجمته في الكاشف في الجزء الثالث صفحة تسعين ومائتين: وثقه أبو حاتم ، وقال ابن عدي : في حديثه لين، وتقدم معنا أن الإمام الهيثمي قال: رجال الإسناد كلهم رجال الصحيح غير أبي خالد الدالاني وهو ثقة، وأبو حاتم يوثقه، والهيثمي وثقه، وابن عدي يقول: في حديثه لين، ولذلك حكم الحافظ ابن حجر عليه حكماً وسطاً فقال: صدوق، يعني حديثه في درجة الحسن.

    قال الإمام ابن حجر في تهذيب التهذيب في الجزء الثاني عشر صفحة اثنتين وثمانين في تراجم الكنى من تراجم الرجال: قلت: قال الإمام أحمد : لا بأس به، إذن هذا العبد وهو أبو خالد الدالاني نقم عليه التشيع، وقلت لكم -إخوتي الكرام- مراراً: التشيع الذي يوصف به من يوصف من المتقدمين من رواة الحديث هو تقديم على علي غيره من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وقلت: هذا مع شناعته وعدم قبوله، لكن ليس في ذلك ما يوجب رد رواية هذا الإنسان؛ لأنه ما انتقص أحداً من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، فما وقع في عرض أحد، إنما قال هذا القول المبتدع في تقديم علي وتفضيله رضي الله عنه وعن سائر الصحابة أجمعين.

    الأمر الثاني: لم ينفرد أبو خالد الدالاني في هذه الرواية، وعليه فقد زال المحذور الذي نخشاه مما قيل فيه من كلام، فإذا قال ابن عدي : في حديثه لين، هذا المحذور زال مطلقاً، ولا عبرة بهذا المحذور على الإطلاق لوجود متابع له، وهو زيد بن أبي أنيسة ، فقد تابع أبا خالد الدالاني في الرواية عن المنهال بن عمرو فإن المنهال بن عمرو روى عنه أبو خالد الدالاني وزيد بن أبي أنيسة هذا الحديث، ورواية زيد بن أبي أنيسة عن المنهال من غير طريق أبي خالد الدالاني التي رواها عبد الله ولد الإمام أحمد في كتاب السنة والإمام البيهقي في كتاب البعث.

    إذن: الحديث روي من طريقين، من طريق زيد بن أبي أنيسة ، ومن طريق أبي خالد الدالاني ، أبو خالد الدالاني في طريق الحاكم ، وفي إحدى طرق الطبراني ، لكن عندنا طريق آخر فيه زيد بن أبي أنيسة عن المنهال بن عمرو عن أبي عبيدة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، فالشيخ -وهو المنهال بن عمرو - روى عنه هذان التلميذان: أبو خالد الدالاني وزيد بن أبي أنيسة ، وزيد بن أبي أنيسة ثقة من رجال الكتب الستة، توفي سنة تسعة عشرة ومائة، وقيل: سنة أربع وعشرين ومائة، وإذا حذفت أبا خالد الدالاني ووضعت مكانه زيد بن أبي أنيسة فرجال الإسناد كلهم على شرط الصحيح؛ لأنه تقدم معنا أن رجاله رجال الصحيح غير أبي خالد الدالاني ، فـزيد بن أبي أنيسة من رجال الكتب الستة، وهو ثقة، وليس حوله كلام.

    وعليه: فإن المحذور الذي يخشى من تفرد أبي خالد الدالاني بالرواية لو تفرد قد زال لوجود هذا المتابع، على أن الحديث له طرق أخرى غير طريق زيد بن أبي أنيسة وغير طريق أبي خالد الدالاني عند الدارقطني في كتاب الرؤيا وعند الآجري في الشريعة، انظروا المكانين المتقدمين في الشريعة للآجري وفي الرؤيا للإمام الدارقطني .

