إسلام ويب

تفسير سورة الطلاق (1)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من الأحكام التي ضبطتها الشريعة الإسلامية أحكام الطلاق، فقد أمر الله سبحانه وتعالى من طلق امرأته أن يطلقها لعدتها، بحيث يكون طلاقها في طهر لم يجامعها فيه، وإذا أراد مراجعتها في طلاق رجعي فعليه أن يشهد شاهدين عدلين على ذلك، ومتى ما راجعها قبل انقضاء العدة فتبقى زوجته وتحسب عليه طلقة، وعدة المطلقة ثلاثة أشهر إن كانت آيسة أو صغيرة لم تحض بعد، أو أن تضع ما في بطنها إن كانت حاملاً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: ها نحن الليلة مع سورة الطلاق المدنية، وهي ثلاث عشرة آية، فهيا بنا نصغي مستمعين تلاوة بعضها، ثم نتدارسها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا * فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:1-3].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره بعد بسم الله الرحمن الرحيم: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ [الطلاق:1]، المراد من النبي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان سبب نزول هذه الآيات: أنه صلى الله عليه وسلم طلق حفصة بنت عمر ، فأنزل الله تعالى بيان العدة، وكيف تطلق وتعود. فهي سنة ماضية في المؤمنين إلى يوم القيامة.

    معنى قوله تعالى: (فطلقوهن لعدتهن)

    قال تعالى: (( إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ ))[الطلاق:1]، أي: عزمتم على طلاقهن (( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ))[الطلاق:1]. ومعنى لعدتهن: لأول العدة. فإن عزمت على الطلاق وأنت واعٍ فطلق امرأتك في أول الطهر قبل أن تجامعها فيه، فإذا كنت عازماً على طلاقها فانتظرها، ولما تحيض وتطهر لا تجامعها وطلقها في طهرها، فيكون هذا أول طلاقها، كما قال تعالى: (( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ))[الطلاق:1]، أي: لأول العدة. وهذا يجعل الطلاق خفيفاً على المطلقة إذا عد هذا الطلاق في أول الطهر، ثم تحيض وتطهر ويكون هذا الطهر الثاني، ثم تحيض الثالثة فتطلق أو ترجع؛ لأن الله قال في سورة البقرة: (( وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ))[البقرة:228]. فالمطلقات يتربصن بأنفسهن وما يستعجلن ثلاثة قروء. وهنا خلاف بين المسلمين هل المراد من القرء هو الطهر أو الحيض؟ فإن قلنا: القرء الطهر فتكون العدة أخف، كما قلت لكم. فإذا طلقها في طهر لم يمسها فيه فهذا طهر، ثم إذا حاضت وطهرت هذا يكون الثاني، ثم إذا حاضت وطهرت يكون هذا هو الطهر الثالث، ولكن إذا قلنا: إن القرء الحيض، فإذا طلقها فينتظر حتى تحيض حيضة، ثم تطهر وتحيض، ثم تطهر وتحيض، فتحيض أربع حيض. فقوله تعالى: (( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ))[الطلاق:1]، أي: لأول العدة، وهي الطهر الذي لم يمسها فيه، أي: لم يجامعها فيه. وهذا الذي نعمل به. فمن أراد أن يطلق امرأته لسبب -ألا وهو عدم سعادته بها، أو عدم سعادتها به، أو ما وجد ما تطمئن نفسه وتألم، ورأى أنه لا بد من الطلاق- فحينئذ ينتظرها لما تحيض وتطهر وتغتسل وتدخل تصلي، ثمَّ لا يجامعها في ذلك الطهر ويطلقها فيه، وتنتظر هي ثلاثة أطهار، أي: طهرين بعد ذلك الطهر، فيكونوا ثلاثة أطهار. فإذا انقضت الأطهار الثلاثة بانت منه بينونة صغرى، ولا تحل له إلا بعقد جديد. وقوله: (( يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ))[الطلاق:1]، أي: لأول العدة.

