إسلام ويب

الحسد.. الداء والدواءللشيخ : صالح بن حميد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الحسد داء ينهك القلب والجسد، منه تتولد العداوة، ومنه يتولد الحقد، صاحبه يصيبه غم لا ينقطع، ومصيبة لا يؤجر عليها، ومذمة لا يحمد عليها، وسخط الرب، وغلق باب التوفيق.

    ومن أعظم الدواء لهذا الداء: الخوف من الله، والرجوع إليه، والتسليم بقضائه، وأن يقدم للمحسود ضد ما يأمر به الحسد، كالبهجة والسرور عند لقائه، وتهنئته بما نال من نعم الله.

    1.   

    الحسد تعريفه وأضراره

    الحمد لله على نعمه التي لا تعد، وإحسانه الذي لا يحد، سبحانه وبحمده، لا إله إلا هو عليه المعتمد وإليه المستند ومن المستمد، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بيده الفضل، وقوله الفصل، ويأمر بالإحسان والعدل، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله كامل الحسن والنسب، وله العالي من الرتب، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه المتقربين بأحسن القرب، والتابعين لهم بإحسان في طهارة القلوب وسلامة الصدور وكمال الأدب.

    أما بعد:

    فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوه رحمكم الله، فمن اتقاه رزقه سعادة الأبد، وبارك له في المال والأهل والولد: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [الطلاق:4].

    أيها المسلمون: داء اجتماعي خطير يحتاج إلى حملة تطهير .. حملة تلين القلوب المتحجرة، وتحل الأنامل المعقودة، وتتنفس فيها الصدور المتغيظة .. إنه داء من أدواء القلوب، شر من البخل والحرص، وأشد من الطمع والشح، بل هو أشر أنواع البخل وأذل ضروب الحرص.

    إنه مرض عضال يصيب الغني والفقير، والواجد والمحروم، والعالم والجاهل، والوجيه والمطيع.

    إنه داء يبخل الإنسان فيه بما ليس عنده، ويشح بما ليس في ملكه .. سبحان الله يا عباد الله! هل يتصور أن أحداً يمنع ما ليس عنده أو يبخل بما ليس في ملكه؟!

    نعم -أيها الإخوة- إنه الحسد وما أدراك ما الحسد؟!

    لقد قالوا: البخيل يبخل بماله، والشحيح يبخل بمال غيره، أما الحسود فيبخل بنعم الله على عباده.

    أي وضاعة وأي صغار أن يترسب الغل في أعماق بعض النفوس حتى لا يكون لخروجه من سبيل؟! بل لا يزال يموج في جوانبها كما يموج البركان المكتوم، وكثير من أولئك لا يستريحون إلا إذا أرعدوا وأزبدوا وآذوا وأفسدوا.

    إن من قلة الديانة وظهور الدناءة أن تحل الأثرة في بعض الناس فتجعله يتمنى الخسارة لصاحبه، والفشل لرفيقه؛ لا لشيء إلا لأنه لم يربح بنفسه ولم يفز بجهده.

    جمهور الحاقدين الحاسدين تغلي مراجل الحقد في أنفسهم؛ لأنهم ينظرون إلى الدنيا فيجدون ما يتمنونه لأنفسهم قد امتلأت به أكف غيرهم، إنه غليان إبليسي يضطرم في نفوس الحساد، وتفسد به قلوبهم، هذه النفوس الحاسدة الحاقدة لو وكلت على خزائن الله لأغلقت أبوابها: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْأِنْفَاقِ [الإسراء:100].

    أيها الإخوة الأحبة: يقول أهل العلم: الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء؛ إذ حسد إبليس آدم فامتنع عن السجود، وما منعه إلا الحسد: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12] وهو أول ذنب عصي الله به في الأرض حين قتل قابيل أخاه هابيل: إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27].

    تعريف الحسد

    الحسد: تمني زوال نعمة أخيك أو السعي في إزالتها عياذاً بالله، فالحاسد يغتاظ على من لا ذنب له، يقول معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: [[كل الناس أقدر على رضاه إلا حاسد نعمة فإنه لا يرضيه إلا زوالها ]].

    الحسد يفسد الدين ويبعث على الخطايا

    الحسد -وقاكم الله- داء ينهك القلب والجسد، صاحبه ضجر، وعلاجه عسر .. ما ظهر منه فلا يداوى، وما بطن منه فمداويه في عناء، إنه قرين الكفر وحليف الباطل وعدو الحق .. منه تتولد العداوة، وبه تحصل القطيعة، وتتفرق الجماعة، وتتقطع الأرحام، ويفرق الشمل، وتتشتت الألفة، وتوغر الصدور، وتفسد الضمائر.

    بالحسد يجرم الأبرياء، وتشوه الحقائق، ويجرح المستورون .. تلهٍ بسرد الفضائح، وتشهٍ بكشف الستور.

    الحسد متنفس حقد مكظوم، ومتقلب صدر فقير إلى الكنف الرحوم.

    الحسد يفسد الدين، ويضعف اليقين، ويكثر الهم، ويسهر العين، ويذهب بالمروءة، ويجلب الذل.

    الحسد يأكل الحسنات، ويفسد الطاعات، ويبعث على الخطايا، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: {إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب -أو قال العشب- } رواه أبو داود والبيهقي وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

    الحسد يحمل على المضي في الباطل وإنكار الحق

    إن الحسد يمنع قبول الحق ويحمل على المضي في الباطل .. طبيعة الحسد طبيعة لئيمة تأبى إلا أن تجهر بالسوء وتأمر بالفحشاء، وتنكر المعروف، وتقبح الحسن، وتذم الممدوح، وتقطع ما أمر الله به أن يوصل .. يبيع على بيع أخيه، ويزيد بالسلعة وهو لا يريد شراءها، ويخطب على خطبته، ويضايقه في عمله، وينقصه في علمه، ويتهمه في كسبه، ويكذبه في مقالته.

    الحسد يحمل على كتمان الحق، وإنكار الفضل لأهل الفضل .. إذا علم خيراً أخفاه، وإن اطلع على عيب أفشاه، وإن لم يعلم حاول الكذب ولربما تعمد الكذب .. قاتله الله من داء فكم من صلة قطعها! وكم من رابطة مزقها! وكم من دم سفكه! فبالحسد قتل قابيل هابيل، وبالحسد عقَّ إخوة يوسف أباهم وأضاعوا أخاهم: إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا [يوسف:8].

    الحسد يهون على صاحبه الكذب والغيبة والغدر والنميمة والسعاية والاحتيال، والمكر وتلمس المعائب، وتعظيم الأخطاء واستجماع الزلات.

    الحسود امرؤ واهن العزم، كليل اليد، جاهل بربه، غافل عن سننه، لما فاته الخير تحول يكيد للموفقين، ليس بمدرك حظاً، ولا بغالب عدواً .. يعيش في طول أسف، وملازمة كآبة، وشدة تحرق، لا يجد لنعم الله عليه طعماً، ساخطاً على من لا يترضاه، منغص المعيشة، محروم الطلبة، لا هو بما قسم له يقنع، ولا هو على ما لم يقسم له يقدر .. إذا رأى نعمة بهت، وإذا رأى عثرة شمت.

    عقوبات للحسود في نفسه

    قال بعض السلف : يصل الحاسد خمس عقوبات: غم لا ينقطع، ومصيبة لا يؤجر عليها، ومذمة لا يحمد عليها، وسخط الرب، ويغلق عليه باب التوفيق. وقال حكيم: يكفيك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك. وقال أعرابي: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من حاسد يرى نعمة الله عليك نقمة الدهر عليه.

    ومن الحسد يتولد الحقد، والحقد أصل الشر، ومن أضمر الشر في قلبه أنبت له نباتاً مر المذاق، نماؤه الغيظ، وثمرته الندم، وكلما أتحف الله عبداً بازدياد النعم ازداد هذا الحاسد غماً إلى غم وسعى في الأرض مكراً.

    1.   

    بعض صور الحسد

    وأشد ما تكون المنافسة، وأعظم ما يتولد الحسد بين أهل الصنعة الواحدة، والشرف المتماثل، والبيوت المتجاورة.

    ومن أسوأ أنواع الحسد ما يقع بين طلاب العلم تجاه أقرانهم، فإن كنت لا تستبعد أن يقع الحسد من جاهل أو من ضعيف نفس لقلة إيمان وقلة علم؛ لكنك تأسى وتتألم حينما يقع من أناس عرفوا الحسد وشره، وعرفوا ذمه وإثمه، حملوا من العلم وعرفوا من الإيمان ما كان حرياً أن يصدهم عن مثل هذا الخلق الذميم.

    1.   

    نصيحة لمن ابتلي بالحسد

    أيها الحسود: أيتها النفس الشرود! لفتة يسيرة، ووقفة متأنية لترى أنك اقتحمت المضيق وتنكرت الطريق .. لماذا تترك الآفاق الفساح والمطلب المباح؟

    أحسبت أن رزق الله ضاقت حدوده؟! أو ظننت أن فضل الله انحصرت موارده؟!

    دع التشفي والتمني لما في أيدي الخلق! وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:32] ودونك ميادين العمل والكسب ففيها متسع لجميع السالكين، ومتنافس لكل الكادحين: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ [النساء:32].

    ثم دونك قبل ذلك وبعده عظيم الرجاء وعريض الأمل ففيه متسع للسائلين: وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً [النساء:32].

    يا هذا: لو كانت النعم تزول بالحسد لم يبق الله عليك نعمة ولا على أحد من الخلق، فنعم الله لا تحصى وكل ذي نعمة محسود.

    أيها المبتلى بالحسد: هل تأملت؟ لقد نزل بك ما كنت تتمناه لأعدائك، وحل بك ما يشتهيه لك أعداؤك، أردت المحنة لعدوك فاستعجلت محنتك، كيف لا وعساك تحسد رجلاً من أهل العلم والفضل أو من أهل البر والإحسان فتحب أن يخطئ أو يزال، وينكشف خطؤه ليفتضح، وتحب أن يخرس لسانه حتى يتلعثم ولا يتكلم، أو يمرض حتى لا يتعلم أو يعمل .. أي إثم تبتغيه؟ فليتك إذا فاتك اللحاق به تمنيت وسعيت لتكون مثله، ولكنك عجزت وقعدت ورضيت أن تبوء بإثمه فلا حولا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!.

    هلا نظرت وتفكرت أي سرور تدخله على عدوك إبليس؟ إن إبليس لما رآك محروماً من نعمة الورع والعلم والجاه والمال -أو هكذا تبدَّى لك- خاف أن تحب لأخيك ذلك الخير فتشاركه في الأجر بسبب المحبة، فمن أحب الخير للمسلمين كان شريكاً في الأجر، ومن فاته اللحاق بركاب الأكابر فلا ينبغي أن يفوته ركب حبهم، فخاف إبليس اللعين أن تحب ما أنعم الله على عبده من صلاح دينه ودنياه؛ فبغّضه إليك وأوقد في قلبك نار الحسد؛ حتى لا تلحق بحبك ما لم تلحقه بعملك، فانظر كيف نفذ فيك حسد إبليس وما نفذ حسدك في صاحبك.

    الحسد -يا هذا- محاولة فاشلة، وحركة بائسة، تفضي إلى عكس مقصودها، وترجع سهامها إلى نحر راميها، الحسد لا يشفي غلة صاحبه بل يزيد غلته، ويضاعف كمده، ويعظم حسرته.

    إن الحاسدين أمام قافلة المقادير كمثل الكلاب تنبح والقافلة تسير، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فعليه السخط، وقدر الله ورزقه نافذان لا محالة، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي عباد الله: (لا تحاسدوا، ولا تناجشوا ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى هاهنا (ويشير عليه الصلاة والسلام إلى صدره ثلاث مرات) بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه ).

    1.   

    دواء الحسد

    أيها المسلمون: الحسد داء ولكن لكل داء دواء بإذن الله، فاعلم -وفقك الله- أنه متى انكشف غشاء بصيرتك ورين قلبك، وتأملت في الحسد وآثاره، ولم تكن عدو نفسك، ولا صديق عدوك؛ أعرضت عن الحسد كله حتى لا تسخط على قضاء الله، ولا تكره قسمة الله، فمن رضي بقضاء الله لم يسخطه أحد، ومن قنع بعطائه لم يدخله حسد.

    الخوف من الله والرضا بقضائه

    والدواء -حفظك الله ووقاك- بالخوف من الله، والرجوع إليه، والتسليم بقضائه، فتقهر النفس على مذموم خُلُقها، وتنقلها من لئيم طبعها، فتذللها أنفة، وتطهرها حمية، فتذعن لوعظها وتجيب لصلاحها، وتستبدل بالنقص كمالاً، وتعتاظ عن الذنب مدحاً.

    عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: {قيل: يا رسول الله! أي الناس أفضل؟ قال: كل مهموم القلب صدوق اللسان. قالوا: يا رسول الله! صدوق اللسان نعرفه فما مهموم القلب؟ قال: هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد } رواه ابن ماجة بسند صحيح.

    التقديم للمحسود ضد ما يدعو إليه الحسد

    إن من الخير لك والعلاج لمرضك والمداواة لقلبك: أن تقدم للمحسود ضد ما يدعو إليه حسدك .. فتبدل الذم بالمدح، والكبر بالتواضع، وعليك بالموافقة لأخيك فيما حسدته من أجله، واعلم أن المدح وإظهار السرور في النعمة يستجلب قلب صاحب النعمة، ويسترقه ويستعطفه، ويحمله على مقابلة ذلك بالإحسان، ثم يصير بينكما تبادل الإحسان والمعروف وحسن المقابلة فيطيب القلب، ثم ما كان تكلفاً يصير طبعاً وسجية.

    والدواء في أوله مر المذاق ولكنه عظيم الأثر بإذن الله، ومن لم يصبر على مرارة الدواء لم ينل حلاوة الشفاء.

    وتأمل ما يقوله ابن سيرين رحمه الله: ما حسدت أحداً على شيء من أمر الدنيا؛ لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا وهي حقيرة؟! وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو إلى النار يصير؟!

    أيها الإخوة: إن نور الإيمان كفيل بتبديد دياجير الحسد من القلب، فيصبح المؤمن ويمسي سليم الصدر، نقي السريرة، طاهر الفؤاد، يبتهل إلى الله بما يلهج به الصالحون: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]

    تذكر الموت

    يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: [[ما أكثر عبد ذكر الموت إلا قل فرحه وقل حسده ]].

    وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من قال إذا أمسى: أمسينا وأمسى الملك لله والحمد لله، أعوذ بالله الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر الشيطان وشركه، من قالهن عصم من كل ساحر وكاهن، وشيطان وحاسد } رواه الطبراني في الأوسط وقال الهيثمي : رجاله ثقات.

    وبعد: فهذا هو الحسد بدائه وآثاره ودوائه، فإن كنت ناصحاً لنفسك فلا تطلق بصرك لتتفرس في الناس هل هذا هو الحاسد أو ذاك، ولكن ارجع إلى نفسك وتبصر بعيبك فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:1-5].

    نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد صلى الله عليه وسلم.

    وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    حسد الكفار لأهل الإيمان

    الحمد لله الهادي إلى سواء السبيل، أحمده سبحانه وأشكره لا ند له ولا مثيل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو على كل شيء وكيل، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله المبعوث بالهدى والحكمة ومحكم التنزيل، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه من كل أمة وجيل.

    أما بعد:

    أيها المسلمون: من أشد أنواع الحسد ما سجله القرآن الكريم على أهل الكتاب والمشركين والمنافقين من الحنق على أهل الإسلام، والغيظ الذي تمتلئ به صدورهم، قال الله: بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [البقرة:90].. مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ [البقرة:105].. وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة:109].

    إنه بيان جلي لما تضمره نفوسهم وتكنه صدورهم من الحسد على النعمة في دين الله الحق .. لقد حصرت صدورهم أن يتبعوا الحق وتمنوا حرمان المسلمين من هذه النعمة ليرجعوا كفاراً، وشواهد عصرنا على هذا كثيرة، وكل ذلك حسداً من عند أنفسهم، ولم يكن ذلك لشبهة دينية قائمة عندهم، ولكنه خبث في نفوسهم وإصرار على الباطل، وآيات أخرى تزيد ذلك وضوحاً وجلاءً، يقول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً * أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [النساء:51-54]

    إنهم لا يكفون عن تشويه الإسلام واتهام أهله وتحريض أعدائه في كل زمان ومكان، إن حقدهم لهذا الإسلام وحسدهم لأهله أضخم من أن يدارى، وأكبر من أن يخفى .. إنها جبلة واحدة وخطة واحدة وغاية واحدة على مر العصور وكر الدهور: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً [النساء:53].

    عجباً أيها الإخوة! إنهم لا يطيقون أن ينعم الله على عبد من عبيده بشيء من فضله، ولو كان لهم نصيب من الملك لشحوا بالنقير والقطمير، وإن مجريات الاقتصاد العالمي ماثل مشاهد، ولكن الملك والتدبير لله وحده، ولولا ذلك لهلك الناس جميعاً لأنهم لا يؤتون النقير ولا القطمير: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:54].

    إنه الحسد على دين الله الذي أنشأ أتباعه إنشاءً، ووهبهم -بإذن الله- الحق والنور، والطمأنينة واليقين، والطهر والعز والتمكين، مما أثار حسد الحاسدين وحقد الحاقدين.

    أيها الإخوة: لقد شهد اليهود والنصارى والمشركون بدين الله وهيمنته على سائر الملل والمحن؛ فهو من الوضوح والقوة ما يبهر الأبصار بنوره، ولمثل هذا تكثر السهام وتتنوع المؤامرات بقصد اقتلاعه وتشكيك أبنائه وهدم قلاعه، ولكن الحق لا ينقلب باطلاً بتشكيك المتشككين وإرجاف المرجفين، والباطل لن يكون حقاً ولو تجمع الناس عليه وتهافتوا: وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:32-33].

    ألا فاتقوا الله يرحمكم الله، ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة نبيكم محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز من قائل عليماً: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56]

    اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أرحم الرحمين.

    اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، وانصر عبادك المؤمنين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحين.

    اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا ووفقه لما تحب وترضى، وأيده بالحق وأيد الحق به وأعز به دينك وأعل به كلمتك، واجعله نصرة للإسلام والمسلمين، واجمع به كلمتهم يا رب العالمين.

    اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لرعاياهم.

    اللهم أبرم لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير.

    اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء كلمتك وإعزاز دينك، اللهم انصرهم في فلسطين وفي كشمير وفي كل مكان، واجعل اللهم الدائرة على أعدائهم، واجعل كيدهم في نحورهم يا قوي يا عزيز.

    اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن والفواحش ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.

    ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

    عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755953796