    الأمر الثالث: ليس في الحديث ما يستنكر، إسناده ثابت ومتنه ثابت في أحاديث صحيحة كثيرة، فما الداعي للقول: ما أنكره حديثاً على جودة إسناده؟ لكل فقرة من فقراته شواهد ثابتة في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن نبينا عليه الصلاة والسلام، ولذلك أشار المنذري إلى هذا، فبعد أن رواه قال: وقد روي هذا الحديث أيضاً مختصراً عن عبد الله بن مسعود في صحيح مسلم ، وروي ما يشهد لفقراته في الصحيحين وغيرهما من رواية أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم أجمعين، انظروا بعض هذه الروايات، وفيها شواهد لهذا الحديث في جامع الأصول في الجزء العاشر صفحة ثمان وثلاثين وأربعمائة وست وأربعين وأربعمائة وثلاث وخمسين وخمسمائة، وهي روايات في الصحيحين منها رواية هذين الصحابيين أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم أجمعين، فما هو الذي يستنكر فيه؟ لا أعلم، فما يوجد فقرة من فقراته إلا ولها شواهد ثابتة عن نبينا صلى الله عليه وسلم.

    ولذلك -إخوتي الكرام- الحديث لا ينزل عن درجة الحسن، بل هو صحيح كما نص على ذلك شيخ الإسلام الهيثمي وقبله المنذري وبعدهما الحافظ ابن حجر عندما قال: رواه إسحاق بن راهويه وإسناده صحيح، فالحديث صحيح إن شاء الله والعلم عند الله جل وعلا.

    هذا الحديث -إخوتي الكرام- يقرر معنى ما تقدم: أن للمؤمن أكثر من زوجتين، فهذا أقل أهل الجنة منزلاً له سرر وعليها أزواج في هذه الدرة المجوفة، وهو يطوف عليهن ولا يرى بعضهم بعضاً، وهذا وارد في أحاديث كثيرة، أنه من يدخل الجنة يتمتع بأكثر من زوجتين، ولا داعي للقول: زوجتان من نساء أهل الدنيا، والزائد من الحور العين، ولا داعي للقول: له زوجتان وما زاد إما من باب الخدم والإماء، وإما من باب خطأ الرواة... ونحو ذلك، بل الجواب المعتمد -كما تقدم- أن هذا مفهوم عدد ولا يتعارض، ولا منافاة بين ذكر القليل والكثير والعلم عند الله الجليل.

    1.   

    أحاديث أخرى تدل على أن للمؤمن في الجنة أكثر من زوجتين

    استمع للروايات التي سأذكرها، وكما صرحت روايات صحيحة بأن للواحد زوجتين من نساء الدنيا، صرحت أيضاً أن له زوجتين من الحور العين، إذن ما زاد من الحور العين لا يتعارض مع هذا، وما زاد من نساء الدنيا لا يتعارض أيضاً مع ذاك، ولا داعي أن نقول: زوجتان من نساء أهل الدنيا والزيادات من الحور العين؛ لأنه ورد التصريح بأن الزوجتين من نساء الدنيا ومن الحور العين من كلام نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، وعليه فالزائد نقول: لا يتعارض؛ لدخول القليل في الكثير، أما إذا قيل: إن أحد العددين من نساء أهل الدنيا، فإنه مع وجود الرواية: بأن الزوجتين من الحور العين، سيقع في الأمر تعارض.

    حديث أبي هريرة: (للرجل من أهل الجنة زوجتان من الحور العين ...)

    وهذا ثابت في أحاديث كثيرة، منها: ما ثبت في مسند الإمام أحمد ، والحديث في الجزء الثاني صفحة خمس وأربعين وثلاثمائة، وأعاده في صفحة سبع وخمسمائة من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (للرجل من أهل الجنة زوجتان من الحور العين)، هناك: زوجتان من نساء الدنيا، وهنا زوجتان من الحور العين، (على كل واحدة سبعون حلة، يرى مخ ساقها من وراء الثياب)، فهذه روايات متعددة: زوجتان من الحور العين، زوجتان من نساء الدنيا، اثنتان وسبعون، أربعة آلاف، خيمة من لؤلؤة مجوفة له فيها أهلون يطوف عليهم فلا يرى بعضهم بعضاً، كل هذا لا تعارض فيه لدخول القليل في الكثير، ومفهوم الأعداد لا يتعارض ولا يختلف كما تقدم معنا، فلا منافاة بين هذه الأعداد. إذن هنا صرح بأن الزوجتين من الحور العين.

