ثم إذا أراد الزوج بعد ذلك أن يطلق فعليه الالتزام بالطلاق السني وأن يجتنب الطلاق البدعي، وأن يحسن إلى مطلقته ويمتعها، وألا يفشي أسرارها.
كما يجب عليها ألا تخرج من بيتها أثناء عدتها ولا يخرجها.
أما بعد:
أيها المسلمون: في أحضان الأسرة المتماسكة الملتزمة بأحكام الله تنمو الخلال الطيبة، وتنشأ الخصال الكريمة، ويعيش الصبية الصالحون حيث تفشو المودة، وتنتشر الرحمة في جنبات هذا البيت الكريم، متمثلاً فيه قول الله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21].
إن المودة والألفة هي قوام الأسرة، وإن أجلى مظاهرها وأوضح أسبابها حسن العشرة، ولزوم الطاعة، والتواصي بين الزوجين بالخير، وجميل الخلق، فأكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخير المؤمنين خيرهم لنسائهم، والمرأة إذا صلت خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبوابها شئت.
إن كثيراً من المسلمين يظلمون أهلهم وأهليهم لجهلهم بأحكام دينهم وحكم تشريعه، الطلاق في غير محله تعدٍ لحدود الله وتجاوز لسننه، ونفور عن مواطن الألفة والمودة والرحمة، وبعدٌ عن مسالك الصلاح والإصلاح: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق ) كما جاء في الحديث، وفي حديثٍ آخر عند الدار قطني : (ما خلق الله شيئاً أبغض إليه من الطلاق ) وفي مسند الديلمي عن علي رضي الله عنه مرفوعاً: (تزوجوا ولا تطلقوا، فإن الطلاق يهتز له العرش ) استشهد به القرطبي ، وفي لفظ آخر: (تزوجوا ولا تطلقوا، فإن الله لا يحب الذواقين والذواقات ).
وأخرج الخمسة إلا النسائي وحسنه الترمذي من حديث ثوبان رضي الله عنه: (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة ).
إن الطلاق على هذه الشاكلة -أيها المسلمون- عبثٌ وحمق، وفصلٌ لعرى الزوجية التي تمت بكلمة الله، وقامت على أمانة الله، يقول عليه الصلاة والسلام وقد أخبر عن رجلٍ تجاوز الحد في الطلاق: (ما بال أحدكم يلعب بحدود الله، يقول: قد طلقت قد راجعت؟! أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟! حتى قام رجلٌ من القوم فقال: يا رسول الله! ألا أقتله؟ ) أخرجه النسائي .
أيها الإخوة: إن الإسلام يضيق مسالك الطلاق، والطلاق في الإسلام علاجٌ ودواء، والدواء لا يؤدي غرضه إلا إذا استعمل بطريقٍ صحيح، وكما ينصح الخبير كماً وكيفاً، فمن خالف فلا يلومنَّ إلا نفسه، وإن مما يُؤسف له كل الأسف أن تلحظ كثيراً من الجهلة والحمقى ينظرون إلى الطلاق وكأنه عقوبة أو كأنه سيفٌ مصلت يهدد به هذا الأحمق زوجته وأم أولاده وربة بيته، يهدد بالطلاق، أو يتلفظ به في أمور صغيرة وأشياء حقيرة، إما لأنها لم تنجز طعاماً، وإما لأنها لم تهيئ لباساً، أو تراه يدخل الطلاق في منازعاته وخصوماته مع الناس، طلاقاً ثلاثاً أو عشراً، أو مائة أو ألفاً، فيجتمع عليه شقاء الدنيا، وإثم الآخرة، اتخذ آيات الله هزواً، ولم يجعل للصلح ولا للرجعة موضعاً، أغضب ربه، وظلم نفسه، وخسر أهله، وفرق شمله، وشمت به الحاسدون.
إن على الزوج الذي بيده العصمة -وهو الحليم الحكيم العاقل- ألا يقدم على هذا الأمر الخطير الذي يعلم أنه يترتب عليه مصيره في نفسه، ومصير أهله، ومصير أولاده إن كان بينهما أولاد.
عليه بالتروي والصبر ومشاورة الناصحين الأخيار من أهل الدين والعقل والصلاح حتى لا يتفرق الشمل، ولا يتشتت الأهل، ولا يضطرب حال الأولاد، ثم بعد هذا التفكير الطويل والاستشارات الحصيفة؛ إذا تحتم الطلاق سبيلاً لحل المشكلة، فلا بد من مراعاة الآداب الشرعية والأحكام الإسلامية.
إن المباح في ذلك -أيها الإخوة- أن يطلق طلقة واحدة في طهرٍ لم يحصل فيه وطء، هذا هو طلاق السنة، فلا يطلق ثلاثاً، ولا يطلق حائضاً، ولا يطلق في طهر حصل فيه وطء إلا أن يتبين حمل، وإذا حصل الطلاق على هذه الصفة، فإن المرأة تبقى في بيت الزوجية ولا تخرج منه، فهو لا زال بيتها، ولا يجوز للرجل أن يخرجها.
إن الجهال من الأزواج والزوجات حالما تصدر كلمة الطلاق، تفارق المرأة البيت، ولو لم تخرج، لأخرجها هذا الأحمق الغاضب، أين هذا من قوله سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً [الطلاق:1]؟!
إنها تبقى في بيتها، فالمسألة معالجة ومداواة، وليست عقوبة ولا انتقاماً ولا تشفياً: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً [الطلاق:1].
والطلاق الثلاث طلاقٌ بدعيٌّ محرم لا يجوز تعاطيه، وهو تلاعبٌ بكتاب الله، واتخاذ لآيات الله هزوا، كما لا يحل إيقاع الطلاق في طهرٍ حصل فيه وطء ما لم يتبين حمل.
ولكن الطلاق في كل هذا يقع على الصحيح من أقوال أهل العلم مع الإثم والحرمة.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وتفقهوا في دينكم، واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، واحذروا الظلم وتعدي حدود الله: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:229].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة؛ فاستغفروه .. إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
فاتقوا الله أيها المؤمنين، وقوموا بحقوق الله عليكم في أنفسكم وأهليكم، ولا تنسوا الفضل بينكم، واعلموا أن من آداب الطلاق بعد وقوعه أن يتلطف المطلق في الأمر؛ فيعطي المرأة ما تتمتع به من أنواع المال، لتحصل المواساة، وينجبر الفاجع.
روي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه طلق امرأة فبعث إليها بعشرة آلاف درهم، فقالت: متاع قليل من حبيب مفارق.
ونقل عن بعض الصالحين أنه أراد تطليق امرأته، فقيل له: ما يريبك منها؟ فقال: العاقل لا يهتك سراً. فلما طلقها، قيل له: لم طلقتها؟ فقال: ما لي ولامرأة غيري؟!
فاتقوا الله أيها المسلمون، والتزموا بآداب دينكم وحافظوا على بيوتاتكم، فإما إمساكٌ بمعروف وإما تسريحٌ بإحسان.
ثم صلوا وسلموا على المصطفى المختار محمد بن عبد الله سيد الأبرار؛ فقد أمركم بذلك ربكم فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد نبي الرحمة والهدى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الرحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، وانصر عبادك المؤمنين، وأيد بالحق إمام المسلمين، وارزقه البطانة الصالحة، ووفقه لما تحب وترضى يا رب العالمين.
اللهم اخذل اليهود والنصارى ومن شايعهم وسائر الكفرة والملحدين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشدٍ، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك وإعزاز دينك، اللهم أيدهم بتأييدك، وانصرهم بنصرك، واجعل الدائرة على أعدائهم يا قوي يا عزيز.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين .
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر