إسلام ويب

شرح زاد المستقنع باب صفة الصلاة [5]للشيخ : محمد مختار الشنقيطي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • للتشهد صفة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وله صور وحالات معلومة، وينقسم إلى: التشهد الأول، والتشهد الثاني، فإذا أتم التشهد الثاني فإنه يسلم من صلاته، وللتسليم صور واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك يكون قد أتم صلاته على أكمل وجه وأحسنه.

    1.   

    صفة الجلوس للتشهد

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [ثم يجلس مفترشا ويداه على فخذيه]

    وصفنا الركعة الأولى كاملة، والركعة الثانية كالأولى، فإذا تم من السجدة الثانية من الركعة الثانية يجلس مفترشاً كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وكذلك غيرها في صفة جلوسه عليه الصلاة والسلام أنه افترش اليسرى ونصب اليمنى واستقبل بأطراف أصابعه القبلة، صلوات الله وسلامه عليه.

    وكان الصحابة رضوان الله عليهم يفعلون ذلك، حتى أُثر عن بعضهم أنه كان إذا انحنى إبهامه أصلحه حتى يكون مستقبلاً القبلة ويكون معتمداً عليه في جلوسه.

    كذلك أيضاً جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه جلس بين السجدتين فنصب قدميه وجعل صدور القدمين على الأرض مستقبلاً بها القبلة وإليته على العقبين، وهذا ليس بالإقعاء المنهي عنه، وهو الذي ثبت في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وأنه من السنة فلا حرج فيه.

    وإنما الإقعاء المنهي عنه أن يجعل طرفي القدمين ويفضي بإليتيه إلى الأرض، فهذا صورة الإقعاء، أو أنه ينصب رجليه، ثم يفضي بإليتيه إلى الأرض، فهذان الوجهان يعتبران من الإقعاء، ووجه ثالث أنه لا يستقبل بأطراف أصابعه القبلة، ولكن يفضي بها إلى الأرض فتكون بطون القدمين إلى الأرض، ويلتصق العقبان بالإليتين، هذه كلها أوجه للإقعاء المنهي عنه.

    أما لو نصب واستقبل بأطراف أصابعه القبلة؛ فإن هذا ورد فيه حديث ابن عباس أنه من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    موضع اليدين في جلسة التشهد

    قال رحمه الله تعالى: [ويداه على فخذيه]

    أي: تكون يدا المصلي على الفخذين، وهذه جلسة التشهد، فقد جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه فعل هذا الفعل، فشرع رحمه الله في الصفة الفعلية، فجلسة التشهد تحتاج إلى فعلٍ وقول، أما الفعل فشيءٌ منه يتعلق بمؤخر الإنسان وشيء يتعلق بمقدمه، فالذي يتعلق بمؤخَّره فقد ذكرناه من افتراش اليسرى ونصب اليمنى، واستقبال القبلة بأطراف أصابع اليمنى.

    أما ما يتعلق بمقدمه فنبدأ بوضع اليد اليسرى، وفيه ثلاثة أوجه:

    الوجه الأول: قال بعضهم: يُلقِمها ركبته كما جاء في السنن عنه عليه الصلاة والسلام أنه ألقَم ركبته، والإلقام: أن تجعلها بمثابة الفم على الركبة، كأن نصفها على آخر الفخذ، ونصفها الذي هو أطراف الأصابع ملتصق بظاهر الركبة، وهذه الصورة تعرف عند العلماء بصورة اللقم.

    الوجه الثاني: أن يجعل رءوس أصابعه عند ركبته مستقبلاً بها القبلة.

    الوجه الثالث: أن تكون على الفخذ، بمعنى أنها لا تكون قريبة من الركبة، وإنما تكون على الفخذ.

    هذه ثلاثة أوجه للعلماء رحمةُ الله عليهم.

    واليد اليسرى بالإجماع أنه لا يشرع التحريك فيها، والأصل في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مرّ على الرجل وهو يشير بإصبعيه قال: (أحِّد أحِّد) أي: اجعله واحداً، فنهى عن رفع إصبعه الثانية؛ فدل هذا على أنه ليس من السنة أن يشير بالأصبعين من اليدين، وإنما يقتصر بالإشارة على الكف الأيمن.

    الهيئة التي تكون عليها أصابع اليد اليمنى في جلسة التشهد

    قال رحمه الله تعالى: [يقبض خنصر يده اليمنى وبنصرها]

    بالنسبة للوسطى مع الإبهام يحلق بهما، ويشير بالسبابة.

    والسبابة: هي ما بين الإبهام والوسطى، فالعرب تسمي أصغر الأصابع: الخنصر؛ ثم التي تليها البنصر، ثم الوسطى، ثم السبابة، ثم الإبهام، والسبابة سُمِّيت بذلك لأن الإنسان عند السب أو اللعن -والعياذ بالله- مع شدة الغضب يشير بها، كالمتوعد، ووُصِفت بهذا وأصبح اسمها، فيقبض الخنصر والبنصر، ثم يحلق ما بين الوسطى والإبهام، ويشير بالسبابة.

    قال رحمه الله: [ويحلق إبهامها مع الوسطى ويشير بسبابتها في تشهده]

    بعض العلماء يرى أنها تكون كالدائرة، وقال بعضهم: أن يجعل طرف الإبهام عند منتصف السبابة، وهذا مبني على رواية: إحدى وخمسين، بناءً على حساب العرب في عدّ الأصابع.

    وبعضهم يرى أنه يكون جامعاً بها على هذه الصفة، بحيث تجتمع الأنملة العليا من الوسطى مع طرف الإبهام، وهذا وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في التحليق، وثبت عنه في الأحاديث الصحيحة، ويشير بالتوحيد عند قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله) وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (أحّد) والسبب في هذا أن الأصل عدم التحريك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اسكنوا في الصلاة) وقال تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238].

    قالوا: الأصل السكون وعدم الحركة والكلام حتى يدل الدليل على حركة وكلام معتبر، فلما جاء الدليل ووجدنا أنه عليه الصلاة والسلام أمره بالتوحيد، فدلّ ذلك على أنه عند الشهادة، وهذا على الأصل، ولذلك قالوا: يرفعها عند قوله: (أشهد أن لا إله إلا الله) وهذا هو أوجه الأقوال وأعدلها وأقربها إلى السنة إن شاء الله تعالى.

    وهذه الإشارة للعلماء فيها ثلاثة أوجه، منهم من قال: يشير ولا يحرك، وهذا بناءً على ما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أشار بها، وحديث ابن عمر وحديث وائل كلها أثبتت الإشارة دون تحريك.

    وأما التحريك فأخذوه من حديث ابن الزبير: (يدعو بها) أنها مذعرةٌ للشيطان، أي أنها تصيب الشيطان بالذعر، قالوا: والدعاء بها يقتضي التحريك، وجاءت أحاديث لم يخل حديث منها من كلام، وقد أشار الذهبي وغيره إلى ضعفها، وأنه لم يصح في ذلك حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والأحاديث إما منكرةٌ أو موضوعة.