    حديث المقداد بن معدي كرب: (للشهيد عند الله ست خصال... ويزوج ثنتين وسبعين زوجة من الحور العين)

    وثبت في مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجه ، والحديث رواه أبو يعلى والطبراني في معجمه الكبير، ورواه البيهقي في شعب الإيمان، ورواه ابن زنجويه وعبد الرزاق وسعيد بن منصور في سننه، انظروا سنن سعيد بن منصور في الجزء الثاني صفحة سبع عشرة ومائتين، وانظروا المصنف لـعبد الرزاق عليهم جميعاً رحمة الله الجزء الخامس صفحة خمس وستين ومائتين، والحديث إسناده صحيح كالشمس، من رواية المقداد بن معدي كرب رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (للشهيد عند الله ست خصال: يغفر الله له في أول دفعة من دمه)، أول دفقة تخرج من دمه وتقطر على الأرض يغفر الله له ذنوبه، هذه الكرامة الأولى، والثانية: (ويرى مقعده من الجنة)، عندما تأتيه الضربة وهو في ساعة الاحتضار والنزع وفراق أنفاسه الأخيرة، يكشف له عن مقعده في الجنة فيطير فرحاً، والتحفة الثالثة: (ويجار من عذاب القبر)، والرابعة: (ويأمن الفزع الأكبر)، والخامسة: (ويوضع على رأسه تاج الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها)، وفي رواية بدل التاج: (ويحلى حلة الإيمان)، وهي رواية الإمام ابن ماجه ، والإمام أحمد في روايته جمع بينهما: ( يوضع على رأسه تاج الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويحلى حلة الإيمان ).

    قال: (ويزوج ثنتين وسبعين زوجة من الحور العين)، والحديث كما قلت: إسناده صحيح كالشمس، فهذه الست الخصال انتهت على جعل الخامسة واحدة، وهي: (تاج الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويحلى حلة الإيمان)، كأن هذه الحلة والتاج شيء واحد، أو أن نقول كما في رواية معجم الطبراني : ( إن للشهيد عند الله سبع خصال )، أو أن نقول كما ورد في رواية سعيد بن منصور : ( إن للشهيد عند الله خصالاً )؛ لأنه في جميع الروايات خصلة زائدة وهي الثامنة، قال: (ويشفع في سبعين من أهل بيته)، وفي رواية: (في سبعين إنساناً من أهل بيته)، فهذه زائدة، سواء عددت ما تقدم ستاً أو سبعاً، إن كانت ستاً فهذه سابعة، وإن كانت سبعاً فهذه ثامنة حتى على رواية الطبراني سبع خصال.

    وكأن النبي عليه الصلاة والسلام -والعلم عند ذي الجلال والإكرام- بعد أن عد ما يحصل له من الكرامة في حق نفسه، ذكر أن الله يكرمه أيضاً في حق غيره، وكرامته تصل إلى غيره؛ لأن هذه الشفاعة منه لغيره، فتلك ست أو سبع خصال له يكرم بها في نفسه: يغفر الله له، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه التاج، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج ثنتين وسبعين زوجة، ثم أراد الله أن يبين فضله، وأن هذا الفضل يستفيد منه غيره لا هو، وإن كان يدل على كرامته وهو أنه يشفع في سبعين من أهل بيته.

    والشاهد في الحديث: أنه يزوج اثنتين وسبعين زوجة، وهذا الحديث في رواية مصنف عبد الرزاق في الجزء الخامس صفحة خمس وستين ومائتين وهي تزيل الإشكال الذي مر معنا. ( للشهيد عند الله تسع خصال )، قال الراوي: وأنا أشك، يعني هل هذه اللفظة ثابتة أو لا؟ تسع أو سبع أو ست يشك في ذلك، لكن إن ثبتت وفرقت هذه الخصال فتصبح بعد ذلك تسع خصال للشهيد عند الله.

