فمن أُنْعِمَ عليه بالحجِّ المبرور؛ عاد بذنب مغفور، وعيبٍ مستور، قوياً على الشيطان، ليناً لأهل الإيمان، قريباً من ربه، مغرماً بحبه.
وهنا دعوةٌ لمزيد من المعرفة بالحجِّ وآدابه وأحكامه، وترحيبٌ بأهله ووفوده.
أما بعد:-
فيا إخوة الإسلام! ويا حجاج بيت الله الحرام! اتقوا الله تبارك وتعالى على الدوام، واشكروه جل وعلا على نعمه العظام، وآلائه الجسام، لا سيما وأنتم تعيشون هذه الأيام، شرف الزمان والمكان والمناسبة، فهل علمتم -رحمكم الله- أي زمانٍ هذا؟ وهل فهمتم أي مكانٍ هذا؟ وأي مناسبة تلك؟
قدمتم يا حجاج بيت الله الحرام خير مقدم، أهلاً حللتم، وسهلاً وطأتم، بلاد الحرمين الشريفين تشرف بكم، قيادتها وشعبها، ومهابط الوحي ومنابع الرسالة تزدان بكم، وبطاح مكة ورباها وسهولها وأوديتها وأهلها تحييكم، وكيف لا يحق لها ذلك، وسماء مكة تدوي بجلجلة تلبيتكم، وأوديتها تضج بدعائكم عبر حناجركم المؤمنة: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، يا مرحباً بكم! يوم أن قطعتم الفيافي والقفار، وأتيتم عبر القارات والأقطار، على متن الأجواء والبحار، تبتغون رحمة العزيز الغفار، ربكم واحد، ودينكم واحد، وهدفكم واحد، وزيكم واحد، وقبلتكم واحدة، لا حرمكم الله ثواب ما تؤملون.
أيها الإخوة: ومن الغايات النبيلة في هذا التجمع الإسلامي الكبير، إشعار المسلم بدوره في الأمة ومكانته في المجتمع، وإدراكه لمسئوليته في الصلاح والإصلاح، فهو لبنة من لبنات المجتمع المسلم يشاطره آلامه وآماله، ويعايشه أفراحه وأتراحه.
ضيوف الرحمن! وفود الملك العلام: الحج موسم عظيم، وفرصة كبرى، ومناسبة عظمى، تتجلى فيها صور المتاجرة مع الله، أرواح صافية، ونفوس نقية، وقلوب مصقولة، وصدور سليمة، واقتفاء لآثار الأنبياء والمرسلين، وما أمس حاجة الأمة الإسلامية اليوم وهي تواجه أعتى التحديات وأقطع المؤامرات، ما أحوجها وهي تتوجه هذه الأيام نحو محورها الذي يجمعها، وتلتف حول راية العقيدة الواحدة التي تتلاشى في ظلها فوارق اللغة والألوان والأجناس والبلدان، ما أحوجها أن تأخذ الدروس والعبر من هذه الفريضة العظيمة وتستيقن يقيناً لا يعتريه شكٌ ولا مراء، أنه لا يلم الشمل، ويجمع القلوب، ويوحد الكلمة إلا الاجتماع على راية واحدة لا ثاني لها، هي راية الإسلام، راية التوحيد والعقيدة على ضوء كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومنهج السلف الصالح ، فلا بد من تنسيق الخطط، والإعداد وتوحيد القوى والعمل الجاد لحل مشكلات المسلمين على ضوء الكتاب والسنة، ولابد أن يعي كل مسلم دوره، ويعمل جاداً بالإسلام وللإسلام، لا سيما قادة المسلمين والزعماء، والدعاة والعلماء، والمعنيون بقضايا التربية والتعليم، والمهتمون بالفكر والرأي والإصلاح من حملة الأقلام، ورجال الإعلام.
والويل كل الويل لمن استغله للأعمال الدنيئة؛ كأعمال التلصص والسرقة والإجرام، وترويج المسكرات والمخدرات، أو غير ذلك مما يعمد إليه بعض ذوي النفوس الضعيفة والهمم الدنيئة.
تذكروا وأنتم تعيشون الأمن والأمان، والراحة الاطمئنان، أن لكم إخواناً في العقيدة يعيشون حياة القتل والتشريد في بقاع شتى من العالم، ما هي أحوال إخوانكم في فلسطين والأفغان؟ وما هي أحوالهم في البوسنة والشيشان ؟ وفي بورما وكشمير ؟ وفي الصومال والفلبين ؟ وفي غيرها من بقاع العالم؟ فلا تنسوهم من دعواتكم وما تجود به أنفسكم.
وماذا يجدي التعلق بالتراب والصخور؟!
يكفي أهل العقيدة شرفاً أنهم السائرون على منهج النبوة، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
فالعقيدة أولاً يا حجاج بيت الله الحرام، فجددوا التوبة إلى الله من ذنوبكم.
الله أكبر! مكة عبق الذكريات الخالدة، وشذا البطولات الماجدة، مكة مركز العالم، وقطب الرحى في كيان هذه الأمة، اسألوا عن ذلك التاريخ من آدم عليه السلام إلى إبراهيم حيث بناء البيت، وحيث المقام والحطيم وزمزم وهاجر وإسماعيل، إلى نبينا محمد بن عبد الله، يصدع بدعوة التوحيد الخالص لله في تلك البقاع إلى أن يعود إليها فاتحاً مظفراً، إلى الصحابة الكرام والفاتحين العظام، حتى هيأ الله للحرمين الشريفين هذه الدولة المباركة ترعى شئونهما وتوليهما العناية والاهتمام؛ إعماراً وتطهيراً، إشادةً وتطويراً، أخلص الله أعمالها، وسدد أفعالها، وجعل ما تقوم به في موازينها، وليمت الحاسدون بحسدهم، والحاقدون بحقدهم، والغائظون بغيظهم: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:119].
والله نسأل أن يجعل حجكم مبروراً، وسعيكم مشكوراً، وذنبكم مغفوراً، وعملكم صالحاً مقبولاً، وأن يعيدكم إلى بلادكم سالمين غانمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة:197].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله! اتقوا الله يا حجاج بيت الله! واجتهدوا في الطاعات والقربات، فأنتم في أفضل مكانٍ تضاعف فيه الحسنات، فاعرفوا لهذا المكان حرمته، ولهذا الحرم قداسته، لا تدنسوه بالمعاصي والمنكرات، وعظموا شعائر ربكم وحرماته: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج:30] ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32] واعلموا -رحمكم الله- أن الحج ليس نزهة خلوية، ولا رحلة سياحية، وإنما هو عبادة عظيمة، ومحطة إيمانية، فتزودوا فيها بصالح العمل.
الحج رحلة شرعية، يتوجه فيها الحجاج إلى الله، وينسلخون من الماديات وسائر الشهوات والمغريات، فحققوا التوحيد والمتابعة؛ ليكون حجكم مقبولاً، واعلموا أن الانصراف عن ذلك إلى أمور غير مشروعة، أو اعتقاد أن غير الله يجلب نفعاً أو يدفع ضرراً، كل ذلك سببٌ لحبوط العمل من حج أو غيره، فتفطنوا لذلك رحمكم الله، فلا أستار الكعبة، ولا حلق الأبواب، ولا شيء مما يعرف بالآثار، وما يسمى بالمزارات له خصوصية إلا ما عمله المصطفى صلى الله عليه وسلم القائل: (خذوا عني مناسككم ) والقائل: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ).
أيها الإخوة الحجاج: ألا إن لكم علينا حقاً، وعليكم لنا واجباً؛ فحقكم علينا إكرامكم وتقديركم والسعي في كل ما من شأنه أداء مناسككم بكل يسر وسهولة، كما هو حاصل بحمد الله ، وهمسة ساخنة في أذن كل من يستغل الحجيج بغلاء فاحش؛ في الأسعار، وفي المآكل، وفي المشارب والمساكن، أو يسيء الأدب معهم ويعرضهم للأذى بصورة أو بأخرى، وتلك تصرفات النشاز لا تحسب على أهل هذا البلد المسلم المضياف.
ألا وإن من واجبكم: التقيد بالفرائض الشرعية، والأنظمة المرعية، والاشتغال بحجكم وعدم إقحام أنفسكم في أمور لا تعنيكم، وكلمة إلى العاملين في خدمة الحجيج من مدنيين وعسكريين، أن يشكروا الله على ما حباهم، فخدمة الحجيج شرفٌ أيما شرف، فاحتسبوا الأجر عند الله، واصبروا على ما يصيبكم من متاعب، وكونوا مثالاً يحتذى في حسن التعامل، وكريم السجايا والأخلاق، فإنه ينظر إليكم مالا ينظر إلى غيركم، وتحية تقدير وإعزاز للجنود المجهولين، الذين يبذلون جهوداً جبارةً لخدمة الحجيج، فكم يسهرون والناس نائمون، وكم يتعبون والناس مستريحون، أخلص الله أعمالهم، ولا حرمهم ثواب ذلك، ونسأل الله أن يرزق الجميع القبول والتوفيق بمنه وكرمه إنه سميع مجيب.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله، على القائل بأبي هو وأمي: (خذوا عني مناسككم ) اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وسلم الحجاج والمعتمرين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفقهم إلى ما تحب وترضى، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة، اللهم خص بالتوفيق من وفقته لخدمة الحرمين الشريفين، اللهم اجعل أعمالهم خالصة لوجهك الكريم، وزدهم من الهدى والتوفيق يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفق جميع ولاة المسلمين للحكم بشريعتك واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم ونصرة أوليائك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم انصر إخواننا المجاهدين والمضطهدين في دينهم في سائر الأوطان.
اللهم عجل بنصرهم يا قوي يا عزيز، اللهم وأعد المسجد الأقصى إلى بلاد المسلمين، اللهم أنقذه من اليهود الغاصبين يا حي يا قيوم، اللهم انصر إخواننا في البوسنة والشيشان ، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء، اللهم من أرادنا وأراد بلاد الحرمين الشريفين وأراد الحجيج بسوء اللهم فأشغله بنفسه ورد كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا قوي يا عزيز.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر