إسلام ويب

مقدمة في الفقه - الفقه تعريفه ومكانته [2]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن التفقه في الدين غاية سامية ندب إليها هذا الدين القويم، فأمر بها ربنا الحكيم في كتابه العظيم في مواضع كثيرة، للدلالة على ما لهذا الباب من العلم من أهمية عظمى، حيث لا يتحقق للمسلم العلم بالأوامر والنواهي إلا إذا فقه عن ربه ما يريده منه، ولما لهذا الباب من أهمية فقد جعله الله فرضاً كفائياً على المسلمين، إن قام به بعضهم سقط عن بقيتهم، وإلا أثموا جميعاً.

    1.   

    معنى الفقه في الاصطلاح

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..

    الفقه في الاصطلاح: هو العلم بالأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد من أدلتها التفصيلية.

    فقولنا: (العلم) يراد به غلبة الظن، (بالأحكام الشرعية) خرج بذلك الأحكام العقلية، ككون الواحد نصف الاثنين، وخرج بذلك الأحكام الحسية، ككون الثلج بارداً والنار حارة، وما شاكل هذا، فهذه أحكام ما لنا علاقة بها في الفقه، وخرج كذلك الأحكام العادية، كتوقع الناس نزول المطر عند حصول الغيوم وتلبد السماء بالغيوم، هذه أحكام عادية، فالأحكام العقلية والأحكام الحسية والعادية لا دخل لنا بها في علم الفقه.

    وقولنا: (التي طريقها الاجتهاد) خرج بذلك ما يُعلم ضرورة من الدين بحيث لا يجهله أحد من المكلفين، هذا أيضاً لا يبحث في كتب الفقه، ككون الزنا حراماً، إنما يبحث عندنا عقوبة الزنا، أما أنه حرام فهذا معلوم من الدين بالضرورة، والنصوص قطعية فيه، ولا يحتاج إلى اجتهاد، وهكذا ككون الصلاة فريضة وواجباً، ونحو ذلك.

    إذاً: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية التي طريقها الاجتهاد، التي فيها مجال للاجتهاد، (من أدلتها التفصيلية) أي: من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، والإجماع، والقياس، أن تلحق النظير بنظيره، تلحق ما لم ينص عليه بما نص عليه لاستوائهما في العلة.

    هذا هو تعريف علم الفقه، وهذا التعريف هو أسد ما قيل في بيان حد علم الفقه، وقيل غير ذلك، فقيل: علم الفقه: هو جملة من العلوم يعلم بالاضطرار أنها من دين الحي القيوم: يعني: عندما نبحث في العبادات، في المعاملات، في العقوبات، نعلم أن هذه أحكام شرعيات، جملة من العلوم يعلم بالاضطرار أنها من دين الحي القيوم، لكن التعريف هذا فيه شيء من العموم، فقد أدخل الأحكام العملية التي طريقها الاجتهاد، كما أدخل العقائد الإسلامية، كما أدخل الأخلاق والآداب، كلها دخلت في هذا التعريف؛ لأنها جملة من العلوم يعلم بالاضطرار أنها من دين الحي القيوم، هذا شامل لعلوم العقائد والآداب وعلم الفقه أيضاً.

    وقيل أيضاً: علم الفقه: هو معرفة النفس ما لها وما عليها عملاً، تعرف ما الذي لها وما الذي يجب عليها من طريق العمل لا من طريق الاعتقاد، وقيل: علم الفقه: هو العلم الحاصل بجملة من الأحكام الشرعية الفروعية بالنظر والاستدلال.

    وله تعريفات كثيرة لكن -كما قلت- أسدها وأدقها هو أولها، وانظروا: إرشاد الفحول في مقدمته وبدايته في صفحة ثلاثة.

    وبذلك يختلف علم الفقه عن علم أصول الفقه، فأصول الفقه هو قواعد علم الفقه، وعلم أصول الفقه ضابطه وتعريفه كما قال أئمتنا: علم يبحث عن أحوال أدلة الفقه الإجمالية، وطرق الاستفادة منها، وحال المستفيد. وهذا يختلف عن تعريف علم الفقه، فهو علم يبحث عن أحوال أدلة الفقه الإجمالية، مثل: الأمر يفيد الوجوب، النهي يفيد التحريم، القياس حجة، الإجماع حجة، هذا يبحث في أصول الفقه، الأمر يدل على الوجوب، ثم بعد ذلك متى يفيد الإباحة؟ ومتى يفيد الاستحباب؟ هذا يقرر هنا، هذا هو عمل الأصولي، ثم تطبيق هذا بعد ذلك على نصوص الشرع التفصيلية، هذا عمل الفقيه. فالأصولي يبحث عن القياس هل يستدل به أم لا؟ أما الفقيه فلا يأتي ليثبت حجية القياس، بل يأتي ليثبت حكماً شرعياً عن طريق القياس؛ لأنه حجة، ويأتي بعد ذلك ليثبت حكماً شرعياً عن طريق الإجماع، ولو قلت له: كيف تثبت دليلاً بالإجماع؟ فيقول: يا عبد الله! اذهب وتعلم أصول الفقه، لأنه ليس من شأني أن أبين لك أن الإجماع حجة، كما أنه ليس من شأني أن أبين لك أنه يستدل بالقرآن أو بأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، هذا أمر مفروغ منه، تلك أدلة يبحث عن مكانتها، وعن رتبة الاستدلال بها في علم أصول الفقه.

    إذاً: علم أصول الفقه: هو علم يبحث عن أحوال أدلة الفقه الإجمالية، وطرق الاستفادة منها، أدلة في الظاهر تعارضت، يأتي بعد ذلك، وتقديم الإجماع، وتقديم النص القطعي من قرآن وسنة متواترة، بعد ذلك الخبر الذي يفيد الظن ولا يفيد القطع، هذا ترتيب الأدلة، وهذا كله يبحث في أصول الفقه.

    (وحال المستفيد)، وهو المستدل، الذي يأخذ الأحكام من أدلتها، وشروطه وأحواله، هذه تقرر في كتب أصول الفقه، وأما علم الفقه فهو العلم بالأحكام الشرعية التي طريقها الاجتهاد من أدلتها التفصيلية.

    وقولنا: (التي طريقها الاجتهاد)، فما دام طريقها الاجتهاد، وللعقل فيها مجال فهي أحكام عملية، ويخرج بذلك العقائد، فإنه لا دخل للاجتهاد في أمور العقيدة، فعندما ذُكر في التعريف (طريقها الاجتهاد) أغنى عن ذكر العملية.

    والأحكام العملية لابد أن تدخل فيها أمور الاجتهاد، فهنا الاجتهاد لا بد منه، وكلمة الاجتهاد تغني عن زيادة كلمة (العملية)، فإذا ذكرت زيادة في الإيضاح؛ لأنه لو قال: العلم بالأحكام العملية فقط دون أن يقول: التي طريقها الاجتهاد، لدخلت الأخلاق والآداب، وأيضاً لا مجال للاجتهاد فيها، إنما هنا أحكام شرعية ما بين راجح ومرجوح وتقديم، أما بعد ذلك فهناك أخلاق وآداب متفق عليها، ولذلك لا تدخل حتى في دائرة النسخ، مثلاً: الصدق والأمانة فضيلة، والكذب والخيانة رذيلة، هذا مما لا يدخل في دائرة النسخ، وهو مما جاءت به جميع الشرائع المباركة، فأيضاً لا مجال للاجتهاد فيها.

    والأحكام الشرعية هي التي تدور على أمور خمسة: الفرض، والمستحب، والحرام، والمكروه، والمباح، والأحناف زادوا اثنين -كما سيأتينا- ضمن أحكام الفقه في موضوع الواجب الذي هو دون الفرض، والمكروه تحريماً الذي هو فوق المكروه ودون الحرام، لكنها لا تخرج عن هذه القسمة الخماسية، وإن صار شيء من التفريع فيه دقة، فالفرض عندهم ما ثبت بدليل قطعي لا شبهة فيه، والواجب ما ثبت بدليل ظني، فانحط عن رتبة الفرضية، لكن الإتيان به مطلوب، وليس هو من باب المستحب.

    وعليه: فعندما نقول: العلم بالأحكام الشرعية، وهي الخمسة: من فرض وسنة وحرام ومكروه ومباح، التي طريقها الاجتهاد، تعين أن تكون تلك الأحكام أحكاماً عملية، فإن ذكرت الأحكام العملية لا بد من أن تُتبع أيضاً بقولنا: طريقها الاجتهاد، من أجل أن تخرج الأحكام العملية التي لا اجتهاد فيها، وهي الأخلاق والآداب.