    وكما قلت: الإمام أحمد جمع بين أنه يوضع على رأسه تاج ويحلى حلة الإيمان، ورواية الطبراني سبع خصال والعلم عند الله، والذي يظهر -والعلم عند الله- لو أنها عدت على التفصيل فتصبح ثمانياً، فالتسع فيها زيادة، والست فيها نقصان، والسبع يمكن أن تقبل على أن يقال: سبع في حق نفسه، ويزاد واحدة في حق غيره والعلم عند الله جل وعلا.

    والحديث صحيح من رواية المقداد بن معدي كرب ، ورواه الإمام أحمد في المسند، انظروه في الجزء الرابع صفحة إحدى وثلاثين ومائة، والبزار ، انظروا كشف الأستار في الجزء الثاني واحدة وثمانين ومائتين، والطبراني في معجمه الكبير بسند رجاله ثقات كما في المجمع في الجزء الخامس صفحة ثلاث وتسعين ومائتين.

    وقال الحافظ ابن حجر في الفتح في الجزء السادس صفحة ست عشرة: إسناده حسن، لكن من رواية عبادة بن الصامت ( للشهيد عند الله ست خصال )، فقد روي الحديث من رواية المقداد ومن رواية عبادة بن الصامت رضي الله عنهم أجمعين، وروي الحديث أيضاً من رواية قيس الجذامي ، وهو من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، فهو مروي عن ثلاثة من الصحابة: المقداد بن معدي كرب وعبادة بن الصامت وقيس الجذامي عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه.

    رواية قيس في المسند في الجزء الرابع صفحة مائتين، ورواها الإمام البخاري في التاريخ الكبير في ترجمة قيس في الجزء السابع صفحة أربع وأربعين ومائة، ورواها البغوي في تراجم الصحابة كما في الإصابة في الجزء الثالث صفحة سبع وأربعين ومائتين، لكن لم يقل: (ويزوج اثنتين وسبعين من الحور العين)، إنما قال: (ويزوج من الحور العين)، أطلق العدد في رواية عبادة ، وفي رواية المقداد : (اثنتان وسبعون)، والحديث -كما قلت إخوتي الكرام- حديث صحيح بطرقه الثلاث: من رواية قيس وعبادة والمقداد رضي الله عنهم أجمعين.

    وروي أيضاً هذا الحديث من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين في معجم الطبراني الكبير كما في المجمع في المكان المتقدم، وانظروه في جمع الجوامع للإمام السيوطي ، لكن في الإسناد عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي ، وكان قاضياً صالحاً، وتقدمت معنا ترجمته وقلت: هو من رجال البخاري في الأدب المفرد، وأخرج له أهل السنن الأربعة إلا الإمام النسائي ، وهو من الأئمة الربانيين، لكنه ضعيف الحفظ، وتوفي سنة ست وخمسين ومائة للهجرة، ولفظ الحديث: (للشهيد عند الله ست خصال)، وفيه: (ويزوج من الحور العين)، مثل رواية قيس أسقط لفظة: (ويوضع على رأسه تاج)، هذه لم تذكر، ولا حلة الإيمان، ولا أنه يشفع لسبعين من أهل بيته وأقاربه، هذه كلها حذفت من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين.

    وهذه الرواية يشهد لها ما تقدم، فإن شاء الله تصل إلى درجة الحسن، إذن: الحديث روي من رواية أربعة من الصحابة: من رواية المقداد بن معدي كرب وعبادة بن الصامت وقيس وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين.

