وبعد:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
[آل عمران:102]،
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا
[النساء:1]،
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
[الأحزاب:70-71] أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
يقول الله تبارك وتعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ
[الذاريات:56-58].
فحصر الله تبارك وتعالى في هذه الآية الغاية من خلق الخلق أجمعين، وأن ذلك ما كان إلا لإخلاص العبادة له سبحانه.
فقال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ
[الذاريات:56]، وعند أهل العربية أن (ما) و(إلا) للحصر، فهذه الآية قد جمعت هاتين الأداتين من أدوات الحصر، مما يدل على أن الخلق أجمعين ما خلقهم الله تبارك وتعالى إلا ليحققوا العبادة المحضة لله تعالى، ولما كانت العبادة قد أوكلت إلى الجن والإنس اختلفوا فيها لاختلاف علمهم وأمزجتهم وأفهامهم وعقولهم، لم يدع الله تبارك وتعالى الأمر إليهم، فإنه لم يخلقهم هملاً، ولم يتركهم سدى، إنما أرسل إليهم الرسل والأنبياء، وأنزل عليهم الكتب، فلم تكن العبادة لله عز وجل محل اجتهاد عابد من العباد، وإنما هي أمر توقيفي؛ لأن المرء إذا عبد الله تعالى بشيء من عنده لم يكن له فيه نص فقد خرج عن حد الشرع، وهذا هو حد الابتداع، وهو: أن تبتدع بشيء من عندك تتقرب به إلى الله تعالى لم يكن لك فيه دليل ولا نص.
وهذه مهمة الخلق أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
[نوح:3-4] قال نوح:
قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ
[نوح:6-7] أي: وضعوها على أعينهم حتى لا يروا ولا يسمعوا كلامه،
وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا
[نوح:7-9].
أي: حتى لقنهم ما يقولون، فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا
[نوح:10-14].
ثم ظل نوح على مدار السورة وغيرها يذكرهم بنعم الله وآلائه عليهم ولكنهم أعرضوا وكذبوا حتى مل منهم ولم يألفهم فقال: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا
[نوح:26-27]، وفي سورة هود يقول نوح عليه السلام:
وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
[هود:34].
فانظروا إلى هذا النبي العظيم ما ترك النصيحة بالليل والنهار ولا سراً ولا علانية إلا وقد بذلها خير البذل لأمته؛ ولكنهم أعرضوا وتنكبوا الطريق فاستحقوا العذاب من الله تبارك وتعالى.
فكل نبي من الأنبياء إنما نصح لأمته ولم يقبضه الله تبارك وتعالى إلا بعد أن بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح لأمته خير نصيحة.
إن الرد عليهم أن التقدم والحضارة إنما هو في اتباع الأنبياء والمرسلين لا في اتباع عقولكم ولا أهوائكم ومشاربكم، فإن هذه الحضارة لا بد وأن تزول في يوم من الأيام حتى يرجع الناس رغم أنوفهم إلى ما كان عليه رعاة الأغنام، وعليهم تقوم الساعة.
فانظروا إلى هذا الحديث فقد شمل الدين كله وعممه أحسن عموم، وفي هذا الحديث بيان أن النصيحة أعظم ركن في الإسلام؛ لأن كل مسلم مكلف بها.
وقوله: (الدين النصيحة) كأنه أراد أن يقول: إن ذات الدين هي النصيحة، وإن النصيحة للأمة هي الدين، كما قال عليه الصلاة والسلام (الحج عرفة)، ولا يعني ذلك أن الفرض الوحيد في الحج هو الوقوف بعرفة، ولكنه أعظم فرض، ولذلك خصه بالذكر، وأن من فاته الوقوف بعرفة فقد فاته الحج كله، ومن فرط أو قصر في غيره فإنه يجبر بذبح الهدي، والدين كله هو النصيحة.
أما حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الصحيحين وغيرهما -وهو المعروف بحديث جبريل الطويل-: (أنه طلع عليهم رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يعرفه منا أحد، ولا يرى عليه أثر السفر، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام؟ قال: الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن تقيم الصلاة وأن تؤتي الزكاة وأن تحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه) لأنه من عادة السائل أن يكون جاهلاً، فكيف يصدق جواب المجيب؟! وهذا يدل على أنه ليس جاهلاً، وهذا معلوم ومقرر في طلب العلم، أنه يجوز للعالم أن يطرح المسألة على صاحب المجلس حتى يعلم الجاهل، (فقال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأن تؤمن بالقدر خيره وشره، قال: فأخبرني عن الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل) أي: أنا وأنت فيها سواء لا يعلمها أحد من الخلق إنما استأثر الله تبارك وتعالى بعلمها، (قال: فأخبرني عن أماراتها) أي: عن أشراطها، ومقدماتها التي تظهر قبلها (قال: أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان، فلبث ملياً ثم انطلق، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ردوه علي، فطفق القوم ليردوه فلم يجدوا شيئاً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم، وفي رواية: يعلمكم دينكم).
فانظر إلى هذا الحديث فقد سمى الإسلام والإيمان والإحسان وأشراط الساعة ديناً، فقول النبي عليه الصلاة والسلام: (الدين النصيحة) يدل على أن النصيحة لازمة في الإسلام، والإيمان، وأشراط الساعة، والإحسان، وهو: أن تعبد الله تبارك وتعالى كأنك تراه، فإن كان ذلك حالهم في الدنيا فإنه وارد وثابت لأهل الإيمان في الآخرة، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام وكان جالساً مع قومه في ليلة مقمرة، فسأله سائل: (هل نرى ربنا يا رسول الله؟ قال: نعم، إنكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر ليس بينكم وبينه سحاب لا تضامون في رؤيته) أي: لا يحصل لكم ريب ولا شك.
وأما أهل الكفر والعناد والجحود فإنهم يحال بينهم وبين رؤية المولى تبارك وتعالى عقوبة لهم.
وكذلك فعل الأنبياء والمرسلون صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين لأممهم.
والنصيحة كلمة لا ترجمة لها في أي لغة من لغات العالم؛ لأن في الشرع كلمات ومصطلحات لا ترجمة حرفية لها من لفظها، ككلمة البركة، والفلاح، والنصيحة، وغيرها من الكلمات، فإن من أراد أن يترجم كلمة النصيحة لأي لغة من لغات العالم لا بد أن يستوعب ذلك سطراً أو سطرين حتى يؤدي معناً قريباً من معنى كلمة النصيحة، ولا يكون كذلك.
قال جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه (بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فلقنني: فيما استطعت والنصح لكل مسلم).
وفي رواية لـمسلم أيضاً من حديث جرير أنه قال (بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم).
وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا مدحه أحد في وجهه حث التراب في وجهه حقيقة، وهذا محمول على ورعه وتقواه، وإلا فهو أكثر الصحابة لزوماً لآثار النبي عليه الصلاة والسلام، ولا يخاف عليه الفتنة، ولا يخاف عليه الاغترار بالمدح، وإنما فعل ذلك حفاظاً على قلبه فيما بينه وبين الله تعالى.
والنصيحة أمر لازم، وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له) أي: إذا طلب منك النصيحة فانصح له، (وإذا عطس فحمد الله فشمته) أي: إذا عطس فقال الحمد لله فقل له: يرحمك الله، ويرد عليك بما علمه النبي عليه الصلاة والسلام: يهديك الله ويصلح بالك، أو يقول: يهديكم الله ويصلح بالكم، (وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه).
فموطن الشاهد من هذا الحديث: (وإذا استنصحك فانصح له)، أي: ابذل له النصيحة مريداً للخير لا مريداً للشر، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (المستشار مؤتمن)، وقال: (من أشار على أخيه بشيء وهو يعلم أن الرشد في غيره فقد خانه).
ومعظم الأمة وقعت في الخيانة، وارتكبت ما ركبه أعداء الأمم والرسل والأنبياء من قبل نبينا عليه الصلاة والصلاة ومن بعده.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام : (ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم: مناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة، وأن تعتصموا بالله ولا تشركوا به أحداً).
وفي الصحيحين من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يحطها بنصيحة إلا لم يدخل الجنة) ؛ لأنه غاش لرعيته ولأمته، وهذا للأمراء والعلماء.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم من حديث أبي هريرة (إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم).
فالنصيحة أمر لازم ولا قيام لأهل الإسلام إلا بها، وهي جزء من الواجب الأعظم الذي رتب الله تبارك وتعالى عليه خيرية هذه الأمة، فقال سبحانه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
[آل عمران:110]، فأخر الإيمان وقدم عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه السياج الذي يحيط بالإيمان ويحافظ عليه، ولو أن المؤمنين فيما بينهم لم يتناصحوا لا بد وأن ينقص إيمانهم؛ لأن الرجل يرى العيب في أخيه ولا يدله على الخير ولا ينبهه إلى مكمن الخطر، وكل عيب ينقص بالإيمان كما أن كل خير يزداد به، فتصور لو أن المسلمين أجمعوا ألا يتناصحوا فيما بينهم كيف يكون الحال حينئذ؟
إنها أمة تضرب في أطناب الضلالة إذا أجمعوا على ذلك، ومعاذ الله أن تجمع الأمة على أمر يخالف كتاب ربها وسنة نبيها؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر في صحيح سنته أن هذه الأمة لا تجتمع على الضلالة أبداً، أي: في مجموعها، ولا يمكن أن يخفى عليها الحق ولا أن يعم فيها الباطل حتى لا يجد هذا الباطل من يرده.
حاشا لله أن يكون هذا في ذهنك، فإن الله تبارك وتعالى قد كلفك بأن تكون ناصحاً له بمعنى: مخلصاً له، فالنصيحة هنا في جنب الله تبارك وتعالى بمعنى الإخلاص، كما تقول: نصحت العسل إذا صفيته من الشمع، والإخلاص لله تبارك وتعالى يعني أن تعبد الله تبارك وتعالى، ولا تشرك به شيئاً، أن تعبد الله تبارك وتعالى بما أمر وأن تنتهي عما نهاك عنه، فإن كنت كذلك فأنت ناصح لله تبارك وتعالى، وهو أعظم ركن وأوجب الواجبات على العباد، وهو توحيد الله تبارك وتعالى، كما في الصحيح وغيره أن معاذ بن جبل ردف النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا
وهل على الله حق لخلقه؟ إن هذا الواجب الذي أوجبه الله على نفسه هو من فضل الله ونعمه وليس واجباً في مقابل حق، وإلا فلو أن أعمال العباد بأسرها وزنت في مقابل نعمة واحدة من نعم الله عليهم لطاشت عبادتهم، ولكن الله تعالى تفضل علينا بأن أمرنا بعبادته والإخلاص فيها في مقابل الجنة التي خلقها لأهل الطاعة وقال: يا أهل الجنة! خلود بلا موت، وخلق النار للعصاة والكافرين والملاحدة وقال: يا أهل النار! خلود بلا موت، فإن الجنة والنار مخلوقتان الآن، وقد دخل الجنة نبينا عليه الصلاة والسلام ورأى فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وقد اطلع على النار فرأى أكثر أهلها النساء، قال النبي عليه الصلاة والسلام واعظاً لهن: (يا معشر النساء! تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقامت امرأة جزلة -عاقلة- وقالت: لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير، يحسن الرجل الدهر كله إليكن، فإذا ما بدا منه في يوم شيء قلتن: ما رأينا منك خيراً قط، كفران النعم والعشير يستوجبان دخول النار، فاتقين الله يا معشر النساء).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا
فهذا ابن عباس رضي الله عنه، وإني أريد أن أتغاضى عن عبادة ابن عباس وخوفه من الله ورجائه في الله، الذي مات عنه النبي عليه الصلاة والسلام وهو صغير في السن كما مات عن عائشة خير الصحابيات وخير النساء وخير العالمات، ولكني أذكر مثلاً ممن تربى في حجر عبد الله بن عباس وفي حجر أنس بن مالك، وهو أبو قلابة الجرمي عبد الله بن زيد البصري رحمه الله تعالى، يقول عنه ابن عباس: لو كان هذا في الصحابة لكان علماً، وقال: لو رآه النبي عليه الصلاة والسلام لأحبه وقربه.
