فقد تقدم معنا في بداية هذه المسألة وهي مسألة النظر إلى الأمرد، أنه إذا كان صبيحاً جميلاً فحكمه حكم النساء، ويحرم النظر إليه بالاتفاق إذا كان النظر بشهوة، سواء كانت هذه الشهوة شهوة تلذذ بالنظر واستحسان لهذه الصورة المليحة، أو شهوة وطء له وفعل الفاحشة به، فإذا كان فيه جمال ونظر بشهوة، حرم تلذذاً أو تطلعاً لشيء أشنع من النظر، وهكذا يحرم عليه باتفاق النظر إلى الأمرد إذا ظن الشهوة من نفسه أو خشي على نفسه الفتنة، وهكذا أيضاً على المعتمد يحرم النظر إلى الأمرد الصبيح الجميل من غير حاجة، وعليه فالنظر بشهوة حرام، وإن خشي الشهوة حرام، وإن ظنها حرام، وإن بدون شهوة ولا خشيها ولا ظنها لا يجوز أن يتبع النظرة النظرة إلى الأمرد، ومن فعل هذا يتهم، وإذا قال: ليس في قلبي شيء فلا يصدق، فلا يجوز النظر إليه كما لا يجوز النظر إلى النساء على المعتمد.
وهذا ما نص عليه سيدنا الإمام الشافعي فيما نقله عنه الإمام النووي في روضة الطالبين في الجزء السابع صفحة خمس وعشرين، تحريم النظر إلى الأمرد مطلقاً، ومعاملته معاملة المرأة، وهذا الذي ذكره الإمام ابن قدامة في المغني في الجزء السابع صفحة ثلاث وستين وأربعمائة، لكن قال: يحرم النظر إلى الغلام، قال: إن خشي عليه أو خشي منه.
وتقدم معنا أن هناك من فرق بين الأمرد والملتحي في استحسان النظر، فعندما تنظر إلى ملتحٍ، فلك اعتبار معين، فإذا كان هذا الاعتبار هو هو عندما تنظر إلى الأمرد بأن نظرت من غير شهوة، ولا خشيت ولا ظننت وإنما هي نظرة طبيعية فلا حرج، أما مع استحسان وتلذذ بالنظر دون أن ينتقل إلى شيء منكر بأن يريد منه الفاحشة، فإنه إذا كان يستحسن هذه الصورة ويستحليها كما يستحلي النظر إلى وجه المرأة وإن لم يرد أيضاً مباشرتها، فلا يجوز؛ لأن هذا سيجرك بعد ذلك إلى بلايا ورزايا وأنت لا تدري، فلا بد إذن أن تضع الحواجز والسدود من البداية، فإذا كان الإنسان يفرق في نظرته بين الأمرد والملتحي حرم عليه النظر إلى الأمرد.
وتقدم معنا أن هذا الذي قرره الإمام الغزالي في الإحياء في الجزء الثالث صفحة تسع وتسعين، وقلت: إن الإمام ابن تيمية عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه أفاض في هذه المسألة فذكر ما يزيد على خمسين صفحة في الجزء الخامس عشر من صفحة أربع وسبعين وثلاثمائة إلى صفحة سبع وعشرين وأربعمائة، وفي الجزء الحادي عشر صفحة اثنتين وأربعين وخمسمائة، وفي الجزء الثاني والثلاثين صفحة سبع وأربعين ومائتين.
فالنظر إلى الأمرد في هذه الحالة محرم عليه باتفاق، وعمومات الأدلة تدل على هذا، فالآيات التي تأمرنا بأن نصون فروجنا، وأن نغض طرفنا، يدخل فيها غض الطرف عن الأمرد وعن المرأة، لكن الأدلة الخاصة التي وردت في المنع من النظر إلى الأمرد تنقسم إلى قسمين: منها ما هو مرفوع لم يصح، وإن كان الحكم ثابتاً للعمومات من الأدلة الشرعية، وهناك آثار أخرى عن سلفنا الكرام رضي الله عنهم أجمعين جنسها متواتر، وهذا ما سنبحث فيه إن شاء الله.
وسأذكر ثلاثة من الأدلة والآثار المرفوعة، وأبين أنها لا تصح، حتى إذا سمعناها نكون على علم بها، ثم نأتي بالآثار عن سلفنا الأبرار رضي الله عنهم، وقد اتفقت كلمتهم على تحريم النظر إلى الأمرد والخلوة به، وعاملوه معاملة المرأة كما تقدم معنا مختصراً، وإليكم التفصيل في ذلك.
والأثر لا يصح كما سيأتينا، وعلق عليه ابن تيمية بقوله: هذا وهو رسول الله عليه الصلاة والسلام -يعني فعل هذا وهو رسول الله عليه الصلاة والسلام- وهو مزوج بتسع، والوفد قوم صالحون، ولم تكن الفاحشة معروفة عند العرب، ومع ذلك احتاط نبينا عليه الصلاة والسلام ولم ينظر إليه وأجلسه خلفه وقال: (إنما كانت فتنة نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام من أجل النظر).
وكأن الإمام ابن تيمية كان يرى أن الأثر صحيح حتى علله بما علل، واستنبط منه ما استنبط، وقال في الجزء الخامس والثلاثين صفحة اثنين وأربعين كلاماً يشبه هذا وإن لم يذكر الأثر، فقال: كلاهما -يعني نبي الله آدم ونبي الله داود على نبينا وعليهما صلوات الله وسلامه -ابتلي بما ابتلي به الآخر من الخطيئة، وكل منهما خطيئته تناسب خطيئة الآخر، أما نبي الله آدم عليه السلام فخطيئته من أجل البطن عندما أكل من الشجرة، وأما نبي الله داود على عليه السلام فخطيئته من أجل النظر التي هي شهوة الفرج.
والإنسان إذا ذهل وغفل ونسي، ففي حقنا لا نعاتب عليه، أما الأنبياء عليهم السلام فيعاتبون، فهو معصية بالنسبة إليهم ودرجتهم ورفعة قدرهم -ولابد من وعي هذا- وأما معصية نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام فكلها افتراء وهراء، ولابد من أثر يبين هذا، فالنهي عن الأكل من الشجرة وارد في القرآن، وأما أن نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام نظر نظرة محرمة، وترتب عليها أن يأخذ زوجة الغير، فأين هذا عندنا؟!
فلابد أن نتقي الله في أنفسنا، وانظر إلى التناقض من هذا الإمام المبارك رحمه الله وغفر لنا وله، فقد ضعفه في الجزء الخامس عشر صفحة سبع وسبعين وثلاثمائة، حيث ذكر أثر الشعبي وأن حبيبنا النبي عليه الصلاة والسلام أجلس هذا الغلام وراء ظهره لأنه وضيء جميل وقال: (إنما كانت فتنة نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام من أجل النظر)، قال: قلت: هذا حديث منكر! وما دام أنه منكر فكيف تستدل به؟! فهناك تأخذ منه أحكاماً وتعلله، وهنا تقول: منكر!
والاستدلال والتوجيه فرع الثبوت، لا يجوز أن تستدل بأثر إلا بعد أن يثبت، فأثبت ثم استدل، والأثر منكر باطل لا يثبت بحال، فاستمعوا لكلام أئمتنا الأبرار.
قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر في التلخيص الحبير في الجزء الثالث صفحة سبعين ومائة: قال ابن الصلاح: إنه ضعيف لا أصل له، وضعفه الإمام ابن القطان في كتابه أحكام النظر.