    إخوتي الكرام! رواية قيس -كما قلت- صحيحة الإسناد، لكن مع ذلك في رجال الإسناد عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ، وثقه أبو حاتم وجماعة وضعفه جماعة، هذا كلام الهيثمي ، وحديثه لا ينزل عن درجة الحسن، فقد حكم عليه الحافظ ابن حجر في التقريب بأنه صدوق يخطئ، ثم قال: تغير بآخره، وتوفي سنة خمس وستين مائة للهجرة، وحديثه مخرج في كتاب الأدب المفرد للإمام البخاري وأهل السنن الأربعة.

    الشاهد من هذه الروايات: أنه ورد معنا في رواية أبي هريرة المتقدمة رضي الله عنه وأرضاه أنه يزوج اثنتين من الحور العين، وهنا اثنتان وسبعون، وكل هذا -كما قلت- لا تعارض بينه والعلم عند الله جل وعلا.

    حديث أبي هريرة: (لا تجف الأرض حتى تبتدره -أي الشهيد- زوجتاه ...)

    إخوتي الكرام! أيضاً ورد أن الشهيد تبتدره زوجتاه، وهنا ذكر أنه له اثنتين وسبعين، والروايات كلها صحيحة، وكما تقدم معنا لا مخالفة ولا معارضة بين القليل والكثير والعلم عند الله الجليل.

    ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: ذكر الشهيد عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال نبينا صلى الله عليه وسلم: (لا تجف الأرض حتى تبتدره زوجتاه)، يعني لا تجف الأرض من دمه، إذا نزل دم الشهيد على الأرض قبل أن يجف الدم تبتدره زوجتاه، (كأنهما ظئران أظلتا فصيليهما في براح من الأرض، وفي يد كل واحدة منهما حلة خير من الدنيا وما فيها)، (أظلتا) بالظاء المعجمة، وبالضاد المعجمة: وأظلتا من الظلة، أي: تخيمان عليه كما أن المرأة تخيم على فصيلها إذا كانت في براح من الأرض، أي: في متسع من الأرض وليس هناك ظل يقيه حر الشمس، ورأت فصيلها ولدها الذي فقد منها كيف تحنو عليه وتظلله وتضمه إليها وتستره من حر الشمس، تكون له كالمظلة، و(أضلتا) من الضلال الذي هو الفقدان والضياع، فإذا فقد الفصيل وضاع وذهب عن الظئر عن المرضعة عن الأم الحنون، ثم وجدته، كيف تقبل عليه وتحتضنه وتلتزمه؟! وهنا تبتدره زوجتاه كأنهما ظئران أضلتا فصيليهما في براح من الأرض، تبتدره الزوجتان وتتعلقان به وتقبلان عليه كحال الأم عندما تقبل على ولدها إذا ضاع منها في براح من الأرض ثم وجدته.

    إذن: هذان الضبطان كلاهما منقول في ضبط هذا الحديث كما بين ذلك شيخ الإسلام الإمام المنذري في الترغيب والترهيب.

    إخوتي الكرام! في إسناد هذا الحديث شهر بن حوشب ، وتقدم معنا حاله وقلت: إن شاء الله إن حديثه في درجة الحسن، فهو من رجال الأدب المفرد للإمام البخاري ، ومن رجال مسلم وأهل السنن الأربعة، وهو صدوق كما تقدم معنا، وتوفي سنة اثنتي عشرة ومائة للهجرة، لكن في إسناده أيضاً هلال بن أبي زينب لم يخرج له إلا الإمام ابن ماجه القزويني ، وحكم عليه الحافظ ابن حجر بأنه مجهول، لكن الحديث له شواهد كثيرة من جملتها ما تقدم معنا.