    الوجه الثاني: إذا قلنا: إنه يدعو بها، والذين قالوا: يدعو بها، ينقسمون إلى طائفتين، طائفة تقول: يبتدئ الدعاء بالرفع، فيجعل الرفع عند ابتداء كل دعاءٍ، وعلى هذا إذا قال: اللهم إني أعوذ بك من فتنة المحيا والممات؛ ابتدأ عند قوله: اللهم إني أعوذ بك من فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، ومن عذاب القبر. كلّما ابتدأ دعاءً رفع إصبعه سائلاً الله عز وجل، هذا بالنسبة لمذهب من يقول: يدعو بها؛ أي أنه يحركها عند ابتداء كل دعوة، والذين قالوا: يحركها عند ابتداء كل دعوة؛ كأنهم يرون أن الأصل هو ثبات الإصبع، فقالوا: يتقيد تحريكها بالدعاء.

    وعلى هذا يُشكل عليهم لفظ الشهادة؛ فإنه لا يشتمل على السؤال ولا يشتمل على الدعاء؛ ولذلك قالوا: إنه يبتدئ عند قوله: أشهد أن لا إله إلا الله. فتبتدئ الإشارةُ بالإصبعين عند الشهادة؛ فالذين يقولون: تثبت؛ يقولون: من بداية الشهادة عند قوله: أشهد أن لا إله إلا الله، يبقى مشيراً بها منكِّتاً إلى الأرض، كما في حديث ابن عمر عند البيهقي وغيره، ينكتها إلى الأرض، وعلى هذا تثبت إلى نهاية الصلاة عند الذين لا يقولون بالتحريك.

    وأما الذين يقولون بالتحريك يقولون: يبتدئ عند الشهادة فيشير ثم يقبض، فإذا ابتدأ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لاشتمالها على نوع من الدعاء: (اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد) يحرك عند ابتداء كل صلاةٍ؛ لأنها دعاء ومسألة.

    والذين قالوا بالتحريك المطلق وهو أضعف الأقوال، قالوا: إنه يشير بها ويحركها، سواءً كان في ابتداء الدعاء أو أثناء الدعاء، وأقوى هذه الأقوال أنه يشير بها ولا يحركها؛ وذلك لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اسكنوا في الصلاة)، وقوله: (يدعو بها)، متردد بين شهادة التوحيد وبين أن يبقى مشيراً بها، فنقول: إن من رفعها أثناء دعائه كأنه داعٍ بها؛ ولذلك ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا خطب لا يزيد على الإشارة بها صلوات الله وسلامه عليه.

    قال رحمه الله: [ويشير بسبابتها في تشهده ويبسط اليسرى]

    ويشير بسبابتها، قالوا: سميت سبابة من السب؛ لأنهم كانوا إذا توعد الرجلُ الرجلَ أو سبه أشار بإصبعه على سبيل الوعيد، يهدده بها ويخوفه بها، فسمَّوها سبابة من هذا الوجه، وتسمى مسبِّحة؛ لأنها تكون عند تسبيح الله وتنزيهه كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إشارةً إلى وحدانية الله عز وجل، وقد ثبت في الحديث الصحيح أنه كان في خطبة حجة الوداع يقول: (ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، فكان يرفع بإصبعه وينكتها عليهم ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد..)، صلوات الله وسلامه عليه.

    التشهد الأول والصيغ الواردة فيه

    قال رحمه الله تعالى: [ويقول: (التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله). هذا التشهد الأول]

    التشهد -كما قلنا- يشتمل على فعلٍ وقول، ففرغ رحمه الله من هيئة المتشهد، ثم شرع في أذكار التشهد، والسبب في تقديمه للأفعال والأوصاف على الأقوال أن أول ما يبتدئ به المتشهد أن يهيئ مجلسه للتشهد، فابتدأ بهيئة الجلوس، ثم أتبعها بذكر الجلوس، وذكر التشهد يبتدئ بالتحيات.

    وقد جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم صِيغٌ للتشهد، منها حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الذي ذكره المصنف.

    ومثله حديث عبد الله بن عمر، وحديث أبي موسى الأشعري مع اختلاف يسير، وهناك صيغٌ أخرى منها تشهُّد عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وتشهد عمر بن الخطاب.

    فأما الإمامان أحمد وأبو حنيفة فاختارا تشهد ابن مسعود هذا، والسبب في ذلك أنه قال: (علمني النبي صلى الله عليه وسلم التشهد وكفي بين كفيه) إشارة إلى القرب واتصال الرواية، ولأن ألفاظ تشهد ابن مسعود جاءت متناسقة، ولم يحدث بينها اختلاف، ولأن هذا التشهد علَّمَه غير واحدٍ من السلف، فلذلك قالوا: إنه أفضل صيغ التشهد.

    وقيل بتشهد عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما: (التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله)، وهناك تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات لله)، وفي رواية: (الطيبات)بدون (لله)، وفي رواية: (الطيبات لله، والصلوات لله)، وكلتاهما روايتان ثابتتان عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    فاختار الإمام الشافعي تشهُّد عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، واختار الإمام مالك رحمه الله تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد بيّن المحققون -ومنهم الإمام الحافظ ابن عبد البر ، وشيخ الإسلام ابن تيمية كما قرره في القواعد النورانية، وابن عبد البر في الاستذكار، وكذلك الإمام ابن القيم رحمه الله في غير ما موضع من كتبه- أن الأمر واسع، فإن شئت تشهدت بتشهد ابن مسعود ، أو بتشهد عبد الله بن عباس ، أو بتشهد عمر بن الخطاب.

    وكأنهم يرون أن هذا الخلاف إنما هو من اختلاف التنوع، وليس من اختلاف التضاد، فالأمر واسع، فإن شئت تشهدت بهذا، وإن شئت تشهدت بهذا، واستحب بعض العلماء أن يُكثر من تشهد عبد الله بن مسعود وذلك لقوة رواياته، ولكن ينوع في بعض الصلوات بالتشهد الآخر الوارد عن عمر وعن عبد الله بن عباس رضي الله عن الجميع.

    ومعنى: (التحيات) أي: البقاء والدوام لله عز وجل.

    ومعنى: (والصلوات) أي: الثناء على الله سبحانه وتعالى، والأدعية مختصة بالله عز وجل لا تكون لغيره.

    وقوله: (والطيبات) وصَفَها بالطيب؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً سبحانه وتعالى.

    و(المباركات) من البركة، وأصل الشيء المبارك: الكثير الخير والنماء والزيادة، فالبركة هي النماء والزيادة والخير الكثير.

    وقوله: (السلام عليك أيها النبي) جاء في الرواية عنهم أنهم رضي الله عنهم لما توفي عليه الصلاة والسلام كانوا يقولون: (السلام على النبي)، وقال بعض العلماء: يُبقى على اللفظ الوارد؛ لأنه هو الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة فيقتصر عليه، وإن قال الإنسان: (السلام على النبي) فلا حرج. فالذين قالوا إنه يقول: (السلام عليك أيها النبي) قالوا: إن كاف الخطاب لا يشكل عليها وفاته عليه الصلاة والسلام؛ لأن الصحابة كانوا يسافرون، وكانوا يبتعدون أحياناً عن النبي صلى الله عليه وسلم في حال حياته، ومع ذلك لم يغيروا هذا اللفظ، فيبقى هذا اللفظ على ما هو عليه لا يختلف في حياته وموته صلوات الله وسلامه عليه، ولا شك أن هذا المذهب من جهة الاتِّباع والقوة في التأسي من حيث اللفظ الوارد هو أقوى، وذلك لأن التحيات ذكر مخصوص، وينبغي أن يلتزم فيه المصلي ما ورد، وأما اجتهاد الصحابة رضوان الله عليهم فهذا منهم، فلهم أجرهم على الاجتهاد، ولكن الأقوى والأولى ما ذكرناه.

    وقول: [السلام عليك أيها النبي ورحمةُ الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين] في التشهد لأنهم كانوا في القديم يسلّم بعضهم على بعض عند انتهاء الصلاة، فأبدلهم الله عز وجل بهذا، وكانت هي الصلاة المدنية؛ فعندما كان يسلم بعضهم على بعض، ويشير بعضهم على بعض لبُعدهم قال صلى الله عليه وسلم: (ما لي أراكم رافعي أيديكم كأذناب خيلٍ شمسٍ، اسكنوا في الصلاة)، فنهاهم عن هذا السلام، وأبدلهم الله بقول: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)، وقد ورد في الخبر أنه لا يبقى عبدٌ لله صالح إلا أصابه هذا السلام، إذا قال المصلي: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)، وفيه دليل على فضل صلاح الإنسان.

    قال بعض العلماء: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) عامة تشمل كل مسلم.

    وقال بعضهم: بل تختص بمن زاد خيره وزادت طاعته، فهو المختص بهذا التسليم من المصلين إظهاراً لشرف الصلاة والزيادة في الهداية، فكلما زادت هداية الإنسان وازداد صلاحه وخيره كان عليه سلامٌ من المصلين، فمن صلى نفلاً أو فرضاً أصابه هذا التسليم من عباد الله المصلين، وهذا فضلٌ عظيم وخيرٌ كثير.

    وأما قول: [أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله]

    لقد جاء في الرواية الثانية: (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له -بزيادة (وحده لا شريك له- وأشهد أن محمداً رسول الله)، وجاء في روايةٍ أيضاً: (محمداً عبده ورسوله)، وكل هذا ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    قوله: [هذا هو التشهد الأول]

    لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبع كلمات وهي تحية الصلاة)، وهو حديث عند مسلم وغيره، قالوا: هو التشهد الأول؛ لأن التشهد تفعلٌ من الشهادة، فمن بلغ إلى قوله: (أشهد أن لا إله الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) فقد انتهى من تشهده الأول، وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإنها لا تكون في التشهد الأول على أصح أقوال العلماء، وهو مذهب الجمهور، خلافاً لمن قال إنها تكون في التشهد الأول.

    والسبب في ذلك أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم دعاء، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الدعاء إنما يكون في التشهد الثاني لا في التشهد الأول، وقد اختلف في حديث النسائي وغيره الذي فيه ما يدل على أنه يدعو في التشهد الأول، ولذلك خطَّأ بعض العلماء هذه الرواية، وقوَّى أن الدعاء إنما هو في التشهد الثاني، وقد بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله لمن انتهى من صلاته: (ثم ليتخير بعد من المسألة ما شاء)، فالتشهد الأخير هو تشهد المسألة والدعاء، وأما التشهد الأول فإنه لا يُدعا فيه، ولذلك جاء في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (كان إذا جلس في التشهد الأول قام كأنما كان على الرضف)، وهو الحجارة المحماة، وهذا إشارة إلى أنه كان يستعجل، ولم يكن يطيل جلوسه للتشهد الأول.

    ولذلك قالوا: السنة أنه لا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أمُرُه عليه الصلاة والسلام بالصلاة عليه في هذا الموضع، فيقتصر على التشهد، وقد سموه تشهداً واسمه دال عليه، وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، قالوا: فتسمية النبي صلى الله عليه وسلم له تشهداً تدل على أنه يقتصر فيه على قول: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله).

    فالخلاصة أن ما قلنا هو أقوى الأقوال، هناك قولٌ ثانٍ: أنه يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك قولٌ ثالث: أنه يشرع له الدعاء. ولكنه قولٌ ضعيف عند العلماء للاختلاف في ثبوت الرواية بدعائه عليه الصلاة والسلام؛ لأن المحفوظ عدم دعائه، وسرعة قيامه إلى الركعة الثالثة.

    الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الثاني

    قال رحمه الله تعالى: [ثم يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد].

    هذه هي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ولها صيغٌ عديدة، واختار المصنف رحمه الله منها هذه الصلاة، وهي صحيحة ثابتة، فهذه الصلاة لها أكثر من عشر صيغ ثابتة في الكتب الستة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    وأي صلاةٍ صلى بها فإنها مجزئة، لكن المعتبر منها الصلاة الإبراهيمية التي اختارها المصنف رحمة الله عليه، وقد دلّ عليها حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه وأرضاه.

    حكم الاستعاذة من النار والقبر بعد التشهد الثاني

    قال رحمه الله تعالى: [ويستعيذ من عذاب جهنم وعذاب القبر]

    أي: يسأل الله أن يعيذه من عذاب جهنم، والتعوذ من عذاب جهنم ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال أربع كلمات، اختلف العلماء فيها على وجهين:

    فمنهم من قال: يُستحب للمصلي أن يتعوذ من هذه الأربع: من فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، ومن عذاب القبر، ومن عذاب جهنم. والسبب في ذلك أمره عليه الصلاة والسلام على سبيل الندب لقوله صلى الله عليه وسلم: (ثم ليتخير بعد من المسألة ما شاء)، فقوله: (ثم ليتخير بعد من المسألة ما شاء) يدل على الندب والاستحباب، وأنك تقول هذا الدعاء على سبيل الأفضلية لا على سبيل اللزوم.

    وهناك قولٌ ثانٍ يقول: يجب على المصلي أن يتعوذ بالله من هذه الأربع، ويُلزمه بها، وهو قول بعض فقهاء الظاهرية كما اختاره ابن حزم ، بل شدد بعضهم -ويوافقه بعض أهل الحديث رحمة الله عليهم- فقال: من لم يتعوذ بالله من هذه الأربع تبطل صلاته.

    والصحيح أنها مندوبة مستحبة، وليست بلازمة واجبة؛ لدلالة السنة على صرف الأمر عن ظاهره من الوجوب إلى الندب، والقاعدة في الأصول أن الأوامر تبقى على ظواهرها من الدلالة على الوجوب ما لم يقم الصارف على صرفها عن ذلك الظاهر. وقد قام الصارف في قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم ليتخير بعد من المسألة ما شاء)، فوسَّع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقيِّد.

    وهذه الأربع -كما يقول العلماء- اشتملت على شرور الدنيا والآخرة؛ فإن الإنسان يأتيه الشر من فتنة المحيا، وقد يؤخر الله عنه البلاء فيكون في فتنة الممات، والأمر الثالث: البرزخ، والرابع: عذاب جهنم.

    قال بعض العلماء: فتنة الممات ما يكون عند سكرات الموت، نسأل الله أن يلطف بنا فيها.

    فالإنسان المسلم الموفَّق السعيد يخشى من هذه الأربعة المواضع.

    الموضع الأول: فتنته في حال حياته، فمادامت روحه في جسده فإنه معرضٌ للفتن، حتى ولو بلغ أعلى درجات الصلاح فإنه لا يأمن أن يُمسِي مؤمناً فيصبح -والعياذ بالله- كافراً، ولا يأمن أن يصبح مؤمناً ويمسي كافراً، ففي الحديث: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) نسأل الله السلامة والعافية.

    فإذا كان حياً فإنه يخاف من فتنة المحيا، وكم من إنسان كان على خير فانعكس حاله -والعياذ بالله- إلى الشر بسبب طول حياته إلى زمان الفتن، ولذلك كان بعض العلماء -رحمةُ الله عليهم- من مشايخنا يقول: كنت أسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم في أمره بالتعوذ من فتنة المحيا والممات، وكنا نتعوذ، ونسأل الله أن يعيذنا، ولكن لم نعرف ولم نجد أثر ذلك إلا بعد رؤية الفتن، فعلمنا فضل هذا الدعاء: (وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات)، وكم من إنسانٍ يتمنى العيش إلى دهر يسوءه ولا يسره ولا ينفعه، بل يضره، نسأل الله أن يلطف بنا وبكم.

    الموضع الثاني: إذا سَلِم في حياته فقد يبتليه الله قبل موته، فيختم له بخاتمة السوء، ولذلك قد يتخبط الشيطان الإنسان عند سكرات الموت -والعياذ بالله- فقال صلى الله عليه وسلم: (وفتنة الممات)، فيسأل الله أن يلطف به في فتنة الممات، وأن يجعل خاتمته على خير؛ فإنه قد يموت الإنسان على خاتمة السعداء، وقد يموت على خاتمة الأشقياء، ولذلك ثبت في الحديث أن رجلاً طُعِن يوم أحد فسالت دماؤه فاستعجل الموت -والعياذ بالله- فطعن نفسه فقتل فمات قاتلاً لنفسه.

    فعلى الإنسان أن يسأل الله أن يلطف به، خاصةً عند سكرات الموت وشدته، فإن سَلِم من فتنة المحيا والممات فإنه قد تكون هناك ذنوبٌ وخطايا منه لم يغفرها الله سبحانه وتعالى لعدم وجود التوبة النصوح منه، فيبتليه بفتنة القبر، فقال صلى الله عليه وسلم: (وأعوذ بك من عذاب القبر)، فإن سلم من فتنة المحيا ومن فتنة الممات، ومن فتنة القبر فإنه يحتاج إلى أن يسلِّمه الله من عذاب جهنم.

    ثم بعد هذه الفتن الأربع هناك فتنٌ خاصة وهي التي عناها بقوله: (فتنة المسيح الدجال)، فالفتن منها ما هو عام، ومنها ما هو خاص، فاستعاذ من فتنة المحيا العامة، ثم شرع في فتنة المحيا الخاصة وهي فتنة المسيح الدجال، وهي من أعظم الفتن، وسمي مسيحاً لأنه يمسح الأرض، فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه لا يدع موضعاً من الأرض إلا وطئه، إلا ما يكون من المدينة، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث تميم الداري - أنه: (على كل نقب من أنقابها ملائكةٌ يحرسونها، فلا يستطيع أن يدخلها، وإنما ترجف فيخر المنافقون إليه في السبخة من أرض الجرف، ويمكث أربعين يوما: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع، ويوم كسائر أيام السنة).

    وتعظُم فتنته، حتى ثبت في الحديث الصحيح أنه يمر على الأرض الخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتخرج كنوزها تتبعه كيعاسيب النحل، أي: من الذهب والفضة وما فيها من الكنوز، فيفتن الناس به فتنةً عظيمة، ويدعي أنه الله، ويعظمُ بلاؤه، وله جنةٌ ونار، فناره جنة وجنته نار، حتى يكتب الله عز وجل للمؤمنين السلامة من فتنته بنزول عيسى ابن مريم عليه السلام وقتله للمسيح، كما ثبتت بذلك الأخبار في الصحيحين.

    وأما عذاب القبر فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (دخل على عائشة ، وكانت قد دخلت عليها يهودية فأطعمتها أم المؤمنين عائشة ، فقالت لها اليهودية: أعاذك الله من عذاب القبر، فعجبت عائشة من قولها، فلما دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته، فقال عليه الصلاة والسلام: أشعرت أن الله أوحى إليَّ أنكم تفتنون في قبوركم؟! قالت أم المؤمنين: فما سمعته صلى صلاةً إلا واستعاذ بالله من عذاب القبر).

    وفي الحديث الصحيح من حديث البراء عند أحمد في مسنده: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في جنازة أنصاري، فجلس -لكي يلحِدوا له- قال: وجلسنا حوله وكأن على رءوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً..)، ثم ذكر الحديث، فالشاهد من هذا أنها فتنة عظيمة تكون للإنسان في قبره، ويستعيذ الإنسان منها لكي تحصل له من الله السلامة، فنسأل الله أن يعيذنا من هذه الفتن ما ظهر وما بطن.

    قال رحمه الله: [ويدعو بما ورد]

    أي: يسأل الله عز وجل من خير الدنيا والآخرة بما ورد، فيسأله العافية في دينه ودنياه وآخرته، ويقول الدعاء المأثور -كما في حديث أنس- : (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار)، ومن أفضل الدعاء الدعاء بجوامع الكلم كقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أسألك الهدى والتقى)، وكقوله عليه الصلاة والسلام: (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادةً لي في كل خير، واجعل الموت راحةً لي من كل شر).

    فإن هذه الخمس الكلمات تجمع للإنسان سعادة الدنيا والآخرة، فمن أعطاه الله هذه الخمس فقد أعطاه السعادة بعينها.

    فهذا اختيار جمعٍ من العلماء وهو أنه يقتصر في دعائه على ما ورد، وقالوا: لا يدعو بأدعية الدنيا، كأن يقول: اللهم إني أسألك دابةً سريعة، أو زوجةً جميلة، أو داراً فسيحة، ونحو ذلك. وقالوا: إنما يدعو بما ورد، ورخص بعض العلماء في الدعاء؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (ثم يتخير من المسألة ما شاء)، وهذا في الحقيقة أقوى لظاهر دلالة السنة، ولكن أجمع العلماء على أن الأفضل للإنسان أن يدعو بما ورد؛ لأنه إذا دعا بما ورد كان له أجران: أجر الدعاء وأجر الاقتداء والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقال: الأفضل الاقتصار على ما ورد، ولا يُقال: إنه يمتنع عليه الدعاء بغير ما ورد، لثبوت السنة بالإقرار.

    1.   

    السلام من الصلاة والأحكام الواردة فيه

    قال رحمه الله: [ثم يسلم عن يمينه: (السلام عليكم ورحمة الله) وعن يساره كذلك]

    السلام يحتاج إلى فعل وذكر، فأما هديُه عليه الصلاة والسلام فكان يلتفتُ حتى يُرى بياض خده، وهذا البياض للخد سببه أنه كان يلبس العمامة صلوات الله وسلامه عليه فلا يمنع رؤية الخد شيء، فإذا وضع صلوات الله وسلامه عليه ذقنه على كتفه بدا خده، وبعض طلاب العلم يخطئ عند تطبيق هذه السنة، فإنه ربما يكون عليه غطاء رأسه فيتكلف حتى ينحرف عن القبلة بجذعه، فتجدهُ بحرف صدره كأنه يريد أن يري الناس خده، وهذا لا شك أنه يريد الخير والتأسي ببيان خده كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن خفي عليه أن خد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يستره شيء؛ لذلك ينبغي لمن أراد أن يطبق هذه السنة أن يثبُت؛ لأنه مطلوب منه أن يكون مستقبل القبلة، فالانحراف والحركة من الأمور التي شدّد فيها العلماء رحمةُ الله عليهم، بل كان يقول بعض العلماء: إذا انحرف انحرافاً لأغلب الجذع فإنه لا يؤمن أن تبطل صلاته؛ لأنه انحرف عن القبلة قبل تمام صلاته. فهذا ينبغي التنبيه عليه ويخطئ فيه كثير، بل من طلاب العلم من يخطئ فيه.

    فلذلك يثبت الإنسان مُستقبل القبلة بصدره، ثم يحرف رأسه ويجعل ذقنه على الكتف، فهذه هي السنة في السلام الكامل، وأما المبالغة في الحركة والانحراف، فليست من السنة في شيء، ولذلك يُشدد فيها ويمنع منها. وكان عليه الصلاة والسلام إذا فرغ من تسليمه عن اليمين سلم عن يساره، فابتدأ باليمين تشريفاً لها، ثم سلم عن يساره صلى الله عليه وسلم.

    صيغ السلام الثابتة في السنة

    أما الذكر القولي فهناك أربع صيغ للسلام:

    الصيغة الأولى: ( السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) عن اليمين، (السلام عليكم ورحمة الله) عن اليسار.

    الصيغة الثانية: (السلام عليكم ورحمة الله) عن اليمين، (السلام عليكم ورحمة الله) عن اليسار. وهي الصيغة المشهورة والموجودة الآن.

    الصيغة الثالثة: (السلام عليكم ورحمة الله) عن يمينه، (السلام عليكم) عن اليسار.

    الصيغة الرابعة: (السلام عليكم) عن يمينه.

    فهذه أربع صيغ ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، سلم تسليمتين فجعلها كاملة، وجعلها كاملة عن اليمين ناقصة عن اليسار، وجعلها أيضاً متساوية في اليمين واليسار.

    والتسليم يُعتبر من أركان الصلاة على أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم، خلافاً للإمام أبي حنيفة رحمه الله الذي لا يرى وجوب التسليم، ويقول: لو أن المصلي خرج من الصلاة بصنعةٍ فإنه يُعتبر خارجاً من الصلاة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام للمسيء صلاته: (..فإذا فعلت هذا فقد تمّت صلاتك) ولم يأمره بالتسليم. والصحيح أنه لازم لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث علي رضي الله عنه الثابت عنه: (..تحريمها التكبير وتحليلها التسليم)، فلما قال: (تحليلها التسليم) دلّ على أن المصلي لا زال في حرماتها حتى يسلم.

    واحتج الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه أيضاً بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي ، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (..وقضى تشهده ثم أحدث فقد تمت صلاته)، وهو حديث ضعيف، والصحيح ما ذكرناه من لزوم السلام ووجوبه.

    وأصح الأقوال عند العلماء أن السلام مخيرٌ فيه، فإن شاء سلّم تسليمتين، وإن شاء سلم تسليمة واحدة، ولكن إذا كان مأموماً يرى التسليمتين، وصلى وراء إمامٍ يسلم تسليمة واحدة يُسلِّم وراءه تسليمةً واحدة، وإن كان مأموماً يرى التسليمة الواحدة، وصلى وراء إمامٍ سلم تسليمتين فإنه يسلم من ورائه تسليمتين.

    قال بعض العلماء: الواجب في التسليم الأولى، والثانية سنة، وقال بعضهم: الواجب التسليمتان.

    فإن قلنا: الواجب التسليمتان، أو قلنا الواجب التسليمة فالحكم يختلف.

    وفائدة ذلك أنه لو قلنا الواجب تسليمة واحدة، فإن سلم الأولى ثم أحدث فإن صلاته صحيحة على القول بأن الواجب هي التسليمة الأولى.

    وكذلك لو قلنا: إن الواجب التسليمة الأولى. فإذا سلم التسليمة الأولى، وقبل أن يسلم الثانية مرت امرأة، أو مر كلبٌ أو مر حمارٌ فإنه على القول بأن الصلاة تقطع يُعتَبر بتسليمته الأولى قد خرج من الصلاة وصحّت صلاته.

    أما على القول بأن الواجب تسليمتان فلا.

    ومن فوائد هذا الخلاف أننا إذا قلنا: الواجب التسليمة الأولى فمعنى ذلك أنك لو صليت وراء إمام وفاتتك ركعة فأكثر، وسلم الإمام التسليمة الأولى، فإنك تقوم مباشرة؛ لأنك مأمورٌ بواجب، فلا تتوقف على السنة، قالوا: ولا ينتظر التسليمة الثانية، كما اختاره غير واحدٍ من أهل العلم، ومنهم الإمام العز بن عبد السلام، وطائفة من أصحاب الشافعي رحمة الله عليه، فقالوا: لا يجلس؛ لأن جلوسه تحصيلاً للسنة، وقد أُمِر بالإتمام لقوله عليه الصلاة والسلام: (وما فاتكم فأتموا)، قالوا: فلذلك لا يشتغل بالسنة عن الفرض اللازم عليه.

    هذا حاصل ما ذُكِر في تسليم المصلي من صلاته.

    1.   

    مسائل متفرقة في الصلاة

    التكبير ورفع اليدين عند القيام إلى الثالثة

    قال رحمه الله تعالى: [وإن كان في ثلاثية أو رباعية نهض مكبرا بعد التشهد الأول]

    أي: إن كان المصلي في ثلاثيةٍ كالمغرب، أو رباعية كالظهر والعصر والعشاء نهض مكبراً إلى الركعة الثالثة، وقوله: (مكبراً)، أي: حال كونه مكبراً يقول: اللهُ أكبر، فإن استتمّ قائماً رفع يديه مشيراً بها كالحال في تكبيرات الركوع والرفع من الركوع.

    وهذا هو الموضع الرابع الذي يُشرع فيه رفع اليدين كما ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر في صفة رفعه صلوات الله وسلامه عليه يده في الصلاة.

    قال رحمه الله تعالى: [وصلى ما بقي كالثانية بالحمد فقط]

    قوله: [كالثانية] أي: كما وصفنا في الركعة الثانية، لا كما وصفنا في الركعة الأولى؛ فإنه في الثالثة والرابعة يفعل ما يفعل في الثانية، لكن يقتصر في الثالثة والرابعة على سورة الفاتحة إلا الظهر، وهذا فيه حديث ابن عباس، فإن السنة أن يقرأ بسورة: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] في الركعة الثالثة، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] في الركعة الرابعة، وقد ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وصح عنه.

    وقال بعض العلماء: يُقاس على الظهر العصر، ففي الأخريين من العصر يقرأ بسورتي الإخلاص. وهذا محل نظر، فإن الأقوى أن يُقتصر على الوارد، ويُقال بسنيته في الظهر، ويضعف القياس في مثل هذا.

    مسألة التورك في التشهد الأخير

    قال رحمه الله تعالى: [ثم يجلس في تشهده الأخير متوركا]

    أي: إذا كان في ثلاثية أو رباعية يجلس في تشهده الأخير حال كونه متوركاً.

    والتورك ثَبَتَ فيه حديث ابن عمر وابن الزبير رضي الله عن الجميع.

    وهذا التورك للعلماء فيه ثلاثة أوجه:

    الوجه الأول: أن يجعل طرف قدمه اليسرى بين الساق والفخذ قريباً من الركبة، وهذا الوجه يصعب في حال ازدحام الناس، بل قد لا يتأتى؛ لأنه يحتاج إلى انفراج الإنسان قليلاً حتى يتمكن من إدخال قدمه اليسرى بين ساقه وفخذه قريباً من الركبة.

    الوجه الثاني: أنه يؤخِّرها حتى يقترب من الإلية.

    الوجه الثالث: أنه يُنزلها ويجعلها تحت الساق، وتكون على صورتين: الأولى تكون فهيا مقدمة، بمعنى: قريبة من الركبة.

    والثانية: تكون مؤخرة بحيال القدم المنصوبة.

    فهذه كلها أوجه في التورك لا حرج على الإنسان أن يفعل أي واحدةٍ منها.

    وتشرع في الثلاثية والرباعية.

    والجلوس في الصلاة على صورتين: الأولى: الافتراش، وهي أن تجعل اليسرى بمثابة الفراش، فظاهرها على الأرض وباطنها الذي يلي الأرض عند المشي يكون إلى الإليتين، وينصب رجله اليمنى، ويجعل أصابعه مستقبلة القبلة، فهذا يسمى الافتراش، وفيه حديث عائشة رضي الله عنها، وحديث وائل بن حجر رضي الله عنه.

    الثانية: التورك الذي ذكرناه.

    والعلماء رحمة الله عليهم لهم في هذه الجلسات ثلاثة مذاهب:

    فمذهب يقول بتقديم الافتراش على التورك، كما هو اختيار الحنفية ومن وافقهم.

    ومذهبٌ يقول بتقديم التورك على الافتراش، كما هو مذهب المالكية ومن وافقهم.

    ومذهبٌ يرى التفصيل، كما هو اختيار الحنابلة والشافعية، وهو الأرجح.

    ومذهب التفصيل هو أنه إن كان في ثنائيةٍ بعدها سلام، أو في التشهد الأول من الرباعية أو الثلاثية فإنه يفترش ولا يتورك، وإن كان في رباعيةٍ، أو في ثلاثيةٍ وجلس للسلام فإنه يتورك ولا يفترش، فهؤلاء يرون أن الافتراش يكون في الثنائية، ويكون في الجلسة الأولى من الرباعية، بمعنى أفهم يرونه في كل ركعتين، وأما التورك فيرونه لجلسة السلام.

    ولذلك بعض العلماء يقول: إن كانت ثلاثيةً ورباعيةً جلس متوركاً لسلامه، ويجلس مفترشاً في التشهد الأول، وفي كل ثنائية. فهذا بالنسبة للمذهب الذي يقول بالتفصيل، فجمع بين الأحاديث، وقد جاء في حديث أبي حميد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفترش ويتورك على حسب حاله في التشهد من كونه مسلِّماً أو غير مسلِّم.

    فإذا قلنا بالتفصيل فإنه قد يقال: هل التورك في الرباعية والثلاثية من أجل السلام، أم من أجل العدد؟

    وهذا يتفرع عنه ما لو صلى الوتر، فإن قلنا: إن جلوسه متوركاً في الرباعية والثلاثية من أجل السلام فحينئذٍ يتورك في الوتر. والأقوى عندهم أنه لا يتورك؛ لأنه في الفجر لا يتورك، ومن بعده السلام؛ وبعض العلماء الشافعية يرون أنه يتورك لتشهد السلام، فيرى أنه إذا أراد أن يسلِّم تورَّك لكل تشهد من بعده سلام، وافترش لكل تشهدٍ لا سلام بعده.

    المرأة كالرجل في الصلاة

    قال رحمه الله تعالى: [والمرأة مثله لكن تضم نفسها وتسدل رجليها في جانب يمينها]

    المرأة كالرجل فيما ذكرناه من صفات الصلاة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إنما هن شقائق الرجال)، والأصل في الأحكام أن النساء فيها كالرجال حتى يدل الدليل على اختصاص الرجال، أو اختصاص النساء.

    ولكن جلوسها للعلماء فيه وجهان:

    قال بعض العلماء: إذا جلست في التشهد فإنها تتربع ولا تفترش، والسبب في ذلك أنه أبلغ في سترها. ورووا عن بعض أمهات المؤمنين ما يدل على جلوسها متربعة، كما أُثِر عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقالوا: ما كانت لتفعله إلا وله أصل، خاصةً وأن الصلاة مبناها على العبادة والتوقف.

    ومنهم من قال بما اختاره المصنف وهو أنها تحمل رجليها إلى جهة اليمين، والسبب في ذلك أنها إذا جعلت الرجلين إلى جهة اليمين فإنه لا يتحدد جِرمها، فيكون أبلغ في سترها، ويكون غطاؤها عليها، فلا تستطيع أن تميِّز جرم المرأة بخلاف إذا ما جلست مفترشة.

    1.   

    الأسئلة

    الإشارة بالسبابة في التشهد وغاية انتهائها

    السؤال: إذا أشار المصلي بسبابته في التشهد عند لفظة الشهادة، فهل يبقى مشيراً إلى نهاية التشهد أم يقبضها؟

    الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    فقد ذكرنا أن أصح شيء ما جاء في كونه يشير، ويبقى بإشارته حتى ينتهي منكتاً بها إلى الأرض، وإن حركها يتأول قول من قال بذلك فلا حرج، وإن أشار بها شديداً -كما هو اختيار بعض السلف- فلا حرج، فالأمر في هذا أن كل من ثبتت عنده سنة، أو اطمأن إلى قول عالمٍ يقول بسنة، أو يترجح عنده صحة حديث التحريك والإشارة بها ولو متردداً فلا حرج عليه؛ لأن له أصلاً، والأقوى ما ذكرناه؛ لأن السنة دلَّت على أن الحركة لا تجوز إلا بدليل، لقوله صلى الله عليه وسلم: (اسكنوا في الصلاة) فلما قال عليه الصلاة والسلام: (اسكنوا في الصلاة)، كان الأصل هو عدم التحريك حتى يدل الدليل على التحريك، فجاء الدليل يدعو بها، فنقول: إن مطلق الدعاء بها لا يستلزم الحركة كما هو معلوم.

    معنى السلام على عباد الله الصالحين في التشهد

    السؤال: ما معنى أن كل عبدٍ صالح يصله السلام عند التسليم من عباد الله المصلين؟

    الجواب: المراد بذلك أن السلام أصله الدعاء بالسلامة، فإذا قلتَ لإنسان: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فمعناه: سلمكم الله من الآفات ومن الشرور، وسلمكم الله من الفتن، فتدعو له بالسلامة؛ لأن من سلِم غَنِم، فالعبد إذا سلَّمه الله كان غانماً وعلى خير وبر، والسلامة تكون في الدين والدنيا، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (يا عم رسول الله! سل الله العافية، يا عم رسول الله! سل الله العافية، يا عم رسول الله! سل الله العافية) فالعافية هي السلامة، فمن عُوفي فقد سلم، فإذا قلت: (السلام عليكم) أي: سلمكم الله، وإذا قلت: (السلام علينا) أي: أسأل الله أن يسلمنا، (وعلى عباد الله الصالحين) أي: أسأل الله أن يسلمهم، فتلقي السلام عليهم، وهذا بمثابة الدعاء أن يسلمهم الله، والله تعالى أعلم.

    إذا نسي المصلي فسلم عن اليسار قبل اليمين

    السؤال: إذا نسي المصلي فسلّم أولاً على الشمال ثم على اليمين، فهل يلزمه سجود السهو، أم أنه خالف السنة ولا شيء عليه؟

    الجواب: أما بالنسبة لتسليمه عن يساره قبل اليمين فإنه يعتبر خارجاً من الصلاة بتسليم اليمين زائداً لتسليمة اليسار؛ لأن تسليمة اليسار وقعت في غير موقعها، فلذلك يعتبر أشبه بالالتفات الزائد، ولذلك اختار بعض العلماء رحمة الله عليهم أنه يسجد للزيادة، خاصةً على القول بأن سجود الزيادة بعد السلام، فبعد أن يسلم يسجد سجدتين؛ لأن زيادة التسليم من جنس الصلاة، فيسجد السجدتين بعد السلام، والله تعالى أعلم.

    حكم تكبيرات الانتقال للإمام والمأموم

    السؤال: هل يجب على المأموم تكبيرات الانتقال؟

    الجواب: تكبيرات الانتقال واجبة، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها، وقد فعلها عليه الصلاة والسلام وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، والمراد بتكبيرات الانتقال: تكبيره للركوع، وتكبيره للسجود، وتكبيره للرفع من السجود، وتكبيره للسجدة الثانية، وتكبيره للقيام إلى الثانية والثالثة، فكلها وصفت بكونها تكبيرات انتقال؛ لأنه ينتقل بها من ركنٍ إلى ركن، فلما كان قائماً انتقل إلى الركوع فقال: الله أكبر، وكان ساجداً فانتقل إلى الجلوس فقال: الله أكبر. فقالوا: هذه تكبيرات الانتقال، وأصح الأقوال وجوبها، والله تعالى أعلم.

    التسليم قبل الوجه ثم الالتفات

    السؤال: ما حكم من ينطق بالتسليمة ثم يقوم بعد ذلك بالالتفات؟

    الجواب: هذا قول بعض العلماء رحمة الله عليهم، ويميل إليه بعض المالكية، حيث قالوا: إن التسليم أن يسلِّم قبل وجهه ثم يلتفت. خاصةً وأنهم يقولون بالتسليمة الواحدة، وعلى العموم فإذا اختار أحدٌ هذا القول وعمل به فلا إنكار عليه.

    حكم من أدرك مع الإمام ركعة

    السؤال: رجلٌٌ أدرك ركعة مع الإمام في صلاة المغرب، فهل يقرأ التشهد الثاني مع الإمام حتى يسلم، ثم يكمل ما فاته، أم يقتصر على التشهد الأول؟

    الجواب: إذا صليت وراء إمام وأدركت شيئاً من الركعات، وفاتك شيءٌ منها، ثم جلست الجلسة الأخيرة فبعض العلماء يقول: العبرة بحاله عند ائتمامه كحال الإمام، فإذا كان مؤتماً يعتبر حاله كحال الإمام، فيفعل ما يفعله مَنْ وراء الإمام، ويَتفرَّع على هذا القول مسائل، منها: أنك لو أدركت الإمام في الركعة الثالثة من العصر تقتصر على الفاتحة، والثالثة من المغرب تقتصر على الفاتحة، والثالثة من العصر كذلك تقتصر على الفاتحة.

    وأما القول الثاني فإنه يقول: العبرة بالمأموم؛ لأن صلاته مع الإمام هي الأُولى.

    فعلى القول الأول فإنه عند تشهد الإمام التشهد الأخير يعتبر حاله حال المتم، ويتشهد تشهداً كاملاً، وهذا أقوى.

    وعلى القول الثاني يعتبر حاله وراء الإمام حال الباني، فصلاته مع الإمام هي الأولى، ويكون حاله دون حال الإمام.

    ومن فوائد هذه المسألة أن من أدرك الإمام في التكبيرة الثانية أو الثالثة من صلاة الجنازة، فبعضهم يرى أن العبرة بحاله، فحينئذٍ يبتدئ بالفاتحة، خاصةً وأنها ركنٌ في الصلاة، وحتى لو كان الإمام في الدعاء تداركاً لما فات، والقول بأنه يعتبر حاله كحال الإمام أقوى، وذلك لظاهر السنة: (فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)، فإنه جعل الإتمام والبناء بعد الانفصال، وبعد الإكمال، ولذلك يقوى في هذه الحالة اعتبار حاله مع الإمام كحال الإمام، فيأتم بالإمام على الصورة التي يجده عليها.

    ولا يُشكِل على هذا قول من قال: إنه لو أدرك مع الإمام التكبيرة التي قبل الأخيرة في الصلاة على الجنازة فإنه يترك الفاتحة؛ فإننا نقول: إنه لو أدركه وصلى وراءه فإنه يدعو، فكما أنه لو أدركه راكعاً، أو أدركه قبل الركوع بقليل لا يتمكن فيه من قراءة الفاتحة فإنها تسقط عنه، كذلك تسقط عنه هنا، فدل على أن مسائل الاضطرار لا تأخذ حكم الاختيار، ولا يلزم فيها بالأصل ولا يُعترض به، والله تعالى أعلم.

    الدعاء في الصلاة بغير اللغة العربية

    السؤال: هل يجوز الدعاء في الصلاة بغير اللغة العربية؟

    الجواب: فقد رخص بعض أهل العلم في الأمور التي هي من غير الأذكار والأدعية المخصوصة كالتشهد، فإذا كان الإنسان أعجمياً ولا يسعه أن يتعلم الدعاء الوارد فله أن يدعو بلسانه ولا حرج عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم يتخير من المسألة ما شاء)، ولم يقيد ذلك بلسان، لذلك قالوا: إنه لا حرج عليه. ولأن كثيراً ممن يسلمون ويكونون حديثي عهدٍ بجاهلية لا يستطيعون الكلام، فإذا كانوا من العجم فلا يستطيعون تعلم اللغة ومعرفة اللسان العربي في الدعاء إلا بعد وقتٍ وجهد، ولذلك وُسِّع عليهم من هذا الوجه، فلا حرج عليه أن يدعو بدعائه سواء أكان بعد انتهاء تشهده أم في حال سجوده، والله تعالى أعلم.

    حكم التسليمتين في صلاة الجنازة

    السؤال: نرى من يسلم في صلاة الجنائز عن اليمين والشمال، فما حكم التسليم عن الشمال؟

    الجواب: المحفوظ التسليمة الواحدة، وحكى بعض أهل العلم التسليمة الثانية، لكني لا أحفظ في ذلك حديثاً صحيحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيُسأل، فإذا كان عنده حجة ودليل ثابت في هذا، فحينئذٍ لا إشكال، وإلا الأصل في التسليم المتابعة وعدم إحداث سلام زائد على ما ورد.

    قول: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) وخلاف العلماء في محله

    السؤال: هل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) بعد التشهد؟

    الجواب: نعم، فهذا اختيار بعض العلماء لقوله عليه الصلاة والسلام: (يا معاذ! إني والله لأحبك. فقال معاذ : بأبي أنت وأمي يا رسول الله. وأنا والله أحبك، فقال: أوصيك يا معاذ ألا تدع في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).

    فقال بعض العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم: (دبر كل صلاة) إن دبر الشيء منه. فقالوا: تدعو بهذا الدعاء بعد التشهد، فتقول: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).

    وقال بعض العلماء: إنه يدعو به خارج الصلاة وهو أقوى، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وحمد الله ثلاثا وثلاثين، وكبر الله ثلاثا وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر).

    وبالإجماع فإن هذه الأذكار تكون بعد الفراغ من الصلاة، وقد وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بكونها دبر الصلاة، قالوا: قد عرف في اللسان العربي أنه يوصف الشيء بحكم قربه من غيره، ولذلك يقولون: إن قوله: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) إنما يكون بعد الانتهاء من السلام، وهذا المذهب أقوى لوجود النظير الدال عليه، ولأن الأصل أن لا يُدخل في الصلاة إلا بدليل، فإذا فعله الإنسان في أثناء التشهد لا يُنكر عليه، وإن فعله بعد انتهائه من السلام فهو الأولى والأحرى، والله تعالى أعلم.

    ضابط صلاة الإشراق

    السؤال: هل ينبغي لمن جلس إلى الإشراق أن لا يتحرك من مكانه الذي صلى فيه؟ أم أن المقصود بالمصلى المسجد عامة؟

    الجواب: أما بالنسبة لصحة الحديث الوارد في ذلك والقول بثبوته أو تصحيحه لغيره. فهو يتوقف على مجموع طرق الحديث، والمعتبر بالتحسين منها كله بلفظ :(في مقعده)، (في مصلاه)، والقاعدة أن الإضافة تقتضي التخصيص؛ فإن معنى (مقعده) أي: مكان جلوسه، و(مصلاه) أي: مكان صلاته، ولذلك المحفوظ من كلام أهل العلم أن المراد بمقعده ومصلاه نفس المكان، حتى ولو قام يريد أن يأخذ المصحف فإنه لا يعتبر له هذا الفضل فإنك لو تأملت أن فضل ذلك حجة وعمرة تامة تامة فإنه ليس باليسير، وهذا أمر ينبغي للإنسان أن يجتهد فيه، ولذلك كلما كان الفضل أعظم والأجر أكثر كان الابتلاء أكثر وأعظم، ولذلك ابتلي بأن يثبُت في نفس المصلى.

    ثم إنه ينبغي عليه أن يكون ذاكراً لله؛ إذ بعضهم يجلس وينام، وربما يتكاسل حتى تصيبه السنَة من النعاس، ويغفل عن ذكر الله عز وجل، فقد شدد بعض العلماء حتى قال: لو أنه تكلم في فضول الدنيا فإنه لا يؤمن أن يفوته الفضل وهذا أقوى. واعتُرِض على هذا القول بما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس بعد صلاة الفجر فيحلق عليه الصحابة، فيأخذون فيما كانوا فيه من أمور الجاهلية -أي: يتحدثون بما كانوا عليه من الجاهلية- فيضحكون ويتبسم النبي صلى الله عليه وسلم.

    قالوا: فهذا يدل أنه لا حرج أن يتكلم في أمور الدنيا، ولكن هذا الاعتراض ضعيف؛ لأن الكلام كان من الصحابة، ولم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم.

    والأمر الثاني: أنهم كانوا يتحدثون بما كانوا عليه من أمور الجاهلية على سبيل ذكر نعمة الله عليهم، فكان عبادة من هذا الوجه، فإنهم يذكرون ما امتنّ الله عليهم بنعمة الإسلام، فيكون التحدث بما كانوا عليه في الجاهلية على سبيل الإشعار بفضل الله عليهم بالهداية للإسلام، ولذلك كان التحدث بالنعم شكراً لله عز وجل، فهو ذكر وطاعةٌ من هذا الوجه.

    فالذي تطمئن إليه النفس أن يبقى قارئاً للقرآن، أو مسبحاً، أو مهللاً، أو مكبراً، أو مستغفراً، أو قائلاً لأذكار الصباح، أو أذكار المساء، ويجلس في ذكرٍ وطاعة، وهذا يحتاج إلى جهاد وصبر حتى ينال فضل الحجة والعمرة التامةِ التامة.

    وأما القول بأن مصلاه المسجد كله فلا أحفظ أحداً من العلماء من السلف رحمة الله عليهم يقول به، وخاصةً أن ظاهر الحديث لا يساعد عليه، فالقول بأن مصلاه المراد به المصلى كله من باب التجوُّز، والأصل حمل اللفظ على حقيقته بقيد (مصلاه) أي: مكان صلاته، كما يُقال: مسجده أي: مكان سجوده، وهذا هو الأقوى والأشبه بلفظ الحديث، والله تعالى أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755957114