إسلام ويب

شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [30]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن إصابة الإنسان بالصرع قد يكون بسبب أخلاط سيئة نتنة، وهذا هو الذي يتكلم الأطباء في سببه وعلاجه، وقد يكون بسبب الجن. وصرع الجن نوعان: صرع معنوي يؤثر على علاقة الإنسان بربه، ويكون بالغفلة وغيرها، ولا يسلم منه إلا القليل، وهو أخطر أنواع الصرع، مع غفلة الناس عنه. وصرع حسي يتفاوت من شخص لآخر، وقد حدث شيء منه لبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فخيرهم بين الصبر ولهم الجنة وبين علاجهم، فصبر بعضهم، وعالج النبي صلى الله عليه وسلم بعضاً؛ فهو طبيب الأرواح والأبدان.

    1.   

    القسم الأول من أقسام الصرع: الصرع المعنوي

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين, وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين! اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين!

    سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد: فلا زلنا في آخر مباحث الجن، ألا وهو الصلة بيننا وبينهم، وقلت: هذا المبحث يقوم على أربعة أمور:

    أولها: على حكم الاستعانة الإنس بالجن.

    وثانيها: على حكم التناكح بين الإنس والجن.

    وقد مر الكلام على هذين المبحثين.

    والمبحث الثالث: في صرع الجن للإنس.

    وآخر المباحث معنا وهو الرابع: تحصن الإنس من الجن.

    وكنا نتدارس صرع الجن للإنس، وقلت: إن الصرع ينقسم إلى ثلاثة أقسام: صرع معنوي، وهذا أشنع أنواع الصرع، وهو أن يصاب الإنسان من قبل أعدائه شياطين الجن, فيلتقم الشيطان قلبه، ويوسوس له، فيصغي الإنسان إلى هذه الوسوسة، وقلت: هذه بلية عظيمة, ونسبة الصرعى فيها كثيرون كثيرون، ونسبة من صرع بهذا الصرع تسعمائة وتسعة وتسعون من الألف، وواحد فقط هو الذي نجا، وأكثر الناس في غفلة عن هذا الصرع، فكل واحد يهتم بجسمه وببدنه وبماله، ولا يفكر في دينه، فجسمك بالحماية حصنته مخافةً من ألم طاري، فالأولى بك أن من المعاصي خشية النار، وحقيقة: إن الناس لا يشعرون إلا إذا أصيبوا في أبدانهم وأموالهم، أما إذا أصيب في دينه فلا يشعر ولا يبالي.

    ومن الرجال بهيمة في صورة الرجل السميع المبصر

    فطن بكل مصيبة في ماله وإذا أصيب بدينه لم يشعر

    ولذلك يقول أئمتنا: الرجل هو الذي يخاف من موت قلبه لا من موت بدنه، والمأسور من أسر قلبه ومن أسره الشيطان, لا من أسر بدنه، فإذا أسرك الشيطان وصرت عبداً له من دون الرحمن فهذا هو الصرع الحقيقي، وهذا هو الأسر الحقيقي, أن تكون حراً في الظاهر لكنك في الحقيقة مقلد تابع لهذا الشيطان الرجيم.

    وقد تقدم معنا أن المعصية موت، وأن أول من مات من الخليقة إبليس, مع أنه منظر إلى يوم الدين، فحياته وجودها وعدمها سواء، أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122]. والرجل هو الذي يخشى من ضياع دينه, لا من ضياع درهمه.

    وذكر ابن القيم في كتابه الوابل الصيب في صفحة اثنتين وستين ما يقرر هذا المعنى عن شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول عند البحث في فوائد الذكر وثمراته: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.

    وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري، أنى رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة.

    وكان يقول في مجلسه في القلعة التي سجن بها: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة؛ لأنني خلوت مع ربي, أذكر الله, وآنس به سبحانه وتعالى، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير، وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

    وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه.

    ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة، وظاهره من قبله العذاب.

    قال تلميذه ابن القيم : وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والمعين بل كان على ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاب، كان من أشرح الناس صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله، فينقلب انشراحاً وقوةً ويقيناً وطمأنينة، فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل, فأتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها.

    هذه هي حقيقة الرجولة، وهذه هي الصحة، وهذا هو الطيب، وهذه هي الحياة، أن يكون الإنسان عبداً لرب الأرض والسموات، ألا يأسره هواه، وألا يستولي عليه شيطانه، كما قال تعالى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المجادلة:19].

    إن الصرع المعنوي أشنع أنواع الصرع، والناس في غفلة عنه، وكل من وقع في معصية فقد صرعه الشيطان، ونسبة الصرع تختلف من إنسان لإنسان، وكل عاص فهو مصروع.

    1.   

    القسم الثاني من أقسام الصرع: الصرع الحسي

    وهناك صرع ثان, وهو صرع حسي بحيث يصرع البدن ويتأثر، والإنسان أحياناً قد يتكلم بما لا يعي، ويتخبط ويقع على الأرض ويغيب عن وعيه, فهذا صرع حسي، يشتكي منه من يصاب به، ونسبة المصابين بهذا النوع من الصرع لعله واحد من الألف أو من مائة ألف أو واحد من مليون، ومع ذلك أرى كثرة من يفتتن به. وقد يجتمعان, أي: صرع حسي وصرع معنوي، وهذا في الصرع الذي يقع بسبب الشيطان.

    وتقدم معنا أن الصرع الحسي قد يكون له نوع ثان, وهو صرع بسبب الأخلاط واختلاف نسبتها بحيث يتغير مزاج الإنسان مما يحصل عنده من عفونات ورياح غليظة تكون في مجاري الدماغ, فيصاب بجنون وخبل وصرع وليس بواسطة الجن.

    فهذه الأنواع تدارسنا الأول منها، وقلت بعد ذلك: سنتدارس النوع الثاني منها, هو ثابت وسأقرره بعدد من الأحاديث الصحيحة والحسنة والضعيفة المنجبرة، وكما قلت: سأذكر أحاديث لا تقل عن عشرة, بل ستزيد, وأبدؤها بكلام ابن القيم ، وسأختمها بكلام شيخه ابن تيمية .

    كلام ابن القيم في تقسيم الصرع الحسي إلى قسمين

    أما كلام ابن القيم فقد ذكره في كتابه زاد المعاد في هدي خير العباد عليه الصلاة والسلام في الجزء الرابع صفحة ست وستين، فقد تكلم على أقسام الصرع، ويأتي كلامه، ثم أذكر بقضايا وحوادث وقعت في زمن نبينا عليه الصلاة والسلام، وعالجها بنفسه الشريفة عليه صلوات الله وسلامه، وتلك الحوادث من وقف عليها يقطع جازماً أن الصرع واقع، وأن نبينا عليه الصلاة والسلام عالج الناس منه، ولا يرتاب أحد في ذلك كما سيأتينا، وقلت مراراً: إن الروايات إذا انضمت إلى بعضها تفيد القطع عند من يتأملها وينظر فيها.

    أورد ابن القيم فصلاً نقله عنه بكامله الإمام القاسمي في محاسن التأويل في الجزء الثالث صفحة أربع وستين ومائتين.

    يقول: فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الصرع:

    أخرجا في الصحيحين من حديث عطاء بن أبي رباح . وسيأتينا هذا الحديث وسنذكر تخريجه في غير الصحيحين.

    قال عطاء : قال ابن عباس : ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، واسمها كما سيأتينا سعيرة , وقيل: شقيرة ، وقيل: شعيرة ، وقيل سقيرة , يعني: بالسين المعجمة مع ضبط ما بعد السين إما عين أو قاف, وبالسين المهملة وبعدها عين وكنيتها أم زفر رضي الله عنها، هذه المرأة السوداء ( أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع وأتكشف, فادع الله لي، فقال: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك؟ فقالت: أصبر، قالت: فإني أتكشف فادع الله ألا أتكشف, فدعا لها ).

    والحديث نص صحيح صريح في أن الصبر على المرض أفضل من التداوي، ولو تداوى لا يقال: خلاف الأولى، يقال: أخذ بمباح، لكن الفضيلة والتي يحصل الإنسان بها أجراً وهي عزيمة ألا يتداوى، وأن يصبر، والله جل وعلا ما قدره كائن سبحانه وتعالى، فإذا قوي يقين الإنسان وعظم توكله على ربه فترك التداوي فهذا أقوى لإيمانه، وإن تداوى فلا حرج على الإطلاق، وهنا النبي عليه الصلاة والسلام يقول لها: أنت بين خيارين: إن شئت دعوت لك وشفيت، وإن شئت صبرت ولك الجنة، قالت: أصبر، لكن إذا صرعت أتكشف، وأخشى أن يبدو مني ما أكره، فادع لي إذا صرعت ألا أتكشف، فدعا لها، فكانت إذا صرعت لا يبدو منها شيء من بدنها, رضي الله عنها وأرضاها.

    قلت قال ابن القيم : الصرع صرعان:

    الصرع الناتج عن الأرواح الخبيثة الأرضية

    صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية، وصرع من الأخلاط الرديئة، والثاني هو الذي يتكلم الأطباء في سببه وعلاجه.

    قال: وأما صرع الأرواح فأئمتهم وعقلاؤهم -أي: الأطباء- يعترفون به ولا يدفعونه، ويعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة. يعني: يعالج بواسطة تسليط جند الله الملائكة، فعندما نلجأ إلى الله جل وعلا عن طريق الرقى الشرعية والأدعية والأذكار الشرعية يسلط الله الملائكة من أجل دفع عدوان الجن عن الإنس، فيسلط القوى العلوية الخيرة على القوى السفلية.

    قال: فتدافع آثارها، وتعارض أفعالها وتبطلها، وقد نص على ذلك بقراط في بعض كتبه, فذكر بعض علاج الصرع, وقال: هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الأخلاط والمادة، أي: تغير المزاج بسبب فساد الأخلاط في الإنسان.

    قال: وأما الصرع الذي يكون من الأرواح فلا ينفع فيه هذا العلاج، يعني: هذا العلاج الحسي لا ينفع لصرع الجن، إنما ينفع لمرض يطرأ على البدن.

    قال: وأما جهلة الأطباء وسقطهم وسفلتهم ومن يعتقد بالزندقة فضيلة فأولئك ينكرون صرع الأرواح، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع، وليس معهم إلا الجهل، وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك، والحس والوجود شاهد به، وإحالتهم ذلك على غلبة بعض الأخلاط هو صادق في بعض أقسامه، لا في كلها. يعني: أحياناً ليس في بدن الإنسان أي آفة بالتحليلات الدقيقة التي يجريها المتخصصون الحاذقون، لكن يشهد لهذا الصرع أنه يتخبط أمامهم ويغيب عن وعيه ويخرج الزبد من فيه، ويتكلم بما لا يعي، ثم بعد ذلك يجرون عليه التحليلات, وليس فيه شيء في أخلاطه وفي تركيبه وفي مادته.

    قال -أي: ابن القيم -: وقدماء الأطباء كانوا يسمون هذا الصرع المرض الإلهي، وقالوا: إنه من الأرواح، وأما جالينوس وغيره فتأولوا عليهم هذه التسمية، وقالوا: إنما سموه بالمرض الإلهي لكون هذه العلة تحدث في الرأس, فتضر بالجزء الإلهي الطاهر الذي مسكنه الدماغ. يعني: قيل له: مرض إلهي لأن هذه العلة إذا حصلت في بدن الإنسان رقت إلى الدماغ وخذلت الإنسان وصار في حكم المجنون، وهذا الدماغ به الإنسان يعرف ربه ويعبده ويوحده، فإذا غاب عن وعيه صار كأنه عزل عن ربه, فقيل له: مرض إلهي, يعني: يفسد صلة الإنسان بينه وبين ربه جل وعلا.

    قال: وهذا التأويل نشأ لهم لجهلهم بهذه الأرواح وأحكامها وتأثيراتها، وجاءت زنادقة الأطباء فلم يثبتوا إلا صرع الأخلاط وحده، ومن له عقل ومعرفة بهذه الأرواح وتأثيراتها يضحك من جهل هؤلاء وضعف عقولهم.

    علاج الصرع الناتج عن الأرواح الخبيثة

    وعلاج هذا النوع -الصرع الذي يكون عن طريق القوى الشريرة الخبيثة أعني الجن- يكون بأمرين: أمر من جهة المصروع، وأمر من جهة المعالج.

    فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفسه، وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وباريها، والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلب واللسان؛ لأن هذا نوع محاربة. يعني: إذا كنت تحارب قوى خفية بأدعية شرعية فلا بد من صدق توجه، وأن يكون عندك عزيمة بالتوجه إلى الله جل وعلا ليستجيب, وليسلط بعد ذلك من يدفع عدوان الجن عنك من الملائكة الخيرة الطيبة المباركة.

    قال: والمحارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين:

    أن يكون السلاح صحيحاً في نفسه جيداً.

    والرقى الشرعية والأدعية الشرعية كلها سلاح ماض, ليس فيه آفة من الآفات، لكن إذا كان في الضارب الآفة, يعني: عندك سلاح جيد مثبت محكم، ورميت به نفس, فعادت الرصاصة على رأسك فقتلك، بدلاً من أن تقتل عدوك قتلت نفسك, فالبلاء من الضارب، ولذلك يقولون: السلاح بضاربه، والفرس بخيالها، وكما يقولون: إذا الرجل رجل فسيسير المرأة، وإذا كانت المرأة تسير الرجل فلا امرأة ولا رجل، أي: ضاع البيت.

    قال: وأن يكون الساعد قوياً. فمتى تخلف أحدهما لم يغن السلاح كثير طائل، فكيف إذا عدم الأمران جميعاً: يكون القلب خراباً من التوحيد والتوكل والتقوى والتوجه، ولا سلاح له.

    والثاني: من جهة المعالج, بأن يكون فيه هذان الأمران أيضاً, حتى إن من المعالجين من يكتفي بقول: اخرج منه يأتي إلى الجني الذي هو في بدن الإنسي فيقول له: اخرج فقط, فيقول: سمعاً وطاعة, ويولي هارباً.

    قال: أو يقول: باسم الله، وسيأتينا في الأحاديث الثابتة الصحيحة من رواية يعلى بن مرة وغيره معالجة نبينا عليه الصلاة والسلام لأحد أصحابه وقوله: ( اخرج عدو الله, أنا عبد الله ورسوله ) فسعل سعلة وخرج منه مثل الجرو الأسود، فقام وما به شيء، كما سيأتينا في الأحاديث الثابتة الصحيحة.

    قال: أو بقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يقول: ( اخرج عدو الله، أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ).

    ذكر ابن القيم علاج شيخ الإسلام ابن تيمية للمصروع

    يقول ابن القيم : وشاهدت شيخنا -يعني: ابن تيمية - يرسل إلى المصروع من يخاطب الروح التي فيه ويقول: قال لك الشيخ: اخرجي، فإن هذا لا يحل لك، فيفيق المصروع، وربما خاطبها بنفسه، وربما كانت الروح ماردة فيخرجها بالضرب, فيفيق المصروع ولا يحس بألم، وقد شاهدنا نحن وغيرنا منه ذلك مراراً. وكان كثيراً ما يقرأ في أذن المصروع: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115].

    وسيأتينا أن هذه الآيات قرأها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على مصروع فبرأ بإذن الله، ولو قرئت على جبل من رجل مخلص لزال, كما أخبر بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم.

    يقول ابن القيم : وحدثني أنه قرأها مرة في أذن المصروع أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]. فقالت الروح التي في بدن المصروع ومد بها صوته: نعم، خلقنا عبثاً ولن نرجع إلى الله، قال: فأخذت له عصا, فضربت بها في عروق عنقه حتى كلت يداي من الضرب، ولم يشك الحاضرون أنه يموت بذلك الضرب، وفي أثناء الضرب قالت: أنا أحبه، فقلت لها: هو لا يحبك، قالت: أنا أريد أن أحج به، فقلت لها: هو لا يريد أن يحج معك، فقالت: أنا أدعه كرامة لك، -وهذا الآن باب الغرور فإن رضي الشيخ كلامها لم تخرج-، قال ابن تيمية مجيباً: قلت: لا، ولكن طاعة لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام، أي اخرجي طاعة لله ورسوله، فإنه لا يجوز العدوان, وهو محرم في شرع الإسلام.

    قالت: ها أنا أخرج منه، قال: فقعد المصروع يلتفت يميناً وشمالاً, ثم قال: ما جاء بي إلى حضرة الشيخ؟ وقد ضربه الشيخ والمصروع مغمى عليه، قالوا له: هذا الضرب كله ولم تعرف، فقال: وعلى أي شيء يضربني الشيخ ولم أذنب؟ وهذه القصة يحكيها ابن القيم عن شيخه الإمام ابن تيمية بلا واسطة.

    يقول: وكان يعالج بآية الكرسي، وسيأتينا بركة هذا وأنه من أعظم ما يحصن به الإنسان نفسه من عدوه عند المبحث الرابع في تحصن الإنس من الجن إن شاء الله.

    يقول: وكان يأمر المصروع بكثرة قراءتها.

    وبالجملة فهذا النوع من الصرع وعلاجه لا ينكره إلا قليل الحظ من العلم والعقل والمعرفة.

    ونوجه هذا الكلام لـمحمد رشيد رضا ولأتباعه من أصحاب المدرسة الردية في هذه الأيام.

    ذكر ابن القيم أسباب تسلط الأرواح الخبيثة

    قال ابن القيم : وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله تكون من جهة قلة دينهم، وفراغ قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذكر والتعاويذ والتحصنات النبوية والإيمانية، فتلقى الروح الخبيثة الرجل لا سلاح معه وربما كان عرياناً, فيؤثر فيه هذا. ولذلك من صرع صرعاً معنوياً يسهل أن يصرعه الجن بعد ذلك صرعاً حسياً.

    قال: ولو كشف الغطاء لرأيت أكثر النفوس البشرية صرعى هذه الأرواح الخبيثة. وهو الصرع المعنوي الذي يكون لمن ليس عندهم تحصن بالله، وقلوبهم خالية من حقائق الذكر والتعاويذ وما شاكل هذا.

    يقول: وهي في أسرها وقبضتها تسوقها حيث شاءت، ولا يمكنها الامتناع عنها ولا مخالفتها، وبها الصرع الأعظم الذي لا يفيق صاحبه إلا عند المفارقة والمعاينة، وهناك يقال له: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:22]. فهناك يتحقق أنه كان هو المصروع حقيقة، والله المستعان.

    وعلاج هذا الصرع باقتران العقل الصحيح إلى الإيمان بما جاءت به الرسل الكرام على نبينا وعليهم جميعاً أفضل الصلاة وأزكى السلام، وأن تكون الجنة والنار نصب عينيه وقبلة قلبه، ويستحضر أهل الدنيا وحلول المثلات والآفات بهم. والمثلات هي النكبات والمصائب والتغير الذي حل بهم، كيف تفرقوا وكيف تقطعت أبدانهم عندما دفنوا.

    قال: ووقوعها خلال ديارهم كمواقع القطر, وهم صرعى لا يفيقون، وما أشد داء هذا الصرع، ولكن لما عمت البلية به بحيث لا يرى إلا مصروعاً لم يصر مستغرباً ولا مستنكراً، بل صار لكثرة المصروعين عين المستنكر المستغرب خلافه. يعني: لو وجدوا رجلاً لم يصرعه الجن في هذه الأيام وهو الصرع المعنوي يستغرب منه، يقول: هذا لا يزال يعيش في العصور المتقدمة, ويقال: إلى الآن يعيش وليس في بيته تلفاز؟ فيظنون أن هذا من الشيوخ الشاذين.

    حقيقة هذا هو الواقع، فلا ينكرون على المصروعين فقط، بل يستعظمون حال من لم يصرع، ويستشنعونه ويستغربونه وينكرونه, وتعارف القوم الذين عرفوا بالمنكرات, فعطل الإنكار والتصحيح. كما قال شيخ الإسلام مصطفى صبري عليه رحمة الله: فأنكر الإنكار.

    قال -أي ابن القيم -: فإذا أراد الله بعبد خيراً أفاق من هذه الصرعة، ونظر إلى أبناء الدنيا مصروعين حوله يميناً وشمالاً على اختلاف طبقاتهم، فمنهم من أطبق به الجنون. وهو الذي جعل إلهه هواه، ومعبوده درهمه وديناره، أطبق به الجنون إطباقاً ليس بعده إطباق.

    قال: ومنهم من يفيق أحياناً قليلة ويعود إلى جنونه، فأحياناً يعود إلى وعيه, ويستمع موعظة تؤثر في قلبه, ثم بعد ذلك يرجع إلى الجنون مرة أخرى. ومنهم من يفيق مرة ويجن أخرى، فإذا أفاق عمل عمل أهل الإفاقة والعقل, ثم يعاوده الصرع فيقع في التخبط. وهذا كما قلت تخبط معنوي.

    الصرع الناتج عن الأخلاط الرديئة

    قال: وأما صرع الأخلاط فهو علة تمنع الأعضاء النفسية عن الأفعال والحركة والانتصاب منعاً غير تام.

    وسببه: خلط غليظ لزج يسد منافذ بطون الدماغ سدةً غير تامة، فيمتنع نفوذ الحس والحركة فيه وفي الأعضاء نفوذاً تاماً من غير انقطاع بالكلية، وقد تكون لأسباب أخر كريح غليظ يحتبس في منافذ الروح, أو بخار رديء يرتفع إليه من بعض الأعضاء، أو كيفية لاذعة, فينقبض الدماغ لدفع المؤذي، فيتبعه تشنج في جميع الأعضاء، ولا يمكن أن يبقى الإنسان معه منتصباً, بل يسقط ويظهر في فيه, يعني: الزبد غالباً.

    وهذه العلة تعد من جملة الأمراض الحادة باعتبار وقت وجوده المؤلم خاصة، وقد تعد من جملة الأمراض المزمنة باعتبار طول مكثها وعسر برئها, لا سيما إن تجاوز في السن خمساً وعشرين سنة وهذه العلة في دماغه وخاصة في جوهره، فإن صرع هؤلاء يكون لازماً, قال أبقراط : إن الصرع يبقى في هؤلاء حتى يموتوا, يعني: إذا جاوز بهم سن الخامسة والعشرين.

    إذا عرف هذا فهذه المرأة الصحابية أم زفر رضي الله عنها التي جاء الحديث أنها كانت تصرع وتتكشف هل يجوز أن يكون صرعها من هذا النوع. أي من صرع الأخلاط؟

    هذا ليس بصحيح؛ لأنه سيأتينا ضمن روايات الحديث في رواية البزار أنها قالت: ( إني أخاف الخبيث أن يجردني ). وهو الشيطان الرجيم. أي: إذا صرعني فادع لي ألا أتكشف، وكان صرعها بواسطة تخبط الشيطان وتمكنه منها, وهي مصيبة وقعت على بدنها, ثم خيرها النبي عليه الصلاة والسلام بين الدعاء لها بالعافية والشفاء وبين الصبر, فاختارت الصبر.

    قال: فوعدها النبي صلى الله عليه وسلم الجنة بصبرها على هذا المرض، ودعا لها ألا تتكشف، وخيرها بين الصبر والجنة وبين الدعاء لها بالشفاء من غير ضمان -بالجنة، فيدعو لها بالشفاء وأمرها موكول لمشيئة الله، هل هي من أهل الجنة أو لا- فاختارت الصبر والجنة.

    وفي ذلك دليل على جواز ترك المعالجة والتداوي، وأن علاج الأرواح بالدعوات والتوجه إلى الله يفعل ما لا يناله علاج الأطباء، وأن تأثيره وفعله وتأثر الطبيعة عنه وانفعالها أعظم من تأثير الأدوية البدنية وانفعال الطبيعة عنها، وقد جربنا هذا مراراً نحن وغيرنا، وعقلاء الأطباء معترفون بأن لفعل القوى النفسية وانفعالاتها في شفاء الأمراض عجائب، وما على الصناعة الطبية أضر من زنادقة القوم وسفلتهم وجهالهم.

    والظاهر: أن صرع هذه المرأة كان من هذا النوع.

    ويجوز أن يكون من جهة الأرواح، ويكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خيرها بين الصبر على ذلك مع الجنة وبين الدعاء لها بالشفاء, فاختارت الصبر والستر. والله أعلم.

    هذا كلام هذا الإمام في هذا المكان.

    تفاوت الصرع الحسي من إنسان لآخر

    إن الصرع الحسي تتفاوت نسبته وشدته من إنسان لآخر، فقد يصرع الإنسان في اليوم مرة، وقد تكون نسبة الصرع ساعة، وقد يطرأ عليه في الأسبوع مرة أو في الشهر أو في السنة، حسب تمكن الجني منه. وهذا الصرع يدخل فيه أيضاً اختطاف الجن للإنس، وله حكم الصرع الحسي، فقد يختطفون بعض الإنس ويغيبونهم, فلا يعلم بهم أهلوهم، وسيأتينا أن هذا وقع في زمن الخلافة الراشدة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وأن رجلاً خطفته الجن, وبقي عندهم ما يزيد على أربع سنين، وحكم سيدنا عمر رضي الله عنه بفراق الزوجة منه وطلاقها، وبعد أن تزوجت عاد هذا الإنسي بعد أن قاتل فريق من الجن المؤمنين جناً كافرين, فأعادوه بعد ذلك إلى المدينة المنورة، والأثر إسناده صحيح كالشمس.

    إذاً: الصرع أحياناً نسبته تتساوى، وأحياناً يكون خطفاً، وأحياناً يكون قتلاً.

    هذه ثلاثة أنواع تدخل في الصرع الحسي، والقتل تقدم معنا أنه عن طريق الوخز، وهو الضرب الخفي الذي لا يرى من الداخل، كما أن الطعن هو الضرب الظاهري الذي يرى على البدن، وهو طعن من قبل الإنس، وذاك وخز من قبل الجن, وسأشرح هذا إن شاء الله فيما يتعلق بالطاعون, وأنه وخز أعدائنا من الجن كما جاء في الأحاديث الصحيحة الثابتة، وأن من أصيب بذلك فله أجر شهيد عند ربنا المجيد.

    1.   

    ذكر الصحابة الذين عالجهم النبي صلى الله عليه وسلم من الصرع

    إن الصرع نسبته تختلف وتتفاوت, وقد وقع لبعض الصحابة في عهد نبينا عليه الصلاة والسلام، وعالجهم نبينا صلى الله عليه وسلم بنفسه الشريفة، وكتب الله لهم البرء والعافية والشفاء.

    قصة عثمان بن أبي العاص حين شكى إلى النبي ما يعرض له في صلاته

    ومما يدخل في هذا -وهذا أخص أنواع الصرع- ما حصل لـعثمان بن أبي العاص رضي الله عنه وأرضاه، وقد أصيب بنسبة خفيفة ضئيلة, فعالجه النبي عليه الصلاة والسلام وشفي، وحديثه في سنن ابن ماجه في الجزء الثاني صفحة خمس وسبعين ومائة بعد الألف، ورجال الإسناد ثقات، والحديث صحيح. يقول المحقق: إسناده صحيح، ثم قال: ورواه الحاكم وقال: هذا صحيح الإسناد، ورواية الحاكم ليست هذه الرواية, والبوصيري في الزوائد -فيما يظهر لي والعلم عند الله- وهم في ذلك، فـالحاكم روى ما يشبه هذا عن عثمان بن أبي العاص عندما كانت تأتيه الوسوسة في الصلاة, وحديثه في صحيح مسلم وفي مستدرك الحاكم , أذكره بعد هذا، إنما هذه الرواية - كما قلت- في سنن ابن ماجه ، نعم رواها البيهقي في دلائل النبوة في الجزء الخامس صفحة ثمان وثلاثمائة. والذي علق على مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه بعض طلبة العلم المعاصرين جاء لكلام الإمام البوصيري في الجزء الثاني صفحة سبع عشرة ومائتين في التعليق على مصباح الزجاجة، وفي الجزء الثالث صفحة ثلاث وأربعين ومائة قال: انظر رواية الحاكم، وأشار إلى رواية يعلى بن مرة : ( أن امرأة جاءت إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقالت له: إني أصرع ). والرواية صحيحة ثابتة, لكن ليست قصة عثمان بن أبي العاص .

    عن عثمان بن أبي العاص قال: ( لما استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم )، وفي رواية دلائل النبوة للبيهقي قال: ( وأنا أصغر الستة الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم )، وإنما استعمله لأنه كان يحفظ سورة البقرة، فجعله النبي عليه الصلاة والسلام أميراً على قومه, فأقره أبو بكر رضي الله عنه, ثم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين، ثم استعمله عمر بعد ذلك أميراً على عمان وعلى البحرين، ثم سكن البصرة ومات بها سنة خمسين للهجرة.

    عثمان بن أبي العاص لما أسلم جعله النبي عليه الصلاة والسلام أمير قومه في الطائف, وهو من ثقيف، وهو الذي منع قومه من الردة، وثقيف آخر من أسلم من قبائل العرب في موقعة هوازن وكانت بعد فتح مكة، فلما توفي نبينا عليه الصلاة والسلام وأراد أن يرتد من يرتد منهم فقال: كنتم آخر الناس إسلاماً فلا تكونوا أول الناس ارتداداً، يعني: آخر من يسلم وأول من يخرج من الإسلام، لا يليق بكم، فمنعهم من الردة رضي الله عنه، وعمّر طويلاً، يقال: حضر ولادة نبينا عليه الصلاة والسلام كما هو عند الطبراني في الكبير، والبيهقي في الدلائل. قال الحافظ ابن حجر : ومات سنة خمسين، فعلى هذا عاش حوالي عشرين ومائة سنة.

    يقول: ( لما استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف جعل يعرض لي شيء في صلاتي)، أي من قبل وساوس الشيطان بحيث يذهله عن صلاته، فالغفلة تستولي عليه, يقول: ( حتى ما أدري ما أصلي، فلما رأيت ذلك رحلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي النبي عليه الصلاة والسلام: ابن أبي العاص ! قلت: نعم يا رسول الله، قال: ما جاء بك؟ قلت: يا رسول الله! عرضني شيء في صلواتي حتى ما أدري ما أصلي، قال: ذاك الشيطان, ادنه ), أي: اقترب مني، قال: ( فدنوت منه، فجلست على صدور قدمي، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدري بيده، وتفل في فمي, وقال: اخرج عدو الله، اخرج عدو الله, اخرج عدو الله، قال عثمان : ففعل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات, ثم قال: الحق بعملك، قال عثمان : فلعمري ما أحسبه خالطني بعد), أي: ما جاءني شيء من وساوس الشيطان وإيهامه, فيلبس علي في صلاتي حتى تضيع القراءة مني فلا أعلم كم صليت.

    والأثر كما قلت: إسناده صحيح ثابت ورجاله ثقات، رواه الطبراني في معجمه الكبير كما في مجمع الزوائد في الجزء التاسع صفحة ثلاث، قال الهيثمي : وفيه عثمان بن بشر لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.

    وعثمان بن بشر الطائفي ترجم له ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل, وذكر أنه لم يخرج له أحد من أصحاب الكتب الستة، ونقل توثيقه عن ابن معين في الجرح والتعديل في الجزء السادس صفحة خمس وأربعين ومائة، فالحديث إن شاء الله رجال إسناده كلهم ثقات في هذه الرواية.

    ورواه البيهقي في دلائل النبوة -غير الرواية الأولى- وأبو نعيم في دلائل النبوة أيضاً من طريق أخرى, أي: من غير طريق عثمان بن بشر ، ولفظ الحديث: ( شكوت إلى النبي عليه الصلاة والسلام نسيان القرآن، فضرب صدري بيده, فقال: يا شيطان! اخرج من صدر عثمان ، فما نسيت منه شيئاً بعد أحببت أن أذكره )، يعني: إن أحببت أن أذكره ذكرته، شيء أريد أن أستحضره يبقى في ذاكرتي لا يضيع مني. وهذه الرواية صحيحة.

    وهناك رواية أخرى أيضاً رواها أبو نعيم في دلائل النبوة صفحة سبع وستين ومائة الطبعة القديمة, وهي في مجلد واحد كبير, وفي دلائل النبوة للبيهقي في الجزء الخامس صفحة سبع وثلاثمائة، هذه الروايات كلها في هذين المصدرين، عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: ( شكوت إلى النبي عليه الصلاة والسلام سوء حفظي للقرآن، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ذلك شيطان، ادن مني يا عثمان ! ثم تفل في فمي ووضع يده على صدري، فوجدت بردها بين كتفي ). وقال: ( يا شيطان! اخرج من صدر عثمان ، قال: فما سمعت شيئاً بعد إلا حفظته ).

    وأما الرواية الأولى التي أشار إليها البوصيري وقال: رواها الحاكم فهي هذه، وأما رواية الحاكم الموجودة في المستدرك في الجزء الرابع صفحة تسع عشرة ومائتين، وهي في صحيح مسلم في كتاب السلام, باب التعوذ من شيطان الوسوسة في الصلاة برقم ألفين ومائتين وثلاثة، ولذلك استدراك الحاكم لهذه الرواية في غير محله؛ لأنها في صحيح مسلم ، ورواها ابن السني في عمل اليوم والليلة في صفحة ست عشرة ومائتين، عن عثمان رضي الله عنه أنه قال للنبي عليه الصلاة والسلام: ( إن الشيطان قد حال بيني وبين الصلاة يلبسها علي، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ذاك شيطان يقال له: خنزب ). وهو شيطان يأتي يوسوس عند الصلاة كما أن شيطان الوضوء يقال له الولهان، ( فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثاً، قال: ففعلت فأذهبه الله عني ).

    وروي أيضاً في مسند الإمام أحمد في الجزء الرابع صفحة ست عشرة ومائتين.

    وقال الشيخ البنا في ترتيب المسند في الجزء الرابع صفحة تسع وثلاثين ومائة: لم أقف عليه لغير الإمام أحمد , وسنده جيد -وعادة الشيخ البنا دائماً أنه ينقل عن الهيثمي فيقول: وقال الهيثمي : إسناده صحيح، ورجاله ثقات، أما ما يتعلق بهذا الحديث ففتش المجمع فما رآه، ثم سبر أحوال الرجال وقال: إسناده جيد، لكن ما وقف على هذه الرواية في غير المسند- وكما قلت هو في صحيح مسلم ، واستدركه الحاكم , وهو واهم، وهو في دلائل النبوة للبيهقي وأبي نعيم ، وفي كتاب عمل اليوم والليلة لـابن السني .

    وابن القيم في إغاثة اللهفان في الجزء الأول صفحة تسع وثلاثين ومائة عندما بحث في الوسوسة وحال الموسوسين في صلاتهم سواء كانت في النية أو في تكبيرة الإحرام أو في القراءة قال: أهل الوسواس هم قرة عين خنزب وأصحابه, نعوذ بالله من الشيطان.

    وكما شكا عثمان بن أبي العاص مرضاً خفياً طرأ عليه شوش عقله, وجعله لا يستحضر ما يحفظه، والشيطان لبس عليه في صلاته بحيث لا يعرف كم صلى، شكا أيضاً إلى نبينا عليه الصلاة والسلام مرضاً يجده في جسده وفي بدنه، فأرشده النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً إلى علاج فقام به، ونبينا عليه الصلاة والسلام هو طبيب الأرواح والأبدان عليه صلوات الله وسلامه.

    وحديثه في شكايته جسده إلى نبينا عليه الصلاة والسلام صحيح ثابت روي في المسند وصحيح مسلم والسنن الأربعة إلا النسائي ، وعند مالك في الموطأ, أنه قال: ( شكوت إلى النبي عليه الصلاة والسلام وجعاً أجده في جسدي منذ أسلمت ), وفي رواية: ( كاد يهلكني ), أي: هذا الوجع أصابني في جسدي وفي بدني كاد أن يهلكني فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ( ضع يدك على الذي يألم من جسدك ). أي على مكان الألم ( وقل: باسم الله ثلاثاً، وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر )، أي قل: باسم الله، باسم الله باسم الله، ثم كرر سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر. ( قال عثمان : فأذهب الله عني ما كان بي, فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم).

    وهذا الحديث الذي مر معنا فيه أن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه تعرض إلى شيء من صرع الشيطان، وأنه لبس عليه في عقله، وشوش عليه ذهنه, وما عاد يستحضر القراءة في صلاته, فشكا أمره إلى النبي عليه الصلاة والسلام, فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( يا شيطان! اخرج من صدر عثمان ). فما أصيب بعد ذلك بآفة ولا ذهل، ولا أخطأ ولا غفل ولا نسي شيئاً بعد أن قال النبي عليه الصلاة والسلام ما قال.

    وهذا في الحقيقة من أخف أنواع الصرع، يعني: ليس فيه تخبط، ولا خرج الزبد من فمه، ولا سقط على الأرض، إنما صار لا يستحضر ولا يحفظ القراءة، ويتفلت منه القرآن، وقد يغيب عن الصلوات, فالصلاة التي هي أربع ركعات ما عاد يضبطها, بل يخطئ فيها كثيراً، ثم إن عثمان كان أمير قومه، ولذلك شد رحله من الطائف إلى النبي عليه الصلاة والسلام, وقال: الأمر كذا وكذا, فعالجه نبينا عليه صلوات الله وسلامه.

    قصة المرأة التي جاءت النبي بصبيها الذي يصرع وعلاج النبي له

    وحديث آخر إسناده صحيح كالشمس في رابعة النهار ظهوراً ووضوحاً، رواه أحمد في مسنده بإسنادين، في الجزء الرابع صفحة واحدة وسبعين ومائة، ورواه الطبراني في معجمه الكبير كما في المجمع للهيثمي في الجزء التاسع صفحة خمسمائة، وقال: أحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح، ورواه الحاكم في المستدرك، في الجزء الثاني صفحة سبع عشرة وستمائة، وهذه الرواية هي التي تقدمت معنا ونبهنا على أنه عزاها المعلق على مصباح الزجاجة إلى المستدرك، ظاناً أنها رواية عثمان، وقلت: هذا وهم التبس عليه, وإنما هي رواية يعلى بن مرة، وقد ذكر فيها علاج مصروع فجعلهما سواء، وهي حادثة أخرى.

    وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد, وأقره عليه الذهبي، وروي في عمل اليوم والليلة لـابن السني صفحة سبع وثلاثين ومائتين، وفي دلائل النبوة للبيهقي في الجزء السادس صفحة عشرين وصححه في صفحة ست وعشرين.

    إذاً: عدد من الأئمة صححوا الحديث، وهم الهيثمي والحاكم والذهبي، والبيهقي, وسيأتينا تصحيح ابن كثير , بل وقال: من وقف على طريقها يقطع بصحتها، لا أن ذلك يفيده غلبة ظن فقط.

    والحديث رواه يعلى بن مرة فمرة رواه مباشرة عن النبي عليه الصلاة والسلام وأنه حضر تلك الواقعة، وتارة رواه عن والده, وهو ووالده صحابيان، والإمام البخاري يقول: روايته عن والده هذا الحديث وهم من الرواة عنه، قال: ووهم فيه وكيع، فتارة قال: عن يعلى بن مرة : ( أن امرأة جاءت إلى النبي عليه الصلاة والسلام بابن لها مصروع ), وحكى ما عالج به نبينا عليه الصلاة والسلام هذا المصروع, وتارة يقول: عن يعلى بن مرة عن أبيه ( أن امرأةً جاءت إلى النبي عليه الصلاة والسلام ).

    فـالبخاري يقول: الذي وهم هو وكيع ، فـوكيع مرة يرويه صحيحاً, ومرة يغلط فيه. وقال الهيثمي وابن كثير: إن الوهم هنا ليس من وكيع , إنما هو من الأعمش, ووكيع قد تابعه يونس بن بكير في الرواية عن يعلى بن مرة عن أبيه، مما يدل على أن الوهم من غير وكيع , وهو الأعمش.

    على كل حال الرواية سواء كانت عن يعلى بن مرة أو كانت عن والده مرة فالأمر لا يضر, وكما قلت: الحديث إسناده صحيح ثابت، ولفظ الحديث عن يعلى بن مرة قال: ( لقد رأيت ), يقول عن نفسه، وفي الرواية الأخرى ينقل عن والده أنه رآه, ( لقد رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً ما رآها أحد قبلي, ولا يراها أحد بعدي, أما الأولى: لقد خرجت معه في سفر حتى إذا كنا ببعض الطريق مررنا بامرأة جالسة معها صبي لها، فقالت: يا رسول الله! هذا صبي أصابه بلاء, وأصابنا منه بلاء، يؤخذ في اليوم لا أدري كم مرة )، يعني: يصرع, فيغيب عن وعيه ويغط, ويخرج الزبد من فيه, ولا أدري كم مرة في كل يوم، ( فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ناولينيه, فحملته إليه، فحمله بينه وبين واسطة الرحل، ثم فغر فاه -يعني: فتح فمه- ونفث فيه ثلاثاً, وقال: بسم الله، أنا عبد الله, اخسأ عدو الله، ثم ناولها إياه، فقال: قابلينا في الرجعة في هذا المكان ). أي: نحن في سفر وإذا رجعنا قابلينا هنا؛ لنطمئن على أحواله، ( فأخبرينا ما فعل، قال يعلى بن مرة : فذهبنا ورجعنا فوجدناها في ذلك المكان معها شياه ثلاث، فقال: ما فعل صبيك؟ فقالت: والذي بعثك بالحق ما حسسنا منه شيئاً حتى الساعة، فاجتزر هذه الغنم )، أي: خذها واذبحها وكلها أنت وأصحابك ( قال: انزل فخذ منها واحدةً ورد البقية ). أي: جبراً لخاطرها نأخذ واحدة، ونترك شاتين لها، هذه القصة الأولى.

    والقصة الثانية: يقول: ( وخرجت معه ذات يوم إلى الجنان )، يقصد إلى الفضاء والبساتين والخلاء من أجل قضاء الحاجة، ( حتى إذا برز قال: انظر ويحك هل ترى شيئاً يواريني؟ قلت: ما أرى شيئاً يواريك إلا شجرة ما أراها تواريك، قال: فما قربها؟ ) أي: هل يوجد شيء قريب منها؟ ( قلت: شجرة مثلها أو قريب منها ). شجرتان متفرقتان. ( قال: اذهب إليهما فقل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركما أن تجتمعا بإذن الله جل وعلا، قال: فاجتمعتا ), لتسترا النبي عليه الصلاة والسلام، ( فبرز لحاجته ثم رجع, فقال: اذهب إليهما فقل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركما أن ترجع كل واحدة منكما إلى مكانها، قال: فرجعتا ).

    والقصة الثالثة التي ما رآها أحد معه قال: ( وكنت معه جالس ذات يوم إذ جاء جمل يخبب ), من الخبب, وهو العدو بسرعة، وإذا الإنسان مشى يقولون: امش فوق دبيب النصارى ودون خبب اليهود، فالنصارى يمشون ببطء وذلة، واليهود بسرعة وعجلة من أجل الدرهم والدينار، ولذلك إذا مشى الإنسان فوق دبيب النصارى ودون خبب اليهود فإنه يمشي مقتصداً متوسطاً، ( إذ جاء جمل يخبب ), يعني: يعدو بسرعة ( إلى النبي عليه الصلاة والسلام, حتى ضرب بجرانه ). الجران: هو باطن العنق، يعني: جلس ومد رقبته إلى نبينا عليه الصلاة والسلام, وألقى نفسه بين يديه على الأرض. ( ثم ذرفت عيناه ) أي: عينا الجمل، ( فقال: ويحك، انظر لمن هذا الجمل، إن له لشأناً، قال: فخرجت ألتمس صاحبه, فوجدته لرجل من الأنصار، فدعوته إليه، فقال: ما شأن جملك هذا؟ قلت: لا أدري والله ما شأنه، عملنا عليه ونضحنا عليه حتى عجز عن السقاية, فائتمرنا البارحة أن ننحره ونقسم لحمه ), أي: اتفقنا على أن نذبحه ونقتسم هذا اللحم، ( قال: لا تفعل، ولكن هبه لي أو بعنيه، قال: هو لك يا رسول الله! فوسمه بميسم الصدقة, ثم بعث به )، يعني: جعله يرعى مع إبل الصدقة من أجل أن تتأخر حياته وألا يذبح، مع أن ذبحه جائز، وعلى الجمل أن يصبر كما يجب على صاحبه أن يرفق به عند ذبحه، لكن هنا أراد أن يبقيه؛ لأنه يوحد الله ويسبحه ويذكره، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44] فكأنه وسط النبي عليه الصلاة والسلام في أن يشفع له في تأخير الذبح عنه, فما رده نبينا عليه الصلاة والسلام, بل قال لصاحبه: أنت بالخيار، إذا لم يكن لك به حاجة إن شئت أن تأخذ ثمنه, ونحن بعد ذلك نتصرف فيه ونخلي سبيله, فيبقى مع إبل الصدقة، وإن شئت أن تهبه، فقال: هو لك يا رسول الله!

    وفي رواية وكيع ( أن امرأة جاءت إلى النبي عليه الصلاة والسلام ومعها صبي لها به لمم, فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اخرج عدو الله, أنا رسول الله، قال: فبرئ، فأهدت إليه كبشين, وشيء من سمن وأقط, وقال النبي عليه الصلاة والسلام: خذي الأقط والسمن، وأخذ أحد الكبشين, ورد عليها آخر)، رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

    كذلك الرواية الأخرى أيضاً عن يعلى بن مرة رضي الله عنه.

    قال ابن كثير في البداية والنهاية في الجزء السادس صفحة أربعين ومائة بعد أن روى الروايات المتعددة لحديث يعلى بن مرة قال: هذه طرق جيدة متعددة, تفيد غلبة الظن، الظن، أو القطع عند المتبحرين، يعني: هذه الرواية في أول الأمر صحيحة, والصحيح يفيد غلبة ظن, ولا يفيد القطع، لكن من تبحر في معرفة الأسانيد وسبر أحوال الروايات ووقف على أمرها فإنها تفيده القطع؛ لأن لها مخارج متعددة.

    أو أن معنى القطع عند المتبحرين هو أن يعلى بن مرة حدث بهذه القصة في الجملة، وقد تفرد بهذا كله أحمد دون أصحاب الكتب الستة، وقد اعتنى أبو نعيم وهو ممن أخرج هذه الروايات, في دلائل النبوة صفحة سبع وستين ومائة، عن يعلى بن مرة قال: ( خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر حتى إذا كنا ببعض الطريق مررنا بامرأة جالسة معها صبي لها, فقالت: يا رسول الله! ابني هذا أصابه بلاء, وأصابنا منه بلاء, يؤخذ في اليوم لا ندري كم مرة ), إلى آخره.

    يقول ابن كثير : وقد اعتنى أبو نعيم بحديث البعير, يعني: أنه ذكر في دلائل النبوة حديث البعير وطرقه من وجوه كثيرة، وأن هذا تكرر في غير هذه الواقعة في حوادث متعددة، وسيأتي حديث الصبي -هذا كلام ابن كثير - الذي كان يصرع, ودعاؤه عليه الصلاة والسلام له, وبرؤه في الحال من طرق أخرى غير هذه الطريق التي أشار إليها ابن كثير في البداية والنهاية. إذاً: هذه رواية ثانية صحيحة ثابتة، لكن هنا الصرع ليس كصرع عثمان بن أبي العاص ، صرع عثمان ذهول في العقل، وأما هذا الصبي فغيبوبة وتخبط، وأنه يؤخذ من بين أيديهم في اليوم كذا وكذا مرة، وقد وقع عليه البلاء, ووقع على أهله بسببه بلاء، فعالجه خاتم الأنبياء عليه صلوات الله وسلامه، فما أصيب بضر قط بعد ذلك، والحديث صحيح، وقال في علاجه: ( اخسأ عدو الله، أنا عبد الله، أنا رسول الله ).

    حديث جابر في قصة المرأة التي جاءت النبي بصبيها المصروع

    الرواية الثالثة: عن سيدنا جابر بن عبد الله ، وسأذكر روايات عن عشرة من الصحابة مرفوعة إلى نبينا عليه الصلاة والسلام ثم أتبعها بما يشبهها من آثار وقعت, عالج فيها الصحابة رضوان الله عليهم حوادث وقعت، وأقرهم النبي عليه الصلاة والسلام على ما حصل لهم, ووافقهم على ذلك، وهذا له حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام.

    ورواية جابر رواها الطبراني في معجمه الأوسط والبزار باختصار كثير كما قال الهيثمي في المجمع في الجزء التاسع، والرواية آخر الصفحتين من صفحة سبع إلى صفحة تسع، ورواها الدارمي في المقدمة في الجزء الأول صفحة عشر, باب: ما أكرم الله به نبيه عليه الصلاة والسلام من إيمان الشجر به والبهائم والجن, ورواه البيهقي وأبو نعيم في دلائل النبوة، للبيهقي في الجزء السادس صفحة تسع عشرة, هذه كلها في معالجة النبي عليه الصلاة والسلام للمصروعين، وإسناد رواية الطبراني فيها عبد الحكيم بن سفيان ، قال الهيثمي في المجمع: ذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ولم يجرحه أحد، وبقية رجاله ثقات، وانظر ترجمة ابن أبي حاتم له في الجزء السادس صفحة خمس وثلاثين، قال: عبد الحكيم بن سفيان يكنى بـأبي حرب , روى عن عمه عن النبي عليه الصلاة والسلام، وروى عنه محمد بن طلحة التيمي . ورواها البيهقي في دلائل النبوة من طريق أخرى.

    وحكم على إسناد البيهقي ابن كثير في البداية والنهاية في الجزء السادس صفحة واحدة وأربعين ومائة فقال: هذا إسناد جيد, ورجاله ثقات.

    وهذه الرواية أيضاً في كتاب الخصائص الكبرى للسيوطي في الجزء الأول صفحة ست وعشرين ومائتين، من رواية جابر رضي الله عنه.

    ولفظ الرواية: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع، حتى إذا كنا بحرة واقم ) مكان في طريقهم ( عرضت امرأة بدوية بابن لها، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالت: يا رسول الله! هذا ابني قد غلبني عليه الشيطان ), يعني: يصرعه ويأخذه مرات ومرات, ( فقال: ادنيه مني, فأدنته منه، فقال: افتحي فمه ففتحته, فبصق فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: اخسأ عدو الله، أنا رسول الله عليه الصلاة والسلام). قال هكذا, لا يزيد عليه. ( اخسأ عدو الله، أنا رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم قال: شأنك بابنك, ليس عليه )، يعني: ليس عليه بأس، ولن يصاب بضر وأذى بعد هذه الكلمات، خذي ابنك وانصرفي، يقول جابر رضي الله عنه وأرضاه: ( ثم خرجنا فنزلنا منزلاً صحراء ديمومة ), الديمومة هي البعيدة, على وزن فعلولة من الدوام, أي: بعيدة الأرجاء واسعة منبسطة فسيحة, لا ترى نهايتها وطرفها، ( صحراء ديمومة ليس فيها شجرة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـجابر : يا جابر ! انطلق فانظر مكاناً ), يعني: للوضوء؛ من أجل أن يتجهز لوضوئه عليه الصلاة والسلام ولقضاء الحاجة، ( فأنطلق فلم أجد إلا شجرتين متفرقتين, لو أنهما اجتمعتا سترتاه). تقدم معنا هذا المعنى في حديث يعلى بن مرة ، ( قال: فرجعت إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقلت: يا رسول الله! لم أجد إلا شجرتين متفرقتين، لو أنهما اجتمعتا سترتاك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: انطلق إليهما فقل لهما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لكما: اجتمعا، فخرجت فقلت لهما ذلك، فاجتمعتا حتى كأنهما في أصل واحد، ثم رجعت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قضى حاجته ثم رجع، فقال: ائتهما فقل لهما: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لكما: ارجعا كما كنتما, فرجعتا، فنزلنا في واد من أودية بني محارب, فعرض له رجل من بني محارب يقال له: غورث -بوزن جعفر- والنبي صلى الله عليه وسلم متقلد السيف، فقال: يا محمد! أعطني سيفك هذا، فأعطاه النبي عليه الصلاة والسلام سيفه لينظر فيه، فسله وناوله إياه، فهزه ونظر إليه ساعة ثم أقبل على النبي عليه الصلاة والسلام ثم قال: يا محمد! ما يمنعك مني؟ قال: الله يمنعني منك)، وهذه الرواية هي -كما قلت- في معجم الطبراني الأوسط ودلائل النبوية وغير ذلك. وهذه الرواية ثابتة في الصحيحين أيضاً من حديث جابر وفي مسند الإمام أحمد ، وهي في دلائل النبوة أيضاً، لكن تختلف عن هذا السياق, فهناك ( كان النبي عليه الصلاة والسلام نائماً وعلق سيفه بعذق شجرة، فجاء هذا الرجل واخترط سيف النبي عليه الصلاة والسلام, فنظر النبي عليه الصلاة والسلام إليه, وهو مستلق وذاك السيف بيده, قال: من يمنعك مني يا محمد؟ قال: الله. فشام السيف من يده, يعني: سقط، فقام النبي عليه الصلاة والسلام وحمل السيف وهزه, وقال: من يمنعك مني؟ قال: كن خير آخذ يا محمد! قال: قم قد عفوت عنك، فقال: والله لا أقاتلك, ولا أقاتل مع قوم يقاتلونك، قال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: لا، ولكن أعطيك عهداً أن لا أقاتلك, ولا أقاتل مع قوم يقاتلونك ). وهذه شجاعة من هذا الرجل -وقد أسلم وحسن إسلامه- حتى لا يقال: أسلم خشية من السيف، ولسان حاله: من أجل السيف لن أسلم، وإن تعف عني فالأمر لك، وبعد ذلك أنا أنظر في أمري وأعلم أنك رسول الله حقاً وصدقاً فأسلم، رضي الله عنه وأرضاه.

    إذاً: ( فهزه ونظر إليه ساعة, ثم أقبل على النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: يا محمد! ما يمنعك مني؟ قال: الله يمنعني منك, فارتعدت يده حتى سقط السيف من يده, فتناوله النبي عليه الصلاة والسلام, ثم قال: يا غورث ! من يمنعك مني؟ قال: لا أحد بأبي أنت، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: اللهم اكفنا غورث وقومه، ثم أقبلنا راجعين، فجاء رجل من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام بعش طير يحمله, فيه فراخ، وأبواها يتبعانه ويقعان على يد الرجل، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على من كان معه فقال: أتعجبون من فعل هذين الطيرين بفراخهما؟ والذي بعثني بالحق لله أرحم بعباده من هذين الطيرين بفراخهما، قالها مرتين، ثم أقبلنا راجعين حتى إذا كنا بحرة واقم -التي جاءت فيها الأعرابية ومعها صبيها المصروع- عرضت لنا الأعرابية التي جاءت بابنها, عرضت لنا بوطب ) وهو الإناء الذي يوضع فيه اللبن ( من لبن وشاة ), يعني: بوعاء يوضع فيه هذا اللبن، ( فأهدته له. فقال: ما فعل ابنك؟ هل أصابه شيء مما كان يصيبه؟ قالت: والذي بعثك بالحق ما أصابه شيء مما كان يصيبه، وقبل هديتها، وأقبلنا حتى إذا كنا بمهبط من الحرة أقبل جمل يعدو )، هذا أيضاً الجمل الذي مر معنا في سياق رواية يعلى ( فقال: أتدرون ما قال هذا الجمل؟ قالوا: الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلم، قال: هذا جمل جاء يستعديني على سيده، يزعم أنه كان يحرث عليه منذ سنين, حتى إذا أجربه وأعجفه وكبر سنه أراد أن ينحره، اذهب يا جابر ! إلى صاحبه فائت به. فقلت: يا رسول الله! ما أعرف صاحبه. قال: إنه سيدلك عليه )، هذا الجمل خذه معك وسيأخذك إلى صاحبه, فكما عرف النبي عليه الصلاة والسلام وجاء يشكو سيده سيأخذك إلى المدعى عليه، ( قال -جابر -: فخرج بين يدي مسرعاً، حتى وقف بي في مجلس بني خطمة فقلت: أين رب هذا الجمل؟ قالوا: هذا جمل فلان بن فلان، فجئته, فقلت: أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج معي حتى جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: جملك يستعدي عليك، زعم أنك حرثت عليه زماناً حتى أجربته وأعجفته، لما كبرت سنه أردت أن تنحره؟ فقال: والذي بعثك بالحق إن ذلك كذلك). نعم هذا الذي عندي، وهذا الجمل لا يقول إلا حقاً, وما شكا إليك إلا صدقاً, هذا الواقع. ( فقال له رسول الله عليه الصلاة والسلام: بعنيه ). وما خيره بين البيع والهدية في هذه الرواية ( قال: نعم يا رسول الله! فابتاعه منه, ثم سيبه في الشجر يرعى مع إبل الصدقة، فكان إذا اعتل -يعني: ضعف واشتكى- على بعض المهاجرين أو الأنصار من نواضحهم شيء أعطاه إياه ), يعني: أخذ هذا الجمل يستعين به بدلاً عن العليل الضعيف، ( فمكث في ذلك زماناً ).

    قال محمد بن طلحة : كانت غزوة ذات الرقاع تسمى غزوة الأعاجيب، وحقيقة: اسمها عجيب، فغزوة ذات الرقاع سميت بذلك لأن الصحابة رضوان الله عليهم من كثرة مشيهم تنقبت أرجلهم, فرقعوها ولفوا عليها الخرق والرقاع, فقيل لها: غزوة ذات الرقاع.

    وقيل: لأن راياتهم التي يحملونها تخرقت وتمزقت؛ لبعد المشقة التي كانوا فيها, فرقعوا راياتهم, فقيل لها: غزوة ذات الرقاع.

    وقيل: سميت بذلك باسم شجر يسمى بشجر ذات الرقاع في المكان الذي نزلوا فيه وصارت فيه الغزوة، فقيل: غزوة ذات الرقاع.

    وقيل: الأرض التي حصلت فيها الغزوة كانت ذات ألوان مختلفة من حمرة وكدرة وبياض، وأحياناً ترى بعض البقاع فيها عدة ألوان مرقعة، فقيل لها: غزوة ذات الرقاع.

    وقيل: كانت خيولهم التي معهم فيها سواد وبياض, فقيل لها: غزوة ذات الرقاع.

    وآخر الأقوال في سبب تسمية غزوة ذات الرقاع بهذا الاسم قالوا: لأنهم صلوا فيها صلاة الخوف، وصلاة الخوف كأنها مرقعة, إذ ليست بصلاة تامة، حيث تصلي فرقة بركعة واحدة، ثم تعود إلى الحراسة، وتأتي الفرقة الأخرى التي كانت تحرس وتكمل الركعة مع النبي عليه الصلاة والسلام، فشرعت الجماعة في الحرب، والجيش يحاصر ويرابط ويحرس أمام العدو، ومع ذلك لا يتركون الجماعة، فالإمام يقسمهم إلى قسمين: تصلي الطائفة الأولى معه ركعة، فإذا قام إلى الثانية انصرفوا إلى مكانهم -هذه إحدى الكيفيات المروية في صلاة الخوف، ولها كيفيات متعددة- وجاءت الفرقة الثانية فصلت مع النبي عليه الصلاة والسلام الركعة الثانية, فإذا سلم قامت وأتت بما عليها ثم ترجع إلى مكانها، وتأتي تلك لتكمل الركعة التي فاتتها إن لم تصلها بعد قيام النبي عليه الصلاة والسلام.

    الشاهد: أن هذه الصلاة صار فيها ترقيع وتغيير عن كيفية الصلاة المعتادة إذا لم يكن هناك خوف وفزع ومرابطة أمام العدو، ولذلك يقول محمد بن طلحة : كانت تسمى غزوة الأعاجيب, فهذه من الأعاجيب التي جرت فيها, ومنها الشجرتان اللتان اجتمعتا كأنهما من أصل واحد ثم تفرقتا، ومنها حكاية المرأة في حرة واقم التي عولج صبيها, وما عاد بعد ذلك الشيطان إليه ولا صرع، ومنها الجمل الذي جاء يشكو أمره إلى النبي عليه الصلاة والسلام, فأجاره النبي عليه الصلاة والسلام واشتراه، ومنها قصة الرجل الذي أخذ بيتاً من فراخ, فجاء أبوا هذه الفراخ فكانا يقفان على يديه, والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( لله أرحم بعباده من هذين بفراخهما )، فهذه غزوة الأعاجيب.

    وكما قلت هذه ثلاث روايات صحيحة، رواية عثمان بن أبي العاص ، ورواية يعلى بن مرة ، ورواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين.

    والرواية الرابعة: وهي صحيحة ثابت أيضاً, رواية أبي بن كعب رضي الله عنه رواها أحمد في المسند في الجزء الخامس صفحة ثمان وعشرين ومائة، وهي من زيادات ابنه عبد الله على المسند، ورواها الحاكم في المستدرك في الجزء الرابع صفحة ثلاث عشرة وأربعمائة، وفي إسناد رواية أبي عندهما أبو جناب ، وهو ضعيف لكثرة تدليسه، وقد وثقه ابن حبان ، وبقية رجال الإسناد رجال الصحيح. هذا كله كلام الهيثمي في مجمع الزوائد في الجزء الخامس صفحة خمس عشرة ومائة.

    وقال الحاكم في المستدرك: احتج الشيخان برواة هذا الحديث كلهم غير أبي جناب ، والحديث محفوظ صحيح, ولم يخرجاه، فتعقبه الذهبي بقوله: قلت: ضعفه الدارقطني , والحديث منكر.

    قلت: لكن الجملة الثانية من كلام الذهبي ليست صحيحة، وهي قوله والحديث منكر, فلا نكارة فيه كما سترون؛ لأن معناه ثابت في الأحاديث المتقدمة، اللهم إلا إذا أراد بالنكارة هنا تفرد أبي جناب بهذه الرواية؛ لأن أئمتنا يطلقون المنكر على قسمين، على شديد وفاحش الضعف، خاصة إذا قالوا: هذا منكر الحديث لا تحل الرواية عنه كما قال البخاري ، ويطلقون تارة أخرى لفظ النكارة على التفرد بالرواية، ونكمل الكلام فيما يأتي، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755789916