إسلام ويب

مقدمة في التفسير - أسماء سورة الفاتحة [1]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كثرة الأسماء تدل على منزلة المسمى وشرفه، وسورة الفاتحة هي أكثر سور القرآن أسماء، ولا عجب في ذلك فهي أفضل سور القرآن على الإطلاق، ومن أسمائها: الفاتحة، وأم الكتاب، والسبع المثاني، وسورة الصلاة، وتسمى أيضاً بسورة القرآن العظيم، وسورة الرقية والشفاء، كما ثبتت بذلك الأحاديث والآثار عن النبي المصطفى والصحابة النجباء.

    1.   

    مدارسة وتتمة لفضل سورة الفاتحة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

    اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين.

    اللهم زدنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    أخواتي الكريمات! لا زلنا نتدارس مقدمة تفسير سورة الفاتحة، وقلت: هذه المقدمة تدور حول مدارسة معالم بارزة تتعلق بسورة الفاتحة، وهذه المعالم تدور على ستة أمور:

    أولها: أين نزلت سورة الفاتحة.

    وثانيها: موضوع سورة الفاتحة.

    وثالثها: فضل سورة الفاتحة. وهذا قد مضى الكلام عليه أخواتي الكريمات في المواعظ الماضية، ونتدارس إن شاء الله في هذه الموعظة وما بعدها ثلاث معالم باقية تتعلق بمقدمة تفسير سورة الفاتحة وهي:

    أولها: أسماء سورة الفاتحة.

    ثانيها: آياتها. أي: عدد آيات سورة الفاتحة.

    ثالثهاً: صلة سورة الفاتحة بما قبلها وبما بعدها، والحكمة من وضعها في المكان الذي وضعت فيه في كتاب الله جل وعلا.

    وقبل الشروع في الأمر الأول وهو ما يتعلق بأسمائها أخواتي الكريمات نذكر بأن آخر المباحث التي تدارسناها في هذه المقدمة: فضل سورة الفاتحة، وقررت بالأدلة الصحيحة الصريحة أن سورة الفاتحة هي أفضل سور القرآن على الإطلاق، وأفضل آيات القرآن آية الكرسي.

    أفضل آية في القرآن

    وبالنسبة لآية الكرسي فقد ورد ما يقرر هذا أيضاً ويدل عليه بأدلة صحيحة صريحة، فهي سيدة آي القرآن وهي أفضل آيات القرآن على الإطلاق كما ثبت ذلك عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وما ذهب إليه الإمام الروياني من أئمة الشافعية الكبار بأن البسملة هي أفضل آيات القرآن فما ذهب إليه هذا الإمام المبارك والبسملة آية من الفاتحة عند بعض القراء الذين قراءتهم متواترة ثابتة عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه، فالإمام الروياني يرى أن البسملة أي: بسم الله الرحمن الرحيم هي أفضل آي القرآن، وسيأتينا أخواتي الكريمات عند المبحث الذي بعد هذا المبحث عند بيان آيات سورة الفاتحة وسنتدارس من أثبت آية البسملة آية من سورة الفاتحة كقراء الكوفة وغيرهم يأتينا هذا إن شاء الله.

    فالإمام الروياني يقول: البسملة هي أفضل آي القرآن. وهذا الذي قاله لا يستند على دليل صحيح ثابت، بل ورد الدليل الصحيح الثابت بأن أفضل آي القرآن آية الكرسي، وقول الإمام الروياني ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري في الجزء التاسع (ص:54) ثم رد هذا القول فقال: هذا القول متبع بالحديث الوارد في آية الكرسي.

    والحديث الذي أشار إليه الإمام ابن حجر عليه رحمة الله هو ما رواه الإمام أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه، وأبو داود في السنن، ورواه الحاكم في المستدرك وصححه وأقره عليه الذهبي، والحديث كما قلت في صحيح مسلم من رواية أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـأبي: ( أي آية في كتاب الله أعظم، فقال أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه: آية الكرسي، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم في صدره وقال له: ليهنك العلم أبا المنذر ) أي: هنيئاً لك بالعلم النافع وبتوفيق الله لك إلى الصواب والسداد.

    زاد الإمام أحمد في روايته: ( والذي نفسي بيده إن لها لساناً وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش ) أي: تتكلم بكلام واضح مسموع. آية الكرسي تقدس الملك وهو الله الملك الحق ملك الملوك ومالك الملك سبحانه وتعالى ( إن لها لساناً وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش ) أي: هذه أعظم آيات القرآن وهي تعظم ذا الجلال والإكرام عند عرش الرحمن جل وعلا.

    أخواتي الكريمات! والحديث كما قلت في صحيح مسلم وغيره وهو حديث صحيح، وفيه شهادة من نبينا عليه صلوات الله وسلامه بأن آية الكرسي هي أفضل آي القرآن المجيد، وقد ورد ما يدل على هذا أيضاً في عدة روايات عن عدد من الصحابة الكرام، لكن هذه الروايات فيها أن السائل -وهم الصحابة- سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أعظم آيات القرآن، وأما في حديث أبي فالسائل هو النبي عليه الصلاة والسلام والمسئول أبي، ثم أقر النبي صلى الله عليه وسلم جواب أبي وقال له: ( لينهك العلم أبا المنذر ) وأما الروايات الأخر فقد سأل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين نبينا عليه الصلاة والسلام عن أعظم آي القرآن فأخبرهم بأن أفضل آيات القرآن العظيم آية الكرسي، ثبت الحديث في ذلك في مسند الإمام أحمد ومستدرك الحاكم، والحديث رواه البزار في مسنده والطبراني في معجمه الأوسط، ورواه البيهقي في شعب الإيمان كما رواه الإمام ابن حبان عليهم جميعاً رحمات ذي الجلال والإكرام من رواية أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه، قال: ( قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: أي آية أنزل الله عليك أعظم؟ ) يعني: ما هي أعظم الآيات التي نزلت عليك يا خير البريات عليه صلوات الله وسلامه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( آية الكرسي ) والحديث أخواتي الكريمات في درجة الحسن، ويشهد له الحديث المتقدم الثابت في صحيح مسلم كما تقدم معنا.

    وورد أيضاً في سنن أبي داود والحديث رواه البخاري في التاريخ الكبير ورواه الطبراني أيضاً في معجمه الكبير ورواه أبو نعيم في كتاب المعرفة في معرفة الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين عن ابن الأسفع البكري وهو من الصحابة الكرام، ويعرف بهذه النسبة ابن الأسفع البكري، أيضاً: ( سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أعظم آية في القرآن فأخبره بأن آية الكرسي هي أعظم آيات القرآن، والحديث ثبت أيضاً في مسند الدارمي عن أيفع بن عبد الله الكلاعي وهو من الصحابة أيضاً رضوان الله عليهم أجمعين، وفيه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أعظم آي القرآن فأخبره أن أعظم آي القرآن آية الكرسي )، وورد الأثر بذلك موقوفاً على عدة من الصحابة الكرام من قولهم، ولذلك حكم الرفع إلى نبيهم عليه صلوات الله وسلامه.