    1.   

    الأدلة المبينة لمنزلة علم الفقه ومكانته

    قوله تعالى: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة ..)

    أما الأدلة التي تقرر منزلة علم الفقه ومكانته، فسأذكر منها آية كريمة واحدة وأربعة أحاديث، أما الآية فهي قول الله جل وعلا في سورة التوبة: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122] قوله: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً النفر: هو الانزعاج عن الشيء وإلى الشيء، كالفزع إلى الشيء وعن الشيء، وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً أي: ينزعجوا ويخرجوا خروجاً جماعياً، إنما يخرج البعض ويبقى البعض كما سيأتينا في بيان معنى الآية.

    إذاً: معنى النفر: الانزعاج عن الشيء وإلى الشيء، كما ذكر ذلك الراغب في المفردات.

    فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ [التوبة:122]، الفرقة: هي الطائفة من الناس وأقلها ثلاثة، والطائفة: القطعة من الفرقة وأقلها واحد، فالطائفة واحد فما فوقه، كما ثبت ذلك عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين، فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، أتى بصيغة التفعل (يتفقه) ولم يقل: (ليفقهوا)؛ للإشارة إلى أن طلب العلم والفقه يحتاج إلى جد واجتهاد، وإلى صبر ومصابرة، وكما قيل:

    تمنيت أن تمسي فقيهاً مناظراً بغير عناء فالجنون فنون

    وليس اكتساب العلم دون مشقة تلقيتها فالعلم كيف يكون

    يعني: من أراد أن يبني بيت دجاج فإنه يتعب، ومن أراد أن يكون خليفة النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه فينبغي أن يجد وينصب، وأما من ظن أن المراتب ستصل إليه وهو بطال في النهار ونائم في الليل، فهذا لا يمكن أن يكون أبداً، فلا بد إذاً من جد واجتهاد، كان بعض شيوخنا.. الشيخ جمعة أبو زلام عليه وعلى أهل الإسلام رحمة الرحيم الرحمن ينقل عن والده الشيخ مصطفى أبو زلام ، وما أدركته، عليهم جميعا رحمة الله ورضوانه، كان يقول لهم: العلم كالأسد لا يركبه إلا أسد، والأسد لا يسيطر عليه إلا الأسد، والتصوف كالحمار يركبه كل أحد.

    إذا كان الموضوع مجرد أوراد وأذكار، وبعد ذلك لا يفكر في علم ولا في سهر من أجل حمل هذا الإسلام والدعوة إلى الرحمن، فهذا ما حصل على خير وعلم، مع أنه يمسك السبحة ويطقطق، هو على خير، لكن شتان بين من يركب الأسد وبين من يركب الحمار.

    لذلك قال الله: لِيَتَفَقَّهُوا، بصيغة التفعل، فهو يحتاج إلى جد واجتهاد وتعب ونصب، وواقع الأمر كذلك. ثم قال: وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122]، الإنذار: إخبار مقترن بتخويف، ويقال أيضاً في تعريفه: زجر مقترن بتخويف، كما أن البشارة إخبار بأمر مفرح، فهنا أمر سار، وهناك أمر ضار، الحذر: هو الاحتراز عن أمر مخيف.

    أقوال العلماء في معنى قوله تعالى: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة)

    معنى الآية يرتبط بتحديد صلة الآية بما قبلها، فهي تحتمل ثلاثة أمور، أمران يرتبطان بصلة معينة، وأمر يرتبط بصلة ثانية، فللآية ثلاثة معانٍ كلها مقبولة منقولة عن أئمتنا.

    القول الأول: في بيان صلة الآية بما قبلها، وقد تقدم معنا في آخر مباحثنا في تفسير سورة الفاتحة في علم المناسبات بين السور والآيات، وذكرنا أنه علم جليل شريف فاضل، وأكثر لطائف القرآن مودعة فيه الترتيبات والروابط، وقد أُلف في ذلك كتب مستقلة في الحكمة من ترتيب السور مع بعضها، وترابطها مع بعضها، وترتيب الآيات ضمن السورة الواحدة، هنا ما صلة هذه الآية بما قبلها؟ إما أن تكون هذه الآية مرتبطة بما قبلها، ولا زالت أحكام الجهاد تتلى علينا، وقبلها: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً [التوبة:120-122].

    فالآية لا زالت تتحدث عن أحكام الجهاد ومرتبطة بما قبلها، فإذا كانت الصلة كذلك، فمعنى الآية يتحدد في أمرين اثنين منقولين عن سلفنا الكرام: الأمر الأول: إذا كانت هذه الآية لا زالت مرتبطة بأحكام الجهاد، بآيات الجهاد التي سبقتها، فالتفقه سيحصل ويكون للفرقة المقيمة، فلا بد من إضمار في الآية، فسيكون تقدير الآية: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة، (نفر) خرج (من كل فرقة) قلنا: جماعة، ثلاثة فأكثر، (منهم طائفة) قطعة واحد فما زاد، سيكون التقدير: فلولا خرج من كل جماعة بعضُهم للقتال في سبيل الله، فطائفة نفرت وأقامت طائفة ليتفقهوا في الدين، والسبب في هذا: أن إقامة نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام كانت أكثر من غزواته، وتقدم معنا أنه غزا ستاً وعشرين غزوة فقط، وأرسل ستاً وخمسين سرية، والسبب في ذلك: أنه أحياناً لا يستدعي الأمر أن يخرج بنفسه المباركة عليه صلوات الله وسلامه؛ لأن الأعداء قلة، وأحياناً يستدعي الأمر، لكنه لم يكن عنده ما يحمل المستضعفين عليه، ويشق عليهم أن يتخلفوا عنه في جميع غزواته، فيخرج أحياناً مع من يخرج، وأحياناً يبقى مع من يبقى ليجمع بين المصلحتين؛ مصلحة من خرج معهم أحياناً، ومصلحة من قعد معهم أحياناً، وأولئك يسدون مسده عليه وعليهم صلوات الله وسلامه.

    إذاً: يصبح معنى الآية: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ [التوبة:122]، أي: طائفة نفرت إلى الجهاد، وأقامت طائفة مع النبي عليه الصلاة والسلام لتتفقه، أما أن يخرج الكل ولا بيقى مع النبي عليه الصلاة والسلام أحد، فمن الذي يحمل دين الله؟ ومن الذي يبلغ رسالة الله؟ ولكن أقامت طائفة لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ ، وهم من خرجوا ونفروا، لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ .

    إذاً: المعنى الأول: وهو من أوجه الصلة: أنها مرتبطة بآيات الجهاد؛ فرقة خرجت وفرقة قعدت لتتفقه.

    المعنى الثاني: وهو منقول عن سيدنا الحسن البصري، ومال إليه جم غفير من المفسرين، منهم سيد قطب عليه وعلى المسلمين رحمة رب العالمين من المعاصرين، أذكر لكم كلام الحسن البصري، فهو كلام السلف المتقدمين رضوان الله عليهم أجمعين، يقول: التفقه هنا للفرقة النافرة لا للفرقة القاعدة. فيصبح معنى الآية: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ (لولا) بمعنى: هلا، وهي للتحضيض والحث، وهو طلب الشيء بإلحاح وشدة، أي: هلا نفر من كل فرقة منهم طائفة، وهذه الطائفة هي ستتفقه في الدين، متى؟ في حال نفيرها وخروجها للجهاد في سبيل ربها، وكيف يتم هذا؟ لما يرون من عظيم آيات الله، كيف تنتصر القلة على الكثرة! وكيف يثبت الله أولياءه، وينزل السكينة عليهم، ويلقي الرعب في قلوب أعدائهم! وهذه كلها مما يشهدها المجاهدون، ويغفل عنها القاعدون؛ لأنهم ما باشروها، إذاً: التفقه هنا هو التفهم لمعونة الله، ونصر الله، وتأييد الله سبحانه وتعالى لأوليائه.

    وحقيقةً هذا تفقه عظيم، لكنه مرتبط بيقين المؤمن، وقوة إيمانه، وليس المعنى أنه بذلك سيصبح فقيهاً يستنبط الأحكام، لكنه تفقه في أمر من الأمور، وهو أنه قوى إيمانه بربه، والمجاهد هو من أقوى الخلق يقيناً بالله جل وعلا، إذا كان يجاهد من أجل إعلاء كلمة الله.

    المجاهد روحه في كفه، وهي أرخص عليه من بصقة، ويعلم أن ما قدر كان، وأن مغامرته لن تقدم أجله، وأن جبنه لن يزيد في عمره، هل بعد هذا اليقين من يقين؟ وأما القاعد إذا دعي يقول: والأهل والأولاد والوظيفة؟! وتراه يتعلل، فأين إيمان هذا من إيمان ذاك؟ هذا لا بد من وعيه، وهذا مثل الموظف والتاجر، أضعف الناس يقيناً بالله نحو أمر الرزق الموظفون، هو فقط يعول على الراتب، كل شهر، لو تأخر عشرة أيام المسكين لا يعرف كيف يعيش، ولا كيف يدبر نفسه، أما التاجر فهو مثل الطير يغدو خماصاً ويروح بطاناً، هو ما علق همته على شيء معلوم يأتيه من فلان وفلان، يفتح الدكان ويقول: باسم الرحيم الرحمن، ما جاءه نعمة وخير وبركة، وهكذا المزارع، أما أضعف الناس يقيناً بأمر الرزق فهم الموظفون، ولذلك تراه في منتهى الخوف من أجل الفصل، كأنه إذا فصل سيموت جوعاً! يا عبد الله! أنت عبد لله وسيرزقك الله، حتى لو كنت داخل مغارة، وعندما كنت في ظلمات ثلاث كان يأتيك رزق من حيث لا تحتسب، فبعد أن مشيت على الأرض وقلت: لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام سينساك ذو الجلال والإكرام! لكن كما قلت: ربط يقينه بشيء محسوس معلوم، وكل شهر يستلم -على تعبير الناس- الفيزات، إذا ما جاءت يقول: مشكلة، كيف سأطعم عيالي؟! ولذلك كان السلاطين دائماً في جميع العصور يهددون الموظفين بقطع رواتبهم!

    أبو نعيم الفضل بن دكين رضي الله عنه وأرضاه ما كان له راتب كما هو الحال في هذه الأيام، لكن كان لهم عطاء، لما كلمه المأمون من أجل خلق القرآن ومحنة خلق القرآن، ومن أجل أن يجيب، وأن القرآن مخلوق، فامتنع، فلجلالته وكبر سنه ما بطشوا به ولا عذبوه، إنما هدده فقط، قال: أقطع عطاءك. فقطع زره من قميصه ورمى به وجه الخليفة، وقال: والله ما دنياكم عندي إلا أهون من هذا الزر. إن قطعت عطائي قُطع رزقي؟ دنياكم من أولها لآخرها مثل هذا الزر، خذ هذه الدنيا فقد نزعتها من قلبي وذهب، لكن الشاهد هو التهديد بقطع العطاء.

    إذاً: التفقه هنا للفرقة النافرة الخارجة في سبيل الله، أي: لتقاتل من أجل إعلاء كلمة الله، فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لمَ؟ قال: لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، ليشهدوا، شهود العيان نصر ذي الجلال والإكرام لأهل الإيمان.

    يقول سيد قطب عليه رحمة الله: وهذا الدين دين حركي، وفقهه لا يظهر إلا في الحركة. وكلامه حق، لكن كما قلت في جانب معين، وهو فيما يتعلق بتقوية يقين الإنسان وإيمانه، لا يعني أنه إذا حضر غزوة سيصبح كـأبي حنيفة، وأن هذه الغزوة سوف تفتح عليه آفاق العلم ليستنبط أحكاماً شرعية من عبادات ومعاملات وعقوبات، لا، قف عند حدك، فأنت -أيها المجاهد- في جانب تميزت على غيرك، وشهدت نصر الله لعباده، فصار لك فقه ووعي وفهم في الإيمان ما حصل لكثير من أهل الإيمان. هذا على أن هذه الآية مرتبطة بما قبلها فلا زالت آيات الجهاد تتلى علينا.

    فضل السفر في طلب العلم

    وقيل -وهو وجه الصلة الثانية-: إن هذه الآية كلام مبتدأ، بعد أن ذكر الله عبادتين لا تحصلان إلا بسفر، وهما: الهجرة، والجهاد، قال تعالى: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:40]، هذا نوع من العبادات لا يحصل إلا بسفر، وهي الهجرة، ونوع آخر من العبادات وهو الجهاد، كذلك لا يحصل إلا بسفر، قال تعالى في سورة التوبة: انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة:41]، والآيات قبل هذه: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ [التوبة:120] عليه الصلاة والسلام.

    إذاً ذكر عبادتين لا تحصل واحدة منهما إلا بسفر، هجرة وجهاد، وبعد هذا ذكر الله نوعاً ثالثاً من أنواع العبادات، وهو طلب العلم، أيضاً لا يحصل إلا بالرحلة، والسفر، كما حصلت الهجرة بالسفر، وحصل الجهاد بالسفر، فطلب العلم أيضاً يحصل بالسفر، فذكر الله عبادة ثالثة فاضلة وهي طلب العلم، التي أيضاً تشارك العبادتين المتقدمتين في طريق حصولها وهي السفر فقال: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً [التوبة:122]، في أي شيء؟ في طلب العلم، ما كانوا ليخرجوا جميعا ليتعلموا، ويتركوا بلادهم ومصالحهم، ولذلك قال: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ [التوبة:122]، يكفي أن يذهب من هذا الحي واحد، يتعلم ثم يعود إليهم ينذرهم ويحذرهم، لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ [التوبة:122]، أي: بعد تعلمهم، لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122].

    قال الإمام الرازي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: لفظ الآية دليل على السفر في طلب العلم، وإن كان الإنسان يحصل العلم في بلده من غير سفر فيبقى، وقد رأينا أن العلم المبارك المنتفع به لا يحصل إلا بسفر. ولذلك -إخوتي الكرام- هناك عدد من أئمتنا جالوا الدنيا، منهم الإمام المبجل أحمد بن حنبل رضي الله عنهم أجمعين، رحل أربع مرات يدور الدنيا، وكلما كثرت رحلة الإنسان كلما كثر علمه، وأخذ علم أهل المشرق وأهل المغرب عندما دار، هذا حقيقة، وإن كان العلم قد يحصله في بلاده لكن السفر أنفع له، العلم المبارك ما يحصله الإنسان إلا عن طريق السفر، والسبب أنه تعب في تحصيله، فيجد ويجتهد في العمل به وفي الدعوة إليه.

    أما في زمن النبي عليه الصلاة والسلام فالأمر واضح، لا يحصل العلم إلا بالسفر إليه، فهو مشكاة العلم عليه الصلاة والسلام، فكأن الله يقول: يا معشر العباد! لا يلزمكم أن تهاجروا جميعاً، لو ذهب من كل قوم واحد أو اثنان إلى النبي عليه الصلاة والسلام فتعلم أو تعلما، ثم عاد أو عادا إليكم لكفى. ولذلك اتفق أئمتنا على أن هذه الآية نص صريح في قبول خبر الواحد، والأحاديث في ذلك متواترة، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يرسل رسله آحاداً ليبلغوا دعوة الله جل وعلا، وليبينوا أحكام الله، فخبر الواحد الثقة كاف في الحجة والعمل به، وهنا فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ ، وكما قلنا: أقلهم ثلاثة، مِنْهُمْ طَائِفَةٌ، يشمل الواحد فما فوقه، إذاً لو خرج واحد وتعلم وعاد، ثم أنذر وحذر لقبل ذلك منه.

    إخوتي الكرام! كان عندنا مبحث لطيف فيما يتعلق بلولا، وكما قلت: هي للتحضيض، وبمعنى (هلا)، وهي طلب الشيء بإلحاح ورغبة، كيف تركب هذا المعنى فيها؟ لأنها مركبة من (هل) الاستفهامية، و(لا) النافية، وسنذكر هذا فيما يأتي، وماذا يكون معناها إذا دخلت على المضارع وعلى الأمر، ضمن هذه الآية: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ [التوبة:122]، (لولا، هلا، لوما) كلها بمعنى واحد تفيد طلب الشيء بإلحاح وشدة.

    وأما الأحاديث الأربعة فسوف أذكرها أيضاً في أول الموعظة الآتية بعون الله وتوفيقه في بيان فضل التفقه في دين الله عز وجل.

    أسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم إنا نسألك من كل خير أحاط به علمك في الدنيا والآخرة، ونعوذ بك من كل شر أحاط به علمك في الدنيا والآخرة، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر لجيرانه من المسلمين، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليما كثيراً، والحمد لله رب العالمين.

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756268639