إسلام ويب

تفسير سورة سبأ (9)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الأموال والأولاد هي متاع الحياة الدنيا، ومن آتاه الله شيئاً منها فإنه يجدر به أن يحمد الله ويشكره عليها، إلا أن أهل البغي والجحود يتذرعون بهذه النعم مدعين أنها دليل على مرضاة الله عنهم، فيستمرون في غيهم، ويستمرءون التكذيب والعصيان، ويسعون في آيات الله معاجزين، وأولئك لهم العذاب الأليم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    فهيا بنا نصغي مستمعين إلى هذه الآيات من سورة سبأ المباركة الميمونة ثم نتدارسها، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ * وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:34-39].

    بيان سنة الله في الأمم والشعوب وأنهم ما أتاهم من رسول إلا كفر به الأغنياء والكبراء

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [سبأ:34]، هذه الآية تحمل التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، إذ كان يعاني من قساوة المشركين وكبريائهم وعتوهم الكثير، وبخاصة من أرباب الأموال المترفين، فيسليه ربه تعالى رحمة به وليخفف عنه هذا العذاب، وكذلك ما من داعٍ في الأرض إلا ويجد في هذه الآية ما يسليه ويحمله على الصبر والثبات، وهي سنة ماضية في الخلق، وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ [سبأ:34]، أي: في مدينة من المدن، إذ القرى في لغة القرآن تعني: المدن، وفي اصطلاح الجغرافيين المعاصرين تعني: قريات صغيرة أو بليدات صغيرة، لكن القرآن يعني بالقرية: المدينة؛ لأنها من التقري الذي هو التجمع، إذ سكانها من الآلاف بل من مئات الآلاف.

    معنى قوله تعالى: (من نذير)

    ثم قال تعالى: مِنْ نَذِيرٍ [سبأ:34]، والمراد بالنذير هو الرسول أو النبي الذي ينذر أهل الذنوب والآثام بما يصيبهم في الدنيا والآخرة، النذير الذي ينذر المشركين والكافرين والفاسقين والفاجرين، إذ إنه ينذرهم بعواقب كفرهم وفسقهم وفجورهم، فإن العذاب سينزل بهم.

    معنى قوله تعالى: (إلا قال مترفوها)

    إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا [سبأ:34]، والمترفون هم أصحاب المال الذين هم في نعيم الطعام والشراب والمراكب والملابس والمساكن، إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا [سبأ:34]، وقالوا ذلك لمن ينذرهم من عذاب الله ويخوفهم به من الرسل.

    معنى قوله تعالى: (إنا بما أرسلتم به كافرون)

    وعند ذلك رد عليهم المترفون فقالوا: إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [سبأ:34]، أي: إنا بالذي أرسلكم الله به من القرآن والدعوة إلى التوحيد كافرون، ولا عجب في ذلك، إذ إنهم يقولون هذا إلى الآن وغداً وبعد غد، إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [سبأ:34]، فلا نؤمن بما جئتم به، ولا بما تدعون إليه، ولا بعذاب يوم القيامة، فأخبر الله تعالى بواقع ما كان يعانيه الرسول صلى الله عليه وسلم، إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [سبأ:34]، فأنت أيها الرسول ومن معك من أصحابك لا نؤمن بهذا الذي تقولونه، هل تريدون منا أن نتخلى عن طعامنا ولباسنا وأهلينا وأولادنا من أجل كذا وكذا؟ نحن لا نقبل بهذا أبداً، وهذا هو لسان حالهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين)

    قال تعالى: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ:35].

    بيان اغترار المترفين بما آتاهم الله من مال وولد ظانين أن ذلك من رضا الله تعالى عليهم

    وَقَالُوا [سبأ:35]، أيضاً، نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا [سبأ:35]، أي: نحن أكثر منكم أموالاً وأولاداً، فلولا أن الله يحبنا وراضٍ عنا ما يعطينا المال والأولاد ويحرمكم منها! وهذه النظرية البشرية موجودة إلى الآن عند العجائز، فالمخدوعون المغرورون يقولون: لو كان ربنا ساخطاً علينا لا راضياً عنا فلن يعطينا هذا النعيم وهذا الخير وهؤلاء الأولاد! سبحان الله العظيم!

    معنى قوله تعالى: (وما نحن بمعذبين)

    ثم قال تعالى على لسانهم: وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ:35]، أي: لن يعذبنا ربنا أبداً، فأنتم تقولون الباطل وتقولون الحق ولا تعرفونه، وبالتالي فكيف يعطينا المال والأولاد ويرضى لنا بها وتقولون: سيعذبنا؟! فواجهوا رسول الله بهذا الكلام، بل وإلى الآن ما من داعٍ في بلاد الشرك والكفر إلا ويجد من يواجهه بهذا الكلام بالحرف الواحد ولا يقبل كلامه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون)

    بيان الحكمة في التوسعة في الرزق على بعض والتضييق على بعض

    وهنا قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ولكل داعٍ واجه هذه المواقف الصعبة: قُلْ [سبأ:36]، أي: يا رسولنا! إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [سبأ:36]، أي: أعلمهم يا رسولنا! بأن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويضيق على من يشاء لحكم عالية، فإنه يوسع الرزق ليرى العبد أيشكر أم يكفر، ويضيق الرزق ليرى العبد أيسخط أم يرضى، فالتوسعة في الرزق أو التضييق فيه إنما هو من أجل الامتحان والابتلاء والاختبار، وليس من أجل أن الله راض عن الأغنياء فأعطاهم المال، ولا ساخط على الفقراء فمنعهم المال، وإنما يعطي المال ويوسع على الشخص ليمتحنه أيشكر أو يكفر. وفي المقابل يضيق على العبد ويفقره وينزع من يده المال والولد ليمتحنه هل يصبر أو يضجر ويسخط، فهذه هي العلة، لا ما أرادوه هم، إذ إنهم قالوا: من أعطاه الله المال فهو دليل على حب الله له، ومن أفقره وتركه فقيراً يسأل الناس فهو دليل على بغض الله له، وهذه نظرية باطلة، ثم قال تعالى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [سبأ:36]، هذه الحقيقة.

    مرة أخرى: إذا رأيت غنياً مترفاً في نعيمه فلا تفهم أن الله يحبه، وإنما أعطاه ذلك ليبتليه هل يشكر أم يكفر، وكذلك إذا رأيت فقيراً محتاجاً يسأل الناس القرص من العيش فلا تقل: إن هذا يبغضه الله، إنما هو الابتلاء والامتحان، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [سبأ:36] هذا، وإلى الآن يوجد المغترون والمترفون بالمال يظنون أن الله راض عنهم، إذ لو كان الله ساخطاً عليهم ما أعطاهم، وبالتالي يفهمون هذا الفهم، ولو أنكم جادلتموهم لقالوا لك هذا الكلام كما قالوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذه النظرية باطلة، ولذلك اسمعوا إلى قول الله فيها: قُلْ [سبأ:36]، يا رسولنا! إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ [سبأ:36]، أي: يوسع لمن يشاء، ويقدر [سبأ:36]، أي: ويضيق، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [سبأ:36]، ومشيئة الله -كما علمتم- إنما يعطيه لينظر هل يشكر المعطى أم يكفر؟ ويمنع ويضيق لينظر هل يصبر العبد المؤمن أم يجزع؟

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ...)

    بيان ما يقرب إلى الله ويدني منه سبحانه وتعالى

    ثم قال تعالى: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ [سبأ:37]، أيها المترفون! ويا أيها الرؤساء! ويا أيها الأغنياء! المتبجحون بالمال والولد بالتي تقربكم عندنا قرباً فتصبحون أولياء لنا وتنزلون بجوارنا في الجنة، وَمَا أَمْوَالُكُمْ [سبأ:37]، الكثيرة الطائلة، وَلا أَوْلادُكُمْ [سبأ:37]، الكثيرون الذين تتبجحون بهم، بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى [سبأ:37]، أي: قربى، فلو ملكت الأرض كلها والله ما قربتك من الله تعالى، ولو أعطيت مال قارون فوالله ما يقربك ذلك من الله تعالى، وإنما الذي يقرب إلى الله تعالى هو الإيمان والعمل الصالح، قال تعالى: إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [سبأ:37]، وهذه هي الحقيقة يا عباد الله! فافهموها، فالأموال والأولاد ليس من شأنهما أن يقربا الإنسان إلى ربه فيرضى عنه ويسكنه الجنة دار النعيم، والفقر والحاجة ليس من شأنهما أن يغضب الرب على العبد ويسخطه ويمنعه الجنة، وإنما العطاء والمنع بتدبير الحكيم العليم للابتلاء والامتحان، وليرى من يشكر ومن يكفر؟ ومن يصبر ومن يفجر؟

    لطيفة

    وهنا لطيفة علمية دقيقة وهي أنه ما ذكر أنهم ما ارتكبوا الآثام والذنوب والمعاصي، وإنما قال: إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [سبأ:37]، أي: أن الحقيقة هي أن من آمن حق الإيمان وعمل صالحاً لا يغشى الذنوب ولا يتورط في المعاصي أبداً، لأنه محفوظ، ولأنه حي غير ميت؛ ولأنه يعيش على نور الله تعالى، وبالتالي كيف يرتكب الذنوب والآثام والمعاصي؟! إن من آمن حق الإيمان، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، ثم أضاف إلى ذلك عملاً صالحاً، وهي الفرائض والواجبات، وكذلك أضاف إليها النوافل والمستحبات والمندوبات، بل وكل عمل يقربه إلى الله تعالى، والأعمال الصالحة هي كل عبادة تعبدنا الله بها وفرضها علينا.

    معنى قوله تعالى: (فأولئك لهم جزاء الضعف)

    فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ [سبأ:37]، والضعف بمعنى: الأضعاف، فالحسنة بعشر إلى سبعمائة ضعف، وخاصة الذين أنفقوا في سبيل الله، ثم قال: بِمَا عَمِلُوا [سبأ:37]، أي: بعملهم العمل الصالح، إذ إنهم أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ورابطوا وجاهدوا وأنفقوا في سبيل الله تعالى، وذكروا الله وشكروه.

    معنى قوله تعالى: (وهم في الغرفات آمنون)

    ثم بين أيضاً ما لهؤلاء فقال: وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ:37]، فلا مرض ولا جوع ولا موت ولا عذاب ولا خروج من الجنة، والغرفات جمع: غرفة، قال ابن عباس: مبنيات من الزبرجد والذهب وأنواع الياقوت، وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ:37]، من هؤلاء؟ هل هم بيض أم سود؟ عرب أم عجم؟ من الأولين أم من الآخرين؟ الجواب: كل مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [سبأ:37]، ومات على ذلك فهو في هذا النعيم المقيم، غنياً كان أو فقيراً، له أولاد أو لا ولد له.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون)

    بيان حكم الله فيمن يحارب الإسلام ويريد إبطاله وأنه محضر في جهنم لا محالة

    ثم قال بعدها: وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ [سبأ:38]، أي: إذا كان أولئك في الغرفات آمنون، فالذين يسعون لإبطال الدين وإحباط الشريعة والبعد عنها، ويعاجزون الله عز وجل ورسوله، أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ [سبأ:38]، أي: حاضرون لا يتخلف منهم أحد.

    وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا [سبأ:38]، لإبعاد الناس عنها ولتحريفها ولتبديلها، ولدعوة الناس إلى الانصراف عنها، مُعَاجِزِينَ [سبأ:38]، لنا في ذلك، أُوْلَئِكَ [سبأ:38]، البعداء، والأشقياء، فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ [سبأ:38]، والله ما يتخلف منهم واحد، إذ كلهم محضرون في جهنم والعياذ بالله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له ...)

    إخبار الله بأنه يوسع ويضيق في الرزق على من يشاء من عباده

    ثم قال تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ [سبأ:39]، وهذا كما قررته الآية الأولى، وهذه الآية قد بينته وأكدته، ومعنى الآية: أي أعلمهم يا رسولنا! بأن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويضيق على من يشاء، وليست القضية أنه مؤمن فوسع عليه أو كافر فضيق عليه، إنما القضية أن الله يبسط الرزق ابتلاءً لينظر أيشكر العبد أم يكفر، ويضيق على العبد في طعامه وشرابه لينظر هل يصبر العبد أم يسخط ويضجر، وهذه هي الحكمة من ذلك، فكم من غني تقي بر صالح في الجنة، وكم من فقير فاجر كافر في النار، فالجنة يدخلونها بالإيمان والعمل الصالح، والنار يدخلونها بالمعاصي، وبالتالي قد ترى العبد غنياً ثرياً منعماً وهو من أهل النار؛ لأنه كافر مشرك، وقد ترى الفقير العطشان الجوعان في حالة يرثى لها وهو من أهل الجنة؛ لأنه مؤمن تقي صابر، ولذا فقضية الغنى والفقر لا تقاس على الجنة والنار أبداً.

    بيان وعد الله تعالى بالخلف لكل من أنفق في سبيله مالاً

    ثم قال تعالى: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، وهذه للمؤمنين الصالحين، فأعلمهم يا رسولنا! أن من أنفق شيئاً في سبيل الله -وخاصة في الجهاد- فإن الله عز وجل يخلفه، ( ابن آدم أنفق أُنفق عليك )، ( وما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وملكان ينزلان إلى الأرض، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً )، فالنفقة في سبيل الله معوضة، فلو أنفقت ملياراً فسيعوضك الله تعالى، والنفقة في سبيل الشيطان والكفر خسران دنيوي وأخروي، والله هو خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، ولهذا اطلبوا رزقكم منه، فتوسلوا إليه بمحابه، وتوسلوا إليه بترك مكارهه، وسلوه ولا تخافوا ولا ترهبوا فإنه غني كريم.

    فهذا هو معنى هذه الآيات، فهل القرآن يقرأ على الموتى يرحمكم الله؟! أسألكم بالله! لما تجتمعون على الميت وتقرءون عليه يقوم فيبكي ويتعظ؟! يصحح عقيدته؟ يلجأ إلى الله تعالى؟ والله ما كان، إذاً فكيف تقرءون القرآن على الموتى ولا تقرءونه على الأحياء؟! كم الآن حلقة في العالم يقرأ فيها كتاب الله تعالى؟ نادراً ما تجد، وقد مضت فترة من الزمن على الناس إذا سمعوك تقول: قال الله، فإنهم يغلقون آذانهم، إذ إنهم يخافون أن ينزل عليهم عذاب! فحرموا أمة الإسلام من كتاب الله، بل وأبعدوها عن كتاب ربها، وقالوا: إن تفسير القرآن صوابه خطأه وخطؤه كفر! ويدخلون مع هؤلاء الذين يصرفون عن آيات الله تعالى.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    من هداية الآيات

    قال الشارح: [ من هداية الآيات: أولاً: بيان سنة الله في الأمم والشعوب، وأنهم ما أتاهم من رسول إلا كفر به الأغنياء والكبراء ]، بيان سنة الله في الخلق وفي الأمم والشعوب قديماً وحديثاً، إذ ما يأتيهم من رسول ينذرهم ويخوفهم إلا افتخروا وتعززوا بالمال والولد، ولم يستجيبوا.

    قال: [ ثانياً: بيان اغترار المترفين بما آتاهم الله من مال وولد ظانين أن ذلك من رضا الله تعالى عليهم ]، كما قد بينت لكم، فإلى الآن الأغنياء في كثير من أنحاء البلاد يظنون أنهم ما أغناهم الله إلا وكان هذا دليلاً على أن الله راض عنهم، ولو كان ساخطاً عليهم ما أعطاهم هذا المال وهذا السلطان والولد.

    قال: [ ثالثاً: بيان الحكمة في التوسعة على بعض والتضييق على بعض، وأنها الامتحان والابتلاء، فلا تدل على حب الله ولا على بغضه للعبد ]، لا تدل التوسعة على العبد أنه مرضي عنه، ولا يدل التضييق عليه في المال أنه مسخوط عليه، بل الله يبتلي ويمتحن، فيمتحن بالمال لينظر هل صاحب هذا المال يشكر الله وينفق منه، ويبتلي بالفقر لينظر هل هذا العبد يصبر أو يضجر، وهذه هي الحكمة، لا على أنه يحب الأغنياء ويكره الفقراء، ولا أنه يحب الفقراء ويكره الأغنياء، فلا هذا ولا ذاك، وإنما الحب والبغض ثمرتهما الإيمان والعمل الصالح أو الشرك والذنوب والآثام.

    قال: [ رابعاً: بيان ما يقرب إلى الله ويدني منه وهو الإيمان والعمل الصالح، ومن ذلك الإنفاق في سبيل الله لا كثرة المال والولد كما يظن المغرورون المفتونون بالمال والولد ]، بيان ما يقرب من الله تعالى ويدني منه، ألا وهو الإيمان والعمل الصالح، فإذا أردت أن تقرب من الله ويقربك منه، فآمن حق الإيمان واعمل الصالحات، وهي حال تقتضي البعد عن الشرك والمعاصي والذنوب والآثام، أما كثرة المال والولد فلا تدني ولا تبعد.

    قال: [ خامساً: بيان حكم الله فيمن يحارب الإسلام ويريد إبطاله وأنه محضر في جهنم لا محالة ]، بيان حكم الله فيمن يحارب الإسلام وأهله، فيمن يحارب دعوة الله عز وجل، فإنه والله لمحضر في جهنم لا محالة والعياذ بالله تعالى.

    قال: [ سادساً: بيان وعد الله تعالى بالخلف لكل من أنفق في سبيله مالاً ]، بيان وعد الله الصادق لمن أنفق في سبيله، فإن الله عز وجل يخلف عليه في الدنيا وينزله في المقام الأعلى في الجنة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755942111