أخرج ابن حبان في كتابه الثقات في أول الجزء الخامس في ترجمة عبد الله بن زيد الجرمي أبي قلابة البصري من طريق الأوزاعي قال: حدثنا عبد الله بن محمد قال: بينما نحن مرابطون ذات يوم -أي: في ثغر من ثغور الجهاد- إذا نزلت وادياً وبهذا الوادي خيمة فدخلتها وإذا فيها رجل قد فقد يداه ورجلاه وثقل سمعه وبصره، ولم يكن له من جوارحه إلا لسانه، فسمعته يقول: اللهم أوزعني أن أحمدك حمداً أكافئ به نعمك علي، وأن أشكرك على ما تفضلت به علي وفضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلاً، فقلت: يا عبد الله! إني سمعتك تقول كيت وكيت وقد رأيت ما نزل بك، أفهم أم علم أم إلهام؟ فقال عبد الله بن زيد الجرمي: والله لو أن الله تعالى أرسل علي السماء ناراً فأحرقتني، وأرسل علي الجبال أوتاداً فدكتني، وأرسل علي الأرض فبلعتني ما أديت شكر الله تبارك وتعالى، قال: فأي نعمة أنعم بها عليك تحمده عليها وأي فضل خصك به تريد أن تشكره عليه؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى جعل لي لساناً ذاكراً أذكره به، وأحيا قلبي في جوار قلوب كثيرة قد ماتت.
وهذا الرجل قد أخذ عنه الزهد والورع إمام أهل البصرة في زمانه الحسن البصري وهو أكثر شهرة منه، مع أن الجرمي أكثر زهداً وعبادة من البصري ، ثم قال عبد الله بن زيد الجرمي : ولكن يا عبد الله كونك نزلت بي فلي إليك حاجة، قال: قل، فو الله ما مشى عبد في حاجة عبد خير ممن مشى في حاجتك، مرني؟ قال: إنه كان معي ابن لي ففقدته منذ ثلاثة أيام، وكان يوضئني إذا صليت، ويطعمني إذا جعت، ويسقيني إذا عطشت، فابحث لي عنه يرحمك الله، قال عبد الله بن محمد : فنزلت فإذا بي بين كثبان من الرمل فرأيت الغلام وقد افترسه السبع وقد أكل لحمه ولم يبق إلا العظم، فرجعت إلى الرجل، وبينما أنا في الطريق إذ خطر على قلبي ذكر أيوب عليه السلام، فدخلت على الرجل فقلت: يا عبد الله! أيهما أقرب إلى الله تبارك وتعالى أنت أم أيوب عليه السلام؟ قال: بل أيوب، قلت: أيهما أكرم على الله أنت أم أيوب عليه السلام؟ قال: بل أيوب عليه السلام، قلت: أترى ما نزل به من البلاء حتى فقد ماله وأهله وولده، قال: نعم، قلت: فماذا وجده ربه؟ قال: صابراً شاكراً محتسباً، قلت: وهل ترى أن الأمر وقف عند هذا؟ قال: هات ما عندك؟ قلت: أترى أن الله تبارك وتعالى أنزل به من البلاء ما جعل قومه وأهل بيته يستوحشون منه؟ أي: يفرون منه، فقال: نعم، قلت: ماذا وجده ربه؟ قال: صابراً شاكراً محتسباً، قلت: أنت أكرم على الله أم هو؟ قال: بل هو، قلت: والأمر لم يتوقف عند هذا حتى جعله الله تعالى غرضاً لكل مار، أي: لكل من مر عليه يزجره بنظره ويتكلم عنه وفيه، فقال: يا عبد الله! أوجز يرحمك الله. أي: أوجز ماذا تريد أن تقول؟ قال: إنك كلفتني أن أبحث لك عن ذلك الغلام وإني رأيته بين كثبان الرمل وقد افترسه سبع فأكل لحمه ولم يبق إلا العظم، قال: الحمد الذي لم يجعل من ذريتي من يعصيه، ثم شهق شهقة فمات منها، قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، عظمت مصيبتي، ولم أملك له نفعاً ولا ضراً، فخلعت ثوبي وسجيته به -أي: غطيته به- وإذا بأربعة من قطاع الطريق قد هجموا علي، فلما رأوا ما نزل بي قالوا: ما قصتك وما قصة ذلك الرجل؟ قال: لا أعلمه ولا أدري من هو، والقصة كيت وكيت، قالوا: اكشف عنه الثوب لعلنا نعرفه؟ فلما كشف الثوب أقبلوا عليه يقبلونه بين عينيه ويقبلون يديه ورجليه وتابوا إلى الله جميعاً وقالوا: هذا إمام أهل البصرة بل هذا إمام الدنيا وزاهد العباد وإمام المتقين عبد الله بن زيد الجرمي، الذي كان إذا دعا الله أجابه، وإذا سأله أعطاه، قال: فغسلناه وكفناه وصلينا عليه، ثم رجعت إلى رباطي فلما جن علي الليل نمت فرأيت فيما يرى النائم ذلك الرجل الذي قبرناه، فقلت: يا عبد الله! ألست صاحبي؟ ألست الذي رأيتك بالأمس؟ قال: بلى، قال: ما فعل بك ربك؟ فتلا قول الله عز وجل: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ
[الرعد:24].
قال: وبم نلت هذا؟ قال: بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، وطاعة الله في السر والعلانية.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
فالنصيحة لله تبارك وتعالى -أيها الإخوة الكرام- أن تتوجهوا بقلوبكم وجوارحكم إليه سبحانه، وأن تتضرعوا إليه في الليل والنهار، وأن تخشوه حق خشيته في السر والعلن، وأن تجأروا إليه بأن يكشف عن هذه الأمة البلاء.
أما النصيحة لكتاب الله تبارك وتعالى فهي أن تؤمن بأن هذا الكتاب أعظم كتاب أنزله الله تبارك وتعالى على رسوله، وأنه كلام الله تبارك وتعالى منه بدأ وإليه يعود، وأنه ليس مخلوقاً، وأن كلام الله ليس مخلوقاً؛ لأن كل مخلوق مربوب وكل مربوب حادث وكل حادث إلى زوال وفناء، وحاشا لأسماء الله وصفاته أن تكون مخلوقة، فإن صفات الله تبارك وتعالى وأسمائه لازمتان له، فإن الله تبارك وتعالى اسمه الرزاق قبل أن يخلق الخلق، فهو موصوف بالرزاق قبل أن يخلق الخلق؛ لأن صفة الله تبارك وتعالى واسم الله تبارك وتعالى أزليان أبديان بلا أول ولا نهاية، وأسماء الله تبارك وتعالى وصفاته لازمة له، فكما استحق الله تبارك وتعالى أنه الأول والآخر، فكذلك استحقت هذه الأسماء في أوليته ولا آخر لها؛ لأنها لازمة لا تفنى، ومن قال بأن القرآن مخلوق لا بد لزاماً أن يقول: إنه يفنى، وهذا قول المعتزلة، وهي شر مقولة أحدثت في القرن الثالث الهجري في دولة العباسين، ولكن الله تبارك وتعالى قيض لها ذلك الجبل الفذ الشامخ أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ورضي عنه، فثبت هذه الأمة على عقيدة نبيها في أسماء الله وصفاته، وقال: القرآن كلام الله غير مخلوق ومن قال بأنه مخلوق فقد كفر، وأما السلاطين والحكام في ذلك الزمان فكانوا على عقيدة أخرى، ومنهم عالم السوء أحمد بن أبي دؤاد الذي صور لهم وزين لهم الباطل وقال: القرآن شيء والله تبارك وتعالى خالق كل شيء، ودعا أحمد للمناظرة بين يدي الحاكم وقال: يا أحمد بن حنبل! أليس الله قال: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ
[الرعد:16]؟
قال: بلى.
قال: أوليس القرآن شيء؟
قال أحمد : بلى.
قال: إذاً: (كل شيء هالك إلا وجهه)!
قال أحمد بن حنبل: يا ابن أبي دؤاد! أوليس الله خالق كل شيء؟
قال: بلى.
قال: أوليس الله تعالى قال: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا
[الأحقاف:25]؟
قال: بلى.
قال: أو تعتقد أن الله يدمر هذا القرآن.
فسكت ابن أبي دؤاد، ولم يحر جواباً، فكان النصر لعقيدة أهل السنة والجماعة.
ويرجع الفضل في غرس العقيدة لهذه الأمة بأسرها إلى أحمد بن حنبل رضي الله عنه، لا أقول: في القرن الثالث ولكن إلى قيام الساعة، ولذلك أشفق عليه بعض أهل زمانه من الصلحاء، وقالوا: يا أحمد! إنما هي كلمة تقولها وتنجو من السيف، فقال أحمد : أهلك ولا تهلك الأمة بأسرها، أموت أنا ولا تموت الأمة بأسرها، إنما أنا رجل وهذه أمة، فلو أني قلت بقول المعتزلة لضلت الأمة بعدي إلى قيام الساعة، وكان ذلك محل خلاف حتى عند أهل السنة والجماعة من بعده، وأيد الله تعالى الإمام أحمد لصد هذه الفتنة فوقف لها في مهدها وعلمت الأمة إلى قيام الساعة بعقيدة نبيها وأصحاب نبيها والأئمة المتبوعين وعلى رأسهم أحمد بن حنبل .
قال أحمد: انظروا إلى هذه المحابر إنها وقفت لتكتب ما أقول.
قال ابن الجوزي: وكانوا يقدرون بألفي ألف، يعني: باثنين مليون مسلم اجتمعوا ليروا نتيجة المناظرة هل يخضع الإمام أحمد لأمر السلطان وينحرف عن عقيدة نبيه أم يختار أن تهلك نفسه ولا تهلك الأمة بأسرها؟
فنصح أحمد لهذه الأمة برها وفاجرها مؤمنها وفاسقها كبيرها وصغيرها رجالها ونسائها وهو رجل واحد، لم يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في وقت احتاجت فيه إليه الأمة، وهذا من النصيحة لكتاب الله، أن تؤمن أنه كلام الله منه بدأ وإليه يعود سبحانه وتعالى، وأن تؤمن أن هذا الكتاب الذي بين يديك هو الكتاب المهيمن والمسيطر والقادر والناسخ لجميع الكتب السابقة، فليس لأحد الآن أن يقول: أنا تابع لصالح أو لشعيب أو لهود أو لموسى أو لعيسى عليهم الصلاة والسلام، فإن هذا كفر؛ لأنه لما بعث النبي عليه الصلاة والسلام وجب على كل الخلق أجمعين أن يتبعوه.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام في شأن موسى : (والذي نفسي بيده لو أن موسى حي ما وسعه إلا أن يتبعني).
وقال في شأن عيسى عليه السلام بعد أن رفعه الله تعالى إليه فهو حي عند ربه حياة لا يعلمها إلا من هو، (فينزل في آخر الزمان يكسر الصليب ويقتل الخنزير) وهما شعار النصارى، فيتبرأ منهم بل إنه يقاتلهم عند باب لد عند مقتل المسيح الدجال.
فإن من تشبث الآن بموسى أو بعيسى فليعلم أنهما بريئان منه، وليعلم أنه لا دين له ولا حظ له لا في الدنيا ولا في الآخرة، فهو من أهل النار إن لم يؤمن بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وأئمة المسلمين بالدرجة الأولى هم علماؤهم وولاة أمورهم، وفي الجملة يقول النبي صلى الله عليه وسلم (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته).
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر