وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شرع الشرائع وأحكم الأحكام، وجعل الحج ركناً من أركان الإسلام، وسبباً لدخول الجنة دار السلام، ووسيلةً لتكفير الذنوب والآثام، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أفضل من صلَّى وزكَّى وحج وصام، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله البررة الكرام، وصحبه الأئمة الأعلام، شموس الدجى ومصابيح الظلام، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعــد:
فيا إخوة الإسلام! ويا حجاج بيت الله الحرام! أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله! حجاج بيت الله! في هذه الأيام المباركة تعيش الأمة الإسلامية فرضاً عظيماً، وموسماً كريماً، تخفق له قلوب أهل الإيمان، وترنو إليه أبصارهم، وتتطلع له همم أهل الإسلام، إنه موسم الحج إلى بيت الله الحرام.
ها هي قوافل حجاج بيت الله الحرام، وجموع ضيوف الرحمن، ووفود الملك العلَّام، أتت من كل فجٍ عميقٍ؛ ليشهدوا منافع لهم، فدافعهم الإيمان، وقائدهم الرغبة، وحاذيهم الشوق، وحافزهم الأمل فيما عند الله سبحانه؛ من الرحمة والرضوان، والجود والغفران.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من حجَّ فلم يرفثْ ولم يفسقْ رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) ولهما - البخاري ومسلم - عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العمرة إلى العمرة كفارةٌ لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة ).
ضيوف الرحمن وفود الملك العلام! يا من تجشمتم الصِّعاب، وركبتم المشاق والأخطار، وقطعتم الفيافي والقفار، والأجواء والبحار، وتركتم الأوطان والأموال والأولاد، لا لشيءٍ إلا لأداء فريضة الحج على الوجه الأكمل، والطريق الأمثل، فهنيئاً لكم سلامةٌ الوصول، وحصول المأمول.
فلا تتوجه في الحج ولا في غيره، إلا لمن بيده وحده أزمة الأمور، وملك النفع والضر، والحياة والموت، لا إله غيره، ولا رب سواه، فلا يغني التمسح بالكعبة، ولا في حلق الأبواب، ولا في جبل عرفات ، ولا غار حراء ، ولا في غيرها، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك:
أما والذي حج المحبون بيته ولبّوا له عند المهل وأحرموا |
وقد كشفوا تلك الرءوس تواضعاً لعزة من تعمى الوجوه وتسلمُ |
فحققوا -رحمكم الله- الأصل العظيم الذي تنبني عليه أقوالكم وأفعالكم، واحذورا من التوجه لغير الله كائناً ما كان، واقصدوا الله وحده في كل أموركم، ولا تنصرفوا عنه إلى غيره، لا إلى أشخاصٍ وكيانات، ولا إلى مناهج وشعارات، ولا إلى مبادئ وزعامات، تخالف عقيدة الإسلام؛ فإن ذلك مؤذنٌ بحبوط الأعمال والعياذ بالله:
يحج كي ما يغفر الله ذنبه ويرجع قد حطت عليه ذنوبُ |
واعملوا -رحمكم الله- بكل ما من شأنه الخروج بالآثار البليغة، والدروس والعبر النافعة، والمنافع الجمة من هذه الفريضة العظيمة، فما أحوج أمة الإسلام اليوم، وقد عمَّها طوفان المحن، وجرفتها سيول الفتن، أن تستفيد من هذه المناسبات الشرعية، صلاحاً في أحوالها، وتحسناً في أوضاعها؛ ليكون هذا الموسم وأمثاله فرصةً للإصلاح، ومناسبةً للمحاسبة والتقويم.
إنه لن تحرر المقدسات، ولن تحل المشكلات، وتتلاشى الفرقة والخلافات، إلا إذا عمل أفراد هذه الأمة -كلٌ في موقعه- على حمل رسالة الإسلام الحق في نفسه، وفي محيطه، هناك يُدرِك أعداء هذه الأمة، أن لجنود الإسلام قوةً بعد ضعف، ويقظةً بعد غفلة، وصحوةً بعد كبوة، واجتماعاً بعد فرقةٍ وشتات: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ
[الروم:4-5].
فالواجب على أهل الحلِّ والعقد في بلاد الإسلام، أن يستغلوا فرصة هذا الاجتماع العظيم، لتقويم مسيرتهم، وحل مشكلاتهم بأنفسهم، وعلى علماء الإسلام، وقادة المسلمين، ودعاة الخير والإصلاح، أن يجعلوا من حِكَم ومقاصد هذه الشريعة من هذا الاجتماع الكبير، انطلاقة جادةً للدعوة إلى الله، ونشر العلم الشرعي، بمنهجٍ سليمٍ وعرضٍ صحيح، وحكمةٍ نافذةٍ، وبصيرةٍ نيِّرة، إن لم يكن اجتماع المسلمين في هذا المؤتمر الإسلامي الكبير نقطةً لاجتماع كلمتهم على الحق، وتوحيد صفوفهم وتضامنهم؛ فمتى يكون ذلك؟
فلا بد من إعداد العدد، وتنسيق الخطط، وتوحيد الجهود لحل مشكلات المسلمين.
فهل تذكرتم -يا حجاج بيت الله الحرام وأنتم تحلون في رحاب هذا البيت العتيق- أباكم إبراهيم عليه السلام،وابنه إسماعيل وهما يرفعان القواعد من البيت؟!
وهل تذكرتم نبيكم المصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم، وهو يقوم بالدعوة إلى الله من هذه البقاع المقدسة؟!
هل تذكرتم كيف نمت دوحة الإيمان، وترعرعت دعوة الإسلام؛ التي حملها رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه؟!
إنه -والله- التساهل في أمر هذا الدين، ووجود الخلاف والفرقة بين أبناء المسلمين، هو الذي سبب تسلط أعداء الإسلام على أمة الإسلام، واحتلال مقدسات المسلمين وإحلال الفساد والدمار فيها.
هل تذكرتم -يا إخوة الإسلام، ويا أيها الحجاج الكرام- وأنتم تنعمون في ظل هذا البيت الآمن أخاه المسجد الأقصى المبارك الذي يئن تحت وطأة الاحتلال الغاشم، من أعداء الله ورسوله والمؤمنين.
وليس ما فعلته وتفعله الصهيونية العالمية وإسرائيل في هذه الأيام في فلسطين ولبنان خافٍ على كل ذي لبٍ من الناس!
هل تذكرتم مآسي إخوانكم في العقيدة في كثيرٍ من بقاع المعمورة، في البوسنة والهرسك وفي كشمير وفي الشيشان وغيرها ؟!
هل وهل... أسئلةٌ عظيمة ومهمة؛ يجب أن تدور في خلد كل حاج، لينطلق لإصلاح نفسه، وليعرف مكانته ودوره في هذه الأمة، وأنه واحدٌ من المسلمين، ولبنةٌ من لبنات المجتمع الإسلامي، عليه مسئوليةٌ كبرى -على حسب موقعه- في سلامة سفينة الأمة من الغرق، كي تصل إلى برّ الأمان، وشاطئ السلام، رائدها كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وإن جموع الحجيج الذين يجدون في هذه الأيام فرصةً عظيمة، ومناسبةً كبيرة، لغسل القلوب مما علق بها من أدران الذنوب والمعاصي ليتطلعون إلى كل ما من شأنه شيوع الأمن وعموم السلامة لهم، في أديانهم وأبدانهم مما تشرف بلاد الحرمين حكومةً وشعباً بتحقيقه ولله الفضل والمنة.
وإن واجبات الحكومات الإسلامية أن تتعاون في ذلك، وأن تقوم بتوعية حجاجها، بما يجب عليهم معرفته من حرمة الزمان والمكان، وكيفية العمل بالشعائر والمشاعر على الوجه الشرعي والسنن النبوي.
كما أن واجب المطوفين والمسئولين عن حملات الحج والعمرة عظيم، ومسئوليتهم كبيرة، تجاه من اؤتمنوا عليه، من رعاية الحجيج، وليعلموا أنها أمانةٌ وديانه قبل أن تكون تجارة، وتحية تقدير وإجلال، لكل من يعملون في خدمة الحجيج؛ فإن خدمة الحجيج شرفٌ أيما شرف، جعله الله في موازينهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ
[البقرة:197].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعــد:
فاتقوا الله.. عباد الله!
اتقوا الله يا حجاج بيت الله! واشكروه -جلَّ وعلا- على ما هيأ لكم من الوصول إلى بيته العتيق، والاجتماع حول هذه الكعبة المشرفة، حيث تسكب العبرات، وتتنـزل الرحمات، وتُرفع الدرجات، وتقال العثرات، وتُكفر السيئات، وتغفر الذنوب والخطيئات، فيا لها من مواقف تهذب فيها النفوس، وتصقل فيها القلوب، وتحيا فيها الضمائر، وتصفو فيها المشاعر، ويفرح بها أهل الإيمان! فاستغلوا -رحمكم الله- وجودكم في هذه البقاع العظيمة، والعرصات الكريمة، حيث تنعمون بشرف الزمان والمكان، لا سيما ونحن نعيش العشر الأولى من ذي الحجة، وهي ما هي شرفاً وقدراً، روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيامٍ العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام -أي: أيام عشر ذي الحجة- قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله، قال: ولا الجهاد في سبيل الله! إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء ). الله أكبر! يا لها من فرصٍ عظيمة! لا يُفرِّط فيها إلا مغبون، ولا يتساهل فيها إلا محروم.
حجاج بيت الله الحرام! استغلوا هذه الأيام المباركة بالأعمال الصالحة، بالذكر والدعاء، والتلاوة والتكبير، والطواف والصلاة، وسائر الأعمال، فإذا جاء يوم الثامن من ذي الحجة، فتوجهوا إلى منى ، وبيتوا بها ليلة عرفة ، استحباباً، فإذا طلعت الشمس من يوم التاسع فتوجهوا إلى عرفة وابقوا بها إلى غروب الشمس وجوباً، واجتهدوا هذا اليوم العظيم بالدعاء، والضراعة إلى الله سبحانه، فما من يومٍ أكثر من أن يعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة ، وإنه ليدنو ثم يباهي فيه ملائكته، فيقول: {أتوني شعثاً غبراً؛ يرجون رحمتي ويخافون عذابي، أشهدكم أني قد غفرت لهم } ثم تبيتون بـالمزدلفة وجوباً، ثم تفيضون منها إلى منى لرمي جمرة العقبة، ولبقية أعمال المناسك، ثم إذا أردتم الخروج من مكة فاختموا بطواف الوداع، وبذلك تتم المناسك.
فاتقوا الله عباد الله! واتقوا الله -يا حجاج بيت الله الحرام- وأدوا المناسك على خير وجه، متأسين بنبيكم صلى الله عليه وسلم، واسألوا أهل العلم عما أشكل عليكم، وصونوا حجكم عن النواقض والنواقص، ولا تتساهلوا بشعائر الله، واجتنبوا اللغو والرفث، والفسوق والجدال، واعمروا أوقاتكم بالطاعة، واعملوا -رحمكم الله- بالتقوى والعمل الصالح، وتجنبوا المحرمات والمنكرات، والأذى قولاً وفعلاً.
تقبل الله منا ومنكم، وأعانكم على أداء مناسككم، وجعل حجكم مبروراً، وسعيكم مشكوراً، وذنبكم مغفوراً، وأعادكم إلى بلادكم سالمين غانمين، ألا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على نبي الرحمة والهدى كما أمركم بذلك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر