إسلام ويب

تفسير سورة الزمر (5)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الذين يكفرون بآيات الله ويكذبون رسله أعد الله لهم ناراً مستقرة، وهم في طبقات من فوقهم، ومن تحتهم طبقات، لا يخرجون منها ولا ينقذون، أما الذين اجتنبوا الطاغوت وأنابوا إلى ربهم المعبود فإن لهم سكنى الجنان، لهم فيها غرف بعضها فوق بعض، ويجري الله لهم الأنهار من تحتهم، وفاء منه سبحانه بما وعدهم إن هم آمنوا واتقوا، والله لا يخلف الميعاد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والذين اجتنوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ * أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ [الزمر:17-20].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى [الزمر:17]. والطاغوت هو الشيطان عليه لعائن الرحمن، وما عبد من دون الله يطلق عليه طاغوتاً، فكل صنم طاغوت، وكل حجر طاغوت، وكل شهوة طاغوت؛ لأنه صرف عبد الله عن عبادة سيده ومولاه، وكل ما عبد من دون الله سمه طاغوتاً إلا أن يكون من الإنس أو الجن فإنه إن لم يرض لم يصر طاغوتاً وإن رضي فهو طاغوت، وهذا الخبر له شأنه فهو تعالى يقول: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا [الزمر:17]. أي: انصرفوا عنها وتركوها وأعرضوا عنها، ولم يعبدوها هؤلاء جزاءهم بأن: لَهُمُ الْبُشْرَى [الزمر:17]. أي: البشرى بالجنة دار النعيم المقيم، وهذه الآية تتفق مع ما فعله ثلاثة من الصحابة أولهم زيد بن عمرو بن نفيل ، والثاني: أبو ذر الغفاري ، والثالث: سلمان الفارسي . فهؤلاء الثلاثة أبوا أن يعبدوا غير الله في الجاهلية، وسلمان جعل يتنقل من بلاد فارس من بلد إلى بلد حتى دخل المدينة، فهؤلاء الثلاثة عرضت عليهم عبادة غير الله فما استساغوها، ولا اطمأنوا إليها، فلم يعبدوا غير الله في الجاهلية، ولما جاء الإسلام دخلوا فيه فرحين مسرورين مستبشرين، وهذه الآية تتناولهم حيث ذكر الله فيها: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ [الزمر:17]. أي: وبعد رفضهم عبادة غير الله رجعوا إليه، فأسلموا على يد رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فـ: لَهُمُ الْبُشْرَى [الزمر:17]. والذي ساق لهم البشرى وبشرهم بها هو الله جل جلاله وعظم سلطانه، فوالله إنهم لمن أهل الجنة، وهذه بشرى الحكيم العليم لهم، ويدخل في هذا كل من يعرض عن عبادة غير الله، ولا يلتفت إليها، وينيب إلى الله ويرجع إليه، ويعبده بما شرع من عبادته، والبشرى في الدنيا بالرؤية الصالحة، وفي القبر والبعث والحشر، بالجنة وهي البشرى العظيمة، وعند الوفاة تأتي الملائكة وتبشرهم قبل نزع الروح، واقرءوا قول الله تعالى في كتابه: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]. فقبل أن تخرج روحه وهو على سرير الموت تنزل الملائكة من السماء وتبشره قبل أن تخرج روحه، ثم تؤخذ روحه إلى الملكوت الأعلى وتعود إلى القبر.

    ثم قال تعالى: فَبَشِّرْ عِبَادِ [الزمر:17]. أي: يا رسولي المبلغ عني بشر عبادي.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ...)

    قال تعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر:18]. أي: الذين يستمعون القول ممن يقول فيتركون باطله وهراءه وكذبه وفساده، ويأخذون بما هو أحسن. وأولياء الله عندما يستمعون القول لا يأخذون إلا بما فيه رضا الله عز وجل، وهو أحسنه، وتتناول الآية أيضاً معنى آخر وهو: حين يكون لديك أمر مستحب وأمر واجب فإنك تأتي بالواجب قبل المستحب؛ لكون الواجب أولى، فتأخذ بالذي هو عزم مع أن كليهما صالح للمجتمع، فهم يستمعون القول ثم يتركون سيئه وحسنه أيضاً ويأخذون الأحسن، وهذا عام أيضاً فإذا جلست إلى جماعة وسمعت حديثهم، فلا تأخذ إلا بما هو صحيح، والباطل والسيئ لا تأخذه ولا تروه ولا تتكلم به، هكذا يفعل أولياء الله الصالحون الذين أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يبشرهم.

    ثم قال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ [الزمر:18]. هذا إعلان عظيم، لأولئك السامون الأعلون الأفاضل، الذين آمنوا به وعبدوه بما شرع لهم وتركوا عبادة غيره، وتجنبوا ما حرم عليهم ونهاهم عنه من الأقوال والأعمال والاعتقادات فهم الذين هداهم الله، وهنيئاً لمن هداه الله، والهداية لا تطلب إلا من الله؛ إذ لا يملكها إلا الله، فهي خاصة بالله، فهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء بحكمته العالية وعدله الرحيم، فمن أراد الهداية فليطلبها من الله، ونحن في كل ركعة نقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، بعدما نحمده ونثني عليه ونمجده ونتملقه بقولنا قبل هذه الآية: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]. وهذا مدح.

    ثم نقول: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3]. وهذا ثناء.

    ثم نقول: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]. وهذا تمجيد.

    ثم نأتي ونقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]. أي: لا نعبد إلا أنت، ولا نستعين إلا بك، وهذا تملق. فلا يملك الهداية إلا الله، ولا يملكها رسول ولا ملك ولا نبي ولا غيره.

    وقوله: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ [الزمر:18]. أي: إلى الصراط المستقيم، فهداهم إلى أن يؤمنوا ويعملوا الصالحات، ويجتنبوا الشرك والذنوب والآثام والسيئات، فما إن يموت أحدهم حتى يشاهد الجنة قبل أن موته.

    ثم قال تعالى: وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:18]. أي: هم أصحاب القلوب الواعية المدركة الفطنة

    النيرة ولذلك عرفوا الطريق إلى الله فسلكوه، بخلاف من لا قلب له من أهل الشرك والباطل والعياذ بالله. فإنهم يتخبطون في دنياهم في أهوائهم وشهواتهم ولم يعرفوا الطري إلى الله؛ لأنهم لا قلوب لهم تعي وتفهم وتدرك، فهم كالبهائم لا عقول لها. اللهم اجعلنا من أولي الألباب: آمين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار)

    قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ [الزمر:19]؟ أي: يا رسولنا لا تكرب ولا تحزن ولا تتألم إذا ما استجاب عمك أبو لهب، ولا ولده ولا فلان ولا فلان؛ فإن هؤلاء حقت عليهم كلمة العذاب، ووجبت قبل أن تُخلق السماوات والأرض فهو مكتوب في كتاب المقادير، أنهم من أهل النار، بسبب الشرك والكفر والذنوب والآثام، وفي الآية تخفيف عن رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان يحمل هماً عظيماً لا ندركه.

    وقوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ [الزمر:19]؟ أي: هل تستطيع أن تنقذ شخصاً في نار جهنم؟ الجواب: لا تستطيع، وهؤلاء قد كتب الله شقاءهم قبل أن يخلقهم، وعرف أنهم سيفجرون ويفسقون ويخرجون عن طاعته، ويرضون بالباطل الذي هو ضد الحق، فكتب ذلك في كتاب المقادير قبل أن يخلقوا، فهم والله لن يسلموا ولن يهتدوا ولن يدخلوا إلا جهنم أبداً، ولعل بعض الصالحين يصعب عليهم فهم هذه القضية.

    فأعيد القول فيها وأكرره: بأنه :( قبل أن يخلق الله الخلق، خلق القلم، وقال له: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب كل ما هو كائن إلى يوم الدين )، إذاً: فكتب الله كل الأحداث الموجودة في الكون في هذه الحياة الدنيا، حتى حركة اليد مكتوبة بنفس الحركة التي تحركتها، وجلوس الناس لطلب العلم مكتوب، فلهذا انتظمت الحياة وأحداثها العجيبة العظيمة، وكلها تتم حسب تلك الكتابة، وقد تقدم معنا أن الله مسح ذرية آدم من صلبه واستنطقها فنطقت، إذاً: فعلم الله أن أبا لهب سيعرض عليه الإسلام ويبشر به ويرغب فيه فلا يستجيب، وسيحاول أن يؤذي رسولنا ويتعرض له بالأذى، فكتب ذلك في كتاب المقادير. وحين يُخلق أبو لهب لا بد وأن يطبق ذاك الذي كتب عليه، فلا يؤمن ولا يسلم، كـأبي جهل وغيره.

    وحين ترى عبداً صالحاًُ فاعلم أن الله قبل أن يخلقه علم أنه سيكون من الصالحين، ومن العقلاء البصراء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات فكتب له ذلك، إذاً: فادع إلى دينه وإلى توحيده بالتي هي أحسن، ومن أجاب فلنفسه ومن أعرض أعرض على نفسه، في هذا بيان الدعوة الإسلامية الصحيحة وأنها تكون بأحسن الوسائل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف ...)

    قال تعالى: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ [الزمر:20]. وهذا صنف آخر غير الصنف الأول الذين كتب الله شقاوتهم وعذابهم وهلاكهم، فهم لا يهتدون، فهؤلاء يقول تعالى عنهم: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ [الزمر:20]. أي: خافوا خالقهم ورازقهم، وواهب الحياة لهم، وخالق هذه الأكوان كالشمس والقمر والنجوم والكواكب، والأرض والبحار والأشجار، وكوكب الشمس فقط أكبر من الأرض بمليون ونصف مليون مرة، والذي كوكبه وأوجد النار الملتهبة فيه هو الله.

    ومعنى: اتَّقَوْا رَبَّهُمْ [الزمر:20]. أي: جعلوا بينهم وبين عذابه وقاية، فتقول: اتقيت البرد بهذا الثوب، واتقيت الحر بكذا، ومعنى اتقيت الله أي: اتقيت عذابه وغضبه بالإيمان، والعمل الصالح. وترك ضدهما من الشرك والذنوب والآثام، فنحن نتقي الأفاعي والحيات واللصوص بالسلاح، ونتقي الله بالإيمان والعمل الصالح، واقرءوا إن شئتم قول الله تعالى في سورة يونس عليه السلام: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]. فلا يخافون لا في الدنيا ولا في البرزخ ولا يوم القيامة، ومنهم أولياء الله؟ الجواب قال: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]. فآمنوا أولاً بأن: لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن البعث الآخر والجزاء حق. ثم آمنوا بكل ما أمرهم الله ورسوله أن يؤمنوا به ويصدقوا، أدركوه أو لم يدركوه، وكانوا طول حياتهم: يَتَّقُونَ [يونس:63]. سخط الله وعقابه، بفعل الواجبات من قول أو فعل أو اعتقاد، وترك المحرمات من قول أو فعل أو اعتقاد، فليس في أعمالهم شرب خمر، ولا ربا ولا زنا، ولا كذب ولا غش، ولا خداع ولا باطل، ولا ظلم ولا اعتداء، ولا غيرها مما يشين بل هم أصفياء.

    ثم قال تعالى: لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64]. بشرى الدنيا يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: ( البشرى هي الرؤية الصالحة يراها العبد الصالح أو ترى له ). ولا يموت ولي الله حتى يرى قبل موته بشراه، ويرى عند الموت الملائكة التي جاءت لأخذ روحه وهم على أجمل صورة، فيبشرونه وهم يأخذون روحه، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ، أي: عند الموت، أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [فصلت:30-31]. فأولياء الله لهم ملائكة تحميهم وتحرسهم.

    والقرآن كتاب هداية، يجمع بين الترغيب والترهيب، فهو حين تحدث عن أهل النار أخبر أن لهم ظلل من النار من تحتها ظلل، وحين تحدث عن أهل الجنة أخبر أن لهم غرفاً من فوقها غرف علّيّة، والغرف: جمع غرفة، وليست كغرف الدنيا وإن كانت غرف الدنيا في أحسن زينة، فوالله لا تساويها ولا تعدلها، والذي بنا الشمس قادر على أن يبني لنا غرفاً في الجنة.

    وقوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [الزمر:20]. وأنهار الجنة أربعة تجري بين خلال الأشجار والمباني كما في قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد:15] . فهي أنهار تجري وليست ساقية أو سويقية، نهر من خمر، ونهر من لبن لم يتغير طعمه بالحموضة، ونهر عسل يجري، والله الذي قدر على إيجادنا لن يعجز عن إيجاد هذا النعيم المقيم وقد قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:20]. اللهم اجعلنا من المتقين .

    ثم قال تعالى: وَعْدَ اللَّهِ [الزمر:20]. أي: هذا النعيم العظيم وعد الله به أولياءه المؤمنين المتقين، وليس أولئك الذين كانوا يدجلون ويكذبون ويفجرون وبعدما يموتون يبنون عليهم القبور ويدعون أنهم أوليا.

    قبل فترة كنت إذا سألت عن أولياء الله يقول لك بعضهم: سيدي عبد القادر ، أو فلان، ولا يعرفون ولياً بين الناس أبداً، لا إله إلا الله، وقد فعل الثالوث الأسود من المجوس واليهود والنصارى ضربات عنيفة، حيث سلبوا من أذهان وقلوب المسلمين وجود ولي بين الناس إلا من مات وبُني على قبره قبة.

    وفعلوا ذلك من أجل أن يستبيح المسلمون نساء إخوانهم وأموالهم وأعراضهم ودماءهم؛ لأننا نعرف وهم يعرفون أن المؤمن لا يستطيع أن يؤذي ولي الله ولو بكلمة، والله يقول: ( من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ) فيعرفون معرفة يقينية أن المؤمن لا يؤذي المؤمن أبداً لأنه ولي الله، فعمدوا إلى سلب ولاية الله عن الأحياء وجعلوها في الموتى؛ حتى لا يعترف الأحياء بالولاية لبعضهم البعض، فيحصل بينهم انتهاك للأعراض، وأكل للأموال، وما إلى ذلك، وقد ذكرت غير ما مرة للعظة والعبرة أننا كنا جالسين فتحدث بعض أولئك المشايخ وقال: فلان إذا زنى لا يمر بسيدي فلان، بل يمشي في طريق آخر، فهو يستحي ويخاف من الولي الميت؛ إذا زنى وفجر بامرأة أخيه أو بنت أخيه، وإن شئتم حلفت لكم بالله، لقد حدث في أمة الإسلام من إندونيسيا إلى موريتانيا غرباً، طيلة قرون أنهم لا يعرفون الولي إلا من مات، ومن ثم يستبيحون أموالهم وأعراضهم ودماءهم؛ لأنه لو كان يعرف أنه ولي لن يؤذيه أبداً، فسلبوا هذه الولاية منهم، كما فعلوا بالقرآن، فمن إندونيسيا إلى موريتانيا وطيلة قرون عديدة والله ما يجتمع عليه اثنان ليتدبروه ويتدارسوه أبداً، ولا يقرءونه إلا على الموتى.

    لقد عرف المجوس واليهود والنصارى أن القرآن روح، وقد سماه الله روحاً، ولا تكون الحياة إلا بالروح، فقالوا: هيا نفقدهم هذه الروح، فمنعونا من تدبر القرآن وتفسيره وقالوا: تفسير القرآن صوابه خطأ وخطؤه كفر، فاقرؤوه على الموتى، فالهبوط الذي حدث للعالم الإسلامي ولاستعمار سببه الموت، فأماتونا أولاً، وبعد ذلك سادونا وحكمونا.

    ثم قال تعالى: وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ [الزمر:20]. إنما يخلف الميعاد العاجز، فهو يعد ثم لا يستطيع أن يوفي فيخلف لعجزه، أما الذي يقول للشيء كن فيكون على الفور، لا يعجزه شيء، ولا يخلف وعده أبداً، بل إن هذا مستحيل على الله عز وجل، فهو لا يخلف الميعاد لقوته وقدرته على إيجاد ما وعد به وإعطائه لعباده الموعودين.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    قال: [ هداية الآيات ] والآن مع هداية الآيات.

    [ من هداية هذه الآيات:

    أولاً: كرامة زيد بن عمرو بن نفيل وأبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي ؛ إذ هذه الآية تعنيهم فقد رفضوا عبادة الطاغوت في الجاهلية قبل الإسلام ثم أنابوا إلى ربهم، فصدقت الآية عليهم ] لقد أبوا أن يدخلوا في الكفر مع أنه لا يوجد رسول ولا نبي، وكان الناس يعبدون الأصنام فقالوا: لن نعبد إلا خالقنا، فلما جاء الإسلام أقبلوا عليه، فأثنى الله تعالى عليهم وبشرهم بهذه البشرى.

    [ ثانياً: فضيلة أهل التمييز والوعي والإدراك الذين يميزون بين ما يسمعون، فيتبعون الأحسن ويتركون ما دونه من الحسن والسيئ ] لأنه قال: أولي الألباب، فليسوا كالجهّال الذين يتخبطون في الحياة.

    [ ثالثاً: إعلام من الله تعالى: أن من وجبت له النار أزلاً لا تمكن هدايته مهما بذل الداعي في هدايته وإصلاحه ما بذل ] فلهذا على الداعي إلى الله أن يدعوا إلى الله بالتي هي أحسن فقط، ولا يكرب ولا يحزن إن لم يؤمن بعض الناس .

    [ رابعاً: بيان ما أعد الله تعالى لأهل الإيمان والتقوى من نعيم الجنة وكرامة الله لأهلها ].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755948329