    معنى قوله تعالى: (وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم)

    قال تعالى: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [الطلاق:1]، أي: عدوها واحصوها.. لا تفرطوا فيها. وإذ قلنا: إنها أطهار فتنتهي بعد الأطهار الثلاثة، وإذا قلنا: إنها حيض فنعد ثلاث حيض؛ لقوله تعالى: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [الطلاق:1]، أي: عدوها، واجمعوا ولا تفرقوا في العدد. وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ [الطلاق:1] وأطيعوه، وطلقوا كما أرادكم أن تطلقوا، وأحصوا العدة ولا تفرطوا فيها أبداً. والعدة كما علمتم ثلاثة أطهار أو ثلاث حيض.

    معنى قوله تعالى: (لا تخرجوهن من بيوتهن ...)

    قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ [الطلاق:1]. فإذا طلقت يا عبد الله! امرأتك الطلاق الشرعي وعزمت عليه لما هناك من أسباب تقتضي الطلاق، فإذا طلقتها عد الطلقات، وأثناء العدة لا تخرجها من بيتها، بل تبقى في بيتك تأكل وتشرب حتى تنتهي عدتها؛ لقوله تعالى: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ [الطلاق:1]. فإذا طلقتها اليوم فانتظر بها ثلاثة أشهر إذا كانت لا تحيض لكبر أو لصغر، أو ثلاث حيض أو أطهار، فإذا انقضت فهنا تخرجها من البيت وتذهب إلى أهلها، أو تأخذها أنت وتوصلها إلى أهلها؛ لقوله تعالى: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [الطلاق:1]. اللهم إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، أي: واضحة ظاهرة كالزنا، والعياذ بالله، أو أن تؤذي أهل البيت، سواء بالسب أو الشتم، أو التقبيح أو الأذى، فحينئذ نخرجها دفعاً للأذى، ودفعاً للضرر على المؤمنين. وأما إذا لم تأت بفاحشة مبينة فلا يحل إخراجها إلا إذا هي طلبت ذلك، فإذا هي رغبت وقالت: أرجعني إلى أهلي فلا بأس. ولكن لها الحق أن تبقى في عدة الطلاق ثلاثة أشهر أو ثلاث حيض أو أطهار في بيتك، وتأكل وتشرب؛ لعل عز وجل يردها عليه. فقد تندم أنت وتتأسف، فتجدها في بيتها ما أصابها شيء، فلا ترجع لا بعقد جديد، ولا بأن تشهد اثنين وتراجعها. وهذا والله من رحمة الله وتدبيره لأوليائه. وهذا ما هو من صنع البشر أبداً، بل هذا من صنع الله، فهو الذي قال: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [الطلاق:1]، أي: واضحة ظاهرة، تستوجب إخراجها والذهاب بها إلى أهلها، كأن تؤذي أهل البيت. والأذية لا يحبها الله لعباده المؤمنين، وقد قال: ( من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ).

    معنى قوله تعالى: (وتلك حدود الله ...)

    قال تعالى: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [الطلاق:1]. فهذه حدود الله التي حدها، فانتبهوا لها، ولا تتجاوزوها. فأولاً: لا تطلق إلا في طهر، ولا تطلق في حيض، وثانياً: يجب أن تعد الأطهار الثلاثة، وثالثاً: لا تخرجها من بيتك، بل تبقى تأكل وتشرب معك ومع أولادك حتى تنتهي عدتها. اللهم إلا إذا آذتكم -والعياذ بالله- وأتت بفاحشة من القول أو الفعل، أو قبيحة، فحينئذ يجوز إخراجها، فأخرجها إلى أهلها. تلك هي حدود الله، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ [الطلاق:1] مطلقاً، سواء هذه الحدود أو غيرها فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق:1]، وعرضها لغضب الله وسخطه، ثم لعذابه وانتقامه.

    فيا عباد الله! لا تتعدوا حدود الله، وهذا الحد لا تتجاوزه. فقد حرم الله الكذب فلا تكذبوا، وحرم الله الخيانة فلا تخونوا، وحرم الله الزنا فلا تزنوا، وحرم الله الغش فلا تغشوا، وحرم الله ترك الصلاة فلا تتركوها، وهكذا. فالحدود نقف عندها، ولا نتجاوزها غير مبالين بها. ولذلك قال تعالى: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ [الطلاق:1] حتى في الطلاق فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق:1].

    معنى قوله تعالى: (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً)

    قال تعالى: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق:1]. فقد ألزمك بأن تبقيها في بيتك يا عبد الله! وذلك لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً، فتميل نفسك إلى بقائها، وترغب في بقائها عندك، فتجد هذه الفرصة متاحة، فهي ثلاثة أشهر تقريباً.

    هذه هي سنة الطلاق، وهي: أولاً: نطلقها وهي طاهر قبل أن نجامعها في ذلك الطهر؛ لتخف المدة والزمن.

    وثانياً: أن نبقيها في بيتها، ولا نخرجها إلا إذا فعلت فاحشة اقتضت إخراجها. وإلا فتبقى ثلاثة أشهر أو ثلاثة أطهار؛ لأنه يمكن أن يحدث الله لذلك أمراً، فقد تندم أنت، فتجدها في بيتك، والحمد لله، فتشهد اثنين وتقول: أشهدكما أني راجعت زوجتي فقط، بلا صداق وبلا مهر، وبلا طعام وبلا كذا. وهذا الإشهاد سنة مسنونة، ولو ما فعلته صح الإرجاع، ولكن لا بد من فعل السنة، فتقول لهما: أشهدكما أني راجعت زوجتي.

    هكذا يقول تعالى: لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق:1]. ألا وهو أن يرغبك، وأن يوجد في نفسك رغبة في أن تعود إليك زوجتك، فالفرصة متاحة، فهي ما زالت في بيتك لم تخرج، ولم تبين منك، فلا عقد ولا غير ذلك. والحمد لله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف...)

    قال تعالى وقوله الحق: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [الطلاق:2]. فإذا بلغت نهاية العدة والأجل فأمسكها أو طلقها؛ لقوله تعالى: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ [الطلاق:2]، وهي العدة المعدودة، فَأَمْسِكُوهُنَّ [الطلاق:2] إن أمسكتموهن بالمعروف، لا بالظلم والجور والاعتداء، بل لابد من المعروف والحق. أَوْ فَارِقُوهُنَّ [الطلاق:2] إذا انتهت العدة. فقل لها: مع السلامة يا أم فلان! اذهبي إلى أبيكِ أو أمكِ.‏

    الإشهاد على الطلاق

    قال تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2]، أي: أشهدوا اثنين من ذوي العدل، أي: القسط. وأما الفسقة والفجرة فما يشهدون، وكذلك الكافر لا تصح شهادته أبداً. فلا تصح شهادة الكافر في الطلاق أو في النكاح أبداً. بل أَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2]. وإذا أصبح أهل البلاد ما يوجد فيهم عدول فنكثر من الشهود، أربعة .. خمسة .. ستة .. سبعة.

    وقوله: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ [الطلاق:2]، أي: المطلقات، فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [الطلاق:2]. وليس معنى إمساكها بأن تقول: أذن الله لي بأن أردها على أن نظلمها ونعتدي عليها، بل المعنى: أمسكها بمعروف، أو فارقها وطلقها، ودعها تنتهي عدتها وتذهب إلى أهلها بمعروف.

    وقوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2]، فلابد من الشهادة في النكاح والطلاق، فمن طلق يشهد أنه طلق. فإن قالت المرأة: ما طلقني، وقال: طلقتها، وقالت: لا أبداً، فيجب أن يأتي بشاهدين، أو يحلف بالله يميناً على أنه طلقها، وأما إذا ما وجد الشاهدين ولا حلف فلا تصح دعواه، وما تطلق.

    ثم قال تعالى: وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ [الطلاق:2]. وليس للزوج ولا للزوجة، ولا لفلان ولا فلانة، بل أقم الشهادة لوجه الله، فقل: سمعت فلاناً قال: طلقت امرأتي، أو قال كذا.

    ثم قال تعالى: ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [الطلاق:2]. فهذا الذي سمعتم يؤمر به ويذكر به ويدعى إليه المؤمنون، وأما الكافرون فليسوا أهلاً لذلك أبداً، وهم لا يعرفون طلاقاً ولا رجعة، ولا يميناً ولا غير ذلك. بل هذا لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر.

    معنى قوله تعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا)

    قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2]، سواء المرأة المطلقة أو الرجل المطلق، فالذي يتقي الله يهديه ربه، ويرزقه خيراً من ذلك، ويجعل له مخرجاً.

    وهنا يروى: أن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه، وقال: ولدي سلبه العدو، أي: أخذوه مني وأسروه، وأمه تبكي متألمة، فقال: عليكما بذكر الله، وأكثرا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا تتركاها حتى يفرج الله، فأخذ بها. فقالت له امرأته: أمرك الرسول بهذا؟ قال: نعم. قالت: نعم ما أمرك به. فأخذا يقولان: لا حول ولا قوة إلا بالله. وإذا بولدهما يغفل العدو عنه، ومعه غنم، فيهرب ويأتي بالغنم معه. فنجا هو وجاء بغنم من العدو. وهذا مصداق قوله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]. فقد رزقهم بغنم كاملة، وما كانوا يحسبون هذا ولا يعدونه ولا يفكرون فيه.

    وقوله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2]، فأي مؤمن يتقي الله وأصابته فتنة أو محنة فالله يجعل له مخرجاً، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11]. ومن يتوكل على الله يكفيه. هذه وعود الله عز وجل. ومن يقرض الله يضاعف له القرض، فمن يقرضه قرضاً حسناً يضاعفه له.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ويرزقه من حيث لا يحتسب ...)

    قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:2-3]، أي: يكفيه. فمن فوض أمره إلى الله واعتمد عليه يكفيه الله عز وجل ما كان يخافه ويهابه.

    ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ [الطلاق:3]. وفي قراءة سبعية. (إن الله بالغٌ أمره). والقراءتان صحيحتان. فهو بالغ أمره، أي: ينفذ ما أراد أن ينفذه، ولا يعجزه شيء، ومن وعده بالخير أعطاه، ومن توعده بالشر أنزله به، وإن الله على كل شيء قدير.

    ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:3]. وهذا القضاء والقدر. فكل شيء منظم مكتوب في كتاب المقادير، ويطبقه الله وينفذه كما هو على مر الأيام والدهور والأعوام. فلنقل: آمنا بالله وبقضائه وقدره.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    قال: [ هداية الآيات ] الآن مع هداية الآيات، وهي علم ومعرفة:

    [ من هداية ] هذه [ الآيات ] أيها المستمعون! ويا أيتها المستمعات!:

    أولاً: بيان السنة في الطلاق، وهي أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه بجماع ] فالطلاق الشرعي يجب أن يكون في طهر لم يمسها فيه. فيا رجل! ويا فحل! لا تطلق امرأتك إذا أنت جامعتها في طهرها، ولا تطلقها وهي حائض أبداً، بل طلقها وهي طاهر قبل أن تجامعها في ذلك الطهر. وعد ذلك شهر من الأشهر.

    وهناك خلاف بين أهل العلم، فالجمهور على أن من طلق في الحيض فإن طلاقه ينفذ، ومن خالف الجمهور يقولون: ما دام الطلاق بدعة فلا ينفذ الطلاق في الحيض.

    [ ثانياً: أن يكون الطلاق واحدة، لا اثنتين ولا ثلاثاً ] وهذه بدعة أخرى. والجمهور يقولون: إذا قال: أنتِ طلق ثلاثاً أو أربعين فقد تطلقت، وما بقي شيء. ومن خالف الجمهور يقولون: الطلاق الثلاث يكون بكلمة طالق طالق طالق، وأما قوله: أنت طالق أربعين طلقة فهي واحدة. والله تعالى يقول في سورة البقرة: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229].

    والذي فتح الله به علي -وكما تعرفون فأنا لست بعالم- ولكن الذي فتح الله به علي في هذه القضية، وأنا مطمئن إليه: هو أن الله أراد الرحمة بعباده في قوله: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ [البقرة:229]. بمعنى: أنك تطلقها لرفع الضرر. وإذا انتهت العدة أو ما انتهت ثم راجعتها فهذه طلقة أولى، ثم عش معها سنة .. سنتين .. ثلاثاً، فإذا ضاقت بكم الحياة فطلقتها طلقة ثانية، فإذا عشت معها بعد ذلك فانتبه، فإذا طلقتها الثالثة لا تحل لك أبداً حتى تنكح زوجاً غيرك. وأما أن يقول: بالطلاق، أو عليه الطلاق، أو الطلاق بالثلاث، أو أنتِ طالق ثلاثاً فكل هذا يتنافى مع مراد الله في هذه الآية. فتأملوا هذا.

    فالطلاق مرتان، وفي الثالثة انتهى كل شيء. وأما قوله: أنتِ طالق طالق طالق فلا يتم الطلاق، وليس هذا طلاقاً، وهي ما تطلقت؛ لأنها هي ممسوكة، وهو لا يطلق إلا الممسوكة. وإذا قلت: أنتِ طالق بالثلاث، فأنت لم تمسكها وطلقتها، ثم لم تمسكها وطلقتها، بل هنا لا يوجد مسك.

    بل الطلاق يكون إذا طلقتها وانطلقت، ثم إذا لم تنته عدتها وراجعتها فهذه طلقة، ثم إذا طلقتها بعد عام .. عامين .. ثلاثة فتكون قد طلقتها طلقة ثانية، فإذا راجعتها فيجوز لك ذلك، وإذا انتهت العدة فتردها بعقد جديد، وإن لم تنته العدة فأت بشاهدين اثنين كما علمتم. ثم إذا طلق الثالثة فلا تحل له أبداً حتى تنكح زوجاً غيره؛ لأنه ما هو أهل لها، ولذلك أهانه الله عز وجل، فلا يتزوجها حتى تتزوج ويموت زوجها أو يطلقها، وبعد ذلك له أن يراجعها ويتزوجها. فافهموا هذه القضية.

    [ ثالثاً: وجوب إحصاء العدة ] ومعرفة أيامها [ ليعرف الزوج متى تنقضي عدة مطلقته؛ لما يترتب على ذلك من أحكام الرجعة والنفقة والإسكان ] فهو أولاً: ينفق على هذه المرأة، فلابد أن يعرف كم يوماً مضت أو بقيت، وثانياً: لما تنتهي العدة لا تحل له، بل تبين منه وتخرج من بيته. فلا بد من إحصاء الأيام وعدتها. فإذا طلقها يوم الخميس فيبدأ يعد ثلاث حيض أو ثلاثة أطهار.

    [ رابعاً ] من الأحكام: [ حرمة إخراج المطلقة من بيتها الذي طلقت فيه ] بل تبقى في بيتها [ إلى أن تنقضي عدتها، إلا أن ترتكب فاحشة ظاهرة كزناً أو بذاءة، أو سوء خلق وقبيح معاملة، فعندئذ يجوز إخراجها ] أو آذت أذىً شديداً فله أن يخرجها، وأما إذا ما آذت ولا فعلت فاحشة فيجب أن تبقى في بيتها، وينفق عليها زوجها حتى تنقضي عدتها، فإذا انقضت خرجت إلى أهلها، فإن راجعها رجعت له.

    [ خامساً: لا تصح الرجعة إلا في العدة، فإن انقضت العدة فلا رجعة، وللمطلقة أن تتزوج من شاءت هو أو غيره من ساعة انقضاء عدتها ] فلا يجوز أبداً لمن طلق زوجته وانتهت عدتها أن يردها إلا بعقد جديد، وأما إذا كانت ما زالت في أيام العدة فله أن يراجعها على الفور، ويشهد اثنين وله ذلك، وأما إذا انتهت العدة وانقضت ثلاثة أطهار أو ثلاث حيض فحينئذ لا تحل إلا بعقد جديد. هذا في الطلاق الرجعي.

    وأما الطلاق البائن فهو الذي يطلقها ويراجعها، ويطلقها ويراجعها، ثم في الثالثة يطلقها، فلا رجعة، بل قد بانت بينونة كبرى، فلا تحل له إلا بعقد جديد، وبعد أن تنكح غيره وتتزوج.

    [ سادساً: لا تحل المراجعة للإضرار، ولكن للفضل والإحسان وطيب العشرة ] وأما تقول: أراجعها حتى أكبتها وأؤذيها فهذا حرام، ولا يجوز لمؤمن. وقد أذن الله لك في إرجاع زوجتك قبل انتهاء العدة، فإذا أردت أن تراجعها لتحسن إليها وتحسن إليك فيجب أن تراجعها، لا أنك تريد أن تؤذيها وتضرها، فهذا حرام ولا يجوز. فانو بالمراجعة الإحسان إليها، لا أنك تردها من أجل أن تؤذيها وتضرها. وما دامت في بيته فقد يضربها، ولكن إذا خرجت وتطلقت فما يؤذيها، ولا يقوى على أذيتها. فلا يرجعها لأنه يريد أن ينتقم منها، والعياذ بالله، وأن يؤذيها، فلا يحل هذا ولا يجوز.

    [ سابعاً: مشروعية الإشهاد على الطلاق والرجعة معاً ] فمن هداية الآيات التي تدارسناها: مشروعية الإشهاد على الطلاق وعلى الرجعة، كما هو واجب في العقد. ففي عقد النكاح لا بد من شاهدين عدلين يشهدان، وإلا فالنكاح باطل. وأما الرجعة فالشهادة فيها سنة، فلو ما فعلت تصح الرجعة، ولكن الأفضل أن يشهد اثنين، فيقول: أشهدكم أني راجعت زوجتي.

    وكذلك الطلاق، وبينا هذا غير ما مرة. فإذا أردت أن تطلق زوجتك لأنك ما استطعت أن تصبر على أذاها، وقد حاولت عاماً .. عامين وما أطقت، ورأيت أنه لا بد لك من الفراق والخروج من هذه المحنة، فحينئذٍ تنتظرها حتى تحيض وتطهر، وتأتي بعدلين اثنين إلى منزلك، وتقول لهما: أشهدكما أني طلقت أم فلان، وهي تسمع، فهي طالق.

    وطلاق الجهال عندنا اليوم يقولون: بالطلاق، وعلي الطلاق، وأنتِ طالق بالثلاث. وكل هذا باطل وحرام حرام، وما هو من الإسلام أبداً.

    فافهموا معنى الطلاق، فهو أن تطلق المربوطة معك برباط وعقد النكاح. فتعلم كيف تطلقها، فهو لا يكون بالغضب، فتقول: أنتِ طالق، وعلي الطلاق، وبالطلاق، بل يكون لما تعرف أنك ما تسعد معها، أو هي لا تسعد معك أبداً. وهي مؤمنة وأنت مؤمن، فلابد من فراقها؛ لرفع الأذى والضرر، وحينئذٍ تنتظر وقتها الذي تطهر فيه ولا تجامعها، وتأتي باثنين شاهدين عدلين، وتقول: أشهدكما أني طلقت فلانة. والإرجاع كذلك.

    [ ثامناً: يشترط في الشهود العدالة ] فقد قال تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2]. لا بد وأن تكون العدالة معروفاً بها الشاهدين، وموجودة فيهما [ فإذا خفت العدالة في الناس ] وما أصبح يوجد العدول [ استكثر من الشهود ] ثلاثة .. أربعة .. خمسة.

    [ تاسعاً: وعد الله الصادق بالفرج القريب لكل من يتقه سبحانه وتعالى، والرزق من حيث لا يرجو ] وقد سمعتم ما حصل لـعوف بن مالك ، فقد أخذ ولده أسيراً، فلما أكثر من ذكر الله عز وجل وتقوى الله، وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله رد الله عليه ولده والغنم معه. وهكذا من امتحن بكذا يكثر من: لا حول ولا قوة إلا بالله ليل نهار؛ يفرج الله ما به.

    [ عاشراً: تقرير عقيدة القضاء والقدر ] وكما تعلمون أركان الإيمان ستة، والركن السادس: الإيمان بالقضاء والقدر. ومعنى القضاء: الحكم، والقدر: ما كتبه وقدره. فلا يحدث حادث حتى والله جلوسنا هذا ودرسنا هذا إلا والله إنه مكتوب قبل أن يخلق الله الأرض والسماوات، وموجود في كتاب المقادير. فلا يقع في الكون حادث إلا وهو مكتوب في القضاء والقدر، وبسببه المقتضي لذلك. فلنقل: آمنا بالله.

    [ الحادي عشر: كفاية الله لمن توكل عليه ] فمن توكل على الله فلم يعصه ولم يخرج عن طاعته وفوض أمره إليه فالله يتولاه، وما يضيعه أبداً.

    قال الشيخ في النهر: [ روى القرطبي عن الربيع بن خثيم قوله: إن الله تعالى قضى ] أي: حكم [ على نفسه أن من توكل عليه كفاه، ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجاه، ومن دعاه أجاب له. وتصديق ذلك في كتاب الله: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11]، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]، إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ [التغابن:17]، وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101]، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] ].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756407070