    ومن هذه الروايات: ما رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير وسعيد بن منصور في سننه، والأثر رواه البيهقي في شعب الإيمان والإمام ابن مردويه في تفسيره وغيرهم أيضاً، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفاً عليه ( أن أعظم آي القرآن آية الكرسي )، والأثر إسناده صحيح، وهذا الأثر له أيضاً حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، والأثر أيضاً رواه أبو عبيد في فضائل القرآن عن سلمة بن قيس وهو من الصحابة الكرام: ( أن أفضل آي القرآن آية الكرسي )، والروايات في ذلك كثيرة وفيرة.

    وخلاصة الكلام: أن أفضل آي القرآن وسيدة آياته: آية الكرسي، كما أن أفضل سور القرآن وسيدة سوره: سورة الفاتحة.

    استحباب قراءة آية الكرسي عند النوم وبيان فضل ذلك

    قبل أن أنتقل إلى المبحث الرابع المتعلق بأسماء سورة الفاتحة أحب أن أنبه على أمرين من باب اغتنام الخير والحرص عليه:

    الأمر الأول أخواتي الكريمات: يستحب لنا أن نقرأ عند النوم آية الكرسي، ومن فعل هذا لا يقربه شيطان حتى يصبح، ولم يزل عليه من الله جل وعلا حافظ في تلك الليلة حتى يصبح، ثبت الحديث بذلك كما في صحيح البخاري ، والحديث رواه أيضاً أبو نعيم في دلائل النبوة، كما رواه الإمام البيهقي في دلائل النبوة أيضاً، والحديث إسناده صحيح كالشمس وهو في صحيح البخاري من رواية أبي هريرة رضي الله عنه في حديثه الطويل، ولعلكن أخواتي الكريمات تذكرنه وتعلمنه وتحفظنه، وخلاصته: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام وكل أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه بحفظ تمر الصدقة، فبينا هو يحفظ التمر في الليل ويحرسه جاء رجل وبدأ يسرق من التمر ويجمع من التمر في ثيابه ويريد أن يأخذ هذا التمر إلى بيته، فقبض أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه على هذا الرجل وقال: كيف تسرق من تمر الصدقة؟ فقال له: أنا فقير وكبير وذو عيال، ودعتني إلى ذلك الحاجة وإذا تركتني لن أعود، فأخذت أبا هريرة الشفقة عليه فتركه وخلى سبيله، فلما أصبح وصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر تبسم نبينا عليه صلوات الله وسلامه في وجه أبي هريرة وقال لـأبي هريرة دون أن يخبر أبو هريرة النبي عليه الصلاة والسلام بشيء، والله أوحى إلى نبيه عليه صلوات الله وسلامه بما حصل فتبسم في وجه أبي هريرة وقال: ما فعل أسيرك البارحة يا أبا هريرة؟ فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه شكا الحاجة والفقر، وزعم أنه لن يعود، قال: كذبك، إنه سيعود، يقول: فعلمت أنه سيعود لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إنه سيعود، يقول أبو هريرة: فبينا أنا في وسط الليل فجاء هذا الرجل مرة ثانية وبدأ يحثو من التمر في ثيابه فقبضت عليه وقلت له: هذه ثاني ليلة تسرق فيها وقد وعدتني في الليلة الماضية ألا تعود، فكرر عليه كلامه بأنه ضعيف وفقير وذو عيال، ولن يعود مرة ثالثة، فأشفق عليه أبو هريرة أيضاً وتركه ).

    أخواتي الكريمات! كما قال أئمتنا: المؤمن غر كريم، والمنافق خب لئيم، المنافق لئيم ويخادع، والمؤمن قد يغتر أحياناً بالظاهر لما في قلبه من طهارة وطيب وخير، فعندما يشكو هذا الإنسان حاجته إلى أبي هريرة يصدقه ويرق له، وكان أئمتنا يقولون: من خدعنا بالله انخدعنا. يعني: إذا جاءنا الإنسان عن طريقة التذكير بالله وقال: أنا محتاج يمكن أن يخدعنا وأن يلبس علينا حاله وأن نحسن الظن بالنسبة إلى ظاهر الحال، ولا يعلم الخفايا إلا ربا البرايا سبحانه وتعالى: ( فخلاه أبو هريرة ، فلما صلى مع النبي عليه الصلاة والسلام صلاة الفجر قال له النبي عليه الصلاة والسلام مرة ثانية بعد أن تبسم في وجهه عليه صلوات الله وسلامه: ما فعل أسيرك البارحة يا أبا هريرة؟ قلت: زعم أنه لن يعود يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إلي الحاجة والفقر وأنه ذو عيال. قال: كذبك، إنه سيعود، يقول: فعلمت يقيناً أنه سيعود لقول النبي عليه الصلاة والسلام أنه سيعود، فعاد في الليلة الثالثة فلما قبض عليه أبو هريرة قال: لن أتركك ولن أخلي سبيلك، ولابد من رفعك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أنا فقير وذو عيال، قال: لابد من رفعك إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: دعني فإذا تركتني أعلمك شيئاً إذا قلته لا يقربك شيطان حتى تصبح، ولن يزال عليك من الله حافظ. قال أبو هريرة رضي الله عنه -وكانوا أحرص شيء على الخير، أي: كان الصحابة وهو واحد منهم أحرص خلق الله على تحصيل الخير، وهذه فائدة عظيمة وخير كثير، أننا إذا قلنا ما سيقوله لنا هذا الإنسان لن يقربنا شيطان وسيحفظنا الرحمن حتى نصبح، إذن أنا أخلي سبيله من أجل هذه الفائدة، فكأنه يريد أن يبرر عذره في تخليته في المرة الثالثة: وكانوا أحرص الناس على شيء على الخير، فخلى سبيله، فلما صلى مع النبي عليه الصلاة والسلام صلاة الفجر تبسم نبينا عليه صلوات الله وسلامه في وجهه وقال: ما فعل أسيرك البارحة يا أبا هريرة؟ قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، زعم أنني إذا قرأت آية الكرسي من أولها إلى آخرها لن يزال علي من الله حافظ، ولا يقربني شيطان حتى أصبح، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: صدقك وهو كذوب، تدري من تخاطب يا أبا هريرة منذ ثلاث؟ قلت: لا يا رسول الله عليه صلوات الله وسلامه. قال: ذاك شيطان جاء ليسرق من التمر في صورة إنسان، وإذا قرأت آية الكرسي لا يقربك ولن يزال عليك من الله حافظ حتى تصبح ).

    والحديث أخواتي الكريمات صحيح وهو في صحيح البخاري كما قلت، فينبغي أن نقرأ آية الكرسي وأن نعملها أولادنا ليقرؤها في ليلهم وعند نومهم، ولذلك كان علي رضي الله عنه يقول: ما أرى رجلاً ولد في الإسلام يبيت أبداً حتى يقرأ آية الكرسي.

    يقول: أنا لا أتوقع أنه يوجد إنسان أدرك الإسلام يبيت أبداً في ليلة من الليالي -بدون استثناء- حتى يقرأ آية الكرسي أي: لا يخطر ببالي أن مسلماً ينام دون أن يقرأ آية الكرسي التي تحفظه من الشيطان ولم يزل عليه من الله حافظ.

    وأثر علي رضي الله عنه رواه الإمام الدارمي في مسنده وأبو عبيد في فضائل القرآن، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه ومحمد بن نصر في كتاب قيام الليل عليهم جميعاً رحمة الله.

    استحباب قراءة آية الكرسي أدبار الصلوات المفروضة والأجر المترتب على ذلك

    وأما التنبيه الثاني: كما يستحب لنا أن نقرأ آية الكرسي عند نومنا لئلا يقربنا الشيطان وليكون علينا حافظ من ربنا الرحمن ينبغي أن نقرأ آية الكرسي أيضاً دبر كل صلاة مفروضة.. إذا انتهينا من صلاة الفريضة.. من الصلوات الخمس نقرأ آية الكرسي والإنسان بالخيار إن شاء أن يقرأها عقب السلام مباشرة وإن شاء أن يقرأها بعد أذكار الصلاة والتسبيحات التي يقولها بعد الصلاة، فالأمر فيه سعة، إن قدم آية الكرسي على التسبيحات وذكر الصلاة جائز، وإن أخر آية الكرسي حتى ينتهي من أذكار الصلاة التي تقال عقبها فهذا جائز والأمر فيه سعة، لكن لابد من قراءة آية الكرسي، وفضلها عظيم إذا قرئت عقب الصلوات المفروضات كما ثبت ذلك عن خير البريات عليه صلوات الله وسلامه.

    روى الإمام الطبراني في معجمه الكبير وفي معجمه الأوسط أيضاً والأثر رواه الإمام النسائي في السنن الكبرى ورواه ابن حبان في صحيحه، والإمام ابن السني في عمل اليوم والليلة، ورواه الإمام الضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة، والأثر رواه أبو نعيم في الحلية وغيرهم وسنده صحيح كما سيأتينا عن أبي أمامة رضي الله عنه وأرضاه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت ) أي: ليس بينه وبين الجنة إلا الموت، فإذا مات دخل الجنة بفضل الله ورحمته إذا حافظ على قراءة آية الكرسي كل صلاة مفروضة مكتوبة.

    وهذا الحديث روي أيضاً عن عدة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، رواه الإمام البيهقي في كتاب شعب الإيمان عن علي رضي الله عنه وأرضاه، وروي أيضاً عن غيره من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، والحديث أخواتي الكريمات صحيح ثابت عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه.

    وأما زعم الإمام ابن الجوزي بأن الحديث لا يصح ولذلك أورده في كتابه الموضوعات فهذا من تساهله، وقد رد عليه أئمتنا جميعاً، كما قال الحافظ ابن حجر شيخ الإسلام في الأحاديث التي علق عليها في مشكاة المصابيح، وفي الانتقادات على بعض الأحاديث التي وجهت على بعض الأحاديث في مشكاة المصابيح، يقول معلقاً على هذا الحديث راداً زعم الإمام ابن الجوزي بأن هذا الحديث لا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام، قال الحافظ ابن حجر: لقد غفل الإمام ابن الجوزي فأورد هذا الحديث في كتابه الموضوعات وهو من أسمج ما وقع فيه. يعني: من أرذل وأشنع ما وقع في كتاب الموضوعات حيث حكم على هذا الحديث بعدم الصحة وهو صحيح ثابت عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه.

    وقد حكم الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد على الحديث بأن إسناده جيد، فبعد أن عزاه إلى معجم الطبراني الكبير والأوسط قال: إسناده جيد.

    والإمام المنذري في الترغيب والترهيب نقل عن شيخه أبي الحسن أن الحديث صحيح وهو على شرط الشيخين البخاري ومسلم.

    وهكذا الإمام ابن القيم في زاد المعاد في الجزء الأول (ص:303) مال إلى تصحيح الحديث وإثباته، ورد على الإمام ابن الجوزي في تضعيفه لهذا الحديث ورده له، ثم نقل عن شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية عليهم جميعاً رحمات رب البرية أنه قال: ما تركت قراءة آية الكرسي عقب كل صلاة مفروضة بعد أن علمت وبلغني هذا الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.

    وهكذا أخواتي الكريمات تتابع أئمتنا على رد كلام الإمام ابن الجوزي وأثبتوا صحة الحديث كما فعل ذلك الإمام ابن عراق في تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة في الجزء الأول (ص:288)، وهكذا الإمام السيوطي في اللآلئ المصنوعة في الجزء الأول (ص:230) وغيرهم كثير.

    وعليه فالحديث صحيح ثابت عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه: ( من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت ).

    وقد روي الحديث أيضاً في معجم الطبراني الكبير بسند حسن كما نص على ذلك الإمام الهيثمي في مجمع الزوائد في الجزء العاشر (ص:102) والإمام المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الثاني (ص:453) من رواية الحسن بن علي رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة كان في ذمة الله إلى أن يصلي الصلاة الأخرى ) أي: الصلاة المكتوبة الثانية التي تليها، فمن قرأ آية الكرسي دبر صلاة الفجر يكون في ذمة الله وحفظه ورعايته حتى يصلي صلاة الظهر، وهكذا إذا قرأها بعد صلاة الظهر يكون في ذمة الله وحفظه ورعايته إلى صلاة العصر .. وهكذا، وعليه فمن واظب عليها عقب جميع الصلوات المفروضات فهو في ذمة الله وحفظه ورعايته وكلاءته في جميع الأوقات، والأثر أيضاً رواه الإمام البيهقي في شعب الإيمان عن أنس بن مالك رضي الله عنه بمعنى حديث الحسن بن علي رضي الله عنهم أجمعين.

    وخلاصة الكلام أخواتي الكريمات! أفضل سور القرآن على الإطلاق سورة الفاتحة، وأفضل آيات القرآن على الإطلاق آية الكرسي، والعلم عند الله القوي.

    1.   

    أسماء سورة الفاتحة ومعانيها

    وأما المبحث الرابع الذي يتعلق بأسماء سورة الفاتحة فأقول أخواتي الكريمات: إن كثرة الأسماء للمسمى تدل على منزلة ذلك المسمى ومكانته سواء كان ذلك في الخير أو في الشر، فكلما كثرت أسماء المسمى دلت على منزلته. أي: الشخص الذي يسمى بأسماء كلما كثرت أسماؤه دل على منزلته في الخير أو في الشر، فإذا كثرت أسماء الخير فيه دل على مزيد خير فيه، وإذا كثرت أسماء الشر فيه دلت على كثرة الشر فيه، فالله جل وعلا الذي يتصف بكل كمال ويتنزه عن كل نقصان ومنه النعم وكل خير منه جل وعلا وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ [النحل:53] كثرت أسماؤه الحسنى لكثرة كمالاته التي لا تتناهى سبحانه وتعالى.. هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر:22-24] أسماء كثيرة لله جل وعلا وصفات حسنى يتسمى بها ويتصف بها لكثرة كمالاته.

    وهكذا القرآن الكريم له أيضاً أسماء كثيرة، لما فيه أيضاً من خيرات كثيرة ولما له من منزلة جليلة، فهو القرآن الكريم، هو القرآن العظيم، هو كلام الله جل وعلا، هو الذكر الحكيم، هو القرآن المجيد، أسماء كثيرة يسمى بها القرآن لما فيه من خير كثير وفير.

    وهكذا نبينا عليه صلوات الله وسلامه محمد وأحمد رسول الله خاتم الأنبياء عليه صلوات الله وسلامه والحاشر العاقب يحشر الناس عند قدميه عليه صلوات الله وسلامه، العاقب هو آخر رسل الله عليه صلوات الله وسلامه، بالمؤمنين رءوف رحيم، حريص على المؤمنين .. أسماء ونعوت نعت بها لكثرة ما فيه عليه صلوات الله وسلامه من خير وفضل وبركة ونعمة عليه صلوات الله وسلامه.

    وهكذا فيما يتعلق أيضاً بجانب الشر، فإبليس من أسمائه شيطان.. رجيم.. مارد.. عاص.. خبيث؛ كل هذه أسماء لذلك المخلوق الخسيس لكثرة ما فيه من خصال الشر.

    وهكذا جهنم نسأل الله العافية سماها الله بأسماء أيضاً متعددة لكثرة ما فيها من بلايا ورزايا وعذاب أليم يختلف ألوانه وأشكاله، فهي جهنم، وهي لظى، وهي الحطمة، وما شاكل هذا من الأسماء التي تسمى بها، فكثرة الأسماء تدل على منزلة المسمى في الخير أو في الشر، فسورة الفاتحة هي أكثر سور القرآن أسماء، أي: أكثر السور التي لها أسماء في القرآن سورة الفاتحة، ولا غرو في ذلك ولا عجب، فكما تقدم معنا هي أفضل سور القرآن فينبغي أن تكثر أسماؤها ونعوتها، وقد أوصل الإمام السيوطي في الإتقان في الجزء الأول (ص:53) أسماء سورة الفاتحة إلى خمسة وعشرين اسماً، تسمى سورة الفاتحة بتلك الأسماء سأذكر من تلك الأسماء التي أوصلها إلى خمسة وعشرين اسماً سأذكر فقط خمسة عشر اسماً منها، والباقي من أرادها فلينظر كما قتل في كتاب الإتقان في الجزء الأول (ص:53) من كتاب الإتقان في علوم القرآن للإمام السيوطي عليه رحمة ربنا القوي.

    الأول: سورة الفاتحة

    الاسم الأول يقال لها: سورة الفاتحة، ويدخل في هذا فاتحة الكتاب وفاتحة القرآن. هذه الأسماء الثلاثة كلها جعلتها اسماً واحداً، الفاتحة فاتحة الكتاب.. فاتحة القرآن تسمى بذلك، وهذه ألفاظ متقاربة مردها إلى شيء واحد الفاتحة فاتحة القرآن وفاتحة الكتاب، وقد استفاض في الأخبار عن نبينا المختار عليه صلوات الله وسلامه بتسمية سورة الفاتحة بالفاتحة، وبتسمية سورة الحمد بالفاتحة، ومن هذه الأخبار: ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ).

    إذاً: يقال لها: سورة الفاتحة كما نص على ذلك نبينا عليه الصلاة والسلام، والأحاديث في ذلك كثيرة، وقد جرت المصاحف العثمانية على تسمية سورة الحمد بسورة الفاتحة، وتسمى بهذا الاسم في المصاحف، ولو نظرتن أخواتي الكريمات في المصحف في أوله ستجدن سورة الفاتحة، سميت بهذا الاسم، فهذا أشهر أسمائها وأبرز نعوتها وألقابها.. سورة الفاتحة، والمصاحف اعتمدت هذا. وهذا هو المنقول عن نبينا صلى الله عليه وسلم.

    وإنما سميت هذه السورة بسورة الفاتحة لأمرين معتبرين:

    الأمر الأول: لأنه حصل بها افتتاح كلام الله وابتداء القرآن العظيم، فأول شيء في المصحف من حيث الترتيب سورة الفاتحة.

    إذاً: افتتح بها القرآن .. افتتح بها كلام الرحمن فقيل لها: سورة الفاتحة، ويفتتح بها أيضاً الصلاة، فأول شيء نقرأه في صلاتنا من كلام ربنا سورة الفاتحة، فإذا أراد الإنسان أن يصلي أول ما يقرأه من القرآن سورة الفاتحة. إذاً: نفتتح بها صلاتنا عندما نقرأ كلام ربنا، وبها حصل افتتاح القرآن، وبها حصل افتتاح المصحف الشريف فقيل لها: سورة الفاتحة.

    إذاً: سورة الفاتحة ثبت تسميتها بسورة الفاتحة عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وجرت على هذا المصاحف العثمانية وهذا هو الموجود بين أيدي المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وسميت بذلك لأمرين: لأنه افتتح بها هذا القرآن وافتتح بها كلام الرحمن؛ ولأن المصلي يفتتح صلاته بسورة الفاتحة عندما يقرأ كلام الله جل وعلا في صلاته.

    هذا هو الاسم الأول من أسماء سورة الحمد سورة الفاتحة.

    الثاني: أم الكتاب

    الاسم الثاني يقال لها: أم الكتاب، ويدخل في هذا أم القرآن، وهذان الاسمان أيضاً جعلتهما اسماً واحداً: أم الكتاب.. أم القرآن، وهذان الاسمان كما قلت مآلهما إلى شيء وحد أم القرآن وأم الكتاب كالاسم الأول الفاتحة فاتحة الكتاب فاتحة القرآن، وقد استفاض أيضاً عن نبينا عليه الصلاة والسلام تسمية الفاتحة بأم الكتاب وأم القرآن، ففي صحيح ابن خزيمة وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه وعن الصحابة الكرام أن نبينا عليه الصلاة والسلام قال: ( لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن ) الحديث الذي تقدم معنا: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ) وهناك من رواية عبادة وهنا من رواية أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين: ( لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن ) وثبت في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والترمذي من رواية أبي هريرة أيضاً رضي الله عنه وأرضاه قال: ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الحمد لله رب العالمين أم القرآن ). وفي رواية الترمذي: ( أم الكتاب ) وفي الحديث: ( (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أم القرآن وأم الكتاب، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ).

    إذاً: الحمد لله رب العالمين تسمى بأم الكتاب، وتسمى بأم القرآن، وهي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيه صلى الله عليه وسلم، وأما السبع المثاني فقد تقدم معنا أخواتي الكريمات ما يتعلق بمعنى هذا اللفظ وشرحه فيما تقدم معنا من المباحث وقلت: سميت فاتحة الكتاب بالسبع المثاني عند الكلام على نزول سورة الفاتحة وهذا أول مباحث سورة الفاتحة، قلت: هي السبع المثاني، ومما يدل على مكيتها قول الله في سورة الحجر: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87] وهي الفاتحة، وهنا هي السبع المثاني وتقدم معنا أنها سميت بالسبع الثماني لأنها تثنى في كل ركعة، أي: تعاد وتكرر وتقرأ، ولأنها استثنيت لهذه الأمة فلم تنزل على الأمم السابقة، ولأنه فيها ثناء عظيم عظيم على ربنا الكريم سبحانه وتعالى، فهذه السورة العظيمة المباركة تكرر في كل ركعة وادخرها الله لهذه الأمة، وفيها ثناء على الله جل وعلا.

    إذاً: يقال لها: أم الكتاب أم القرآن، بذلك سماها نبينا عليه الصلاة والسلام، والسبب في تسميتها أنه حصل بها ابتداء القرآن، وهي أيضاً أصل له وسائر القرآن شرح لها كما تقدم معنا، فلهذين الأمرين سميت الفاتحة بأم القرآن وأم الكتاب؛ لأن معنى الأم الأصل، ومعنى الأم ابتداء الشيء في اللغة، قال الإمام ابن جرير الطبري عليه وعلى أئمتنا رحمات ربنا الجليل في تفسيره: العرب تسمي كل جامع أمراً أو كل مقدم لأمر إذا كانت له توابع تتبعه هو لها إمام جامع.

    إذاً: كل من يتقدم أمراً وكل من يجمع أمراً وله بعد ذلك توابع تتبعه هذا المقدم -أي: الأمير الذي له أتباع- يقال له: إمام، وسورة الفاتحة أتباعها شرحها وبيانها بسور القرآن الأخرى فهي مقدمة .. فهي إمام، وهي جامعة فهي إمام، فسميت بأم القرآن لهذا الأمر، ولذلك يقال للواء الجيش ورايته التي تحمل ويسير الجيش بعد ذلك وراءها وفي ظلالها يقال لها: أم. أي: هذه راية مقدمة وهي تجمعنا ونحن نمشي وراءها، هذه الراية التي ترفع يقال لها: أم، وهكذا كما قلت أم الإنسان يقال لها: أم؛ لأنها ولدته فهي أصله وهي بدايته، فكل من جمع أمراً وكل من تقدم أمراً يقال لجامع الأمور وللمتقدم عليها يقال له: أم، فسورة الفاتحة ابتدئ بها القرآن فهي أم، وسورة الفاتحة جمعت معاني سور القرآن فهي أم، ولذلك سماها النبي عليه الصلاة والسلام بأم القرآن وأم الكتاب، فهي أصل القرآن وهي أصل الكتاب، وهي المقدمة في القرآن وفي الكتاب الذي أنزله الكريم الوهاب سبحانه وتعالى.

    هذا الاسم الثاني: أم الكتاب أم القرآن.

    الثالث: القرآن العظيم

    الاسم الثالث من أسماء سورة الفاتحة: يقال لها: القرآن العظيم. فكما يقال لها الفاتحة يقال لها القرآن العظيم، وتقدم معنا دلالة ذلك في الحديث المتقدم: ( الحمد لله رب العالمين أم القرآن وأم الكتاب وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ) أي: هي القرآن العظيم الذي أوتيته، وتعليل ذلك أخواتي الكريمات أن لفظ القرآن يطلق على كله وعلى بعضه، وسورة الفاتحة بعض منه فيجوز إذن أن نسميها بالاسم الذي يسمى به كل القرآن وجميع سور القرآن، فنقول: القرآن العظيم على أننا نقصد جميع السور ونقول للفاتحة: هذه هي القرآن العظيم. ثم بعد ذلك سورة الفاتحة جمعت مقاصد القرآن فصح أن نطلق اسم القرآن عليها، فنقول: هي القرآن العظيم، وهي الفاتحة، وهي أم الكتاب.

    الرابع: السبع المثاني

    الاسم الرابع من أسماء سورة الفاتحة يقال لها أيضاً: سورة السبع المثاني هي سبع آيات تثنى وتكرر وتعاد في كل ركعة، وفيها ثناء عظيم على ربنا الكريم، واستثناها الله لهذه الأمة المرحومة أمة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.

    إذاً: السبع المثاني هذا هو الاسم الرابع.

    الخامس: سورة الصلاة

    أما الاسم الخامس فيقال لها: سورة الصلاة، كما يقال: سورة الفاتحة، وسورة أم القرآن يقال لها أيضاً سورة الصلاة، وقد أطلق نبينا صلى الله عليه وسلم لفظ الصلاة على سورة الفاتحة وسماها بذلك، ففي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فهي خداج فهي خداج -ثلاث مرات- غير تمام، فقيل لأبي هريرة رضي الله عنه: إنا نكون وراء الإمام أحياناً -أي: إذا صلينا وراء الإمام في صلاة الفريضة كيف نفعل؟- فقال أبو هريرة رضي الله عنه: اقرأ بها في نفسك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال العبد: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] قال الله: أثنى عليه عبدي، وإذا قال العبد: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] قال الله جل وعلا: مجندي عبدي )، وفي رواية: ( فوض إلي عبدي، فإذا قال العبد: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] قال الله: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7] قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ). فإذا صلى صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي ناقصة وقد ضاع بعض أركانها وبالتالي ليست تامة ولا مقبولة عند الله جل وعلا.

    والشاهد من هذا الحديث على تسمية سورة الفاتحة بالصلاة، قوله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل ) فنصف الفاتحة لله ونصفها للعبد، أي: نصفها ثناء على الله وتعظيم له، ونصفها يسأل العبد حاجته من ربه جل وعلا.

    قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ) المراد من الصلاة هنا سورة الفاتحة قطعاً وجزماً، فهذا الذي ذكر في بيان المراد بالصلاة وتفسير الصلاة ( فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال العبد: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال العبد: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] قال الله: مجدني عبدي .. فوض إلي عبدي، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]... ).

    إذاً: الآيات الثلاث الأول ثناء على الله، والآية الرابعة بين العبد وبين الرب إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] منا العبادة وعلى الله المعونة، نحن نعبده وهو يعيننا، ( فإذا قرأ العبد: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:5-7] قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ).

    إذاً: قول الله جل وعلا: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين) المراد من الصلاة هنا: سورة الفاتحة، وعليه سورة الفاتحة تسمى بسورة الصلاة، ووجه ذلك وتعليله: أن الصلاة لا تصح بغير الفاتحة، ولو قرأ الفاتحة فقط أجزأه عما سواها، ولو قرأ غيرها لا يجزئه عن الفاتحة، فتسمى بسورة الصلاة لهذا السبب، وتسميتها بذلك منقول عن نبينا صلى الله عليه وسلم.

    السادس: سورة الحمد

    الاسم السادس من أسماء سورة الفاتحة: يقال لها: سورة الحمد، ويدخل في هذا سورة الحمد لله، وسورة: الحمد لله رب العالمين، الحمد، الحمد لله، الحمد لله رب العالمين، هذه الأسماء كلها مآلها أيضاً إلى شيء واحد كما تقدم معنا في الاسم الأول: الفاتحة، فاتحة الكتاب، فاتحة القرآن، وهنا: سورة الحمد، سورة الحمد لله، سورة الحمد لله رب العالمين، تسمى بهذه الأسماء، وهذه كلها مآلها شيء واحد وهو الاسم السادس من أسماء سورة الفاتحة، وتسميتها بذلك أيضاً منقول عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وتقدم معنا قريباً أن النبي عليه الصلاة السلام قال: ( الحمد لله رب العالمين أم القرآن أم الكتاب، وهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ) تقدم معنا الحديث وقلت: رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين، وتقدم معنا في فضل سورة الفاتحة في حديث أبي سعيد بن المعلى وغيره، وتقدم معنا أن الحديث في صحيح البخاري وغيره وهو صحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ) وعليه فسورة الفاتحة تسمى بسورة الحمد، بسورة الحمد لله، بسورة الحمد لله رب العالمين، وتعليل ذلك أخواتي الكريمات: ذلك الاسم من أسمائها ولا يراد بهذا الاسم بدايتها -أي: سورة الحمد هي الآية الأولى فيها، وإنما يراد بذلك تسميتها من أولها إلى آخرها بهذه السورة، وعليه إذا قلنا للإنسان: اقرأ سورة الحمد، اقرأ الحمد، فينبغي أن يقرأ السورة من أولها إلى آخرها، قال الإمام الشافعي عليه رحمة الله والحديث ثابت في صحيح مسلم وغيره ( أن النبي عليه الصلاة والسلام وأبا بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين )، أي: بسورة الحمد لله رب العالمين يريد بذلك يفتتحون الصلاة بهذه السورة، وليس معنى هذا أنهم يفتتحون الصلاة بهذه الصيغة: الحمد لله رب العالمين فلا يقولون بسملة قبلها ولا استعاذة ولا دعاء للاستفتاح، لا ثم لا، يريد أنهم يفتتحون قراءتهم للقرآن بسورة الفاتحة، وإذا قرأ الإنسان الفاتحة ينبغي أن يستعيذ وينبغي أن يبسمل، ثم يأتي بعد ذلك بلفظ الحمد، وعليه (يفتتحون القراءة بالحمد) يعني: يفتتحون قراءتهم إذا قرءوا في صلاتهم بسورة الحمد قبل غيرها، فيقرءون هذه السورة قبل غيرها من السور، لكن بعد تكبيرة الإحرام يقرءون دعاء الاستفتاح، ويتعوذون ويبسملون ثم يقرءون الحمد، يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين، أي: بسورة الفاتحة التي تسمى بسورة الحمد، بسورة الحمد لله، بسورة الحمد لله رب العالمين.

    ويدخل في هذه التسمية: ما ذكره بعض أئمتنا كما في الإتقان في علوم القرآن في الجزء الأول (ص:53) أنه يقال لها: سورة الحمد الأولى، وهذه كلها أسماء بمعنى واحد، سورة الحمد الأولى، ويقال لها: سورة الحمد القصرى، وإنما قيل لها سورة الحمد الأولى لنفرق بينها وبين سورة الأنعام التي هي ابتدأت أيضاً بلفظ الحمد، لكن سورة الحمد الطويلة ليست القصرى ولا الأولى، إنما هي بعد ذلك ثانية، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] وهكذا سورة فاطر ابتدأت بالحمد الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ [فاطر:1] وهكذا غيرها، إنما هنا سورة الحمد القصرى الأولى هي اسم لسورة الفاتحة.. سورة الحمد القصرى الأولى هي أول سور القرآن التي ابتدأت بلفظ الحمد، وبعد ذلك سور أخرى ابتدأت بلفظ الحمد لكن ليست قصرى -يعني: قصيرة وآياتها قليلة- وليست أولى، ولذلك يقال: اقرأ سورة الحمد الأولى، اقرأ سورة الحمد القصرى، يعني: سورة الفاتحة، فما ينبغي أن يقول من قيل له: اقرأ سورة الحمد القصرى يقول: أي سورة تقصد؟ أقصد السورة التي ذكر فيها لفظ الحمد وهي أقصر السور مما ذكر فيه الحمد لله في بدايته من سور القرآن. وهكذا سورة الكهف: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا [الكهف:1] فالسور التي ذكر في بدايتها لفظ الحمد أقصرها وأولها سورة الفاتحة، فلذلك يقال لها: سورة الحمد، سورة الحمد لله، سورة الحمد لله رب العالمين،، سورة الحمد الأولى، سورة الحمد القصرى، كل هذا كما قلت أسماء تعود إلى شيء واحد وهو الاسم السادس.

    السابع: الرقية والراقية

    الاسم السابع من أسماء سورة الفاتحة: يقال لها: الرقية، ويدخل في هذا: الراقية، سورة الرقية وسورة الراقية، وقد ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام ما يدل على تسميتها بهذا الاسم، ثبت في الصحيحين والحديث رواه الإمام أبو داود في سننه والإمام الترمذي في سننه أيضاً من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه -وهو في أعلى درجات الصحة- في قصة رقيتهم لزعيم حي من أحياء العرب عندما لدغ بواسطة ثعبان فرقوه بفاتحة الكتاب فشفي بإذن الله، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال لهم: ( ما أدراكم أنها رقية ) إذن هي سورة الرقية .. سورة الراقية، والحديث أخواتي الكريمات كما قلت في الصحيحين وغيرهما من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه قال: ( انطلق نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم -أي: طلبوا منهم أن يضيفوهم وأن يكرموهم وأن يحسنوا قراهم وضيافتهم- فأبوا أن يضيفوهم -امتنع ذلك الحي من أحياء العرب من ضيافتهم، فهم على شركهم وهؤلاء الصحابة مسلمون، فما أراد المشركون أن يضيفوا المسلمين- قال: فلدغ سيد ذلك الحي، لدغه ثعبان في الليل، فسعوا له بكل شيء لا ينفعه شيء، -يعني: أحضروا له الرقى والأدعية والأدوية التي يعتقدون بنفعها فما أثرت فيه ولا نفعه شيء- فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا بكم لعلهم عندهم بعض شيء -يعني: بعض شيء ينفعنا من رقية أو دواء وعلاج- فأتوهم فقالوا: يا أيها الرهط؟ إن سيدنا لدغ وسعينا له بكل شيء لا ينفعه شيء، فهل عند أحد منكم من شيء؟ فقال بعضهم: إني والله لأرقي -أي: أنا أرقيه- ويشفى بإذن الله، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلاً -أي: أعطونا أجرة ومكافأة، طلبنا الضيافة فأبيتهم ضيافتنا، فنحن إذن لا نساعدكم إلا بمقابل- قال: فصالحوهم على قطيع من الغنم، وهذا القطيع بلغ عدده ثلاثين شاة، قالوا: نأخذ ثلاثين شاة إذا رقينا سيدكم وشفي وبرئ، فانطلق يتفل عليه ويقرأ الحمد لله رب العالمين، فكأنما نشط من عقال )، أي: كأنه كان معقولاً بحبل يربط به البعير، ثم بعد ذلك فك عنه هذا الحبل، والبعير إذا عقل من ركبته بالحبل لا يستطيع أن يقوم، فإذا فك عقاله قام ونشط، وهكذا سيد الحي كان يتضور ويتلوى على الأرض من لدغ الثعبان فرقاه هذا الصحابي الجليل بفاتحة الكتاب وبدأ يتفل عندما يقرأ الفاتحة يتفل على هذا اللديغ فكأنما نشط من عقال، أي: فك عنه عقال كان مربوطاً به قال: ( وانطلق يمشي وما به قلبة -أي: ما به علة ولا وجع ولا شكوى- فأعطوهم جعلهم -أي: أعطوهم ثلاثين شاة من الغنم التي صالحوهم عليها- وقال بعضهم: اقتسموا -هؤلاء الصحابة الكرام قالوا: نقتسم هذه الشياه- فقال الذي رقا: لا تفعلوا حتى نأتي النبي صلى الله عليه وسلم فنذكر له الذي كان فننظر الذي يأمرنا به ) يعني: هل يحل لنا هذا أم لا ونحن قرأنا القرآن وأخذنا عليه جعلاً؟ وهل يصح أن نأخذ أجرة على الرقية بالقرآن؟ قال: ( فقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا له ذلك، فقال: وما يدريك أنها رقية، ثم قال: قد أصبتم اقسموا واضربوا لي معكم بسهم، وضحك النبي صلى الله عليه وسلم ).

    وورد في بعض الروايات: ( أن الصحابي قرأ سورة الحمد سبع مرات ).

    إذاً: يقال لها: سورة الرقية، سورة الراقية والحديث ثابت في الصحيحين وغيرهما عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وقد تعدد مثل هذا الفعل مع الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، ففي سنن أبي داود بإسناد صحيح والأثر ذكره الإمام النووي في كتاب الأذكار المسمى بـ(حلية الأبرار وشعار الأخيار في تلخيص الدعوات والأذكار المستحبات في الليل والنهار)، وهو من الكتب النافعة أخواتي الصالحات وما ينبغي إلا أن يكون هذا الكتاب في بيت كل مسلم ومسلمة، وكان أئمتنا يقولون: بع الدار واشتر الأذكار. يعني: إذا ما كان عندك فلوس تشتري بها هذا الكتاب فبع دارك أو قسماً منها واشتر هذا الكتاب لما فيه من عجب عجاب وخير عظيم كثير. الحديث ذكره الإمام النووي في الأذكار في (ص:110)، باب ما يقرأ على المعتوه والملدوغ، ونسب الحديث إلى سنن أبي داود وهو ثابت فيه. قال عنه شيخ الإسلام الإمام النووي : إسناد صحيح عن خارجة بن الصلت عن عمه وعمه اسمه: علاقة بن صحار، وقيل: اسمه عبد الله وهو من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، قال: ( أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت، ثم رجعت فمررت على قوم عندهم رجل مجنون موثق بالحديد، فقال أهله: إنا حدثنا أن صاحبك هذا قد جاء بخير )، يعنون النبي عليه الصلاة والسلام. كأنهم يقولون: يا علاقة بن صحار وهو عم خارجة بن الصلت: يا عبد الله! على القول بأن اسمه علاقة أو عبد الله ، يقولون: يا علاقة! أنت ذهبت إلى النبي عليه الصلاة والسلام وآمنت به، ونحن يبلغنا أنه عند صاحبك الذي آمنت به خير، فهل عندك شيء تداوي هذا المجنون الموثق بالحديد والمقيد به؟ ( قال: فرقيته بفاتحة الكتاب فبرأ، فأعطوني مائة شاة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: هل إلا هذا؟ هل قلت غير هذا؟ قال: قلت: لا، قال: خذها فلعمري لمن أكل برقية باطل لقد أكلت برقية حق ) والأثر رواه الإمام ابن السني في كتاب (عمل اليوم والليلة).

    ورواه أبو داود بلفظ آخر، وفيه: عن خارجة بن الصلت عن عمه قال: ( أقبلنا من عند النبي عليه الصلاة والسلام فأتينا على حي من العرب، فقالوا: عندكم دواء؟ فإن عندنا معتوهاً -يعني: مجنوناً- في القيود، فجاءوا بالمعتوه بالقيود فقرأت عليه فاتحة الكتاب ثلاثة أيام غدوة وعشياً، -أي: يقرأ عليه في الصباح والمساء فاتحة الكتاب مدة ثلاثة أيام- أجمع بزاقي -وهو اللعاب الذي يكون في الفم- ثم أتفُل -بضم الفاء وكسرها- فكأنما نشط من عقال، فأعطوني جعلاً -وتقدم معنا أنه مائة شاة- فقلت: لا، فقالوا: سل النبي صلى الله عليه وسلم -يعني: هل يحل لك هذا أم لا- فسألته فقال: كل -أي: خذ هذه الشياه وكل منها وانتفع بها- فلعمري من أكل برقية باطل، لقد أكلت برقية حق ).

    إذاً: سورة الفاتحة يقال لها: سورة الرقية .. سورة الراقية، والآثار في ذلك صحيحة ثابتة عن نبينا عليه الصلاة والسلام.

    الثامن: الشفاء والشافية

    الاسم الثامن: سورة الشفاء، ويقال لها: سورة الشافية، الرقية الراقية، الشفاء الشافية، ورد الحديث بذلك عن نبينا عليه الصلاة والسلام وفي إسناده شيء من الضعف، ويتقوى بالأحاديث المتقدمة، فمعناه صحيح ثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام، والأثر رواه الإمام الدارمي في مسنده، ورواه البيهقي في شعب الإيمان، وأبو الشيخ في كتاب (الثواب)، وسعيد بن منصور في سننه من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( فاتحة الكتاب شفاء من كل سم ) والحديث رواه الإمام البيهقي في شعب الإيمان أيضاً عن جابر بن عبد الله وعن عبد الله بن جابر رضي الله عنهم أجمعين.

    إذاً: رواية أبي سعيد ورواية جابر وعبد الله بن جابر فيها شيء من الضعف، لكن يعتضد بعضها ببعض ويشهد لها حديث أبي سعيد المتقدم وحديث خارجة بن الصلت المتقدم عن عمه علاقة بن صحار أو عبد الله بن صحار رضي الله عنهم أجمعين بأن سورة الفاتحة يحصل بها شفاء بإذن رب الأرض والسماء فهي شفاء من كل داء .. شفاء من كل سم .. هي سورة الشفاء وهي سورة الشافية، والأثر رواه البيهقي في شعب الإيمان عن عبد الملك بن عمير عن نبينا عليه الصلاة والسلام، لكن عبد الملك بن عمير من التابعين فأثره مرسل مرفوع إلى النبي الأمين عليه صلوات الله وسلامه.

    وخلاصة الكلام: أن الآثار في ذلك متعددة ويتقوى بعضها ببعض، ويشهد لها ما تقدم من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام، بل نص الله في القرآن على أن القرآن شفاء من الأمراض والأسقام، وإذا كان هذا المعنى ثابت للقرآن فثبوته لأفضل سور القرآن وأعظم سور القرآن ثابت على التمام والكمال من باب أولى، قال الله جل وعلا: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً [الإسراء:82] والآية من سورة الإسراء.

    وقول الله جل وعلا: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ [الإسراء:82] كلمة: (من) أخواتي الكريمات لبيان الجنس لا للتبعيض كما توهم بعض الناس وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ [الإسراء:82] الأصل: وننزل القرآن ليكون شفاء للناس ورحمة للمؤمنين، القرآن بكامله شفاء وليس بعضه شفاء كما يتوهم بعض الناس، نعم بعضه أفضل من بعض هذا موضوع آخر، فسورة الفاتحة لها نصيب من الشفاء لا يكون لبقية السور، لكن جميع السور إذا قرئت على مريض .. على لديغ .. على مصاب والإنسان أخلص الالتجاء إلى الله جل وعلا يحصل برء وشفاء بإذن الله جل وعلا، وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ [الإسراء:82] أي: ننزل القرآن ليكون شفاء للناس، فـ(من) لبيان الجنس كقول الله جل وعلا: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [الحج:30] (من) هنا ليبان الجنس لا للتبعيض؛ لأن جميع الأوثان رجس ونجس وقذر. إذاً: المعنى: فاجتنبوا الأوثان فهي رجس كلها وليس بعض الأوثان رجس وبعضها طاهر.

    وهكذا قول ربنا الرحمن في آخر سورة الفتح: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الفتح:29] قوله: (منهم) لبيان الجنس وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ [الفتح:29] أي: ليست هذه العدة لبعضهم، كل من آمن وعمل الصالحات له مغفرة وأجر عظيم، فقول الله: (منهم) لبيان الجنس وليست تبعيضية وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الفتح:29] أي: وعدهم مغفرة وأجراً عظيماً للمؤمنين.

    وهنا: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ [الإسراء:82] وننزل القرآن ليكون شفاء ورحمة للناس، فـ(من) لبيان الجنس وليست للتبعيض، وقد ثبت في سنن ابن ماجه ومستدرك الحاكم والحديث رواه أبو نعيم في حلية الأولياء والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ورواه الإمام ابن السني في كتاب (الطب النبوي) على نبينا صلوات الله وسلامه من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفاً عليه ومرفوعاً إلى نبينا صلى الله عليه وسلم بسند صحيح على شرط الشيخين كما قال الحاكم وأقره على ذلك الذهبي، كما في الجزء الرابع من المستدرك في (ص:200) وفي (ص:403) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( عليكم بالشفائين: العسل والقرآن ) الشفاء الأول: العسل وهذا دواء حسي يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ [النحل:69].

    إذاً: العسل شفاء والقرآن شفاء، ويحصل به شفاء أكثر من جميع الأدوية التي يتداوى بها الخلق، لكن يحتاج إلى صدق في اللجأ والالتجاء إلى الله جل وعلا، وهذا القرآن فيه شفاء، لكن هذا الشفاء ليصل أثره إلى ذلك الداء ويحتاج إلى نفس طاهرة طيبة بحيث ينتقل منها هذا القرآن فيخرج من القارئ إشعاعات إلى ذلك الداء ليزول بإذن الله جل وعلا، فحال هذا القرآن كحال السهم، والسهم لابد له من ساعد قوي ليرمي به الإنسان، وحال هذا القرآن يصل إلى ذلك الداء الخفي الذي في بدن الإنسان لابد له من قلب قوي بحيث إذا قرأه الإنسان خرج منه بعد ذلك ذلك الأثر إلى بدن المصاب فشفي بإذن الكريم الوهاب.

    إذاً: لابد من التجاء من المصاب، ولابد بعد ذلك من عظيم الإيمان في الراقي من أجل أن تحصل الرقية بكلام الله جل وعلا: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً [الإسراء:82].

    أخواتي الكريمات! القرآن شفاء لأمراض القلوب، وهو شفاء أيضاً لأمراض الأبدان، وهو شفاء أيضاً لجميع الأسقام، سواء كانت أسقام بدن أو أسقام قلب، فهو شفاء لمرض الشهوة ومرض الشبهة، وهو شفاء للضعف والفتور الذي يصاب به بدن الإنسان كما قال ربنا الرحمن وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً [الإسراء:82]، هذا هو الاسم الثامن من أسماء سورة الفاتحة: سورة الشفاء.

    وأما الأسماء الأخرى من التاسع إلى الخامس عشر فأتركها للموعظة الآتية إن شاء الله، وأعيد هنا الأسماء الثمانية لتترسخ في أذهاننا على وجه الإيجاز، وأقف عندها:

    أولها: الفاتحة، فاتحة الكتاب، فاتحة القرآن.

    ثانيها: أم الكتاب، أم القرآن.

    ثالثها: القرآن العظيم.

    رابعها: السبع المثاني.

    خامسها: الصلاة.

    سادسها: الحمد، الحمد لله، الحمد لله رب العالمين، الحمد القصرى، الحمد الأولى.

    سابعها: الرقية، الراقية.

    ثامنها: الشفاء، الشافية.

    أما التاسع وما بعده، فسنتكلم عليها فيما يأتي إن شاء الله، وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيرا.

    ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار! اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، اللهم لا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً.

    اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.

    والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755943041