    حديث أبي هريرة: (والمرابط إذا مات في رباطه... ويزوج سبعين حوراء)

    وثبت الحديث في معجم الطبراني الأوسط كما في مجمع الزوائد في الجزء الخامس صفحة ثلاث وتسعين ومائتين، من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشهيد يغفر له في أول دفقة من دمه، ويزوج حوراوين)، وهناك (تبتدره زوجتان)، (ويزوج حوراوين، ويشفع في سبعين من أهل بيته، والمرابط إذا مات في رباطه كتب له أجر عمله إلى يوم القيامة، وأتي عليه وريح برزقه -يعني في الغداة وفي العشي، في الصباح وفي المساء-ويزوج سبعين حوراء، وقيل له: قف فاشفع إلى أن يفرغ من الحساب)، قال الإمام الهيثمي في المجمع: قلت: روى ابن ماجه بعضه، رواه الطبراني في الأوسط عن شيخه بكر بن سهل الدمياطي ، قال الذهبي : مقارِب الحديث، أو مقارَب الحديث، بصيغة اسم الفاعل والمفعول كما تقدم معنا، أي: يقارب غيره في الضبط فهو مقارَب، أو يقارب غيره في الضبط والإتقان فهو مقارِب, وضعفه النسائي ، أي هذه الرواية عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه.

    والإمام الذهبي في المغني في الضعفاء في الجزء الأول صفحة واحدة وثلاثين ومائة حكم على بكر بن سهل الدمياطي -وهو شيخ الطبراني في معجمه الأوسط- حكم عليه بأنه متوسط قال: متوسط، وضعفه الإمام النسائي ، وحكم عليه في الميزان فقال: حمل عنه الناس، مقارِب الحال، كما نقل عنه الإمام الهيثمي . يقول الذهبي في الميزان: حمل عنه الناس، يعني رووا عنه، ثم قال: مقارِب الحال، وتوفي سنة تسع وثمانين ومائتين للهجرة، وقد ترجمه في سير أعلام النبلاء في الجزء الثالث عشر صفحة خمس وعشرين وأربعمائة، وأورد في آخر ترجمته كرامة علق عليها المعلق بما ينبغي ألا يؤبه له وألا ينظر إلى هذا التعليق، يقول: بكر بن سهل بن إسماعيل بن نافع الإمام المحدث أبو محمد الهاشمي مولاهم الدمياطي المفسر المقرئ، ثم بعد أن ترجمه قال: قال أبو بكر القباب : سمعت أبا الحسن بن شنبوذ ، وهو الإمام المقرئ، سمعت بكر بن سهل الدمياطي -وهو الذي معنا، شيخ الطبراني - يقول: هجَّرت -أي: بكرت وذهبت في الصباح- يوم الجمعة فقرأت إلى العصر ثماني ختمات، حكاه يحيى بن منده في تاريخه.

    وهذه القصة مذكورة أيضاً في اللسان للحافظ ابن حجر في ترجمته بكر بن سهل الدمياطي في الجزء الأول صفحة اثنتين وخمسين، ثم قال: قال أبو بكر القباب في مسند أصبهان أنه سمع أبا الحسن بن شنبوذ يحكي عن بكر بن سهل الدمياطي أنه ذهب في الغدو يوم الجمعة إلى المسجد وبقي إلى العصر فختم القرآن ثماني مرات.

    يقول المعلق: هذا غير معقول، ولا هو داخل في نطاق الجائز. انظر للكلام الذي لا يوزن بميزان العقل، يقول: غير معقول، وكلامه هو غير معقول؛ لأن قوله: ولا هو داخل في نطاق الجائز، يعني أن هذا مستحيل، أنه ليس في وسع الله أن يمكن عبداً من ذلك، وهذا معنى غير جائز، هذا كلام باطل، لا بد من أن نفرق بين الجائز الممكن، وبين المستحيل الممتنع، وبين الواجب الذي لا يتصور عدمه، فالجائز ما يتصور وجوده وعدمه، فهل في وسع الله أن يمكن هذا من قراءة القرآن في يوم واحد مائة مرة؟ نعم، الله على كل شيء قدير، وهل في وسع الله أن ينقل هذا من هنا إلى أي بلد كان بأقل من لمح البصر؟ الله على كل شيء قدير، هذا جائز، فإن وقع فنقول: هذا كرامة، فانظر للكلام الذي لا يوزن بالميزان العلمي، يقول: هذا غير معقول، ولا هو داخل في نطاق الجائز، ولو كان قال: هذا بعيد يحتاج إلى تحقق من ثبوته، لكان كلامه صحيحاً، أما أن يقول: غير معقول، يعني هذا خارق للعقل مستحيل، ولا هو داخل في نطاق الجائز، فهذا كلام باطل لا وزن له ولا اعتبار.

    قال: فإن الحافظ مهما كان قوي الحفظ لا يتيسر له أن يختم القرآن مرة واحدة بأقل من عشر ساعات. وهذه طامة ثانية، الحافظ الذي هو متقن للحفظ لا يحتاج لعشر ساعات لختم القرآن، بل يختمه بخمس ساعات أو ست بسهولة إذا كان حافظاً متقن الحفظ، هذا إذا ما حصلت له معونات خاصة ليختمه بساعة أو ساعتين، ويوجد في بلدان المسلمين في كل مكان من يختمون القرآن في ليلة من ليالي رمضان، إما في ليلة معينة أو حسبما يتسير يختم القرآن في ركعتين، كان عندنا في بلاد الشام بعض الشيوخ في حلب يختم القرآن في ركعتين، وهو موجود بكثرة، ويوجد أيضاً في الأمكنة الأخرى من يختم القرآن في ركعتين، فقوله: يحتاج إلى عشر ساعات غير صحيح، ثم يقول: هذا أقل شيء كما معلوم أو مشاهد، فكيف يقرأ في هذه الفترة ثماني ختمات؟!

    يا عبد الله! إذا كانت كرامة فهي خارق للعادة، نعم، العادة ما جرت أن يختم الإنسان هذا المقدار في وقت قصير، لكن لو وقع فلا نقول: هذا خارق للعقل، بل نقول: خارق للعادة، وشتان بين خارق للعقل وخارق للعادة، فخارق للعقل يعني أنه مستحيل لا يمكن أن يقبل، وهذا ما عنون عليه هو فقال: هذا غير معقول، ولا هو داخل في نطاق الجائز، هذا كلام لا يوزن بالميزان العلمي، مع أنه لو استبعد فقال: هذا بعيد، ويحتاج الأمر إلى التحقق من الثبوت، فإن ثبت فالله على كل شيء قدير، لا حرج، ولو قال: أنا لا أصدق إلا بإسناد ثابت لا حرج، أما أن يقول: هذا غير معقول، ولا هو داخل في نطاق الجائز، إلى غير ذلك من الكلام، فهذا كلام باطل، فالقصة كما قلت مروية.

    ومثل هذه الأمور -كما يقول أئمتنا- لا تحتاج إلى أن يحقق الإنسان حتى في إسنادها؛ لأنها لن يثبت بها حكم شرعي، لا تحليل ولا تحريم، هذا الشيء حصل لإنسان وانتهى الأمر، لو قيل: الإنسان طار في الهواء، نقول: إن شاء الله يمشي على الماء، ما الحرج؟ الله على كل شيء قدير، إن كان صالحاً فهذه كرامة، وإلا فهي استدراج، ولا يدل هذا الفعل في الأصل على أي مكانة بحد ذاته إلا إذا كان الإنسان على صلاح وديانة، فلم َ بعد ذلك نحمل الأمر أكثر مما يحتمل؟

    وتقدم مراراً أنه يمكن أن يقع ما تحار فيه العقول لا ما تحيله العقول، فشرائع الله تأتي بما تحار فيه عقول المخلوقات من أجل أن يسلموا بعجزهم لربهم، أما أن تأتي بما تحيله عقول المخلوقات فلا ثم لا، وقلت مراراً: لا يتعارض نقل صحيح مع عقل صريح، والعلم عند الله جل وعلا.

    أثر يزيد بن شجرة: (.. وتنزل عليه ثنتان من الحور العين..)

    إخوتي الكرام! كما قلت: الأحاديث في ذلك كثيرة وفيرة عن نبينا عليه الصلاة والسلام، فيها أنه يحصل لكل واحد زوجتان من نساء الدنيا، زوجتان من الحور العين، اثنتان وسبعون من الحور العين، اثنتان وسبعون من نساء الدنيا، سبعون من نساء الدنيا، أكثر أقل كل ما ورد نقول: لا تعارض بين هذه الروايات، فلا تعارض بين القليل والكثير لدخول القليل في الكثير والعلم عند الله الجليل سبحانه وتعالى.

    إخوتي الكرام! مما يدخل أيضاً في هذه الرواية وأختم به الموعظة، ما رواه الإمام البزار في مسنده والطبراني في معجمه الكبير ورواه عبد الرزاق في مصنفه، والإمام الحاكم في مستدركه في الجزء الثالث صفحة أربع وتسعين وأربعمائة، ورواه شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد والرقائق صفحة ثلاث وأربعين وخمس وتسعين، ورواه أيضاً في كتاب الجهاد له، ورواه ابن أبي الدنيا كما في كتاب الترغيب والترهيب للإمام المنذري في الجزء الثاثى صفحة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وانظروا الأثر في كتاب البعث للإمام البيهقي صفحة اثنتي عشرة وثلاثمائة، وهو في مصنف ابن أبي شيبة ، وانظروه أيضاً في سنن سعيد بن منصور ، وانظروا الأثر في مجمع الزوائد في الجزء الخامس صفحة أربع وتسعين ومائتين من رواية يزيد بن شجرة ، ويزيد بن شجرة مختلف في صحبته، وقد رجح الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في المكان الذي ذكرته أن صحبته لا تثبت، إنما هو من التابعين رحمة الله ورضوانه عليه وعلى المسلمين أجمعين، وانظروا كلام الحافظ على صحبته في الإصابة في الجزء الثالث صفحة ثمان وخمسين وستمائة، وعزا الأثر أيضاً إلى كتاب مكارم الأخلاق للإمام الخرائطي وإلى الغيلانيات وقال: رواه البغوي وأبو نعيم وابن منده ، ثم حكم الإمام المنذري على إسناده إذا كان من كلام يزيد بن شجرة من كلامه موقوفاً عليه فإسناده صحيح، وإذا كان روي مرفوعاً إلى النبي عليه الصلاة والسلام فيصبح مرسلاً، ورجح -كما قلت- رواية الوقف على يزيد بن شجرة ، وهو من أئمة التابعين كما تقدم معنا.

    انظروا مثلاً رواية سعيد بن منصور في الجزء الثاني صفحة مائتين وتسع عشرة، يقول: عن الأعمش عن مجاهد عن يزيد بن شجرة قال: كان يقص -يعني يزيد بن شجرة - كان يقص ويحدث ويعظ، وكان يصدق قوله فعله، أي: هو من العلماء الربانيين القانتين الذين يعملون بعلمهم، وكان يقول يزيد بن شجرة : السيوف مفاتيح الجنة، وكان يقول: إذا التقى الصفان في سبيل الله وأقيمت الصلاة، نزلن الحور العين فاطلعن، فإذا أقبل الرجل قلن: اللهم ثبته، اللهم انصره، اللهم أعنه، فإذا أدبر احتجبن عنه وقلن: اللهم اغفر له، وإذا قتل غفر له بأول قطرة تخرج من دمه كل ذنب له، وتنزل عليه ثنتان من الحور العين. وتقدم معنا: اثنتان وسبعون، وتقدم: تبتدره زوجتاه، وكل هذا لا تعارض فيه، وتنزل عليه ثنتان من الحور العين تمسحان عن وجهه الغبار وتقولان: قد آن لك، يعني أن تتصل بنا، وأن تتمتع بنا، فقد فارقت الحياة، ويقول: قد آن لكما أن أتصل بكما فقد فارقت الحياة الدنيا. هذا الأثر روي مرفوعاً وروي موقوفاً، وهذا الذي صححه ورجحه شيخ الإسلام الإمام المنذري في الترغيب والترهيب والعلم عند الله جل وعلا.

    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756348319