قال الإمام ابن حجر رضي الله عنهم أجمعين: ورواه أحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن نبيط بن شريط ، ومن طريقه رواه أبو موسى المديني في الترغيب والترهيب، وإسناده واهٍ، أما أحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن نبيط بن شريط فلا يحل الاحتجاج به؛ كذاب كما في اللسان في الجزء الأول صفحة ست وثلاثين ومائة، وقال عنه الذهبي في المغني في الجزء الأول صفحة أربع وثلاثين: إنه ساقط ذو أوابد، يعني أنه يأتي بأمور شاذة غريبة، لا يعلم إنسان من أين يختلقها. وقال ابن حجر الهيتمي في الزواجر في الجزء الثاني صفحة ست: روي بسند ضعيف، ثم ذكر الأثر، عبر بعضهم بأن الإسناد ضعيف، وهو واه كما قال شيخ الإسلام ابن حجر رحمه الله.
مرة في امتحان التوحيد في كلية الشريعة كتبت في السؤال: قرر الإمام ابن تيمية عليه رحمات رب البرية كذا، اشرح القول، ودعمه بالأدلة، فطالب يتفلسف يقول: أنت لمَ لم تقل عن الإمام ابن تيمية إنه شيخ الإسلام وقد صار علماً عليه؟ في قلبك سوء نحوه، وهنا في الزواجر قال ابن حجر كما قال شيخ الإسلام وهو ابن حجر ، فما أحد يظن أنه ابن تيمية ، فليس شيخ الإسلام أينما وجد ابن تيمية ! فاستدعيت الطالب وكان من الكويت من المشوشين هؤلاء الذين لهم لغط في هذه الأيام، قلت: يا رجل! أنت لا تستحي من الله؟! هل قلت: الولد أو الصبي أو الراعي؟ قلت: قال الإمام ابن تيمية ، الله قال عن خليله إبراهيم وعن أنبياء الله: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا [الأنبياء:73]، ماذا تريد أن أقول لهم؟! أتظن شيخ الإسلام أعلى من الإمام؟ أريد أن أعلم من الذي نحت لكم تماثيل وبدأتم تدورون حولها؟ أنا عندما أذكر الأئمة أقول فيهم هذا، قال الإمام النووي ، قال الإمام أبو حنيفة ، ما قلنا في يوم من الأيام: قال شيخ الإسلام أبو حنيفة ، وحقيقة رتبة الإمام أعلى، فيا رجل! كف عن سفاهتك، ثم هذه ورقة امتحان تطلب منك إجابة على سؤال، ما يطلب منك أن تصحح هذا السؤال للمدرس؟!
يعلم الله فكرت مراراً أن أضرب على الورقة وأضع له صفراً من أجل فلسفته، ليس انتقاماً للنفس أو كذا، ولكن السفاهة ينبغي أن يوقفها الإنسان عند حد، لكن سيقال: هذا تكلم على الأستاذ فانتقم منه.
حقيقةً! العقول الضحلة التي ابتلينا بها هذه الأيام أمرها عجيب، شيخ الإسلام هذا الذي ينبغي، واخترعوا لقباً آخر وهو: أئمة الدعوة، الآن لما يذكر أئمة الدعوة يقصدون بهم الذين هم من أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أطلقوا على علماء الإسلام اصطلاحات مشتركة، ولا تخصوا بعد ذلك كل واحد بلقب، هذا في الأصل من أهل الزيغ عندما يقولون علياً عليه السلام رضي الله عنه وأرضاه، ويذكرون بعد ذلك أبا بكر وعمر وعثمان ولا يقولوا: رضي الله عنهم ولا رحمهم الله.
إخوتي! لم السفاهة؟! نقول: أبو بكر عليه السلام، وعلي عليه السلام لا بأس، أما علي عليه السلام كما تجدونه في سبل السلام بكثرة، قال: علي عليه السلام، ثم يذكر أبا بكر وعمر وعثمان ، ولا يقول: رضي الله عنهم، والله ما خطر ببالي في يوم من الأيام أن أفرق بين الصحابة، ولا أن أفرق بين من بعدهم من أئمة الإسلام، فإذا كنا نحب شيخ الإسلام الإمام النووي فلا نتخذ نحو العلماء الآخرين موقفاً آخر، فكلهم أئمة الدين، وحبهم دين نتقرب به إلى رب العالمين، أما أن نأتي إلى جهة فنميل إليها ونهيل عليها الألقاب، والجهة الأخرى على العكس، فتقول: قال النووي قرر هذا النووي فيقول: هذا متمذهب! وعندما تقول: قال الإمام ابن تيمية يقول: لم لا تقول: شيخ الإسلام؟!
خلاصة الكلام أنه لا يثبت الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وتأخيره للغلام الأمرد بحيث أجلسه خلفه ووراءه لا يثبت هذا، ولذلك ذكر الإمام الشوكاني هذا الحديث في كتابه الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، وكان يرى عدم صحته، وأنه موضوع في صفحة ست ومائتين، وقال: لا أصل له، وفي إسناده مجاهيل.
ولفظ الحديث من رواية سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الصيام صيام نبي الله داود)، وفي رواية: (أحب الصيام إلى الله صيام نبي الله داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وأحب الصلاة، إلى الله صلاة نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام)، وهي صلاة الليل التي يخلو الإنسان فيها مع ربه سبحانه وتعالى، قال: (كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه)، الليل ستة أسداس، ثلاثة أسداس وهي النصف ينامها، وسدسان وهي الثلث يقومه، فيقوم إذاً سدساً من الثلث الأخير، وسدس يكون فيه نائماً، فهذه أحب الصلاة إلى الله.
وحقيقةً! فيها مزيد عزم وحزم وجد واجتهاد، وفيها راحة للبدن، عندما ينام الإنسان نصف الليل يستريح، فيقوم للعبادة بنشاط، وحينما يبقى إلى الفجر ساعة ونصف أو ساعتان ينام ليتنشط لصلاة الفجر، ولئلا يظهر في وجهه الصفرة التي تعتري من يقومون السدس الأخير دون نوم، فإذاً: فيها جد واجتهاد، مع أن فيها زيادة تعب، فهو لو نام الثلثين واستيقظ الثلث الأخير ليتهجد ويصلي الفجر كان أيسر عليه، بينما هنا نام واستيقظ، ثم نام ثم استيقظ، وهذا يحتاج لمراقبة الله في كل لحظة وضبط للوقت.
إخوتي الكرام! لو ضبطنا الآن الليل بعد صلاة العشاء الآخرة، ولنفرض أننا ننتهي من الصلاة الساعة الثامنة، ونحن الآن في أوقات الليل فيها قصير والنهار طويل، ولذلك الشتاء غنيمة المؤمن، قصر النهار فصامه، وطال الليل فقامه، فلو قدرنا أنه في الثامنة يؤذن العشاء، فنحن نصلي الثامنة والنصف وننتهي التاسعة، ولو قدرنا الوقت من التاسعة إلى الثالثة فجراً فعندنا ست ساعات، نم ثلاث ساعات إلى الساعة الثانية عشرة، واستيقظ ساعتين من الثانية عشرة إلى الثانية ثم تنام إلى الثالثة، وتستيقظ مرة أخرى، فيصبح الترتيب هكذا، وهذا فعل نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
والصفة الثالثة: ( وكان لا يفر إذا لاقى) إذاً: صلاته خير الصلوات، وصيامه خير الصيام، وجهاده أكمل الجهاد، إذا لاقى أعداء الله لا يفر، ويثبت ولا يولي الدبر، فهل مثل هذا يجري منه ما ينزه أحدنا نفسه عنه؟!
فبعد هذا الورع عما يحل له, هل يتوقع منه أن يتطلع إلى ما لا يحل له؟!
أنا والله أعجب للعقول التافهة كيف تلوك الشبه المنكرة نحو أنبياء الله البررة على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه!
فقوله: (كان يأكل من عمل يده)، ثابت في حديث المقدام، وثابت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وهنا خفف على نبي الله داود عليه السلام القرآن، يعني القراءة والتلاوة، فكان يأمر بدوابه أن تسرج فيقرؤه -أي: الزبور- من أوله إلى آخره، قيل: إنه مائة وعشرون سورة، خفف عليه، أي: بورك له في وقته، وأعطاه الله نشاطاً بحيث يقرأ الزبور من أوله إلى آخره قبل أن تسرج الدواب، وإسراج الدواب لا يأخذ أكثر من ربع ساعة، ولا يأكل إلا من عمل يده، وهذه تكملة لنص الحديث: (خفف على نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام القرآن، فكان يأمر بدوابه أن تسرج فيقرؤه قبل أن تسرج، ولا يأكل إلا من عمل يده).
قال الحافظ ابن حجر في الفتح في الجزء السادس صفحة وخمس وخمسين وأربعمائة: في هذا الحديث دليل على أن البركة قد تقع في الزمن اليسير حتى يقع فيه العمل الكثير، وهذا إن صدر من نبي قالوا: له معجزة، وإن صدر من ولي يقال: له كرامة، وهذا يسميه أئمتنا بـ(نشر الزمان)، يقولون: الزمان كأنه نشر وتطاول في حقي، فساعة مرت علي وعليك، لكن أنا قرأت فيها المصحف بكامله، وأنت ما أنهيت جزأين، نشر الله الزمان ليبارك لي أما أنت فبقي الزمان العادي يجرى عليك وما حصلت فيه البركة، وهنا لو أرادوا أن يفعلوا مثل فعل نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام لما أمكنهم.
ثم قال الحافظ ابن حجر ناقلاً عن كتاب التبيان في آداب حملة القرآن للإمام النووي ، وانظروا التبيان في صفحة سبع وأربعين، قال ابن حجر : قال الإمام النووي : وأكثر ما بلغنا عن عباد هذه الأمة وصلحائها أنهم كانوا يختمون أربع ختمات في الليل، وأربع ختمات في النهار، يعني: هذه ذكرت مع معجزة نبي الله داود على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، لنحترم عقولنا ونقف عند حدنا، ونعلم أن هذا ليس بمستحيل، إذا وقع لنبي على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه فهو جائز شرعاً، كرامة ومعجزة، ويمكن أن يقع لولي، كرامة أيضاً، لكن يقال لها في حق النبي: معجزة تمييزاً لها عن كرامات الصالحين.
وعندنا خوارق العادات تقع في العلم والقدرة والغنى كما قرر أئمتنا، وهي أمور الكمال ولا توجد مجتمعة، ولا يوجد واحد منها على الكمال إلا في ذي العزة والجلال، ثم يطلع الله بعض خلقه على شيء من هذه الأمور حسبما شاء، فإذا وقع في العلم يقال له: مكاشفة كما قال الإمام ابن تيمية: يا سارية! الجبل الجبل، هذا مكاشفة، وإذا وقع في التحمل يقال له: قدرة، وإذا وقع في الاستغناء عن الناس يقال: وقع في أمر الغنى، قدرة وغنى وعلم، فالخارق في العلم يقال له: مكاشفة، يقول الخطابي : إن كان أحد من المحدثين في هذا العصر فهو أبو عثمان المغربي .
وهذا كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام كما في المسند والصحيحين من رواية سيدنا أبي هريرة، والحديث في المسند وصحيح مسلم وسنن الترمذي والنسائي من رواية أمنا الصديقة المباركة سيدتنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد كان في الأمم قبلكم محدثون من غير أن يكونوا أنبياء؛ فإن يكن في أمتي أحد منهم ف
فلا أحد يقول: إنك تخرف، أو الخطابي يخرف، لا أحد يخرف إلا من يفتري على الشريعة المطهرة، هذا كلام نبينا عليه الصلاة والسلام.
يا سارية! الجبل! الجبل! قالها عمر رضي الله عنه على المنبر عندما أخذته سنة، قال بعضهم: نام على المنبر وصاح وهو نائم على المنبر: يا سارية ! الجبل! الجبل! فسيدنا عمر ينام في خطبة الجمعة على منبر رسول الله عليه الصلاة والسلام! وسبحان الله! كيف الناس يتلاعبون ويتأولون، وإن تأويلات الجهمية أخف رداءة من هذا التأويل، ثم سلمنا أنه صاح في نومه، فكيف سمع قائد الجيش سارية هذا الكلام وهو ببلاد نهاوند؟!
نسأل الله أن يلهمنا رشدنا، وأن يلهمنا أن نقف عند حدودنا، فإن يكن في أمتي أحد منهم فعمر ، قال الحافظ ابن حجر: فـ(إن يكن) صيغة ترديد وشك، والمراد منها التحقيق والقطع، أي: وجد محدثون ملهمون مكاشفون في الأمم السابقة من غير أن يكونوا أنبياء، وهذه الأمة أفضل عند الله من الأمم السابقة، فإذا وجد في تلك الأمم هذا الصنف، فأمتي من باب أولى، وهذا كما تقول: إن كان لي صديق فأنت، تورد الكلام مورد الترديد والشك، وتريد منه التحقيق، يعني: أنت لا تشك في صداقتي لك، وأنا لي أصدقاء غيرك، لكن أنت في المقدمة، وإذا انتفت الصداقة بين وبينك فليس بيني وبين أحد من خلق الله صداقة، وهنا كذلك، يعني: إذا لم يكن في هذه الأمة محدثون، فمن باب أولى أن يكون في الأمم السابقة، وإذا وجد في الأمم السابقة محدثون، فمن باب أولى أن يوجد في هذه الأمة، فأورد الكلام مورد الترديد والشك، والمراد منه التحقيق، فـعمر رضي الله عنه وأرضاه صالح ولي قانت لله جل وعلا، ما جاز عليه يجوز على غيره من الأولياء، ولذلك قال أبو سليمان الخطابي : إن كان في هذا العصر أحد من المحدثين فأبو عثمان المغربي .
ومن كلام هذا العبد الصالح يقول: الناس قوالب وأشباح تجرى عليهم أحكام القدرة.
وقد دفن أبو عثمان المغربي بجوار أبي عثمان الحيري النيسابوري ، فاجتمع في ذلك المكان أبو عثمان المغربي والحيري النيسابوري رضي الله عنهما وعن أئمة الإسلام، وكل منهما من مشايخ الصوفية الكبار، وقد تقدم معنا ترجمة أبي عثمان النيسابوري ، وهي في السير وغير ذلك، انظروا سير أعلام النبلاء في الجزء الرابع عشر صفحة اثنتين وستين، ونعته الإمام الذهبي بقوله: هو الشيخ الإمام المحدث الواعظ القدوة شيخ الإسلام الأستاذ أبو عثمان سعيد بن إسماعيل النيسابوري الحيري ، توفي سنة ثمان وتسعين ومائتين، عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا.
وتقدم معنا أنه كان مجاب الدعوة، ولما دعا على الأمير الظالم لم يصل الفجر حتى جاءه الخبر بموته، وعلق الإمام الذهبي على هذه القصة بقوله: وبمثل هذا يعظم مشايخ الوقت، وهو الذي تزوج امرأة مسكينة عوراء عرجاء شوهاء إكراماً لها وإرضاء لرب الأرض والسماء، وهو الذي قال لـأبي جعفر بن حمدان : ألستم ترون تروون روي بالوجهين أنه عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة؟ قال: بلى، قال أبو عثمان : فرسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الصالحين، يعني إذن نكتب حديث نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام لتنزل علينا رحمة رب العالمين؛ لأن نبينا عليه الصلاة والسلام سيد الصالحين وإمام الصالحين وأفضل خلق الله أجمعين.
أبو عثمان المغربي الذي توفي سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، ينقل هذه الكرامة عن شيخه ابن الكاتب الذي توفي بعد الأربعين وثلاثمائة: أنه كان يختم أربعاً في الليل وأربعاً في النهار، وابن الكاتب هو أبو علي أحمد بن علي بن جعفر ، كان من كبار الصالحين، ومن مشايخ ساداتنا المصريين، انظروا ترجمته الطيبة في صفة الصفوة في الجزء الرابع صفحة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، وفي البداية والنهاية في الجزء الثاني عشر صفحة ثمان وعشرين ومائتين، وفي الرسالة القشيرية صفحة ست وعشرين وأربعمائة.
وكان يقول: إذا سكن الخوف قلب الإنسان لم يتكلم اللسان فيما لا يعنيه، أي أنك تتكلم بما لا يعنيك عندما لا تعظم الله والقلب خالٍ من هيبة الله جل وعلا.
وهذه الكرامة نقلها الإمام النووي ، ونقلها عنه حذام المحدثين ابن حجر في الفتح، وأوردها عند معجزة نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فكما وقع هذا معجزة لنبي، جاز أن يقع كرامة لولي والله على كل شيء قدير.
تقدم معنا هذا وقلت: إن الأثر موجود في السير في الجزء الرابع صفحة اثنتين وثلاثين ومائة، والمعلق على السير قال: هذه القصة لا يقبلها العقل ولا يصدقها! وأنا أقول: قولك لا يقبله العقل! نحن عندنا في هذا الوقت اختلت الموازين فلا نميز بين الجائز وبين المستحيل، فالمستحيل هو الذي لا يقبله العقل، وهو أن تجمع بين نقيضين أو أن تنفيهما، أما الجائز الممكن، فكما لو قيل لنا: فلان طار في الهواء، فما المانع أن يجعل الله بشراً يطير؟ لكن هذا ما جرت به العادة، فإذا طار يقال: خرقت له العادة في حقه، ما يمكن أن تخرق العقول، وأن يأتي بشيء يتناقض مع العقول، ولو جعله الله يطير كالطائر لكان أمراً طبيعياً.
فقوله: لا يقبله العقل، هذا كلام من لا يعلم وظيفة العقل، ولا معنى العقل، ولا يعقل ما يقول، لو قال: هذه القصة غريبة تحتاج إلى تحقق للإثبات لهان الأمر؛ لأن الواجب عندنا لا يتصور عدمه، والمستحيل لا يتصور وجوده ووقوعه، والممكن يتصور وجوده وعدمه، فإذا شاء الله أن يوجده بكيفية من الكيفيات فهو على كل شيء قدير، وما حصل لنبينا عليه الصلاة والسلام في حادثة الإسراء والمعراج يعتبر خارقاً للعادة، لا يمكن أن تأتي شرائع الله بما تحيله العقول، إنما تأتي بما تحار فيه العقول ليسلم الإنسان بعجزه للعزيز الغفور سبحانه وتعالى، وستحيل أن يتعارض خلق الله مع شرع الله، فلا يتعارض نقل صحيح مع عقل صريح، إنما يحار العقل، وهذا هو دليل عجزك، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85] ، هذا دليل عجزك، وهذه الحيرة مقصودة ليسلم الإنسان بعجزه لربه سبحانه وتعالى.
فلو قال: هذه غريبة عجيبة، نقول: صدقت غريبة عجيبة ولا شك، وهذه ثلاث ختمات استغربتها، وقد وجد ما هو أكثر، وجد ثماني ختمات، والختمة الطبيعية للحافظ المجد المسرع إذا أراد أن يختم مرة تأخذ منه ست ساعات إلى سبع، هذا للمجد الذي يقرأ حدراً ولا يأخذ نفساً، فثماني ختمات اضربها في سبعة يكون معك ست وخمسون ساعة، واليوم كله أربع وعشرون ساعة، فكيف يمكن هذا؟ هذا نشر الزمان كما قلنا، تحصل البركة في الوقت القليل فيفعل فيه الكثير كما قال الحافظ ابن حجر رضي الله عنه وأرضاه، فاحترموا العقل البشري ولا تمتهنوه.
ولفظ الحديث: عن سيدنا أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام يقول: كان أعبد البشر، وكان من دعائه: اللهم إني أسألك حبك، وأسألك حب من يحبك، وأسألك حب العمل الذي يبلغني إلى حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي ومن الماء البارد )، والحديث لا ينزل عن درجة الحسن كما قلت، وقد صححه الحاكم فتعقبه الذهبي بما وهم فيه، فانتبهوا لوهم الذهبي رحمه الله ورضي عنه.
قال الذهبي في تلخيص المستدرك في الجزء الثاني صفحة ثلاث وثلاثين وأربعمائة: فيه عبد الله بن يزيد الدمشقي ، قال عنه الإمام أحمد : أحاديثه موضوعة، وهذا الكلام قاله الإمام أحمد في عبد الله بن يزيد الدمشقي وهو تابعي، يروي عن واثلة بن الأسقع وأبي أمامة رضي الله عنهم أجمعين كما في المغني للذهبي في الجزء الأول صفحة ثلاث وستين وثلاثمائة، وكما في الميزان ومعه اللسان في الجزء الثالث صفحة ثمان وسبعين وثلاثمائة، أما الراوي في المستدرك فليس هو التابعي الذي يروي عن واثلة وأبي أمامة رضي الله عنهم أجمعين.
الذي معنا في المستدرك هو عبد الله بن ربيعة بن يزيد الدمشقي يروي عن أبي إدريس الخولاني ، وهو من رجال الترمذي، يختلف عن ذاك كما قرر هذا الذهبي نفسه في كتابه الكاشف في الجزء الثاني صفحة ست وسبعين.
وقد حكم الحافظ ابن حجر في التقريب على عبد الله بن ربيعة بن يزيد الدمشقي الذي معنا في رجال الترمذي، فقال: إنه مجهول، والسبب في ذلك أنه لم يرو عنه إلا راو واحد، وقال الحافظ في تهذيب التهذيب في الجزء الخامس صفحة سبع ومائتين: وقد ذكره ابن حبان في الثقات، أي: على طريقته في توثيق من روى عنه راو واحد ولم يعلم فيه جرح، ثم أورد الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب هذا الحديث من طريق الترمذي وقال: رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب.
إذاً: قول الذهبي : فيه عبد الله بن يزيد الدمشقي ، قال عنه الإمام أحمد : أحاديثه موضوعة، هذا وهم، إنما فيه عبد الله بن ربيعة بن يزيد الدمشقي ، نعم فيه جهالة كما قلت، لكن لا يعلم فيه ضعف، فالإمام ابن حبان يوثقه، والإمام الترمذي يحسن الحديث من طريقه رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.
استمع لوصف الله لنبيه داود عليه السلام في سورة ص: اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:17]، والأيد مصدر آد يئيد أيداً بمعنى قوي واشتد، وليست هنا جمع يد، ومنه قول الله: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ [الذاريات:47]، فليست من آيات الصفات، والمعنى بقوة وإحكام.
إذاً: هو ذو القوة في طاعة الله وفي قتال أعداء الله، وتقدم معنا أن صومه أحب الصيام إلى الله، وصلاته أفضل الصلوات عند رب الأرض والسماوات، فيثبت إذا لاقى الأعداء ولا يفر ولا يولي أدباره، وبعد ذلك عنده عزم وحزم في العمل، فيأكل من كد يمينه، ولا يأخذ شيئاً من بيت مال المسلمين، وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:17]، أي: كثير الرجوع إلى الله عز وجل.
وانتبه لما أغدق الله عليه من الخيرات والبركات وسخر له من المعجزات: إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ [ص:18]، خصوصيات كان في أول النهار، وفي آخره يجلس فيقرأ الزبور وهو صاحب الصوت العذب الشجي، فالجبال والطيور تسبح معه بصوت يسمع ويفهم، إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ [ص:18]، وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [ص:19]، أي: تسبح معه، وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ [ص:20]، أي: قويناه، وجعلنا له هيبة في رعيته، وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ص:20]، والذي يعتدي على أعراض الناس هذا غير حكيم، بل هو سفيه.
إذاً: المحراب الغرفة العالية العلية، يعني: حجرة فوق حجرة.
ربة محراب إذا ما جئتها لم أدن حتى أرتقي سلماً
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص:24] ، أثبت ما قيل في تفسيرها، وهو أحد قولين معتبرين، وبقية الأقوال كلها هزيلة باطلة.
أولها: وهو الذي قرره أبو حيان رحمة الله عليه في البحر المحيط أن القصة على ظاهرها ولا تحتاج لا إلى رمز ولا إشارة كقول بعضهم: لي تسع وتسعون زوجة، وهذا عنده زوجة واحدة، وأراد بعد ذلك أن يتنازل له أخوه عن زوجته من أجل أن يكون عنده مائة امرأة، وذاك يبقى عزباً من غير زوجة، فما دخل النعاج بالنساء؟! القصة على ظاهرها، نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام كان له يوم للحكم بين الناس، ويوم مع أهله في حاجاتهم، ويوم لمناجاة ربه، يقسم اليوم والوقت إلى ثلاث ساعات، ففي ساعة مناجاة الله لا يدخل عليه أحد من خلق الله من أهله أو رعيته، فكان يجلس في المحراب يقرأ الزبور ويوحد العزيز الغفور سبحانه وتعالى، يخلو بنفسه لذكر الله جل وعلا، فجاء اثنان ثقيلان في خصومة بينهما، على ظاهرها خصومة خلطة بين نعاج هذا عنده تسع وتسعون، وذاك عنده واحدة، يريد هذا أن يكمل العدد فقال: أعطني شاتك، فاختصما في الكلام، فقالا: نذهب إلى نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام ليحكم بيننا، فأتيا إلى نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام ووجدا الباب الذي يجلس فيه للفض بين المنازعات مغلقاً، ولا يوجد وقت الآن للجلوس للرعية.
وينبغي أن نعلم أنه بيوت الأنبياء وبيوت الصالحين على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه مهما كان حولها من ترتيب وعناية، فهي بيوت متواضعة، لا يوجد فيها دبابات ولا رشاشات ولا متفجرات ولا ألغام، بحيث لو اقترب الإنسان نسفه اللغم إلى عنان السماء، فنبينا عليه الصلاة والسلام، وأفضل خلق الله، وخير من مشى على هذه الأرض، في بيوته التسعة لو أن الإنسان رفع يده كما تقدم معنا في وصفها لنال السقف، ولو مد رجله لنال الجدار، وهي من جريد النخل، وليس حولها من بيوت المسئولين في هذا الحين.
فلما وجدا المجلس ليس فيه نبي الله داود قالوا: بيته معروف، نذهب إليه في الليل، فسألوا: أين نبي الله داود؟ قالوا: في حجرته في العلية في المحراب، جالس يناجي ربه، فتسلقا الجدار وهبطا عليه وهو في حجرته، فخاف منهما وظن بهما سوءاً، وأنهما جاءا لاغتياله وقتله، وإنسان في خلوته يدخل عليه اثنان ليس من الباب، كيف سيكون حاله؟ لكنه بدأ يراقب أحوالهما، وسألهما: ما عندكما؟ فبرزا للمخاصمة وقضى بينهما، قال: ظلمك، أنت نعجتك تبقى، ونعاجه تبقى وانصرفا في أمان الله، فلما حصل في قلبه نحوهما ما حصل، كأنه رأى أن هذا ظن منه في غير محله، فاستغفر ربه مما خطر في قلبه نحو عباد الله وخر راكعاً له مستغفراً منيباً شاكراً على أن حفظه، ولم يجعل لشياطين الإنس عليه سبيلاً، فهذا معنى الآية، ولا يوجد شيء ثانٍ تحتمله على الإطلاق، لا من قريب ولا من بعيد، بحسب الآية.
المعنى الثاني: يمكن أن يقبل، ذكره شيخنا عليه رحمة الله الشيخ مصطفى الحبيب الطير ، وهو من الشيوخ الصالحين في بلاد مصر، يقول: القصة أنه جاءه اثنان لاغتياله وقتله حقيقة، فلما تسورا عليه ونزلا بتقدير الله، كان معه في المحراب بعض أصحابه وخواصه وأحبابه، وليس هو بمفرده، فأولئك لا يستطيعان أن يبديا ما في أنفسهما، فافتعلا خصومة، لكن عليهما علامة الشر فهما يريدان مكراً وضراً، فنبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام هم في قلبه أن يحقق معهما، وأن يبطش بهما، فليس عليهما علامة خصومة، ثم قال: بما أن الله سلمني وهو خير الحافظين، فالكف عنهما وعدم الانتقام والانتصار للنفس أحسن كما كان يجرى من نبينا عليه الصلاة والسلام بكثرة كما تقدم معنا في قصة الأعرابي الذي أراد قتل نبينا صلوات الله وسلامه عليه، والحديث في صحيح البخاري وغيره، حيث قال له نبينا عليه الصلاة والسلام أن من بعد أن أمكن الله منه: (من يمنعك مني؟ قال: كن خير آخذ، قال: أتؤمن؟ قال: لا، لا أو من، لكن أطلب منك فقط أن تعفو، قال: قد عفوت عنك).
هذا حسن خلق وسعة صدر، والإنسان لا ينتقم لنفسه من أجل أن يعود هذا إلى رشده، فكان خيراً له ولقومه فذهب إليهم وقال: جئتكم من عند خير الناس، فآمن وآمن قومه رضي الله عنه وعنهم بعفو النبي عليه الصلاة والسلام عنه.
وهنا كذلك عنهما وإذ إنه فكر بعقوبتهما ثم رجع عن ذلك ورأى أن هذا لا يليق، وأنهما تعرضا لما تعرضا له بسبب شيء من عدم القيام بما ينبغي نحو ما يجب لله عليهما، وكل واحد مفرط في حق الله، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30] ، فاستغفر ربه إن صدر منه زلل في حق الله عز وجل، وخر راكعاً وأناب واستغفر وعفا عن هذين، فهذان قولان مقبولان.
نعم النبي يقدم على أنفسنا، ووالله الذي لا إله إلا هو نساؤنا وبناتنا تقدم لنبينا عليه الصلاة والسلام، ولنا أكبر الشرف في ذلك ولم يفعل إلا ما أحل الله له، ولو قدر أن النبي عليه الصلاة والسلام حالاً قال: أريد زوجتك أو زوجة واحد منا، ففرض علينا الطاعة، والنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، لكن هذا يحتاج إلى إثبات، ولو قدر أنه وقع، لم يكن في ذلك جناية وجريمة، بل يقال: هذا من باب تقديم النبي على النفس فلا محذور في ذلك في الحقيقة، لكنه نبي يتنزه عن هذا، فلا بد من نقله بثبوت وصحة، لكن من ناحية الحكم الشرعي الظاهر، لو قدر أن النبي طلب، فواجب على الإنسان أن يتخلى، وليس لغيره ذلك لمكان العصمة؛ لأنه لن يفعل إلا ما أحل الله له، فلا تقل: هذا لشيخي! فالشيخ قد يتخبطه الشيطان، فلا بد إذن من التفريق، فهذا نبي حاله نحو المعاصي كحال الملائكة، لا يمكن أن تصدر منه معصية، ولا يباشر هذه الشهوات إلا عن طريق ما أحل رب الأرض والسماوات، ولذلك تقدم معنا أن المعتمد في حق النبي أنه مع نساء الأمة محرم لهن، ووالله إنه يؤتمن عليهن أكثر مما يؤتمن الآباء والأبناء والإخوة، وهذا لا شك فيه، ومن لم يعتقد هذا فليجدد إيمانه بنبيه على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.
وقيل: خطبها واحد من رعيته يقال له: أوريا ، فلم يعلم نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام بخطبته فخطب فأجابوه، أو علم ثم تقدم وكان هذا جائزاً في شرعهم فأجابوه وألغوا خطبة الخاطب الأول، وعندنا في شريعتنا لا يجوز أن يخطب أحد على خطبة أخيه، وفي شريعتهم جائز، وهذا يحتاج أيضاً إلى إثبات ونقل، فالظاهر أن فيه شيئاً من التنقص للنبي داود عليه السلام.
وقيل -وهو قول ثالث مردود-: سبب الفتنة هنا أنه عندما برز الخصمان للخصومة سمع كلام المدعي ولم يسمع كلام المدعى عليه، فعاتبه الله، وهذا أيضاً باطل؛ لأن الله أعطاه الحكمة وفصل الخطاب كيف يحكم بكلام المدعي قبل أن يسمع كلام المدعى عليه، فالبينة على المدعي واليمين على من أنكر، ولابد من أن يسمع كلام الخصمين.
وأرذل ما قيل بعد ذلك، وهو الذي يتناقله المخرفون أن فتنته كانت من أجل النظر، وأنه كان في خلوته في محرابه يذكر ربه، ثم جاءت حمامة فوقفت على الشرفة فسمع صوتها تذكر الله وتوحده فأعجب بها، وأراد أن يمسكها فطارت، فتبعها إلى النافذة لينظر، فوقع نظره على امرأة تغتسل عريانة.
فلما رأت نبي الله داود ينظر إليها نفشت شعرها فصار حولها كالخيمة فسترت جسمها بشعرها، فزاد إعجابه بها، فسأل عنها، فقالوا: هذه زوجة أوريا، فسأل: أين هو؟ قالوا: في الغزو، فكتب لأمير الجيش: قدمه ليحمل التابوت والراية، ومن حملها لا يجوز أن يرجع حتى ينتصر أو يقتل، فتقدم فانتصر، قال: حوله إلى بعث آخر، ووجهة أخرى، فانتصر، وهكذا انتصر في سبع جهات حتى قتل في نهاية الأمر، فجاء نبي الله داود وتزوجها، على نبينا وأنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه.
إخوتي الكرام! سياق القصة يدل على أنها محبوكة، وأنها حبكت في ليل مظلم أيضاً، فهذا كله افتراء، وعليه فالحديث الذي معنا:(إنما كانت فتنة نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام من أجل النظر)، حديث لا يثبت فانتبهوا له واحذروه.
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:28]، ولا يمكن أن يسوي الله بين الأخيار والأشرار، ونبي الله داود على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه من عباد الله المخلصين، وممن قوى الله ملكه وآتاه الحكمة وفصل الخطاب، وهو أعبد الخلق للحق فانتبهوا لذلك.
ولفظ الحديث أن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: (لا تجالسوا أبناء الملوك؛ فإن النفوس تشتاق إليهم ما لا تشتاق إلى الجواري العواتق)، وروي الحديث أيضاً من رواية سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه بهذا المعنى في تلبيس إبليس أيضاً، وفي العلل المتناهية كلاهما للإمام ابن الجوزي، وانظروا الحديث أيضاً في الفوائد المجموعة للشوكاني في المكان المتقدم، وانظروه في الميزان زيادة على ما تقدم في الجزء الثالث صفحة خمس عشرة ومائتين، ورواه البيهقي في السنن الكبرى في الجزء السابع صفحة تسع وتسعين، وقال: هذا حديث موضوع.
ولفظ الحديث عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تملئوا أعينكم من أولاد الأغنياء فإن فتنتهم كفتنة العذارى)، وفي رواية: (لا تجالسوا أولاد الأغنياء فإن لهم شهوة كشهوة النساء)، قال الإمام ابن الجوزي عن حديث أبي هريرة وحديث أنس رضي الله عنهم وأرضاهم: هذان حديثان لا يصحان، وإنما يعرف هذا من كلام السلف، وكلام السلف متواتر في جنس ذلك، وقال الإمام البيهقي في السنن الكبرى عقب حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: هذا حديث موضوع، وفيما ذكرنا من الآية غنية عن غيرها، والآية هي: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30]، قال: والفتنة ظاهرة بالنظر إلى الغلام الأمرد، فلا تحتاج إلى خبر يبينها، يعني: لا تحتاج لا إلى آية صريحة: لا تنظروا إلى المردان، ولا حديث: إن فتنة المردان كفتنة النساء وفتنة العذارى.
الحديث الثالث: رواية سيدنا أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه رواها الإمام ابن الجوزي في الموضوعات في الجزء الثالث صفحة ثلاث عشرة ومائة، وانظروها في اللآلئ المصنوعة للإمام السيوطي في الجزء الثاني صفحة تسع وتسعين ومائة، وفي تنزيه الشريعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة لابن عراق في الجزء الثاني صفحة واحدة وعشرين ومائتين في الفصل الأول من كتاب الأحكام والحدود للإشارة إلى أن الحديث حكم عليه الإمام ابن الجوزي بالوضع، وهو موضوع اتفاقاً.
ولفظ الحديث: (من قبل غلاماً بشهوة لعنه الله، فإن صافحه لم تقبل صلاته، فإن عانقه بشهوة ضرب بسياط من نار يوم القيامة، فإن فسق به أدخله الله النار).
فهذه ثلاثة أحاديث لا تصح ولا تثبت، وهناك أحاديث فيها هذا المعنى انظروها في الأماكن المتقدمة من الكتب المذكورة.
روى الإمام ابن الجوزي في كتابه ذم الهوى صفحة ست عشرة ومائة، والأثر في مجموع الفتاوى في الجزء الخامس عشر صفحة خمس وسبعين وثلاثمائة من رواية أبي سهل، نعته الإمام ابن تيمية في مجموع الفتاوى بـأبي سهل الصعلوكي، لكن سيأتينا في ذلك إشكال كبير، والأثر في كتاب الكبائر للإمام الذهبي صفحة ثمان وعشرين ومائتين من رواية أبي سعيد الصعلوكي، قال من أشرف على الطباعة: الصعلوكي، هناك أبو سهل ولم ينسب، إنما في المجموع أبو سهل الصعلوكي، وفي الكبائر أبو سعيد الصعلوكي، أما أبو سهل الصعلوكي فلا يمكن أن يراد قطعاً وجزماً؛ لأن الأثر رواه الإمام ابن أبي الدنيا، وابن الجوزي رواه من طريقه، وهكذا الإمام ابن تيمية قرر ذلك. وابن أبي الدنيا توفي سنة واحدة وثمانين ومائتين، وأبو سهل الصعلوكي توفي سنة تسع وستين وثلاثمائة، فكيف يروي المتقدم عن المتأخر؟ لكن من المراد بأبي سهل؟ بحثت كثيراً لأقف عليه فما عثرت على المراد، فهناك عدد ممن يسمون بأبي سهل من تابعين فمن بعدهم، منهم عباد وزهاد ومترجمون في كتب التراجم من السير تهذيب التهذيب، لكن لا أستطيع أن أجزم بواحد بعينه إلا ببينة، ورجعت لكتب ابن أبي الدنيا المطبوعة عندي، فما عثرت على ذلك؛ من ذلك: كتاب الشكر وكتاب الورعين وكتاب قيام الليل، وعدد من الكتب عندي فما عثرت على هذه الرواية التي يوردها في كتاب ذم اللواط والتحذير منه، والكتاب ليس عندي.
وفي بعض الكتب أضيف هذا القول الذي سأذكره إلى بعض السلف، تقول: عن بعض السلف دون أن تقول: أبي سهل أو أبي سعيد الصعلوكي أو غيره، فعل هذا الإمام الغزالي في الإحياء، فقال: عن بعض السلف، وهكذا الإمام ابن عابدين في رد المحتار على الدر المختار في الجزء السادس صفحة خمس وستين وثلاثمائة، وهو في الهدية العالمية صفحة اثنتين وأربعين ومائتين، وابن الحاج في كتابه المدخل في الجزء الثالث صفحة تسع عشرة ومائة يقول: عن بعض التابعين، وفي السلف التابعين أبو سهل الصعلوكي أبو سعيد الصعلوكي ، فهذا القول -حقيقة- لا بد له من تحقيق، وبعد جهد أخذ مني ساعات ما وصلت إلى شيء، وبقيت مكاني، سأنقل لكم فقط هذا الذي توصلت إليه من أجل أن يبحث الأمر في المستقبل بإذن الله عز وجل، ولو أن عندنا كتاب ابن أبي الدنيا لأمكن أن نقف على رجال السند لنحدد من المراد، أما أبو سهل الصعلوكي فلا يمكن أن يراد قطعاً وجزماً، وهو محمد بن سليمان ، فقيه شافعي من أئمة الصوفية الصالحين، انظروا ترجمته الطيبة في السير في الجزء السادس عشر صفحة خمس وثلاثين ومائتين، قال عنه الإمام الذهبي : مناقب هذا الإمام جمة، وله كلام حسن في التصوف والزهد والمواعظ.
ومن كلامه الذي أورده الذهبي وما راق للمعلقين، قال: من قال لشيخه: لم؟ لا يفلح أبداً.
إخوتي الكرام! الكلام يحمل على محمل حق فاحملوا الكلام الذي يصدر من أئمتنا على أحسن المحامل، ضعوه على أحسن المحامل، من قال لشيخه: لم؟ -اعتراضاً ومجادلة وعناداً وتعالماً- لا يفلح، هذا مخذول خذله الله، وإذا حرم الأدب فأي عقوبة أكبر من ذلك، فهو يقول: كان الصحابة يسألون النبي عليه الصلاة والسلام، فهل كان أحد يعترض على النبي عليه الصلاة والسلام؟ ولما اعترض عليه من اعترض وقال: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله! قال: (إن من ضئضئ هذا قوماً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يخرجون من الإسلام، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم)، وهم الخوارج، والأحاديث في ذلك متواترة، أما أن الصحابة يسألون أو التلميذ يسأل فلا بأس، وأما هذا فهو لا يريد السؤال، إنما يريد الاعتراض والجدال، وما أكثر هذا ولا سيما في هذه الأوقات!
كما تقدم معنا: قال الإمام ابن تيمية ، فيقول: لمَ لم تقل: شيخ الإسلام؟ فإذا كان في نفسه هذا البلاء وهذا الضلال، فهل سيفلح؟ ولذلك يقول هذا العبد الصالح أبو سهل الصعلوكي رحمه الله ورضي عنه: التصوف: الإعراض عن الاعتراض، فلا تعترض على الله سبحانه وتعالى، وسلم لما يفعله وارض به، فهو أحكم الحاكمين ورب العالمين، وهكذا عن المشايخ، وهكذا الاعتراض على الصالحين وعلى النبي الأمين عليه الصلاة والسلام، لا تعترض على عباد الله بالباطل، هذا هو المراد، أما من يرد الباطل فهذا لا يقال له: اعتراض، يقال: هذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وصدع بالحق، وما أخذته في الله لومة لائم، ولا بد أن نضع الكلام في موازينه الشرعية.
ولفظ الأثر كما قلت عن أبي سليمان الذي هو من التابعين، قال: اللوطية ثلاثة أقسام: صنف ينظرون وهم لوطيون وتقدم معنا، سواء كان النظر نظر استحسان وتلذذ فقط، أو نظراً لتمني ما هو أشنع من ذلك وأكبر، كل هذا حرام، فصنف ينظرون، وصنف يصافح الأمرد، ويعبث بيده، ويتلذذ كما يصافح المرأة، وصنف يفعلون الفاحشة الكبرى نسأل الله العافية، نظر ولمس وفعل، هؤلاء كلهم لوطيون، لكنهم على درجات.
إذاً: النظر يمنع منه، وحذرنا سلفنا منه، ونقل عن العبد الصالح فتح الموصلي ، وهذا الاسم يطلق على رجلين كل منهما إمام صالح زاهد ناسك عابد، الكبير، وهو فتح بن محمد الموصلي الكبير ، توفي سنة سبعين ومائة، وقيل: خمس وستين ومائة، أحد الأولياء، من العباد الأخيار، انظروا ترجمته في السير في الجزء السابع صفحة تسع وأربعين وثلاثمائة، ويطلق على فتح الموصلي الصغير ، وهو المراد من الإطلاق، إذا قيل في كتب الوعظ: قال فتح الموصلي يراد منه الثاني وهو الصغير، والكلام هنا له، وهو فتح بن سعيد، توفي سنة عشرين ومائتين.
قال الذهبي في ترجمة الثاني في الجزء العاشر صفحة ثلاث وثمانين وأربعمائة: كلاهما من كبار المشايخ، يقول هذا العبد الصالح فتح الموصلي: صحبت ثلاثين من الأبدال كلهم كان يوصيني بالحذر من صحبة الأحداث: احذر صحبة الأحداث، احذر صحبة المردان، إياك أن تجلس مع الغلمان والصبيان، ثلاثون من الأبدال يحذرونه من صحبة الأحداث.
وقلت: يراد من الأبدال من بدلوا الصفات المذمومة فيهم بصفات حسنة، فبدلوا البخل بكرم، والجبن بشجاعة، والجهل بعلم، والتقصير بجد واجتهاد في طاعة الله الجليل، ولا يشترط أنهم كانوا سابقاً على تلك الصفات، إنما تنزهوا عن النقائص واتصفوا بالكمالات، فهذا معنى الأبدال.
ثم هؤلاء خيار العباد أربعون نعتهم الله بهذا الوصف على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام، وسموا أيضاً بالأبدال لأنه كلما مات واحد جعل الله مكانه غيره بدلاً عنه، بحيث لا ينقص هذا العدد عن أربعين في بلاد الشام بفضل رب العالمين، ولا نستطيع أن نقول عن واحد بعينه: إنه من الأبدال، نعم كان سلفنا يقولون هذا بكثرة لكثير من الخيرين الصالحين، فيقولون: كنا لا نشك أنهم من الأبدال، وهذا وارد بكثرة على لسان الإمام البخاري فمن دونه رضي الله عنهم أجمعين: لا نشك أنه من الأبدال، وكانوا من الأبدال، وكان يرون أنه من الأبدال، وهي رتبة تدل على استقامة وصلاح.
أما هذه الرتبة التي اخترع لها الصوفية بعد ذلك طقوساً ضالة، فنحن نبرأ إلى الله منها، ونحن أشد الناس محاربة لها عندما يقولون: دولة خفية، دولة محمدية، على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، لا تخيب ولا تعيب.
لما تكلمت عليها كأن بعض الناس ما راق لهم الكلام، وبعضهم أعادوا صلاة الجمعة، وقالوا: هذا يتكلم عن أولياء الله، قلنا: حيرتمونا، مرة تقولون: تكلم على السلفية، ومرة: على الصوفية، والصوفية يقولون: هذا سلفي، والسلفية يقولون: هذا صوفي، وكما قلت: نحن إن شاء الله مع أئمتنا الكرام البررة المذاهب الأربعة، وطريقتنا جميعاً إن شاء الله طريقة أهل السنة والجماعة، ما عندنا بعد ذلك تقوقعات والتزامات خاصة، لا سلفية في مفهوم الحاجز المصطلح عليه، ما عندما سلفية متأخرة، ولا صوفية ضالة باطلة، لا هذا ولا هذا.
قالوا: دولة خفية على تعبيرهم لا تخيب ولا تعيب، وتضرب وتصيب، هذه لا ترد ضربتها، يقولون: رئيسها الغوث القطب! قلت: هذا يعدل البابا مباشرة عند النصارى، إن كان في الكاثوليك أو البروتستانت نسأل الله العافية، وعندهم بعد ذلك أربعة أوتاد، في كل زاوية من زوايا الأرض واحد، وبعد ذلك عندنا ثلاثون أو أربعون من الأبدال، وعندنا أربعون من النجباء وخمسمائة من أفراد الدائرة، وأمر العباد كله يسأل عنه الخمسمائة، فإذا اقتنعوا بالأمر بدعائهم وأسئلتهم ولجوئهم إلى ربهم، اقتنعوا، رفعوه إلى النجباء، فإذا اقتنعوا بالأمر ورأوا فيه مصلحة رفعوه إلى الأبدال، فإذا رأوا في الأمر مصلحة رفعوه إلى الأوتاد، فإذا رأوا في الأمر مصلحة رفعوه إلى الغوث القطب، الذي هو غياث الثقلين، وذاك لا يحرك رأسه إلا وتقضى الحاجة إذا اقتنع بالأمر، وعليه هذا الكون من عرشه إلى فرشه متوقف على القطب وعلى الغوث! الذي هو نائب الله، مثل فعل القسس، فالبابا الآن يدخل الجنة ويمنع من النار كما يريد، وهؤلاء كذلك لكن بترتيب آخر، وقلت: هذه زندقة، وهذا كفر، وهذا إلحاد فلا دليل عليه، وينبغي أن نحذر هذا فكونوا على علم بذلك، فليس المعنى عندما نقول: كان من الصوفية من الصالحين أن عنده هذه الاصطلاحات، بل هذه اصطلاحات الزنادقة، كما سيأتينا الآن في موضوع النظر، فضعوا كل شيء في موضعه.
هذا معنى الأبدال، وهو وارد على لسان رسولنا عليه الصلاة والسلام، والحديث لا ينزل عن درجة الحسن، وفصلت الكلام كما قلت ضمن خطب الجمعة، ولا أريد أن أسترسل في ذلك، ففالحديث ثابت، وهذا معناه: يبدلون الصفات المذمومة بصفات كريمة، وإذا مات واحد منهم أبدل الله غيره مكانه من أجل ألا ينقص هذا العدد، هذا هو معنى الحديث، أما تلك الترتيبات فكلام باطل ينبغي أن نحذرها، ولذلك هم عندما يستغيثون بعد ما عملوا هذه الدائرة، يبدءون فيستغيثون بالأقطاب والأنجاب والأوتاد على حد تعبيرهم، ولا يلجأون إلى ذي العزة والجلال، ويستخفون عقول الناس استخفافاً كاستخفاف مسيلمة الكذاب لعقول من اتبعوه.
أعرف بعض الشيوخ الضالين والآن أفضى إلى ما قدم، نسأل الله حسن الخاتمة، حصلت مشكلة في مكان من الأمكنة، وذهبوا إليه يعرضون عليه الأوضاع، وأن الكفر البواح انتشر في العالم، ولا بد من تحرك، وإذا لم يتحرك العلماء فمن الذي سيحرك العباد؟! ولا بد من أن يعالجه العلماء؟ ومن الذي سيعالجه بعد ذلك؟ ومن الذي سيقضي عليه؟ ومن الذي سيحاربه؟
هذا أمر لا بد من وعيه، بعض من يعتقل الآن ويسجن في السجون المظلمة، وصل الأمر بهم وهذه أخبار ثقات أنه يفتش دبره في اليوم مرتين بواسطة كشاف خشية أن يكون أخذ شيئاً ووضعه فيه، من أجل ألا يكون فيها متفجرات، أما تتقون الله؟! ويفتشون حتى دبر الأعمى، يا عباد الله! إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، لو كان يستحق القتل، أما أن تفتح دبره وتضع الكشاف وتنظر هل وضع شيئاً أو لا؟ وهو عندك في السجن، فلا يقصد من هذا إلا الامتهان والاعتداء على أعراض أهل الإسلام، وهذا حتماً سيولد بعد ذلك بلايا ورزايا.
فذهبوا إلى هذا وقالوا: المسألة كما ترى، وانظر لاستخفافه وقلة عقله، وهو يدعي أنه الغوث والقطب، قال لهم: ماذا تريدون؟ قالوا: نريد التغيير! قال: والله الذي لا إله إلا هو! لو عملت هكذا لسقطت الحكومات كلها، بس أعمل عمامتي هكذا، ما تبقى حكومة على وجه الأرض، فقام بعض الحاضرين المساكين ممن ظن أنه يقول حقاً وصدقاً، فقال: شيخي أبوس رجليك، حرك العمامة، قال: ليس المقصود تحريك العمامة وإسقاطهم، هاتوا لي من الذي سيحكم بدلهم؟ فقام هذا المغفل مرة ثانية وقال: أبوس رجليك، أنت تحكم، حرك العمامة واحكم، قال: لا، أنا ما أريد الدنيا، هاتوا لي من يحكم حتى أحرك العمامة، وما أحد على وجه الأرض منهم يبقى.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر